المراقبة وأثرها في استقامة المجتمع للشيخ عبدالناصر بليح
العناصر:
تعريف المراقبة .
الصوم عبادة لا يدخلها رياء .
المسلم الحقيقي هو الذي يراقب ربه .
أثر المراقبة في نهضة المجتمع .
تصنيف الناس حسب سلوكهم .
نماذج من الذين راقبوا الله عز وجل في السر والعلن
.
مراقبة الله في السر والعلن تنجي صاحبها من المهالك
.
الحمد لله رب العالمين نحمده تعالي ونستهديه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن
سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله صلي الله عليه وسلم أنقى العالمينَ
سريرةً وأزكاهم سيرةً فحذر من مخالفة السر للعلن فقال :”لأعْلَمَنّ أقواماً من أمتي
يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها اللّه عز وجل هباء منثوراً”
، قال ثوبان: يا رسول اللّه، صفهم لنا، جلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال:
أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا
بمحارم اللّه انتهكوها”. (ابن ماجة ) فاللهم صل وسلم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه
وسلم تسليما كثيراً.. أما بعد :فيقول الله تعالي :”وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ
مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ”(ق/16).
عباد الله . حديثنا إليكم اليوم عن:”المراقبة
ويقظة الضمير وأثرها في استقامة الفرد “.
تعريف
المراقبة : والمراقبة هي :”تلكم النفس اللوامة وذلكم الضمير الحي اليقظ .. فهو صوت
الحق الذي يوقظ صاحبه من غفلة فيرده عن ظلم أو يدفعه لعمل صالح ينفعه ..الضمير الحي
اليقظ:” تلكم النفس اللوامة التي تلوم صاحبها وتزجره إذا ما أخطأ فسرعان ما يتوب ويرجع
إلي الله :”وكل ابن آدم خطأ وخير الخطائين التوابون “(متفق عليه).
الضمير الحي اليقظ تلكم المانع أو السد المنيع
الذي يحول بين صاحبه وبين معصية الله عزوجل الضمير الحي اليقظ هو ذلك الهاتف الذي ينادي
صاحبه دائماً بأن الله معكم أينما كنتم والله بما تعملون محيط”الضمير الحي اليقظ
:” هو الذي يذكر صاحبه دائماً بأن الله سيحاسبه علي الصغير والكبير والنقير والقطمير
..الضمير الحي اليقظ :” هو مقام الإحسان والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن
تراه فإنه يراك “. إن مراقبة الله عز وجل في الأقوال والأفعال من أعلى درجات الإحسان؛
قال ابن منظور- رحمه اللّه-: فسّر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الإحسان حين سأله
جبريل، صلوات اللّه عليهما وسلامه، فقال: “هو أن تعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تكن
تراه فإنّه يراك. أراد بالإحسان الإشارة إلى المراقبة وحسن الطّاعة فإنّ من راقب اللّه
أحسن عمله.”( لسان العرب ).
وإذا كان من أخص صفات الصائم المراقبة لله عز
وجل فإن ذلك يقتضي مراقبة الله في كل شيء وفي جميع الأمور والأعمال والأقوال فالذي
يراقب صلاتك وصيامك وإمساكك عن الطعام والشراب هوهو من يراقب وفاءك بحق العمل أو تفلتك
منه وتقصيرك في حقه .
فاتقوا الله عباد الله واعلَموا أن هذه الدنيا دار ممرٍّ لا دار مقرٍّ،
وقد جعلَكم الله مُستخلَفين فيها لينظُر كيف تعملون،”فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى”(الليل/5- 7).
