نعمة الماء وضرورة المحافظة عليها د.محمد عامر
خطبة الجمعة القادمة
بتاريخ 25 من ربيع الآخر 1439هـ الموافق 12 من يناير 2018م تحت عنوان نعمة الماء وضرورة المحافظة عليها وترشيد استخدامها
الحمد لله رب العالمين, الحمد لله الذي أراد فقدر, وملك فقهر, وخلق فأمر وعبد فأثاب, وشكر, وعصي فعذب وغفر, جعل مصير الذين كفرو إلي سقر, والذين اقو ربهم إلي جنات ونهر, ليجز الذين كفرو بما عملو, والذين امنوا بالحسنى
واشهد إن لا اله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, وهو علي كل شيء قدير
يارب
رضاك خير إلي من الدنيا وما فيها يا مالك النفس قاصيها ودانيها
فنظرة منك يا سـؤلي ويـا أملى خير إلى من الدنيـا وما فيها
فليـس للنـفس أمـآل تحققـها سوى رضاك فذا أقصى أمانيها
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه
بلغ الرسالة وأدى الأمانة وكشف الظلمة وأحاط به الغمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين
يا سيدي يا رسول الله :
أنت الذي تستوجب التفضيل فصلوا عليه بكرة وأصيـلا
ملئت نبوته الوـجود فأظهرا بحسامه الدين الحديد فأسفرا
ومن لم يصلي عليه كان بخيل فصـلوا عليه وسلموا تسليما
وعلي اله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلي يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين
أما بعد
قال الله تعالى (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون)
قال تعالى: «وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء» وقال تعالى «وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا» أي جعل مياهه صالحة لحياة الأحياء البحرية التي يتغذى عليها الإنسان.
وقال عز وجل: (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا)
وقد وردت كلمة الماء في القرآن 63 مرة وغالباً ورودها بمعنى النعمة, ولما للماء من أهمية بالغة فقد نبه الله سبحانه وتعالى إلى معرفة هذه النعمة وتأدية شكرها .
قال تعالى: ( أفرأيتم الماء الذي تشربون* أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون) "الواقعة: 68-70" .
قال تعالى : ( أرأيتم إن أصبح مائكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ) "الملك :30"
لقد حث الإسلام على القصد والاعتدال في جميع الأمور وظهر ذلك في نصوص قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة, كما نهى عن الإسراف بجميع أشكاله.
قال تعالى : (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) "الأعراف: 31". ويكفي من ذم المسرفين أن الله تعالى لا يحبهم.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أول من دعا الناس إلى عدم الإسراف في الماء حيث قال: [ كلوا واشربوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة] رواه النسائي وابن ماجة .
وقلة الماء مع إحكام الغسل سنة, وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم الأسوة الحسنى والقدوة المثلى في مجال المحافظة على الماء من الضياع هدرا. فقد أخرج مسلم من حديث أنس رضي اللّه عنه: «كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد».
والرسول صلى اللّه عليه وسلم أول من دعا الناس إلى عدم الإسراف في استهلاك الماء، فقال: «كلوا واشربوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة» بل إنه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن الإسراف في استخدام الماء في أغراض الوضوء أو الاغتسال، فقد روى عبد اللّه بن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مر بسعد بن أبي وقاص، وهو يتوضأ، فقال: ما هذا الإسراف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟ فقال: نعم، وان كنت على نهر جار»
الإسلام والحفاظ على بيئة الماء:
بداية نؤكد على حقيقة هامة هي إذا بحثنا في الأسس والمبادئ التي وضعها الإسلام في ضبط سلوك الإنسان في تعامله مع البيئة ومواردها سوف نرى أن تلك الأسس والمبادئ التي جاء بها الإسلام بخصوص المحافظة على البيئة وحمايتها من التلوث قد سبقت في سموها وكمالها ما توصل إليه علماء الغرب وما يزعمون أنهم أصحاب السبق والريادة ويكفي أن ندرك الأسبقية الزمنية للمفاهيم والقواعد والمبادئ الإسلامية وأرساها قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، رغم ما يتردد دائماً من أن المشكلات البيئية حديثة الظهور بل يمكننا التأكيد، أن تلك القواعد والمبادئ هي من أبجديات الإسلام التي عرضها في شمول وعمق، وبالنسبة للحفاظ على البيئة المائية، نجد أن الإسلام قد وضع العديد من الضوابط والتشريعات التي تضمن الحفاظ على هذه النعمة الغالية من التلوث أو الإسراف في استخدامها، ونعرض فيما يلي للدعائم التي وضعها الإسلام من أجل الحفاظ على البيئة المائية.
