الصبر في مواجهة الجوائح والأزمات للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله الذي وعد الصابرين أجرهم بغير حساب، وبشر
الشاكرين لنعمته بالمزيد، ووعد الكافرين بالعذاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له عليه توكلنا وإليه المتاب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من شكر
لربه، وأناب، وأصبرهم على أحكام الله بلا ارتياب، البشير النذير، السراج المزهر
المنير، خير الأنبياء مقاماً، وأحسن الأنبياء كلاماً، لبنة تمامهم، ومسك ختامهم،
رافع الإصر والأغلال، الداعي إلى خير الأقوال، والأعمال، والأحوال. الذي بعثه ربه
جل وعلا بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إليه بإذنه
وسراجاً منيراً، فختم به الرسالة وعلم به من الجهالة وهدى به من الضلالة وفتح به
أعين عميا وآذاناً صُمَّى وقلوب غُلْفَى وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها
لا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم وكما آمنا به ولم نره، فلا تفرق بيننا وبينه حتى
تدخلنا مدخله، وأوردنا يا رب بفضلك وبرحمتك حوضه الأصفى، واسقنا منه بيده الشريفة
شربة هنيئة مريئة لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً يا أرحم الراحمين.
العناصر
أولاً: أهمية الصبر وثمراته
ثانيًا: أنواع
الصبر
ثالثًا: موطن يتأكد فيه الصبر
رابعًا: نماذج للصابرين على البلاء
خامسًا: الوسائل المعينة على الصبر
الموضوع
تعريف الصبر لغة: قال الرّاغب: الصّبر:
الإمساك في ضيق، يقال صبرت الدّابّة بمعنى حبستها بلا علف، ويقال صبر فلان عند
المصيبة صبرا وصبّرته أنا حبسته، قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف/
28) أي احبس نفسك معهم.
وقال ابن منظور في أسماء الله تعالى: الصّبور وهو الّذي
لا يعاجل العصاة بالانتقام.
الصبر اصطلاحا: قال الرّاغب: هو حبس
النّفس على ما يقتضيه العقل والشّرع أو عمّا يقتضيان حبسها عنه، وقال الجاحظ:
الصّبر عن الشّدائد خلق مركّب من الوقار والشّجاعة، وقال المناويّ: الصّبر: قوّة
مقاومة الأهوال والآلام الحسّيّة والعقليّة ([1])
أولاً: أهمية الصبر وثمراته
معية الله لهم: قال تعالى:
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال/ 46)،
والتزموا طاعة الله وطاعة رسوله في كل أحوالكم، ولا تختلفوا فتتفرق كلمتكم وتختلف
قلوبكم، فتضعفوا وتذهب قوتكم ونصركم، واصبروا عند لقاء العدو. إن الله مع الصابرين
بالعون والنصر والتأييد، ولن يخذلهم.
أهل الصّبر مع أهل العزائم: قال تعالى: (وَلَمَنْ
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى/ 43)
ولمن صبر على الأذى، وقابل الإساءة بالعفو والصفح والسَّتر، إن ذلك من عزائم
الأمور المشكورة والأفعال الحميدة التي أمر الله بها، ورتَّب لها ثوابًا جزيلا
وثناءً حميدًا.
هم أهلُ اليمين: قال تعالى: ﴿ ثُمَّ
كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا
بِالْمَرْحَمَةِ ﴾ [البلد].
من صفات الأنبياء: قال تعالى:
(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) ) [سورة
الأنبياء ]
هو أفضل عطاء: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ، أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ،
فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ
قَالَ: «مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ
يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ
يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ
الصَّبْرِ» ([2])
الصبر ضياء: عَنْ أَبِي مَالِكٍ
الْأَشْعَرِيِّ t قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ
الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ
مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ
بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ
النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» ([3]) ، أي
الصَّبْرُ الْمَحْبُوبُ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ
تَعَالَى وَالصَّبْرُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَالصَّبْرُ أَيْضًا عَلَى النَّائِبَاتِ
وَأَنْوَاعِ الْمَكَارِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْمُرَادُ أَنَّ الصَّبْرَ مَحْمُودٌ
وَلَا يَزَالُ صَاحِبُهُ مُسْتَضِيئًا مُهْتَدِيًا مُسْتَمِرًّا عَلَى الصَّواب.
ثانيًا: أنواع الصبر
وللصبر
مراتب خمسة ذكرها الفيروز آبادي: أولها صابر: وهو أعمّها، ومصطبر: وهو المكتسب
للصبر، ومتصبِّر: أي يحمل نفسه على الصبر، وصبور: العظيم الصبر في الوصف والكيف،
ثم صبّار: يعني الشديد الصبر في القدر والكم.
وقال ابن
القيم رحمه الله الصبر باعتبار متعلقة ثلاثة: صبر الأوامر والطاعات حتى يؤديها،
صبر عن المخالفات والنواهي حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا
يسخطها،
وقال
الفيروز آبادي الصبر ثلاثة أنواع: صبر بالله، وصبر مع الله، وصبر لله.
أ- الصبر على الطاعة
دخول الجنة: قال تعالى:
(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)) (الرعد
22- 24)
وهم الذين صبروا على الأذى وعلى الطاعة، وعن المعصية
طلبًا لرضا ربهم، وأدَّوا الصلاة على أتمِّ وجوهها، وأدَّوا من أموالهم زكاتهم
المفروضة، والنفقات المستحبة في الخفاء والعلن، ويدفعون بالحسنة السيئة فتمحوها،
أولئك الموصوفون بهذه الصفات لهم العاقبة المحمودة في الآخرة.