أيها الصائمون :
الصوم
عبادة لا يدخلها رياء :” المراقبة هي التي يتعلمها الصائم من صومه لذلك يقول
المولي في حديثه القدسي :” كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإن لي وأنا أجزي به الحسنة
بعشر أمثالها يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي فالصوم لي وأنا أجزي به ..والصوم جنة
..”(البخاري ومسلم). والمعني أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره ، قال القرطبي
: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء ، والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه
الله إلى نفسه ولهذا قال في الحديث :”يدع شهوته من أجلي”. وقال ابن الجوزي:”جميع العبادات
تظهر بفعلها وقلّ أن يسلم ما يظهر من شوبٍ”يعني قد يخالطه شيء من الرياء”بخلاف الصوم. هذا الحديث القدسي الشريف قد واجه الرياء في العمل
قرر أن كل عمل قد يدخله الرياء إلا الصوم فإنه
يكون خالصاً لوجه الله عز وجل طاعة له ..لأن الصوم سر بين العبد وبين ربه فهو عبادة
خفية تتسم بالنية الخالصة أي إنك أخي المسلم تستطيع أن تصلي أمام الناس وتتصدق وتحج
وتعتمر ويراك الناس ولكن لا تستطيع أن تصوم أمام الناس فتدخل حجرة وتأكل وتشرب وتقول
أنا صائم فمن الذي يمنعك عن ذلك إنه الضمير اليقظ إنها المراقبة لله وهنا الله تعالي
يقول:” فالصيام لي وأنا أجزي به” فالصيام درساً عملياً نافعاً للابتعاد عن الرياء وعن
النفاق فهو ميزة جليلة وعلاج ناجع ونافع لأولئك المخادعين المرائين المنافقين الذين
يبطنون خلاف ما يظهرون فيحدثون ويكذبون ويوعدون فيخلفون ويؤتمنون فيخونون ثم يسألون
عن الأثم والبر وعن الشر والخير ..
يلقاك يقــسم أنه بـــــك واثق **وإذا تواري عنك فهو العقرب .
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ** يروغ منك كما يروغ
الثعلب.
روى أحمدُ بسند صحيح من حديث وابصة بن معبد قال:
أتيت رسولَ الله صلي الله عليه وسلم وأنا أريد
ألا أدعَ شيئًا من البِرِّ والإثم إلا سألتُه عنه، فقال لي: “ادنُ يا وابصة”، فدنوت
منه حتى مسَّتْ ركبتي ركبته، فقال: “يا وابصةُ، أخبرك ما جئت تسأل عنه أو تسألني؟”،
قلت: يا رسول الله، أخبِرني، قال: “جئتَ تسألني عن البِر والإثم”، قلت: نعم، فجمع أصابعه
الثلاث فجعَل ينكت بها في صدري ويقول:”يا وابصة، استفتِ نفسك، البر ما اطمأنَّتْ إليه
النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب، وتردَّد في الصدر، وإن أفتاك الناسُ
وأفتَوْك”.
متى ما كان الضمير حيًّا، ومتى ما كان الإيمان
قويًّا، ومتى ما كان الرقيب متنبهًا، كان للمسلم جهازُ استشعار دقيق وحساس، يميز به
البرَّ من الإثم، والصالح من الطالح، والنافع من الضار، لكن إذا مات الضمير، وقُتِل
الرقيب، وضعُف الإيمان، فكيف للقلب السقيم أن يميز البِرَّ والإثم؟!
إننا نتكلم عن أجهزة الاستشعار التي يتعرف من
خلالها المسلم على ما ينفعُه أو يضره، إننا نتكلم عن أجهزة الإنذار المبكر التي تميز
الإنسانَ عن بقية المخلوقات، إننا نتكلم عن الضمير الحي… تلك القوة الداخلية التي تدفع
الإنسانَ لفعل الخير، وتردعُه عن فعل الشر.
كم تعجبني تلك العبارة التي تكتب في طرقات بعض
البلدان: “أنت لست وحدك.. كلنا نراك ، وهي رسالةٌ واضحة لإيقاظ هذا الضمير، فإذا عرفتَ
أننا نراك فلا تخالف في الشارع، ولا تُلقِ بالقمامة على الأرصفة، ولا تقطع إشارة المرور،
إذا عرفت أننا نراك فلا تُسِئْ في أفعالك، إذا عرفت أننا نراك فلا تُتلف ممتلكات الدولة
أو ممتلكات الآخرين، إذا عرفت أننا نراك فأدِّ عملَك على أفضلِ صورة.