القرآن يتحدث عن خزانات المياه تحت
الأرض!
عندما نزل أحد العلماء إلى منجم للفحم يبلغ عمقه تحت سطح الأرض أكثر من ألف متر اكتشف وجود مياه تعود لملايين السنين, هذه المياه تسكن تحت الأرض منذ ملايين السنين وفيها أحياء لا زالت تعيش وتتكاثر بقدرة الله تعالى. والعجيب أن القرآن العظيم عندما حدثنا عن الماء استخدم كلمة دقيقة جداً من الناحية العلمية، يقول تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ)[المؤمنون: 18].
وتأمل معي أخي القارئ كلمة(فَأَسْكَنَّاهُ)والتي تدل على المكوث لفترة طويلة، وهو ما نراه في المياه الجوفية ومياه الآبار والتي تبقى فترة طويلة ساكنة في الأرض دون أن تفسد أو تذهب.
القران الكريم والحفاظ على بيئة الماء:
إذا أنعمنا النظر في آيات القران الكريم نجد أن الماء ورد ذكره في العديد من آيات القرآن التي جاءت تذكر بهذه النعمة الغالية وتدعو الإنسان إلى الحفاظ عليها وذلك على النحو الآتي:
1- التذكير بأهمية البحار والأنهار للحياة الإنسانية:
لقد وضع الخالق - عز وجل - تحت سيطرة الإنسان البحار والأنهار للانتفاع بها وبما تحتوي عليه من خيرات وثروات، وقد أعلن الخالق - عز وجل- ذلك في العديد من الآيات القرآنية الكريمة التي جاءت تذكر بهذه النعمة وتدعو للحفاظ عليها، فبالنسبة للبيئة البحرية، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل:14) ﴿اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الجاثية:12) وقال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْـمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ الْجَوَارِ الْـمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ﴾ (الرحمن 19-24)، أما بالنسبة للأنهار لقد وضح الخالق - عز وجل- أهمية الأنهار لحياة الإنسان على الأرض في العديد من الآيات الكريمة، قال تعالى: ﴿أَمَّنَ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أنهارًا﴾ (النحل:10)، كما يذكر الخالق - عز وجل - بتسخير الأنهار للإنسان في قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم الأَنهارَ﴾ (إبراهيم:32) كما يوضح الخالق عز وجل أهمية الماء لحياة الإنسان والحيوان والنبات فوجودهم مرتبط بوجود الماء قال تعالى: ﴿وَمَآ أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَآءِ مِنْ مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ (البقرة:164) ويقول - جل شأنه- ﴿وَهُوَ الَّذِيٓ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (الأنعام:99) ويقول سبحانه: ﴿وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْـمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ (الحج:5) ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا﴾(الفرقان: 48-49)، ثم يذكر الخالق - عز وجل-: أن الماء نعمة لعباده مما يوجب الشكر على هذه النعمة الغالية؛ قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْـمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْـمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْـمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنٰهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ﴾ (الواقعة:68-70).