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي
قَتَادَةَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَنَّهُ قَامَ
فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْإِيمَانَ
بِاللهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ،
أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ،
وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ
اللهِ ﷺ: «كَيْفَ قُلْتَ؟» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ
أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «نَعَمْ، وَأَنْتَ
صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِي ذَلِكَ» ([4])
محبة الله لهم: قال تعالى: (وَاللَّهُ
يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 142]
أمر الله بالصبر: قال تعالى: (يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)) [سورة آل عمران] قال ابن
القيم: أمرهم بالصّبر، وهو حال الصّابر في نفسه، والمصابرة مقاومة الخصم في ميدان
الصّبر، فإنّها مفاعلة تستدعي وقوعها بين اثنين- كالمشاتمة والمضاربة وهي إذن حال
المؤمن في الصّبر مع خصمه، أمّا المرابطة فهي الثّبات واللّزوم والإقامة على
الصّبر والمصابرة، فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر
ويصابر ويرابط من غير تعبّد بالتّقوى، فأخبر سبحانه أنّ ملاك ذلك كلّه: التّقوى،
وأنّ الفلاح موقوف عليها، فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ([5]).
وقال تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) (مريم/
65) ، وقال تعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها ) (طه/
132) .
العاقبة للمتقين: قال تعالى: (تِلْكَ
مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا
قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49))
[سورة هود] أي تلك القصة التي قصصناها عليك -أيها الرسول- عن نوح وقومه
هي من أخبار الغيب السالفة، نوحيها إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك مِن قبل هذا
البيان، فاصبر على تكذيب قومك وإيذائهم لك، كما صبر الأنبياء من قبل، إن العاقبة
الطيبة في الدنيا والآخرة للمتقين الذين يخشون الله.
يا
صاحب الهم إنَّ الهم منفرجٌ |
** ** |
لا تجزعنَّ إنَّ الفارج الله |
لا يضيع أجرهم أبدا: قال تعالى: ( وَاصْبِرْ
فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)) [سورة
هود]
لا ينال الرّشاد إلّا بالصّبر: قال ابن تيميّة- رحمه
الله تعالى-: «قد ذكر الله الصّبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعا. وقرنه
بالصّلاة في قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها
لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (البقرة/ 45) ، وجعل الإمامة
في الدّين موروثة عن الصّبر واليقين بقوله: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (السجدة/
24) . فإنّ الدّين كلّه علم بالحقّ وعمل به، والعمل به لا بدّ فيه من
الصّبر. بل وطلب علمه يحتاج إلى الصّبر. كما قال معاذ بن جبل- t-:
عليكم بالعلم فإن طلبه لله عبادة، ومعرفته خشية، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا
يعلمه صدقة، ومذاكرته تسبيح، به يعرف الله ويعبد، وبه يمجّد الله ويوحّد، يرفع
الله بالعلم أقواما يجعلهم للنّاس قادة وأئمّة يهتدون بهم وينتمون إلى رأيهم.
فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولا بدّ في الجهاد من
الصّبر، ولهذا قال تعالى: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا
بِالصَّبْرِ) (سورة العصر) ، وقال تعالى: (وَاذْكُرْ عِبادَنا
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) (ص/
45) .
فالعلم النّافع هو أصل الهدى، والعمل بالحقّ هو الرّشاد،
وضدّ الأوّل الضّلال، وضدّ الثّاني الغيّ.
فالضّلال العمل بغير علم، والغيّ اتّباع الهوى، قال
تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (النجم/ 1-
2) فلا ينال الهدى إلّا بالعلم ولا ينال الرّشاد إلّا بالصّبر. ولهذا قال
عليّ: «ألا إنّ الصّبر من الإيمان بمنزلة الرّأس من الجسد، فإذا انقطع الرّأس بان
الجسد، ثمّ رفع صوته فقال ألا لا إيمان لمن لا صبر له» ([6])
مضاعفة الجزاء: قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّلْنا
لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ
أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) ) [سورة القصص]
دليل
على الإيمان: عَن عَمْرو بن عبسة قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
فَقُلْتُ يَا رَسُول الله من تبعك عَلَى هَذَا الْأَمْرِ قَالَ حُرٌّ وَعَبْدٌ
قُلْتُ مَا الْإِسْلَامُ قَالَ طِيبُ الْكَلَامِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ قُلْتُ
مَا الْإِيمَانُ قَالَ الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ....) ([7])
يحتاج المطيعُ إلى الصَّبر على طاعته في ثلاث
أحوال:
الحالة الأولى: قبل العبادة: وذلك في تصحيح النية
والإخلاص والصَّبر عن شوائب الرياء ودواعي الآفات، وعقد العزم على الإخلاص
والوفاء، وذلك من الصَّبر الشديد عند من يعرف حقيقة النية والإخلاص وآفات الرياء
ومكايد النفس.
وقال الله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].
ولهذا قدَّم الله تعالى الصَّبر على العمل؛ فقال سبحانه:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [هود: 11].
الحالة الثانية: حالة العمل: كي لا يغفُلَ عن الله في
أثناء عمله، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه، ويدوم على شرط الأدب إلى آخر العمل
الأخير، فيلازم الصَّبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ، وهذا أيضًا من شدائد الصَّبر.