الضمير
الحي هو ركنُ الرقابة في داخل كل إنسان، والضمير الحي هو القاضي والشُّرطي ورجل الأمن
وموظَّف البلدية، الضمير الحي هو ميزان الحق والباطل، والصواب والخطأ.
أخوة الإيمان والإسلام :
المسلم الحقيقي هو الذي يراقب ربه: يريد الإسلام
من المسلم أن يكون صريحاً كالزجاجة الصافية يري ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها
أو كالكتاب المفتوح الذي يتطابق عنوانه مع موضوعه تطابقاً واضحاً لا غموض فيه ولا لبس
ولا التواء, فالإسلام يريد مسلماً حقيقياً ينطق بالحق ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر
ولا يخشي في الله لومة لائم ..لا يريد منافقاً إمعة إذا أحسن الناس أحسن وإذا أساءوا
أساء .. لا يريد فاقد لشخصيته بين الناس فلا يجهر بالحق بل يقف موقف المتفرج أو المخادع
روي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن ناساً قالوا له إنا ندخل علي سلاطيننا فنقول
بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم قال ابن عمر :” كنا نعد هذا نفاقاً علي عهد رسول
الله صلي الله عليه وسلم “.وهؤلاء القوم نجدهم في أيامنا هذه يعيشون بيننا كما تعيش
الحرباء في الصحراء تغير لونها كما تغير المكان الذي تحل به وقد فضح القرآن صنيعهم
وكشف لنا هويتهم ووضح لنا جوانب مظلمة تنطوي عليها نفوسهم الخبيثة حيث يقول المولي
عز وجل :“وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ
اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ
فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا
يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ
ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ “(البقرة/ 204-206).
أثر المراقبة في نهضة المجتمع :
**إخوة الإيمان : مراقبة الله عز وجل فوق كل القوانين
الوضعية فإن الأمم لا تتقدم وترتقي بكثرة القوانين واللوائح والقرارات، إنما ترتقي
برقيِّ الضمائر، فيؤتى بتاج كسرى إلى عمر رضي الله عنه، فيقول: إن جيشًا أدى هذه الغنيمة
لأمين، فرد عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه:” عدلتَ فعدلوا، ولو رتعت لرتعوا”. بعض
الناس ماتت ضمائرهم، والبعض نامت ضمائرهم، وآخرون تعفَّنت ضمائرهم، وهناك مَن باع ضميره،
ونحن نرى أصنافًا من هؤلاء اليوم، نرى المسؤول الذي باع، والإعلامي الذي باع، والعالِم والموظف والمعلِّم الذي باع ضميره واشترى
به ثمنًا بخسًا. تأمَّل في ضمير يوسف عليه السلام، يوم أن أغلقت امرأة العزيز الباب،
ودَعَتْه إلى نفسها، كما أورد القرطبي في التفسير فقالت له: يا يوسف، ما أحسنَ صورةَ
وجهك! قال: في الرحم صوَّرني ربي، قالت: يا يوسف، ما أحسن شعرك! قال: هو أول شيء يبلى
مني في قبري، قالت: يا يوسف، ما أحسن عينيك! قال: بهما أنظر إلى ربي، قالت: يا يوسف،
ارفع بصرك فانظر في وجهي، قال: إني أخاف العمى في آخرتي، قالت: يا يوسف، أدنو منك وتتباعد
مني؟! قال:” أريد بذلك القرب من ربي، قالت: يا يوسف، القيطون فرشته لك فادخل معي، قال:
القيطون لا يسترني من ربي، قالت: يا يوسف، فراش الحرير قد فرشته لك، قم فاقضِ حاجتي،
قال: إذن يذهب من الجنة نصيبي، فقال الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: ” قَالَ
مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
“(يوسف/23).