2- الحفاظ على الماء وحمايته من التلوث:
كما حث الخالق - عز وجل - على الحفاظ على البيئة المائية وحمايتها من التلوث وكل ما يغير من طبيعتها وصلاحيتها للاستخدام المعدة له أصلاً حتى يظل الماء نقياً نظيفاً كما أنزله الخالق - عز وجل- تستلذ به الحواس وتستمتع به النفوس خالياً من كل ما يؤذي أو يضر بالإنسان أو الحيوان أو النبات، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْـمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْـمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْـمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنٰهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ﴾ (الواقعة:68-70) كما يوضح الخالق - عز وجل -: أن الماء المنزل من السماء ذو طبيعة خاصة فهو «ثج» أي ينساب وينهمر وهو ما يعني الصفاء والنقاء، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْـمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنّٰتٍ أَلْفَافًا﴾ (النبأ:14-16) ﴿وَأسْقَيْنَاكُمْ مَّآءً فُرَاتاً﴾ (المراسلات:27) أي ماءً عذباً زلالاً نازلاً من السحاب أو مما ينبع من عيون الأرض، ويقول المولى - عز وجل-: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُبَارَكاً﴾ (ق:9) أي ماء فيه الخير وفيه النماء وفيه المحافظة على نفوس البشر من الاعتلال والإصابة بالأمراض الخطيرة التي تعوق مسيرتهم الحياتية وتوقف أعمارهم للأرض، كما أراد الله من خلقهم، كما نبه الخالق - عز وجل - أن أي إفساد في البيئة على وجه العموم وبيئة الماء على وجه الخصوص إنما من كسب البشر وتدخلهم السيئ الذي أفسد البيئة وأخل بأساسها المتوازن، قال تعالى: ﴿وَاشْرَبُوا مِنْ رِّزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (البقرة:60) وقال جل وعلا ﴿ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ (الروم:41)
3- مقاومة الإسراف في استخدام الماء:
لقد أباح الخالق - عز وجل- لعباده التمتع بالطبيات أكلاً وشرباً ولبساً وتزيناً، ولكنه لم يدع الأمر بغير قيود وضوابط بل قيد الإباحة بعد الإسراف، قال تعالى: ﴿يٰبَنِيٓ آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْـمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف:31) ويعد استنزاف الموارد المائية والإسراف في استخدامها من أخطر القضايا البيئية؛ لأنه من الخطورة بمكان سوء استهلاك الماء والإسراف في استخدامه واعتباره مادة رخيصة الثمن مع ما له من قيمة لا يعرف قدرها إلا أولوا الألباب.
الخطبة الثانية
السنة النبوية وحماية بيئة الماء:
وإذا انتقلنا إلى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، نجد أنها تدعو دعوة صريحة إلى المحافظة على البيئة المائية وعدم التعدي عليها وأن ذلك جاء على عدة أوجه هي:
1- أن الماء ليس ملكاً لأحد بل هو منة وعطية للخالق - عز وجل- للناس جميعاً فيقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك صراحة في حديثه الصحيح «إن الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» (سنن ابن ماجه). وموجب هذه المشاركة ألا يتعدى إنسان على حق الآخرين في استعمال الماء سواءٌ في كمه أو كيفه.
2- كما نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن تلويث الماء الراكد أو الاغتسال فيه، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه- قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الماء الراكد» (رواه مسلم)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لايجري ثم يغتسل فيه» (متفق عليه). فهذا النهي والتحذير النبوي بهدف المحافظة على نقاء الماء، كما رتب النبي صلى الله عليه وسلم اللعن على من يلوث الموارد المائية، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل» (المستدرك للحاكم). «والمراد» أن هذه الأفعال تجلب اللعن؛ لأن أصحابها يلعنون على فعلهم القبيح؛ لأنهم أفسدوا على الناس منفعتهم، فكان ظلماً والظالم ملعون»(5) كما أثبتت الأبحاث العلمية أنه «ينتج عن التبول المباشر والتبرز المباشر أو إلقاء مخلفات المجارى في المصادر المائية وصول العديد من الطفيليات والميكروبات التي تضر بصحة الإنسان منها: البلهارسيا، والدودة الكبدية و الإنكلستوما»(6).
3- كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في استخدام الماء في العديد من الأحاديث الشريفة ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد وهو يتوضأ «ما هذا السرف يا سعـد، فقال: أفي الوضوء سرف؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم وإن كنت على نهر جاري» (رواه الحاكم) وعن عبد الله بن معقل رضي الله عنه قال سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول «أنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء» (رواه أحمد في مسنده) «والاعتداء في الطهور أي الطهارة تجاوز الحد المعقول في استعمال الماء والخروج من حد الاعتدال إلى حد الإسراف»(7) وإمعاناً في هذا التحذير نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى ترشيد استخدام الماء في الأمور التي يتكرر فعلها كالضوء والغسل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد» (متفق عليه) وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الوضوء؟ فأراه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: هذا الوضوء فمن زاد عن هذا فقد أساء وتعدى وظلم» (رواه أحمد في مسنده)
أخيراً
وفي النهاية نقول: فإذا كان الماء نعمةً عظيمةً من الله فكيف نجحد به ولا نصونه ونحافظ عليه، ثم لماذا يعبث الإنسان بالتوازن الكمي للماء فيسرف في استخدامه، ولماذا يعبث بتوازنه النوعي فيلوثه بالمواد الضارة محولاً النعمة إلى نقمة، ألا يعلم الإنسان أنه مُحاسَب يوم القيامة على نعم الله «ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَؤْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيْمِ» (التكاثر:8).
