يقظة الضمير الإنساني وأثرها في صلاح الأمة، للدكتور خالد بدير
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: مراقبة الله وأثرها في يقظة الضمير الإنساني
العنصر الثاني: محاسبة النفس وأثرها في يقظة الضمير الإنساني
العنصر الثالث: يقظة الضمير الإنساني بين الواقع والمأمول
العنصر الرابع: غياب الضمير الإنساني وأثره في انتشار ظاهرة الغش في الامتحانات
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: مراقبة الله وأثرها في يقظة الضمير الإنساني
عباد الله: إن مراقبة الله في السر والعلانية من الأهمية بمكان؛ وينبغي للعبد أن يراقب الله في جميع أحواله وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته؛ لأن الله أقرب إليك من حبل الوريد ؛ قال تعالي: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق: 16) ” قال ابن الجوزيّ- رحمه اللّه-: الحقّ عزّ وجلّ- أقرب إلى عبده من حبل الوريد. لكنّه عامل العبد معاملة الغائب عنه البعيد منه، فأمر بقصد نيّته، ورفع اليدين إليه، والسّؤال له. فقلوب الجهّال تستشعر البعد، ولذلك تقع منهم المعاصي، إذ لو تحقّقت مراقبتهم للحاضر النّاظر لكفّوا الأكفّ عن الخطايا. والمتيقّظون علموا قربه فحضرتهم المراقبة، وكفتهم عن الانبساط” ( صيد الخاطر)؛ فالعبد لو استشعر الخوف والمراقبة من الله ما قدم على المعصية!! وسئل ذو النّون: بم ينال العبد الجنّة؟ فقال: بخمس: استقامة ليس فيها روغان، واجتهاد ليس معه سهو، ومراقبة اللّه تعالى في السّرّ والعلانية، وانتظار الموت بالتّأهّب له، ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب. ( إحياء علوم الدين للغزالي).
إن مراقبة الله – عز وجل – في الأقوال والأفعال من أعلى درجات الإحسان؛ قال ابن منظور- رحمه اللّه-: فسّر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الإحسان حين سأله جبريل، صلوات اللّه عليهما وسلامه، فقال: ” هو أن تعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك. أراد بالإحسان الإشارة إلى المراقبة وحسن الطّاعة فإنّ من راقب اللّه أحسن عمله.” ( لسان العرب ).
أحبتي في الله: تعالوا بنا نسوق لكم صورا مشرقة من سلفنا الصالح ومراقبتهم لله عز وجل: روي أن المبارك كان يعمل في بستان لمولاه وأقام فيه زماناً، ثم إن مولاه جاءه يوما وقال له: أريد رماناً حلواً، فمضى إلى بعض الشجر وأحضر منها رماناً فكسره فوجده حامضاً، فحرد عليه ( أي غضب) فقال: أطلب الحلو فتحضر لي الحامض؟!! هات حلواً، فمضى وقطع من شجرة أخرى، فلما كسره وجده أيضاً حامضاً فاشتد حرده عليه، وفعل كذلك دفعة ثالثة، فقال له بعد ذلك: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟! فقال: لا، فقال: كيف ذلك؟! فقال: لأنني ما أكلت منه شيئاً حتى أعرفه، فقال: ولم لم تأكل؟! قال: لأنك ما أذنت لي، فكشف عن ذلك فوجد قوله حقاً، فعظم في عينه وزوّجه ابنته، ورزقه الله منها عبد الله بن المبارك الذي امتلأت الكتب والمؤلفات بذكره إلى يومنا هذا !!( وفيات الأعيان لابن خلكان).
وروي أن امرأة راودها رجل عن نفسها فأبت فأكرهها، فأرادت أن تعظه بأعظم موعظة وهي مراقبة ربه، لأنه لم يجن هذه الجناية إلا لأنه لم يراقب الله ونسي أن الله يراه، وبعد الإجبار قالت له: أغلق جميع الأبواب، فأغلق جميع الأبواب المحسوسة التي بينه وبين الناس _ الأبواب البشرية _ ونسي أن الباب الذي بينه وبين الله مفتوح ومكشوف، فقالت له: هل أغلقت جميع الأبواب؟ قال: لم يبق باب إلا وأغلقته، فقالت له: بقي باب مفتوح لم تغلقه! قال: أي باب؟! قالت: بقي الباب الذي بيننا وبين الله مفتوح، ألا تخاف الله؟ . . فارتعد وخاف ووجل فتركها خوفًا من الله الذي يراه حيث ما كان، وتاب هذا الرجل واستقام حاله!!