ذلك الضمير الذي جعل محمداً صلي الله عليه أشد
حياًءً من العذراء في خدرها “وكان يستحي من الله أن يراه علي معصية ولو صغيرة ..
ذلك الضمير الذي جعل الغلام الذي يرعي الغنم أن
يقول لعمر بن الخطاب :”وأين الله ؟ عندما أراد أن يختبره ويبتاع منه شاة فقال له ليست
لي وإنما هي لصاحبها فقال له عمر :” إن رب الغنم غائب فيقول له الغلام :”إذا كان رب
الغنم غائب فإن الله حاضر لا يغيب “.
ذلك
الضمير الذي جعل بنت بائعة اللبن ترفض أن تغش اللبن عندما طلبت أمها منها أن تخلط اللبن
بالماء فقالت لها إن عمر قد أمر اليوم غلمانه أن ينادوا في السوق لا تغشوا اللبن بالماء
فقالت لها أمها إن عمر لا يرانا الآن فقالت لها إذا كان عمر غائباً فأين الله ؟
* ذلك الضمير الذي جعل المرأة التي طلبها الرجل
في الحرام وراودها عن نفسها وهي تطلب صدقة فأولادها يتضورون جوعاً .. أن تقول له غلق
الأبواب فقال لها لقد غلقتها فقالت له لقد غلقت جميع الأبواب إلا باباً واحداً وهو
باب الذي لا يغفل ولا ينام ..فيتركها ويعطيها ما يكفيها وأولادها من مال مخافة الله
..الضمير يا سادة الذي يحتاج أن يدرس في المدارس والجامعات .. فما أحوجنا في هذه الأيام
إلي يقظة الضمير وإلي أصحاب الضمائر الحية ..حتي نبني هذا الوطن .. إذا ما خلوت الدهرَ
يوما فلا تقل……خلوتُ ولكن قل علي رقيبُ
ولا تحسبنَ اللهَ يغفلُ ساعةً………..ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ
والإسلامُ في صَميمه شريعةٌ حُرَّةٌ قد حرَّرَت
العبادَ من عبادة العباد إلى عبادة الله وحدَه، ودلَّت على أن العزَّة مع الإيمان،
والذلَّة والدُّون مع الكُفر والفُسوق والعِصيان.
تصنيف الناس حسب سلوكهم:
إخوة الإيمان : إنه لن يستيقظَ ضميرُ الأمة إلا
بيقَظَة ضمائر أفرادِها؛ إذ كيف يستقيمُ الظلُّ والعُودُ أعوجُ؟! وكيف يلبَسُ الخاتمَ
امرؤٌ أكتَعُ اليَدَيْن، وكلما ضعُف الضمير كلما تأخَّرت ساعةُ الوعي، وكأنما على ضمائرٍ
أقالُها، فأصبحَت عقْرَى حلْقَى.
ثم إن الناسَ أصنافٌ مع ضمائرهم:
فصِنفٌ ضميرُه ظاهرٌ حيٌّ،يراقب ربه في السر والعلن
والخلوة والجلوة يعرفُ المعروف، ويُنكِرُ المُنكَر،
يُشارِكُ أمَّتَه همومَها وآلامَها وآمالَها، يُواسِي ويُسلِي ويتوجَّع، ذليلٌ على
المُؤمنين الصادقين، عزيزٌ على الجبابِرة المُجرِمين، لا يخافُ لومةَ لائمٍ، و”ذَلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”(المائدة/ 54).
وصِنفٌ من الناس ضميرُه مُستترٌ لا محلَّ له من
الإعراب، مثلُ العبد الذي هو كلٌّ على مولاه أينما يُوجِّهه لا يأتِ بخير، وجودُه زيادةٌ
في العدد، لا يهُشُّ ولا ينُشُّ، فهو لم يمُتْ ولكنه مُستترٌ لُدنيا يُصيبُها، أو حظٍّ
يستوفِيه، أو يخشَى ذريةً ضِعافًا من خلفِه، ولسانُ حالِه يقول: نفسي نفسي. فلا يستفيدُ
منه فقيرٌ، ولا ينصحُ مُستنصِحًا، وكأنه خُلِق ليأكُل ويشرب. ومثلُ هذا إن لم يتعاهَد
ضميرَه، فسيكونُ مع الزمن في عِداد الضمائر الميْتَة.