الحالة الثالثة: بعد الفراغ من العمل؛ إذ يحتاج إلى
الصَّبر عن إفشائه والتظاهر به للسمعة والرياء، والصَّبر عن النظر إليه بعين
العجب، وعن كل ما يبطل عمله ويحبط أثره؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ
﴾ [محمد: 33]، وكما قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ
رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ
كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264]، فمَن لا يصبر بعد الصدقة عن المنِّ
والأذى فقد أبطَل عمله. ([8])
ب- الصبر على المعصية
هو كف النفس
عن المعاصي وثباتها في مقاومة الشهوات ومقاومة الهوى في العلن وفي الخلوات، كم نصبر أمام الناس! وإذا خلونا بالمحارم
انتهكناها.
وقال ابن
رجب: (والصبر على الطاعات وعن المحرمات أفضل من الصبر على الأقدار المؤلمة صرح
بذلك السلف منهم سعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهما.
هم الفائزون: قال تعالى: (إِنِّي
جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) ) [سورة المؤمنون ]
قال أبو
يعلى الموصلي:
إني
رأيت وفي الأيام تجربةٌ |
** ** |
للصبر عاقبةٌ محمودة الأثر |
أجره على الله: قال تعالى: (وَجَزاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ
ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) ) [سورة
الشورى ]
فعل المعصية يؤدي إلى الهلاك: قال تعالى: (لَقَدْ
كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا
مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ
بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ
سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي
إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى
الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا
فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ
بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ
وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ (19) ) [سورة سبأ ]
يظلهم الله في ظله يوم القيامة: عن أبي هريرةَ عن
النبيِّ - ﷺ - قالَ: "سبعةٌ يُظلُّهم اللهُ يوم القيامةِ في ظلِّهِ، يومَ لا
ظِلَّ إلا ظِلُّه....... وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ
فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) ([9])
قَالَ الْقَاضِي يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ أَخَافُ اللَّهَ بِاللِّسَانِ وَيَحْتَمِلُ
قَوْلُهُ فِي قَلْبِهِ لِيَزْجُرَ نَفْسَهُ وَخَصَّ ذَاتَ الْمَنْصِبِ
وَالْجَمَالِ لِكَثْرَةِ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَعُسْرِ حُصُولِهَا وَهِيَ جَامِعَةٌ
لِلْمَنْصِبِ وَالْجَمَالِ لَا سِيَّمَا وَهِيَ دَاعِيَةٌ إِلَى نَفْسِهَا
طَالِبَةٌ لِذَلِكَ قَدْ أَغْنَتْ عَنْ مَشَاقِّ التَّوَصُّلِ إِلَى مُرَاوَدَةٍ
وَنَحْوِهَا فَالصَّبْرُ عَنْهَا لِخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ دَعَتْ إِلَى
نَفْسِهَا مَعَ جَمْعِهَا الْمَنْصِبَ وَالْجَمَالَ مِنْ أَكْمَلِ الْمَرَاتِبِ
وَأَعْظَمِ الطَّاعَاتِ فَرَتَّبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ يُظِلَّهُ فِي
ظِلِّهِ وَذَاتُ الْمَنْصِبِ هِيَ ذَاتُ الْحَسَبِ وَالنَّسَبِ الشَّرِيفِ
وَمَعْنَى دَعَتْهُ أي دعته إلى الزنى بِهَا هَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَاهُ
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ احْتِمَالَيْنِ أَصَحَّهُمَا هَذَا وَالثَّانِي أَنَّهُ
يَحْتَمِلُ أَنَّهَا دَعَتْهُ لِنِكَاحِهَا فَخَافَ الْعَجْزَ عَنِ الْقِيَامِ
بِحَقِّهَا أَوْ أَنَّ الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى شَغْلَهُ عَنْ لِذَاتِ
الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا قَوْلُهُ ﷺ ([10])
وجوب هجر المعاصي: عَن عبد الله بن عَمْرو
عَن النَّبِي ﷺ قَالَ: " الْمُسلم من سلم الْمُسلمُونَ من لِسَانه وَيَده،
وَالْمُهَاجِر من هجر مَا نَهَاهُ الله عَنهُ "([11]).
ذكر المهاجر ولم يقصد به من هاجر من مكة إلى المدينة،
فقد انتهت الهجرة من مكة إلى المدينة، وإنما المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، وكأن
المهاجر حقيقة: هو الإنسان الذي لا يعصي الله تبارك وتعالى، فذكر أن المهاجر هو
المسافر إلى الله حتى يصل إلى رحمة الله وجنة الله سبحانه.
دخول الجنة: قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ
الْمَأْوَىٰ) (سورة النازعات). قال مقاتل: (هو الرجل يهم بالمعصية
فيذكر مقامه للحساب فيتركها).
سيدنا يوسف عليه السلام: قال تعالى:
(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ
الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي
أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ
هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ
لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُخْلَصِينَ (24) ) [سورة يوسف ]
قال ابن القيم: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على
شأنها: أكملَ من صبره على إلقاء إخوته له في الجُبِّ وبيعه وتفريقهم بينه وبين
أبيه؛ فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها ليس للعبد فيها حيلة غير
الصَّبر، وأما صبره عن المعصية: فصبر اختيار ورضا ومحاربة للنفس، ولا سيما مع
الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة؛ فإنه كان شابًّا، وداعية الشباب إليها
قوية، وعزبًا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته، وغريبًا، والغريب لا يستحي في بلد غربته
مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكًا، والمملوك أيضًا ليس وازعه
كوازع الحر، والمرأة جميلة وذات منصب، وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له
إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، ومع ذلك توعدته إن لم يفعل: بالسجن
والصغار، ومع هذه الدواعي كلها صبر اختيارًا وإيثارًا لما عند الله، وأين هذا من
صبره في الجب على ما ليس من كسبه([12])
تقوية الحياء من الله فكيف يعصي العبد سيده الذي خلقه وهداه وأكرمه
وميزه عن سائر المخلوقات وكيف يستعمل نعم الله التي وهبها الله له في معاصيه.