ومن هذه الصور مراقبة نبي الله يوسف عليه السلام وخشيته من ربه التي منعته عن المعصية عندما { رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23]
وإن مراقبة الله هي التي منعت ذلكم الرجل الذي راود بنت عمه على الفاحشة، فلما تمكن منها قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام وتركها وترك المال الذي أعطاها خوفاً من الله تعالى! والقصة كاملة في البخاري في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة.
وإن مراقبة الله تعالى التي منعت المرأة التي سمعها عمر رضي الله عنه حينما أمرتها أمها أن تغش اللبن الذي تريد بيعه للناس فقالت: يا أماه ألا تخافين من عمر؟ فقالت لها أمها: إن عمر لا يرانا. فقالت البنت: إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا. فأعجب بها عمر رضي الله عنه، وسأل عنها ثم زوجها ابنه عاصم، فكان من نسلها عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رضي الله عنه!!
أيها المسلم . . أيتها المسلمة . . نحن مأمورون بمراقبة الله تعالى على كل حال، فعَنْ أَبِى ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ” اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ “[ الترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ].
عباد الله: اتقوا الله وراقبوه، ولا سيما في شهر الصيام ؛ شهر المراقبة ؛ فالغاية منه التقوى والمراقبة ويقظة الضمير ؛ قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. (البقرة: 183) ؛ واعلموا أن مراقبة الله تعالى هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الله تعالى على ظاهره وباطنه، وأنه ناظرٌ إليه، سامعٌ لقوله، عالمٌ بحركاته وسكناته، ومع ذلك فقد وكل بعباده ملائكة يكتبون أقوالهم وأعمالهم فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12]، وأن أعماله مدونةٌ عليه، ستنشر يوم القيامة، وسيندم إن هو فرط حيث لا ينفع الندم، قال تعالى: { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13-14].
فيا أيها المؤمن، إن عينَ اللهِ تلاحقُك أين ما ذهبت، وفي أي مكان حللت، في ظلامِ الليل، وراء الجدران، وراء الحيطان، في الخلوات في الفلوات، ولو كنتَ في داخلِ صخورٍ صم، هل علمتَ ذلك، واستشعرتَ ذلك فاتقيتَ اللهَ ظاهراً وباطنا، فكانَ باطنُك خيرُ من ظاهرِك.
إذا ما خلوت الدهرَ يوما فلا تقل……خلوتُ ولكن قل علي رقيبُ
ولا تحسبنَ اللهَ يغفلُ ساعةً………..ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ
من فوائد (المراقبة)
عباد الله : للمراقبة فوائد كثيرة وعديدة في الدنيا والآخرة؛ منها: إتقان العمل وتحسينه وتجويده؛ ومنها: تحري أكل الحلال والبعد عن الحرام؛ ومنها: العصمة من ارتكاب المعاصي والموبقات؛ ومنها: الفوز بالجنّة والنّجاة من النّار؛ ومنها: الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة؛ ومنها: أنها دليل على كمال الإيمان وحسن الإسلام؛ ومنها: أن المراقبة تثمر محبّة اللّه تعالى ورضاه؛ ومنها: أنها دليل على حسن الخاتمة؛ ومنها: أن المراقبة مظهر من مظاهر صلاح العبد واستقامته.
أما إذا فقد العبد خلق المراقبة في وأفعاله وأقواله ولم يستح من الله؛ فناهيك عما يقع منه من مفاسد؛ وما يرتكب من موبقات؛ وما يتحمل من آثام وأوزار؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول:” إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ” ( البخاري)
ألا فلنعد يا عباد الله إلى مراقبة الله؛ إن فعلنا ذلك لصلح واستقام حال البلاد والعباد!!!