وصِنفٌ ثالثٌ، وهو الضميرُ المَيْت الذي يغلبُ
شرُّه خيرَه أو لا خيرَ فيه، لا تجِده في المُقدِّمة ولا في السَّاقَة، لا يُشاطِرُ
إلا في الشرِّ، ولا تراهُ إلا في دوائر القُبح يأمُر بالمُنكر، وينهَى عن المعروف،
ويقبِضُ يدَيْه، نسِيَ الله فنسِيَه، لا تجِده إلا كاذِبًا غاشًّا أنانيًّا همَّازًا
لمَّازًا مشَّاءً بِنَميمٍ، لسانُ حاله يقول: أنا ومن وراء الطوفان، وإن لم تتغدَّ
بزيدٍ تعشَّى بك.
هو كالذُّباب لا يقعُ إلا على الجُروح، يعوذُ
مُجتمعه من أمثالِه حين يُمسِي وحين يُصبِح، وكأنه إنما خُلِق ليُثقِّل ميزانَه بالآثام
فيلقَى ربَّه يوم القيامة وما في وجهِه مُزعَةُ لحمٍ.
ألا فاتقوا الله – رحمكم الله -، واعلَموا أن
الضميرَ الحيَّ هو مضخَّةُ الإيمان الحقيقيِّ، المُثمِر التوادَّ والتراحُم والتعاطُف،
وهو جامعُ الأعضاء في جسدٍ واحدٍ وهو جسدُ الأمة المُتكامِل، كما قال النبي صلي الله
عليه وسلم : “مثلُ المُؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم
وتعاطُفهم مثلُ الجسد، إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى لها سائرُ الجسد بالسَّهر والحُمَّى”(
مسلم).
ولذا فإنه ينبغي أن يستنطِقَ كلُّ حريصٍ ضميرَه؛
لأن الضميرَ الصامِت شيطانٌ أخرس، كما أن الضميرَ الناطِقَ بالسوء شيطانٌ ناطقٌ.
وقد جاءَت الشريعةُ الإسلاميَّةُ سادَّةً أبوابَ
موت الضمير وضعفِه، حاثَّةً المُجتمع المُسلم على إدراك ذلكم؛ لئلا يقعَ ضحيَّةَ ضميرٍ
ميْتٍ أو غائبٍ، في حين إن قوامَه وقوَّتَه وتكامُلَه إنما يكونُ بالضمير الحيِّ الواعِي،
لا شيء غيرَ ذلك.
فقد قال رسولُ الله صلي الله عليه وسلم : “لا
تحاسَدوا، ولا تناجَشُوا، ولا تباغَضُوا، ولا تدابَروا، ولا يبِع بعضُكم على بيعِ بعضٍ،
وكونوا عباد لله إخوانًا، المُسلمُ أخو المُسلم لا يظلِمُه، ولا يخذُلُه، ولا يكذِبُه،
ولا يحقِرُه، التقوى ها هُنا” ويُشيرُ إلى صدره ثلاث مراتٍ التقوى ها هُنا”، ثم يقول: “بحسبِ امرئٍ من الشرِّ
أن يحقِرَ أخاه المُسلمَ، كلُّ المُسلم على المُسلم حرامٌ، دمُه ومالُه وعِرضُه”.(مسلم
وغيره).