د. محمد عامر
عندما نزل أحد العلماء إلى منجم للفحم يبلغ عمقه تحت سطح الأرض أكثر من ألف متر اكتشف وجود مياه تعود لملايين السنين, هذه المياه تسكن تحت الأرض منذ ملايين السنين وفيها أحياء لا زالت تعيش وتتكاثر بقدرة الله تعالى. والعجيب أن القرآن العظيم عندما حدثنا عن الماء استخدم كلمة دقيقة جداً من الناحية العلمية، يقول تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ)[المؤمنون: 18].
وتأمل معي أخي القارئ كلمة(فَأَسْكَنَّاهُ)والتي تدل على المكوث لفترة طويلة، وهو ما نراه في المياه الجوفية ومياه الآبار والتي تبقى فترة طويلة ساكنة في الأرض دون أن تفسد أو تذهب.
القران الكريم والحفاظ على بيئة الماء:
إذا أنعمنا النظر في آيات القران الكريم نجد أن الماء ورد ذكره في العديد من آيات القرآن التي جاءت تذكر بهذه النعمة الغالية وتدعو الإنسان إلى الحفاظ عليها وذلك على النحو الآتي:
1- التذكير بأهمية البحار والأنهار للحياة الإنسانية:
لقد وضع الخالق - عز وجل - تحت سيطرة الإنسان البحار والأنهار للانتفاع بها وبما تحتوي عليه من خيرات وثروات، وقد أعلن الخالق - عز وجل- ذلك في العديد من الآيات القرآنية الكريمة التي جاءت تذكر بهذه النعمة وتدعو للحفاظ عليها، فبالنسبة للبيئة البحرية، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل:14) ﴿اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الجاثية:12) وقال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْـمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ الْجَوَارِ الْـمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ﴾ (الرحمن 19-24)، أما بالنسبة للأنهار لقد وضح الخالق - عز وجل- أهمية الأنهار لحياة الإنسان على الأرض في العديد من الآيات الكريمة، قال تعالى: ﴿أَمَّنَ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أنهارًا﴾ (النحل:10)، كما يذكر الخالق - عز وجل - بتسخير الأنهار للإنسان في قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم الأَنهارَ﴾ (إبراهيم:32) كما يوضح الخالق عز وجل أهمية الماء لحياة الإنسان والحيوان والنبات فوجودهم مرتبط بوجود الماء قال تعالى: ﴿وَمَآ أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَآءِ مِنْ مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ (البقرة:164) ويقول - جل شأنه- ﴿وَهُوَ الَّذِيٓ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (الأنعام:99) ويقول سبحانه: ﴿وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْـمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ (الحج:5) ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا﴾(الفرقان: 48-49)، ثم يذكر الخالق - عز وجل-: أن الماء نعمة لعباده مما يوجب الشكر على هذه النعمة الغالية؛ قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْـمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْـمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْـمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنٰهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ﴾ (الواقعة:68-70).