العنصر الثاني: محاسبة النفس وأثرها في يقظة الضمير الإنساني
ينبغي على العبد أن يحاسب نفسه على جميع أقواله وأفعاله أولا بأول ؛ فإن وجد خيرا حمد الله ؛ وإن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه؛ وعليه أن يستدرك هذا التقصير قبل فوات الأمان؛ وفي ذلك يقول عمر بن الخطّاب- رضي اللّه عنه-: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا. فإنّه أهون عليكم في الحساب غدا، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيّنوا للعرض الأكبر؛ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ} (الحاقة/ 18). وقال أنس بن مالك- رضي اللّه عنه- سمعت عمر بن الخطّاب- رضي اللّه عنه- يوما وقد خرجت معه، حتّى دخل حائطا فسمعته يقول، وبيني وبينه جدار، وهو في جوف الحائط: عمر بن الخطّاب أمير المؤمنين بخ، واللّه لتتّقينّ اللّه يا ابن الخطّاب، أو ليعذّبنّك. وقال إبراهيم التّيميّ: مثّلت نفسي في الجنّة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثمّ مثّلت نفسي في النّار آكل من زقّومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفسي، أيّ شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أردّ إلى الدّنيا، فأعمل صالحا، قال: قلت: فأنت في الأمنيّة، فاعملي. وقال الحسن- رحمه اللّه-: إنّ العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همّته. وعنه قال: { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (القيامة/ 2) قال: لا تلقى المؤمن إلّا يعاتب نفسه، ماذا أردت بكلمتي، ماذا أردت بأكلتي؟! .وقال مالك بن دينار- رحمه اللّه-: رحم اللّه عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثمّ زمّها، ثمّ خطمها، ثمّ ألزمها كتاب اللّه- عزّ وجلّ- فكان لها قائدا. « محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ».
وعن سلمة بن منصور عن مولى لهم كان يصحب الأحنف بن قيس، قال: كنت أصحبه، فكان عامّة صلاته الدّعاء، وكان يجيء المصباح، فيضع أصبعه فيه، ثمّ يقول: حسّ، ثمّ يقول: يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا، ما حملك على ما صنعت يوم كذا. وقال ابن القيّم- رحمه اللّه-: قد دلّ على وجوب محاسبة النّفس قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (الحشر/ 18) أي: لينظر أحدكم ما قدّم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصّالحات الّتي تنجيه، أم من السّيّئات الّتي توبقه؟!« إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم ».
وقال الفضيل بن عياض: من حاسب نفسه قبل أن يحاسب؛ خف في القيامة حسابه وحضر عن السؤال جوابه؛ وحسن منقلبه ومآبه. ومن لم يحاسب نفسه؛ دامت حسراته؛ وطالت في عرصات القيامة وقفاته؛ وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته؛ وأكيس الناس من دان نفسه وحاسبها وعاتبها وعمل لما بعد الموت واشتغل بعيوبه وإصلاحها.
عباد الله : ينبغي للعاقل أن يكون له في كل يوم ساعة يحاسب فيها نفسه كما يحاسب الشريك شريكه في شئون الدنيا والمال!! فكيف لا يحاسب الإنسان نفسه في سعادة الأبد وشقاوة الأبد؟!! قال ميمون بن مهران: لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه. لذلك كان توبة بن الصمة محاسباً لنفسه، فحسب فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها، فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: “يا ويلتي! ألقى الملك بأحدٍ وعشرين ألف ذنب كيف؟! وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب ثم خرَّ مغشيًّا عليه فإذا هو ميت!!”
عباد الله: علينا أن نحاسب أنفسنا كل يوم وكل ساعة؛ هل قصَّرنا في عملنا؟! هل قصَّرنا في وظيفتنا؟! هل قصَّرنا في أرحامنا؟! هل قصَّرنا في حقوق أهلينا ومجتمعنا وجيراننا؟!! هل قصَّرنا في عباداتنا وحقوق الله علينا؟!! هل قصَّرنا في … هل قصَّرنا في … هل قصَّرنا في …..؟!! إننا إن فعلنا ذلك وحاسبنا أنفسنا؛ فلا شك أن هذه الضمائر الحية المشرقة تكون في أعلى درجات الإيمان والتوكل والاجتهاد في أمور الدين والدنيا معا؛ وبذلك نفوز بسعادة العاجل والآجل!!!