نماذج
من الذين راقبوا الله عزوجل في السر والعلن :
عباد الله : لقد تربي في مدرسة الرسول صلي الله
عليه وسلم رجال ونساء ضربوا أروع الأمثلة في المراقبة الحقة لله ويقظة الضمير الحي، ونفس يقظة تميِّز الخير من الشر، والهدى من
الضلال؛ ففي الصحيح عن النعمان بن بشير، وهو يحدثنا عن هديَّة أراد أن يعطيها له أبوه،
فيخصه بها دون بقية إخوانه من باقي زوجاته، فقال: أعطاني أبي عطية، فقالت أمي عمرةُ
بنت رواحة: فلا أرضى حتى تُشهِدَ رسولَ الله صلي الله عليه وسلم فأتى رسولَ الله صلي الله عليه وسلم ، فقال: يا
رسول الله، إني أعطيتُ ابنَ عمرة عطية، فأمَرَتْني أن أُشهدك، فقال:”أعطيتَ كلَّ ولدك
مثل هذا؟” قال: لا، قال:”اتقوا الله واعدِلوا بين أولادكم”، قال: فرجَع فردَّ عطيَّتَه.
انظر إلى الضمير الحي الذي تحمله “عمرة”، وهي زوجة ثانية، وترى أن زوجَها يفضِّلُ ابنها
على بقية أبنائه من باقي زوجاته، فلا تقبل، رغم ما يحصل بين الضرائر، إلا أن الضميرَ
الحي لأمِّ النعمان دفَعها إلى عدم قَبول العطية لولدها دون سائر أبناء ضَرَّاتها،
وانظر إلى ضمير البشير بن سعد يوم أن جاء إلى رسولِ الله صلي الله عليه وسلم ليُشهدَه على تلك العطية.هذه هي المراقبة الحقة لله والتي تعلمتها هذه الزوجة الصالحة
فلو كان في زماننا هذا لوجدنا تسعة وتسعين بالمائة من نسائنا يطالبن الزوج بان لا يفصح عن هذا العقد ولابد أن يخفيه
عن ضرتها وأولادها بسبب انعدام الضمير وفقدان الوازع الأخلاقي ..
وهذا
هو الصحابي الجليل ماعزٌ رضي الله عنه، وكذا
الغامدية؛ كما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن بريدة أن ماعز بن مالك الأسلمي
أتى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: إني
قد ظلمت نفسي وزنيتُ، وإني أريد أن تطهِّرني، فردَّه، فلما كان من الغد أتاه فقال:
يا رسول الله، إني قد زنيت، فردَّه الثانية، فأرسل رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى قومه فقال: “تعلَمون بعقله بأسًا، تنكرون منه
شيئًا؟” فقالوا: ما نعلمه إلا وفيَّ العقل من صالحينا – فيما نُرى – فأتاه الثالثة،
فأرسل إليهم أيضًا فسأل عنه، فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر
له حفرة ثم أمَر به فرُجم، قال: فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيتُ
فطهِّرني، وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله، لِم تردُّني، لعلك أن تردني
كما رددت ماعزًا، فوالله إني لَحُبلى، قال: “إما لا، فاذهبي حتى تلِدي”، فلما ولدت
أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: “اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه”، فلما فطَمَتْه
أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبيَّ الله قد فطمتُه، وقد أكل الطعام،
فدفع الصبي إلى رجلٍ من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها،
فيُقبِل خالد بن الوليد بحجرٍ فرمى رأسها، فتنضح الدم على وجه خالد فسبَّها، فسمع النبي
صلي الله عليه وسلم سبَّه إياها، فقال:”مهلاً
يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبةً لو تابها صاحبُ مَكْسٍ، لغُفِر له”، ثم
أمر بها فصلى عليها ودُفنت.