قال
ابن القيم: (ذكر للصبر عن المعصية سببين وفائدتين: أما السببان فالخوف من لحوق
الوعيد المرتب عليها والثاني الحياء من الرب تبارك وتعالى أن يستعان على معاصيه
بنعمه وأن يبارز بالعظائم وأما الفائدتان: فالإبقاء على الإيمان والحذر من
الحرام). وإذا أيقن العبد أن الله ينظر إليه ويسمعه ويراقبه استحيا منه.
ج- الصبر على البلاء
ضرورة الابتلاءّ: قال ابن القيّم- رحمه
الله-: سأل رجل الشّافعيّ رحمه الله- فقال: يا أبا عبد الله، أيّهما أفضل للرّجل
أن يمكّن (فيشكر الله عزّ وجلّ) أو يبتلى (بالشّرّ فيصبر) ؟
فقال الشّافعيّ: لا يمكّن حتّى يبتلى، فإنّ الله ابتلى
نوحا وإبراهيم ومحمّدا- صلوات الله عليهم أجمعين- فلمّا صبروا مكّنهم، فلا يظنّ
أحد أن يخلص من الألم البتّة. ([13])
هم الصادقون: قال تعالى:
(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (البقرة/ 177) .
أَيْ فِي حَالِ الْفَقْرِ وَهُوَ الْبَأْسَاءُ، وَفِي
حَالِ الْمَرَضِ وَالْأَسْقَامِ وَهُوَ الضَّرَّاءُ، {وَحِينَ الْبَأْسِ} أَيْ فِي
حَالِ الْقِتَالِ وَالْتِقَاءِ الْأَعْدَاءِ قَالَهُ ابْنُ مسعود وابن عباس. وإنما
نصب {الصابرين} عَلَى الْمَدْحِ وَالْحَثِّ عَلَى الصَّبْرِ فِي هَذِهِ الأحوال
لشدته وصعوبته، والله أعلم. وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ} أَيْ
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي
إِيمَانِهِمْ، لِأَنَّهُمْ حَقَّقُوا الْإِيمَانَ الْقَلْبِيَّ بِالْأَقْوَالِ
وَالْأَفْعَالِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا {وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ} لِأَنَّهُمُ اتَّقَوُا الْمَحَارِمَ وَفَعَلُوا الطَّاعَاتِ ([14]).
محبة الله لهم: عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ
وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ
فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» ([15])
يورث صاحبه الإمامة: قال تعالى:
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا
بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السّجدة/ 24) ، وجعلنا من بني إسرائيل هداة
ودعاة إلى الخير، يأتمُّ بهم الناس، ويدعونهم إلى التوحيد وعبادة الله وحده
وطاعته، وإنما نالوا هذه الدرجة العالية حين صبروا على أوامر الله، وترك زواجره،
والدعوة إليه، وتحمُّل الأذى في سبيله، وكانوا بآيات الله وحججه مصدقين على وجه
اليقين ([16]).
تكفير الخطايا والذنوب: عن سعد بن أبي وقّاص- t-
قال: قلت يا رسول الله، أيّ النّاس أشدّ بلاء؟ قال: «الأنبياء، ثمّ الأمثل
فالأمثل. يبتلى الرّجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتدّ بلاؤه، وإن كان في
دينه رقّة ابتلي على قدر دينه. فما يبرح البلاء بالعبد حتّى يتركه يمشي على الأرض
وما عليه خطيئة» ([17])
دخول الجنة: عن أَبي موسى - t -
أنَّ رسول الله - ﷺ - قَالَ: «إِذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى
لِمَلائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فيقولونَ: نَعَمْ. فيقولُ: قَبَضْتُمْ
ثَمَرَة فُؤَادِهِ؟ فيقولونَ: نَعَمْ. فيقولُ: فمَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فيقولونَ:
حَمدَكَ وَاسْتَرْجَعَ. فيقول اللهُ تَعَالَى: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتاً في
الجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ» ([18])
الإضافة في قوله تعالى: (عبدي) ، للتشريف جبرًا لما
أصابه من المصيبة وتشريفًا له لصبره على أقضية ربه.
بشرى الصابرين برحمة الله وهدايته لهم: قال تعالى: (
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ
رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) ) (سورة
البقرة)
ولنختبرنكم بشيء يسير من الخوف، ومن الجوع، وبنقص من
الأموال بتعسر الحصول عليها، أو ذهابها، ومن الأنفس: بالموت أو الشهادة في سبيل
الله، وبنقص من ثمرات النخيل والأعناب والحبوب، بقلَّة ناتجها أو فسادها. وبشِّر
-أيها النبي- الصابرين على هذا وأمثاله بما يفرحهم ويَسُرُّهم من حسن العاقبة في
الدنيا والآخرة ([19]).