العنصر الثالث: يقظة الضمير الإنساني بين الواقع والمأمول
أحبتي في الله: لو نظرنا إلى حياتنا المعاصرة لوجدنا أن هناك انفصاما وانفصالا كبيرا بين الواقع والمأمول في المراقبة ويقظة الضمير الإنساني؛ فتجد أن الفرد يعمل بجد وإخلاص وجودة وإتقان إذا كان مراقبا من رئيسه أو مديره أو مفتشه في العمل؛ إما إذا كان يعمل في شركة أو وظيفة أو مؤسسة أو وزارة ولا يراقبه أحد؛ فإنه لا يبالي بعمله ولا يراعي ضميره ولا يهمه مراقبة الله له؛ وإن شغله الشاغل التوقيع في دفتر الحضور والانصراف ( شاهد الزور ) ؛ ولا يهمه بعد ذلك جودة أو خدمة أو إتقان أو قيام مجتمع أو سقوطه أو مراقبة أو غير ذلك !!! وأسوق لكم قصة واقعية تدل على ذلك:
يحكى أنه حدثت مجاعة بقرية؛ فطلب الوالي من أهل القرية طلبًا غريبًا كمحاولة منه لمواجهة خطر القحط والجوع؛ وأخبرهم بأنه سيضع قِدرًا كبيرًا في وسط القرية؛ وأن على كل رجل وامرأة أن يضع في القِدر كوبًا من اللبن بشرط أن يضع كل واحد الكوب متخفيا دون أن يشاهده أحد؛ ( يختبر بذلك مراقبتهم لله ويقظة الضمير الإنساني لديهم ) ؛ فهرع الناس لتلبية طلب الوالي؛ فكل منهم تخفى بالليل وسكب الكوب الذي يخصه دون أن يراه أحد؛ وفي الصباح فتح الوالي القدر .. وماذا شاهد؟! شاهد القدر وقد امتلأ بالماء!! أين اللبن؟! ولماذا وضع كل واحد من الرعية الماء بدلاً من اللبن؟!
الإجابة: أن كل واحد من الرعية قال في نفسه: ” إن وضعي لكوب واحد من الماء لن يؤثر على كمية اللبن الكبيرة التي سيضعها أهل القرية “؛ وكل منهم اعتمد على غيره؛ وكل منهم فكر بالطريقة نفسها التي فكر بها أخوه، وظن أنه هو الوحيد الذي سكب ماءً بدلاً من اللبن، والنتيجة التي حدثت: أن الجوع عم هذه القرية ومات الكثيرون منهم ولم يجدوا ما يعينهم وقت الأزمات!!
هل تصدق أنك تملأ الأكواب بالماء في أشد الأوقات التي نحتاج منك أن تملأها باللبن؟! عندما لا تتقن عملك بحجة أنه لن يظهر وسط الأعمال الكثيرة التي سيقوم بها غيرك من الناس وتفقد مراقبتك لله فأنت تملأ الأكوب بالماء!!! حين تملك العلم وتبخل به عن الآخرين فأنت تملأ الكوب بالماء!! حين يموت الضمير الإنساني لديك فأنت تملأ الكوب بالماء!!! حين تبيع للناس الوهم والخزعبلات فأنت تملأ الكوب بالماء!! حين تطلق على نفسك الألقاب المزيفة بدون حق فأنت تملأ الكوب بالماء!! حين تعلم الآخرين ( فضائل ) أنت لا تملكها ولا تعمل بها فأنت تملأ الكوب بالماء!! حين تعمد لزرع الفتن وسط المجتمع من أجل مصالحك الشخصية فأنت تملأ الكوب بالماء!! حين تسفك دماء الأبرياء بغير حق فأنت تملأ الكوب بالماء!! حين تهدم الكفاءات والقدرات وتضع الحسالى والكسالى في مناصب القيادة فأنت تملأ الكوب بالماء!!