نموذج أخر ليتنا أن نستنسخه في أيامنا هذه :”يتفقَّد
عمرُ رضي الله عنه رعيته فيجلس عند جدار بيت، فيسمع المرأة وهي تكلم ابنتها وتقول:
ضعي الماء على اللبن ليزداد فنبيعه، فتقول الفتاة: يا أماه، هذا أمر لا يرضاه أمير
المؤمنين عمر، فتقول الأم: وما يدري أمير المؤمنين بما نصنع، فتقول الفتاة: إن كان
أمير المؤمنين لا يعلم، فربُّ أمير المؤمنين يعلم، وعمر رضي الله عنه يسمع ذلك الحوار،
فيصبح الصباح ويرسل إلى أهل هذا البيت ليخطب تلك الفتاة صاحبة الضمير الحي إلى ولده
عاصم، فيرزقهم الله ذرية مباركة، يخرج منها الخليفةُ الراشد عمر بن عبدالعزيز رحمه
الله.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم
..أو كما قال ادعوا لله .
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاةُ والسلامُ على من لا
نبيَّ بعده. وبعد، فيا جماعة الإسلام :
الضمير اليقظ ينجي صاحبه من المهالك
أيها
الناس:إن مراقبة الله في السر والعلانية من الأهمية بمكان؛ وينبغي للعبد أن يراقب الله
في جميع أحواله وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته ..فإخلاص العمل لله ومراقبته ونقاء الضميرَ واستحضار النفس اللوامة كل هذه الصفات
تُنجي صاحِبَها منَ المهالكِ، وتبعدُه عَنْ شرِّ المسالكِ، ولما لا وهو دائمُ التذكّرِ
فإذا همَّ بأمرِ سوءٍ ارتدعَ وانزجرَ، وابتعدَ عن المعاصي وأدبَرَ، يقولُ اللهُ تعالى:
“إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا
فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ”( الأعراف/201). ولذلك وُصِفَ هذا بالحيِّ اليقظِ فهو حيٌّ ما دامَ نورُه وهَّاجَاً؛
فكانت نفسُه لوَّامةً ووُصِفَ الضميرُ الطالحُ بالميِّتِ متى ما انطفأَ نورُه فكانتْ
نفسُه أمَّارةً.وقال تعالي :” وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ
لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (الزمر/61).
علي نياتكم ترزقون “
أخوة الإسلام :” أحسنوا نياتكم – أحسنوا نياتكم
وعلى نياتكم ترزقون –
فبحسن النية نار لا تحْرق ! ( إبراهيم ) و بحسن
النية بحر لا يُغرِق ! ( موسَى )وبحسن النية طفل ترمِيه أمّه في النّهر . .ف يصلُ إلى
بيت الملك . . ! و بحسن النية آخر يرميه أخوتُه في البئر ( يوسف )ف ينجوا منه وَ يُسجن
, ثمّ يكون وزيْرًا .! وبحسن النية لمْ يضرّوك إلا ب شيْءٍ قد كتبَه الله عليْك ولو
اجتمع العالم كلّه على أن يضرّوك بـ شيء فلن يضروك فَـ ثق بمَا دبّره و تقرّب إليه لعلّه عنْك يرضَى
. . مـا دُمـت تـنـوي الـخـيـر فأنـت بخـيـر .. احرص عـلـى الـنـيّـة الـحـسنة لـأنـهـا
تُـكـتـب !أحسنوا نيّاتكمْ , فَعلى نيّاتكم ترزقوْن”
لا يشكُّ صادقٌ البتَّة أن الأمةَ بمجموعها وهي
تكتوِي بلَهيبِ الصِّراعات والنَّكَبَات والعُدوان والحُروب التي أكلَت الأخضرَ واليابِسَ
أحوجُ ما تكون إلى مراقبة الله عز وجل وإلي ضمير صادق لا غِلَّ فيه ولا حسَد، الضمير
المُشفِق الناصِح الذي يُقدِّمُ مصلحةَ بني مِلَّتِه ومُجتمعِه وأهلِه الظاهِرة على
مصلَحَته الشخصيَّة القاصِرة؛ لأننا نُدرِكُ أنه عندما يموتُ الضميرُ تنتشر الأثَرَةُ
وحبُّ الذات، ويُصبِحُ منطقُ الأفراد والمُجتمعات: عليك نفسَك، لن تُقدِّم أو تُؤخِّر،
ماذا عساكَ أن تصنَع؟ لستَ كفيلاً على بني آدم، ولا وكيلاً، ولا حفيظًا.