ضمان النّصر والمدد لهم قال تعالى: ( بَلى إِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ
بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (آل عمران/ 125)
بلى، إن ذلك يكفيكم. ولكم بشارة بعون آخر من الله: إن
صبرتم على القتال، واتقيتم الله، وجاء المدد إلى أعدائكم من ساعتهم مسرعين إليكم،
إن حصل ذلك فإن ربكم سيعينكم بخمسة آلاف من الملائكة معلمين أنفسهم وخيولهم بعلامة
ظاهرة ([20]).
لا يضره كيد الكائدين: قال تعالى: (إِنْ
تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ
بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)) [سورة آل عمران]
ومن عداوة هؤلاء أنكم -أيها المؤمنون- إن نزل بكم أمرٌ
حسن مِن نصر وغنيمة ظهرت عليهم الكآبة والحزن، وإن وقع بكم مكروه من هزيمة أو نقص
في الأموال والأنفس والثمرات فرحوا بذلك، وإن تصبروا على ما أصابكم، وتتقوا الله
فيما أمركم به ونهاكم عنه، لا يضركم أذى مكرهم. والله بجميع ما يعمل هؤلاء الكفار
من الفساد محيط، وسيجازيهم على ذلك.
لهم مغفرة وأجر كبير: قال تعالى: (وَلَئِنْ
أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ
كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ
لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) ) [سورة هود] أي ولئن أعطينا الإنسان
مِنَّا نعمة من صحة وأمن وغيرهما، ثم سلبناها منه، إنه لَشديد اليأس من رحمة الله،
جَحود بالنعم التي أنعم الله بها عليه، ولئن بسطنا للإنسان في دنياه ووسَّعنا عليه
في رزقه بعد ضيق من العيش، ليقولَنَّ عند ذلك: ذهب الضيق عني وزالت الشدائد، إنه
لبَطِر بالنعم، مبالغ في الفخر والتعالي على الناس، لكن الذين صبروا على ما أصابهم
من الضراء إيمانًا بالله واحتسابًا للأجر عنده، وعملوا الصالحات شكرا لله على نعمه،
هؤلاء لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير في الآخرة ([21]).
علم الله بهم: قال تعالى: (أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ
جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)) [سورة آل
عمران]
الجنة تحت ظلال السيوف: عَن أبي هُرَيْرَة
قَالَ: قَالَ رَسُول الله ﷺ: "يا أيُّها الناسُ! لا تَمَنَّوْا لِقاءَ
العَدُوِّ، وسَلُوا اللهَ العافِيَةَ، فإذا لَقِيتُموهُم فاصْبِروا، واعْلَموا
أنَّ الجنَّةَ تحتَ ظِلالِ السُّيوفِ"، ثم دعا على الأحزابِ، فقالَ:
"اللهُمَّ! مُنْزِلَ الكِتابِ، ومُجْرِيَ السَّحابِ ، وهازِمَ الأحزابِ!
اهْزِمْهُم، وزَلْزِلْهُم، وانْصُرْنا عليهِم" ([22]).
تمكين المستضعفين: قال تعالى:
(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ
وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى
بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ
وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) ) [سورة الأعراف]
قال تعالى: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا
أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ
فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي
الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ
وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ
يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ
يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
) [سورة يوسف]
نعم أجر العاملين: قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ
الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) ) [سورة
العنكبوت ]
له أجر الشهيد: عن عائشةَ رضيَ الله عنها: أَنَّهَا
سَألَتْ رسولَ الله - ﷺ - عَنِ الطّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا أنَّهُ كَانَ عَذَاباً
يَبْعَثُهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللهُ تعالى رَحْمَةً
للْمُؤْمِنينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ في الطَّاعُونِ فيمكثُ في بلدِهِ
صَابراً مُحْتَسِباً يَعْلَمُ أنَّهُ لا يصيبُهُ إلا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ إلا
كَانَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ الشّهيدِ) ([23])
الصبر عند الصدمة الأولى: عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: «اتَّقِي اللَّهَ
وَاصْبِرِي» قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ
تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ. فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ ﷺ
فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ. فَقَالَ:
«إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» ([24])
ففيه دليل أَن ثواب الصبر إِنَّما يحصل عند مفاجأة
المصيبة، بخلاف ما بعدها.
تكفير الخطايا: عن أبي سعيدٍ وأبي
هريرةَ رضيَ الله عنهما، عن النَّبيِّ - ﷺ -، قَالَ: «مَا يُصيبُ المُسْلِمَ مِنْ
نَصَبٍ، وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ، وَلا حَزَنٍ، وَلا أذَىً، وَلا غَمٍّ، حَتَّى
الشَّوكَةُ يُشَاكُهَا إلا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَاياهُ» ([25])
و «الوَصَبُ» : المرض.
فالأمراض وغيرها من المؤذيات مُطهرةٌ للمؤمن من الذنوب،
فَيَنْبَغِي الصَّبرُ على ذلك ليحصل له الأَجرُ، والمصاب مَنْ حُرِم الثواب.
كله خير: عن أبي يحيى صهيب بن
سنانٍ - t -، قَالَ:
قَالَ رسولُ الله - ﷺ -:
«عَجَباً لأمْرِ المُؤمنِ إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ
خيرٌ ولَيسَ ذلِكَ لأَحَدٍ إلا للمُؤْمِن: إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ
خَيراً لَهُ، وإنْ أصَابَتْهُ ضرَاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْراً لَهُ» ([26])
فالشكر على السّرّاء والصبر على الضرّاء، فمن فعل ذلك
حصل له خيرُ الدارين، ومَنْ لم يشكر على النعمة، ولم يصبر على المصيبة، فاته
الأَجر، وحصل له الوِزْر.