أحبتي في الله: إننا في حاجة ماسة إلي يقظة الضمير الإنساني في العمل ، وخاصة في عصر ضاعت فيه القيم واختلط الحابل بالنابل ، وضاعت الثقة بين الناس ، والعامل لا يهمه إلا جمع المادة وتعداد ساعات العمل ، دون النظر إلى جودة أو إتقان أو يقظة ضمير أو مراقبة!!
عباد الله: راقبوا ربكم في أعمالكم؛ راقبوا الله في وظائفكم؛ راقبوا الله في تجارتكم وزراعتكم وتجارتكم؛ إنكم إن فعلتم ذلك عاش الجميع في سعادة ورخاء؛ وإلا عم القحط والجدب والفقر البلاد والعباد.
إننا يجب أن نغرس في نفوس أبنائنا خلق مراقبة الله ويقظة الضمير الإنساني في جميع أحوالنا وأعمالنا وحركتنا وسكوننا؛ قال سهل بن عبد الله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سواء فقال لي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك فقلت: كيف أذكره؟ قال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك، الله معي الله ناظرٌ إلي الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته فقال: قل في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك ثم أعلمته فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشر مرة، فقلته فوقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك ودم عليه إلى أن تدخل القبر فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين فوجدت لذلك حلاوة في سري، ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل من كان الله معه وناظراً إليه وشاهده أيعصيه؟! “( إحياء علوم الدين)؛ أبداً لا يعصه ولا يقصر في عمله؛ بل يحسنه ويُجَوِّدُه ويتقنه.
عباد الله: والله الذي لا إله غيره؛ لو أن الناس راقبوا ربهم هل يأخذ إنسان مال إنسان آخر؟ الجواب: لا. لو أن الناس راقبوا ربهم هل يوجد في المحاكم معاملات من ظالم على مظلوم؟ الجواب: لا. لو أن الناس راقبوا ربهم هل تنتهك الحرمات؟! الجواب: لا. لو أن الناس راقبوا ربهم هل يضعف الإنتاج وينتشر الفقر والأزمات؟! الجواب: لا. لو أن الناس راقبوا ربهم هل تسفك دماء الأبرياء؟! الجواب: لا . لو أن الناس راقبوا ربهم هل تنتشر الخمور والمخدرات والمسكرات؟! الجواب: لا. لو أن الناس راقبوا ربهم ……. لو أن الناس راقبوا ربهم ……. لو أن الناس راقبوا ربهم …….!!!!!
لكن ضعفت مراقبتنا لله في كثير من أمور حياتنا فعصينا ربنا في الخلوات ، فرحماك يا رب البريات!!
العنصر الرابع: غياب الضمير الإنساني وأثره في انتشار ظاهرة الغش في الامتحانات
إن الغش ظاهرة خطيرة وسلوك مشين، وهو ظاهرة خطيرة سببها غياب الضمير الإنساني وفقد مراقبة الله؛ والغش له صور متعددة، وأشكال متنوعة، ابتداء من غش الحاكم لرعيته، ومرورا بغش الأب لأهل بيته، وغش الخادم في عمله؛ و انتهاء بالغش في التعليم والامتحانات.