إنه عندما يموتُ الضميرُ يُقال: دَع ما لله لله،
وما لقيصرَ لقيصرَ، عندما يموتُ الضميرُ يُؤمَّنُ الخائنُ، ويُخوَّنُ الأمين، ويُصدَّقُ
الكاذِبُ، ويُكذَّبُ الصادق.
عندما يموتُ الضمير يستأسِدُ الحَمَل، ويستنوِقُ
الجمَل، ويستنثِرُ البُغاث، وتستقِي البِحارُ من الرَّكَايا، وتنطِقُ الرُّويبِضَة،
ويتَّخِذُ الناسُ رُؤوسًا جُهَّالاً فيضِلُّوا ويُضِلُّوا.عندما يموتُ الضميرُ يُصبِحُ
التعييرُ نصيحةً، والغِيبةُ حُريَّةً، والنَّميمةُ تحذيرًا. عندما يموتُ الضميرُ يعلُو
الظلمُ، ويخبُو العدل، ويكثُر الشُّحُّ، ويقِلُّ الناصِح، وتُستمطَرُ الآفاتُ والعُقوبات،
ويُهدَمُ البُنيان لبِنَةً لبِنَةً، ولاتَ ساعة ترميمٍ.
وأخيرًا عندما يموتُ الضميرُ يموتُ الإحساس، وإذا
ماتَ الإحساسُ استوَت الأعالِي والأسافِل، فصارَ باطنُ الأرض خيرًا لأهلها من ظاهرِها.
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه أن رسولَ الله صلي
الله عليه وسلم قال: “لا تقومُ الساعةُ حتى
يمُرَّ الرجلُ على القبر فيتمرَّغُ عليه ويقول: يا ليتَني كنتُ مكان صاحِب هذا القبر،
وليس به الدِّين، إلا البلاء”( البخاري ومسلم).
ولا خيرَ في نَيْل الحياة وعيشِها***إذا ضاعَ
مِفتاحُ الضمائرِ وانمَحَى
ألستَ ترَى أن الحُبوبَ ثَخينةً****تحُولُ دقيقًا
كلما تطحنُ الرَّحَى
أيها
الصائمون : ما أحوجنا إلى مراقبة الله عز وجل وإيقاظ الضمائر ؟ ليعود المسلم إلى حياته
عاملاً فاعلاً متواصلاً مثمِرًا مجتهدًا. فهلمُّوا إلى حملة إحياء الضمير؛ لنعيد للأمة
حاضرها، ونمتلك زمام المستقبل.
هذا الأمر كم تمنيناه فهو مطلبٌ بُحَّت لأجلِه أصواتُ الناصِحين المُخلِصين
لأمتهم وشُعوبهم، عزَّ عليه أن يُلاقِي رجعَ صدًى ينتشِلُ أمةَ الإسلام من الضيقِ إلى
السَّعَة، ومن الذلِّ إلى العزِّ، ومن الأثَرة إلى الإيثار، ومن الشَّين إلى الزَّين.
وغالبًا ما تكونُ اليقَظةُ مُتأخرةً – إن وُجِدَت – بعد الوقوع لا قبلَه، والمُنقِذُ
فيها هو الوقوعُ نفسُه لا أصواتُ الناصِحين، فيصدُقُ قولُ بعضِهم:
بذلتُ لهم نُصحِي بمُنعرَجِ اللِّوَا****فلم يستبينُوا
النُّصحَ إلا ضُحَى الغَدِ
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ
والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين. اللهم
فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين،
واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من
زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا،
وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب
العالمين.
عباد
الله:
البر لا يبلي والذنب لا ينسي والديان لايموت فأعمل
ما شئت ياابن آدم فكما تدين تدان.
وأقم الصلاة .