ثالثًا: موطن يتأكد فيه الصبر
فقد العينين: عن أنسِ بن مَالِكٍ t قالَ: سَمِعْتُ النبيَّ - ﷺ - يقولُ: "إِنَّ اللَّهَ تَعالى
قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ، فَصَبَرَ؛ عَوَّضْتُهُ
مِنْهُمَا الْجَنَّةَ" ([27]).
يُرِيدُ عَيْنَيه.
فقد الولد: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَا
رَسُولَ اللهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ
يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ، تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ، قَالَ:
«اجْتَمِعْنَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا» فَاجْتَمَعْنَ، فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ
فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْكُنَّ مِنِ
امْرَأَةٍ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا، مِنْ وَلَدِهَا ثَلَاثَةً، إِلَّا كَانُوا
لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ،
وَاثْنَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ» ([28])
أَيْ لَا تَمَسُّهُ أَصْلًا وَلَا قَدْرًا يَسِيرًا
كَتَحِلَّةِ الْقَسَمِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ مِنْكُمْ إلا
واردها الْمُرُورُ عَلَى الصِّرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَيْهَا وَقِيلَ
الْوُقُوفُ عِنْدَهَا.
وعَنْ
أبي هُريرةَ أنّ
رسولَ الله - ﷺ - قال: "يَقولُ الله تَعالى: مَا لِعَبْدي المؤمِنِ عِنْدي
جَزَاءٌ إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا، ثُمّ احْتَسَبَهُ؛ إلا الجنَّةُ"
([29])
فقد الزوج: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ
فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ) اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا
إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا ". فَلَمَّا مَاتَ أَبُو
سَلمَة قَالَت: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتِ
هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ([30])
حجابا من النار: (عن عائشة- رضي الله
عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: «من ابتلي بشيء من البنات فصبر عليهنّ كنّ له حجابا
من النّار» ([31])
سوء أخلاق الآخرين: عن ابن مسعودٍ - t- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَومُ حُنَينٍ آثَرَ رسولُ الله - ﷺ -
نَاساً في القسْمَةِ، فَأعْطَى الأقْرَعَ بْنَ حَابسٍ مئَةً مِنَ الإِبِلِ،
وَأَعْطَى عُيَيْنَة بْنَ حصن مِثْلَ ذلِكَ، وَأَعطَى نَاساً مِنْ أشْرافِ
العَرَبِ وآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ في القسْمَةِ. فَقَالَ رَجُلٌ: واللهِ إنَّ هذِهِ
قِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُريدَ فيهَا وَجْهُ اللهِ، فَقُلْتُ: وَاللهِ
لأُخْبِرَنَّ رسولَ الله - ﷺ -، فَأَتَيْتُهُ فَأخْبَرتُهُ بمَا قَالَ،
فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى كَانَ كالصِّرْفِ. ثُمَّ قَالَ: «فَمَنْ يَعْدِلُ
إِذَا لم يَعْدِلِ ... اللهُ وَرسولُهُ؟» ثُمَّ قَالَ: «يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى
قَدْ أُوذِيَ بأكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبر» . فَقُلْتُ: لا جَرَمَ لا أرْفَعُ
إِلَيْه بَعدَهَا حَدِيثاً. ([32]) قَوْلُهُ: «كالصِّرْفِ» هُوَ
بِكَسْرِ الصَّادِ المُهْمَلَةِ: وَهُوَ صِبْغٌ أحْمَر.
وعن أبي عبد الرحمنِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ - t - قَالَ: كَأَنِّي أنْظُرُ إِلَى رسولِ الله - ﷺ - يَحْكِي نَبِيّاً
مِنَ الأَنْبِياءِ، صَلَواتُ الله وَسَلامُهُ عَلَيْهمْ، ضَرَبه قَوْمُهُ
فَأدْمَوهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِقَومي، فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمونَ» ([33])
الصرع: عَن عَطاء بن أبي
رَبَاح قَالَ: قَالَ لي ابْن عَبَّاس: (أَلا أريك امْرَأَة من أهل الْجنَّة؟ قلت:
بلَى. قَالَ: هَذِه الْمَرْأَة السَّوْدَاء، أَتَت النَّبِي ﷺ فَقَالَت: إِنِّي
أصرع، وَإِنِّي أتكشف، فَادع الله لي. قَالَ: " إِن شِئْت صبرت وَلَك
الْجنَّة، وَإِن شِئْت دَعَوْت الله أَن يعافيك ". قَالَت: أَصْبِر.
فَقَالَت: فَإِنِّي أتكشف، فَادع الله أَلا أتكشف. فَدَعَا لَهَا) ([34]).
المرض: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مَوْعُوكٌ، عَلَيْهِ
قَطِيفَةٌ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَوَجَدَ حَرَارَتَهَا فَوْقَ الْقَطِيفَةِ،
فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: مَا أَشَدَّ حُمَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنَّا
كَذَلِكَ، يَشْتَدُّ عَلَيْنَا الْبَلَاءُ، وَيُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ» ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ:
«الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، وَقَدْ كَانَ أَحَدُهُمْ يُبْتَلَى
بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلَّا الْعَبَاءَةَ يَجُوبُهَا فَيَلْبَسُهَا،
وَيُبْتَلَى بِالْقُمَّلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، وَلَأَحَدُهُمْ كَانَ أَشَدَّ
فَرَحًا بِالْبَلَاءِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِالْعَطَاءِ» ([35])
الصبر على الفقر وضيق الحال: قال تعالى: (أُولَٰئِكَ
يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً
وَسَلَامًا) (سورة الفرقان). قال محمد بن علي بن الحسين: (بما صبروا
على الفقر والفاقة في الدنيا).