وحديثي سوف يكون فقط عن الغش في الامتحانات، والذي أصبح يشكو كثير من المدرسين والتربويين من انتشاره وفشوه؛ وهذا حق، فإن ظاهرة الغش بدأت تأخذ في الانتشار، ليس على مستوى المراحل الابتدائية فحسب، بل تجاوزتها إلى الثانوية والجامعة والدراسات العليا، فكم من طالب قدم بحثا ليس له فيه إلا أن اسمه على غلافه!! وكم من طالب قدم مشروعا ولا يعرف عما فيه شيئا!! وبل وقد تعجب من انتكاس الفطر عند بعض الطلاب، فيرمي من لم يغش بأنه مقعد ومتخلف وجامد الخ .. تلك الألقاب؛ ولربما تمادى أحدهم فاتهم الطالب الذي لا يساعده على الغش بأنه لا يعرف معنى الأخوة ولا التعاون. هذه الظاهرة التي أنتجها الفصام النكد الذي يعيشه كثير منا في مجالات شتى، نعم لما عاش كثير من طلابنا فصاما نكدا بين العلم و العمل، ترى كثيرا منهم يحاول أن يغش في الامتحانات، و هو قد قرأ حديث الرسول صلى الله عليه و سلم : (“من غش فليس منا ” (مسلم)، بل ربما أنه يقرأه على ورقة الأسئلة، و لكن ذلك لا يحرك فيه ساكنا، لأنه قد استقر في ذهنه أنه لا علاقة بين العلم الذي يتعلمه وبين العمل الذي يجب أن يأتي به بعد هذا العلم؛ ولا أبالغ إن قلت: إن ظاهرة الغش أصبحت في غش القرآن ولا سيما في المعاهد الأزهرية بل ويمزقون المصحف ويأخذون الجزء المقرر في دورات المياه وهناك يداس بالأقدام!!!
أسباب الغش:
للغش أسباب كثيرة التي تنتج هذا الخلق المشين منها:
1- ضعف الإيمان: فإن القلوب إذا ملئت بالإيمان بالله لا يمكن أن تقدم على الغش وهي تعلم أن ذلك يسخط الله ؛ لا يمكن للقلوب التي امتلأت بحب الله أن تقدم على عمل وهي تعلم أنه يغضب الله.
2- ضعف التربية : خاصة من قبل الوالدين أو غيرهما من المدرسين أو المرشدين؛ فلا نرى أبا يجلس مع ابنه لينصحه ويذكره بحرمة الغش، ويبين له أثاره وعواقبه، بل تعجب من بعض الآباء إذا قلت له ذلك أجابك مباشرة : لماذا، هل ابني غشاش؟ بل ربما لو وقع الابن في يد المراقب، لجاء ذلك الأب يدافع عنه بالباطل!!
3- تزين الشيطان : فالشيطان يزين لكثير من الطلاب أن الأسئلة سوف تكون صعبة، ولا سبيل إلى حلها والنجاح في الامتحانات إلا بالبرشام والغش؛ فيصرف الأوقات الطويلة في كتابة البراشيم، و اختراع الحيل والطرق للغش؛ ما لو بذل عشر هذا الوقت في المذاكرة بتركيز لكان من الناجحين الأوائل!!
4- الكسل وضعف الشخصية: فترى كثير من الطلاب يرى زملائه من بداية العام وهم يجدون ويذاكرون ويهيئون أنفسهم للامتحان الأخير ، وهو لا هم له إلا اللعب والمرح .
فإذا ما جاءت الامتحانات النهائية تراه يطلب المساعدة، ويطلب النجاح ولو كان على ظهور الآخرين ولو كان ذلك بالغش. إن الغش هو حيلة الكسول ، وهو طريق الفاشلين؛ وهو دليل على ضعف الشخصية حيث أن الذي يغش لا يجد الثقة في نفسه بأنه قادر على تجاوز الامتحانات بنفسه وجهده واستذكار دروسه لوحده، ومن ثم الإجابة معتمدا على مذاكرته.
5- الخوف من الرسوب: فالخوف من الفشل يسبب قلقا مستمرا لكثير من الطلاب مما يجعلهم يلجئون إلى الغش كسبيل للنجاة.
آثار الغش على الفرد والمجتمع:
للغش آثار كثيرة على الفرد والمجتمع ومن ذلك:
1- أنه سبب لتأخر الأمة، وعدم تقدمها وعدم رقيها، وذلك لأن الأمم لا تتقدم إلا بالعلم وبالشباب المتعلم، فإذا كان شبابها لا يحصل على الشهادات العلمية إلا بالغش، فقل لي بريك: ماذا سوف ينتج لنا هؤلاء الطلبة الغشاشون ؟! ما هو الهم الذي يحمله الواحد منهم ؟! ما هو الدور الذي سيقوم به في بناء الأمة ؟! لا شيء ، بل غاية همه؛ وظيفة بتلك الشهادة المزورة، لا هم له في تقديم شيء ينفع الأمة، أو حتى يفكر في ذلك؛ و هكذا تبقى الأمة لا تتقدم بسبب أولئك الغششة بينها؛ ونظرة تأمل للواقع : نرى ذلك واضحا جليا، فعدد الطلاب المتخرجين في كل عام بالآلاف ولكن قل بربك من منهم يخترع لنا؟! أو يكتشف؟! أو يقدم مشروعا نافعا للأمة؟! قلة قليلة لا تكاد تذكر!!