2- الحفاظ على الماء وحمايته من التلوث:
كما حث الخالق - عز وجل - على الحفاظ على البيئة المائية وحمايتها من التلوث وكل ما يغير من طبيعتها وصلاحيتها للاستخدام المعدة له أصلاً حتى يظل الماء نقياً نظيفاً كما أنزله الخالق - عز وجل- تستلذ به الحواس وتستمتع به النفوس خالياً من كل ما يؤذي أو يضر بالإنسان أو الحيوان أو النبات، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْـمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْـمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْـمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنٰهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ﴾ (الواقعة:68-70) كما يوضح الخالق - عز وجل -: أن الماء المنزل من السماء ذو طبيعة خاصة فهو «ثج» أي ينساب وينهمر وهو ما يعني الصفاء والنقاء، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْـمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنّٰتٍ أَلْفَافًا﴾ (النبأ:14-16) ﴿وَأسْقَيْنَاكُمْ مَّآءً فُرَاتاً﴾ (المراسلات:27) أي ماءً عذباً زلالاً نازلاً من السحاب أو مما ينبع من عيون الأرض، ويقول المولى - عز وجل-: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُبَارَكاً﴾ (ق:9) أي ماء فيه الخير وفيه النماء وفيه المحافظة على نفوس البشر من الاعتلال والإصابة بالأمراض الخطيرة التي تعوق مسيرتهم الحياتية وتوقف أعمارهم للأرض، كما أراد الله من خلقهم، كما نبه الخالق - عز وجل - أن أي إفساد في البيئة على وجه العموم وبيئة الماء على وجه الخصوص إنما من كسب البشر وتدخلهم السيئ الذي أفسد البيئة وأخل بأساسها المتوازن، قال تعالى: ﴿وَاشْرَبُوا مِنْ رِّزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (البقرة:60) وقال جل وعلا ﴿ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ (الروم:41)
3- مقاومة الإسراف في استخدام الماء:
لقد أباح الخالق - عز وجل- لعباده التمتع بالطبيات أكلاً وشرباً ولبساً وتزيناً، ولكنه لم يدع الأمر بغير قيود وضوابط بل قيد الإباحة بعد الإسراف، قال تعالى: ﴿يٰبَنِيٓ آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْـمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف:31) ويعد استنزاف الموارد المائية والإسراف في استخدامها من أخطر القضايا البيئية؛ لأنه من الخطورة بمكان سوء استهلاك الماء والإسراف في استخدامه واعتباره مادة رخيصة الثمن مع ما له من قيمة لا يعرف قدرها إلا أولوا الألباب.
الخطبة الثانية
السنة النبوية وحماية بيئة الماء:
وإذا انتقلنا إلى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، نجد أنها تدعو دعوة صريحة إلى المحافظة على البيئة المائية وعدم التعدي عليها وأن ذلك جاء على عدة أوجه هي:
1- أن الماء ليس ملكاً لأحد بل هو منة وعطية للخالق - عز وجل- للناس جميعاً فيقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك صراحة في حديثه الصحيح «إن الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» (سنن ابن ماجه). وموجب هذه المشاركة ألا يتعدى إنسان على حق الآخرين في استعمال الماء سواءٌ في كمه أو كيفه.
2- كما نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن تلويث الماء الراكد أو الاغتسال فيه، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه- قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الماء الراكد» (رواه مسلم)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لايجري ثم يغتسل فيه» (متفق عليه). فهذا النهي والتحذير النبوي بهدف المحافظة على نقاء الماء، كما رتب النبي صلى الله عليه وسلم اللعن على من يلوث الموارد المائية، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل» (المستدرك للحاكم). «والمراد» أن هذه الأفعال تجلب اللعن؛ لأن أصحابها يلعنون على فعلهم القبيح؛ لأنهم أفسدوا على الناس منفعتهم، فكان ظلماً والظالم ملعون»(5) كما أثبتت الأبحاث العلمية أنه «ينتج عن التبول المباشر والتبرز المباشر أو إلقاء مخلفات المجارى في المصادر المائية وصول العديد من الطفيليات والميكروبات التي تضر بصحة الإنسان منها: البلهارسيا، والدودة الكبدية و الإنكلستوما»(6).
3- كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في استخدام الماء في العديد من الأحاديث الشريفة ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد وهو يتوضأ «ما هذا السرف يا سعـد، فقال: أفي الوضوء سرف؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم وإن كنت على نهر جاري» (رواه الحاكم) وعن عبد الله بن معقل رضي الله عنه قال سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول «أنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء» (رواه أحمد في مسنده) «والاعتداء في الطهور أي الطهارة تجاوز الحد المعقول في استعمال الماء والخروج من حد الاعتدال إلى حد الإسراف»(7) وإمعاناً في هذا التحذير نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى ترشيد استخدام الماء في الأمور التي يتكرر فعلها كالضوء والغسل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد» (متفق عليه) وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الوضوء؟ فأراه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: هذا الوضوء فمن زاد عن هذا فقد أساء وتعدى وظلم» (رواه أحمد في مسنده)
أخيراً
وفي النهاية نقول: فإذا كان الماء نعمةً عظيمةً من الله فكيف نجحد به ولا نصونه ونحافظ عليه، ثم لماذا يعبث الإنسان بالتوازن الكمي للماء فيسرف في استخدامه، ولماذا يعبث بتوازنه النوعي فيلوثه بالمواد الضارة محولاً النعمة إلى نقمة، ألا يعلم الإنسان أنه مُحاسَب يوم القيامة على نعم الله «ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَؤْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيْمِ» (التكاثر:8).
د. محمد عامر