الصبر على قتال الكفار: قال تعالى: (وَلَمَّا
بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا
وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ
بِإِذْنِ اللَّهِ) (سورة البقرة).
الصبر على كلام المخالفين من الكفار وأهل
البدع والفساق: قال تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ
وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) (سورة المزمل).
الصبر على الأذى الذي يحصل من القيام
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فال تعالى: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ
إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (سورة لقمان).
الصبر على مخالطة الناس: عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ
عَلَى أَذَاهُمْ، خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ
عَلَى أَذَاهُمْ» ([36]).
والراجح أن الاختلاط بالناس إذا كان مصحوباً بالفتن
والأذى فالبعد عنهم واعتزالهم أفضل من الاختلاط بهم، أما إذا كان بمخالطته لهم
سيدعوهم إلى الله عز وجل ويسمعون ويطيعون لما يأمر به من كتاب الله وسنة نبيه ﷺ،
فالأفضل أن يخالطهم، والله أعلم.
الصبر على سوء خلق المرأة ومرضها: قال تعالى: (فَإِن
كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ
خَيْرًا كَثِيرًا). قال ابن عباس في هذه الآية : (هو أن يعطف عليها فيرزق منها
ولدا ويكون في ذلك الولد خير كثير). وصبر المرأة على ظلم الزوج وفقره يرجى لها
ثواب عظيم إذا احتسبت الأجر من الله وتكون لها العاقبة حسنة في صلاح ولدها وبرهم
لها.
الصبر على تربية الأولاد وتوجيه الأهل لا سيما مع كثرة الفتن
وقلة المعين قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا
لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) (سورة
طه).
رابعًا: نماذج للصابرين على البلاء
سيدنا محمد ﷺ: عن عائشةَ رضيَ اللهُ
عنها زوجِ النبيِّ - ﷺ - أنَّها قالت للنبيِّ - ﷺ -: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يومِ أُحُدٍ؟
قالَ: "لقد لَقِيتُ من قومِكِ ما لَقِيتُ، وكانَ أشدُّ ما لقيتُ منهُم يومَ
العقبةِ؛ إذ عرضْتُ نفسي على ابنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عبدِ كُلالٍ؛ فلم يُجِبْني إلى
ما أردتُ، فانطلَقْتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أسْتَفِقْ إلا وأنا بقَرْنِ
الثَّعالِبِ ، فرفَعْتُ رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتْني، فنظرتُ، فإذا فيها
جبريلُ، فناداني فقال: إنَّ اللهَ قد سَمعَ قولَ قومِكَ لكَ، وما رَدُّوا عليكَ،
وقد بَعَثَ إليكَ مَلَكَ الجبالِ لِتَأْمُرَهُ بما شئتَ فيهم، فناداني مَلَكُ
الجبالِ، فسلَّمَ عليَّ، ثم قالَ: يا محمدُ! فقالَ: ذلك فيما شِئتَ، إنْ شثتَ أنْ
أُطْبِقَ عليهِم الأخْشَبَيْنِ، فقالَ النبيُّ - ﷺ -: بل أرجو أن يُخْرِجَ اللهُ
مِن أصْلابِهِم مَن يعبُدُ اللهَ وحدَهُ لا يُشْرِكُ بهِ شيئاً"([37]).
سيدنا إبراهيم عليه السلام: قال تعالى: (وَقالَ
إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ
أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) ) [سورة
الصافات ]
أرأيتم قلبا أبويا |
** |
يتقبل أمرا يأباه؟؟ |
أرأيتم ابنا يتلقى |
** |
أمرا بالذبح ويرضاه؟ |
ويجيب الابن بلا فزع |
** |
افعل ما تؤمر أبتاه |
لن أعصى لإلهي أمرا |
** |
من يعصي يوما مولاه؟ |
واستل الوالد سكينا |
** |
واستسلم الابن لرداه |
ألقاه برفق لجبين |
** |
كي لا تتلقى عيناه |
وتهز الكون ضراعات |
** |
ودعاء يقبله الله |
يتضرع للرب الأعلى |
** |
أرض وسماء ومياه |
ويجيب الحق ورحمته |
** |
سبقت بفضل عطاياه |
صدَّقت الرؤيا لا تحزن |
** |
يا إبراهيم فديناه |
سيدنا أيوب عليه السلام: قال تعالى: (وَاذْكُرْ
عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ
وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42)
وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى
لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ
وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
) [سورة ص ]
" إن نبي الله أيوب ﷺ لبث به بلاؤه ثمان عشرة سنة
فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما
لصاحبه ذات يوم: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين فقال له
صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثمان عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به فلما راحا إلى
أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقولان غير أن الله
تعالى يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان، فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر
عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق، قال: وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضى حاجته
أمسكته امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها وأوحي إلى أيوب أن *
(اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) * فاستبطأته فتلقته تنظر وقد أقبل عليها قد
أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك هل
رأيت نبي الله هذا المبتلى، والله على ذلك ما رأيت أشبه منك إذ كان صحيحا، فقال:
فإني أنا هو، وكان له أندران (أي بيدران) : أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله
سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى
في أندر الشعير الورق حتى فاض "([38]).