2- أن الغاش غدا سيتولى منصبا، أو يكون معلما وبالتالي سوف يمارس غشه للأمة، بل ربما علَّم طلابه الغش.
3- أن الذي يغش سوف يرتكب عدة مخالفات –إضافة إلى جريمة الغش – منها السرقة، والخداع ، و الكذب، و أعظمها الاستهانة بالله، و ترك الإخلاص، و ترك التوكل على الله …إلخ
4- أن الوظيفة التي يحصل عليها بهذه الشهادة المزورة، أو التي حصل عليها بالغش سوف يكون راتبها حراما، لأنه بني على حرام ،وأيما جسد نبت من حرام فالنار أولى به.
علاج الغش:
لاشك أن خطبة واحدة، بل خطب لن تقاوم هذا المنكر العظيم؛ لذا كان لا بد من تعاون الجميع في مقاومة هذه الظاهرة ، كل بحسب استطاعته وجهده، فالأب في بيته ينصح أبنائه ويرشدهم ويحذرهم بين الحين والآخر ، والمعلم والمرشد في المدرسة والجامعة كل يقوم بالوعظ ، والإرشاد، وكذلك الداعية في خطبه ودروسه، والإعلام بوسائله المختلفة.
وأخيرا نداء للشباب، أخي الشاب: تذكر قول الرسول صلى الله عليه و سلم : (من غش ) ليشمل كل صور الغش ، كبيره وحقيره، في المواد الشرعية أو الأجنبية، فكل ذلك داخل في الحديث؛ فهل ترضي أن يتبرأ منك النبي صلى الله عليه وسلم؛ تذكر أنك بمجرد أن تفكر في الغش فقد تخليت عن أهم صفة يجب أن تتحلى بها في هذا العلم؛ ألا وهي الإخلاص لله؛ وذلك لأنك بتفكيرك في الغش؛ يكون همك هو الدرجات والشهادة فقط، وهل تدري أي خطر في هذا؟! إن هذه العلوم التي تدرسها؛ إن كانت من علوم الدنيا فقد ضيعت على نفسك أعظم الأجر، وإن كان فيها بعض العلوم شرعية ( كالفقه والتوحيد ..) وهي مما يجب ابتغائها لوجه لله، ولو طلبها العبد لغير الله فيخشى عليه أن يكون من أصحاب هذا الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي رِيحَهَا ” [ أبوداود وابن ماجة والحاكم وصححه ] ، يا لله ؛ لم يرح رائحة الجنة! وأعظم من ذلك كله، أنك جعلت الله أهون الناظرين إليك؛ نعم جعلت الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور أهون من المراقب، كم من طالب لو وقف المراقب بجواره لأصبح قلبه يرتجف، وأوصاله تضطرب، والعرق يتحدر من جبينه؛ ولكن إذا ابتعد المراقب جاءت النظرات، وجاءت المحاولات للغش والخداع!!
أخي الشاب: عليك أن تراقب الله قبل كل شيء، وأن تعلم أن روحك التي بين جنبيك بيد الله، فاتق الله ولا تجعل الله ينظر إليك وأنت تعصيه؛ تذكر أن الأمانة سوف تنصب على جنب الصراط، و لن يجوز عليه إلا من كان أمينا، والغش ينافي الأمانة كل المنافاة.
أسأل الله أن يسهل على أبناءنا، وأن يحميهم من الغش والخيانة، وأن يأخذ بنواصيهم لما يحب ويرضى؛ وأن يرزقنا مراقبته في السر والعلن؛ وأن يتقبل منا ومنكم طيب القول وصالح العمل وأن يردنا إلى دينه ردا جميلا .
الدعاء،،،،،،،،، وأقم الصلاة،،،،،،،،،،،،