قال تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي
مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84))
[سورة الأنبياء]
طالوت وجنوده: قال تعالى: (فَلَمَّا
فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ
شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا
مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ
فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا
الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا
اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
) [سورة البقرة ]
وفاة ابن بنت رسول الله ﷺ: عَنْ أُسَامَةَ بْنِ
زَيْدٍ، أَنَّ صَبِيًّا لَابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَقُلَ، فَبَعَثَتْ أُمُّهُ
إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ وَلَدِي فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: "
اذْهَبْ فَقُلْ لَهَا: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ إِلَى أَجْلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ "، فَرَجَعَ
الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهَا، فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَمَا جَاءَ،
فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ: سَعْدُ بْنُ
عُبَادَةَ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ الصَّبِيَّ فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَنْدُوَتَيْهِ،
وَلِصَدْرِهِ قَعْقَعَةٌ كَقَعْقَعَةِ الشَّنَّةِ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ
اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَتَبْكِي وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ:
«إِنَّمَا أَبْكِي رَحْمَةً لَهَا، إِنَّ اللَّهَ لَا يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ
إِلَّا الرُّحَمَاءَ»([39])
أبو طلحة وأم سليم: عَن أنس قَالَ: مَاتَ
ابنٌ لأبي طَلْحَة من أم سليم، فَقَالَت لأَهْلهَا: لَا تحدثُوا أَبَا طَلْحَة
بِابْنِهِ حَتَّى أكون أَنا أحدثه. قَالَ: فجَاء فقربت إِلَيْهِ عشَاء، فَأكل
وَشرب، وَقَالَ: ثمَّ تصنعت لَهُ أحسن مَا كَانَ تصنع قبل ذَلِك، فَوَقع بهَا،
فَلَمَّا رَأَتْ أَنه قد شبع وَأصَاب مِنْهَا قَالَت: يَا أَبَا طَلْحَة أَرَأَيْت
لَو أَن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيتٍ فطلبوا عاريتهم، ألهم أَن يمنعوهم؟ قَالَ:
لَا. قَالَت: فاحتسب ابْنك. قَالَ: فَغَضب وَقَالَ: تَرَكتنِي حَتَّى إِذا تلطخت
ثمَّ أَخْبَرتنِي بِابْني. فَانْطَلق حَتَّى أَتَى رَسُول الله ﷺ، فَأخْبرهُ بِمَا
كَانَ، فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: " بَارك الله لَكمَا فِي ليلتكما "
فَحملت. قَالَ: فَكَانَ رَسُول الله ﷺ فِي سفر وَهِي مَعَه، وَكَانَ رَسُول الله ﷺ
إِذا أَتَى الْمَدِينَة من سفرٍ لَا يطرقها طروقاً، فدنوا من الْمَدِينَة، فضربها
الْمَخَاض، فاحتبس عَلَيْهَا أَبُو طَلْحَة، فَانْطَلق رَسُول الله ﷺ، قَالَ:
يَقُول أَبُو طَلْحَة: إِنَّك لتعلم يَا رب أَنه يُعجبنِي أَن أخرج مَعَ رَسُول
الله ﷺ إِذا خرج، وَأدْخل مَعَه إِذا دخل، وَقد احْتبست بِمَا ترى.
قَالَ: تَقول أم سليم: يَا أَبَا طَلْحَة، مَا أجد
الَّتِي كنت أجد، انْطلق فَانْطَلَقْنَا، وضربها الْمَخَاض حِين قدما، فَولدت
غُلَاما، فَقَالَت لي أُمِّي: يَا أنس، لَا يرضعه أحدٌ حَتَّى تَغْدُو بِهِ على
رَسُول الله ﷺ، فَلَمَّا أصبح احتملته فَانْطَلَقت بِهِ إِلَى رَسُول الله ﷺ،
فَقَالَ: فصادفته وَمَعَهُ ميسم، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: " لَعَلَّ أم سليم
ولدت؟ " قلت: نعم. فَوضع الميسم: قَالَ: وَجئْت بِهِ فَوَضَعته فِي حجره،
ودعا رَسُول الله ﷺ بعجوةٍ من عَجْوَة الْمَدِينَة فلاكها فِي فِيهِ حَتَّى
ذَابَتْ ثمَّ قَذفهَا فِي فِي الصَّبِي، فَجعل الصَّبِي يتلمظها، قَالَ: فَقَالَ
رَسُول الله ﷺ: " انْظُرُوا إِلَى حب الْأَنْصَار التَّمْر " قَالَ:
فَمسح وَجهه، وَسَماهُ عبد الله ([40]).
قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: فَقَالَ رجل من
الْأَنْصَار: فَرَأَيْت تِسْعَة أَوْلَاد كلهم قد قَرَأَ الْقُرْآن.
خامسًا: الوسائل المعينة على الصبر
أن الله قادر على كل شيء: قال تعالى: (وَمِنْ
آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ
يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) ) [سورة الشورى ]
اللجوء إلى الله: قال تعالى: (قَالَ بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي
بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى
عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ
الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ
يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ
مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) ) [سورة يوسف ]
وإذا عرتك بلية فاصبر لها ** صبر الكريم فإنه بك أعلمُ
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنّمــــــا ** تشكو الرحيم إلى
الذي لا يرحمُ
لأن تعلم
أنَّ الذي ابتلاك هو أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ، وقيّوم السماوات والأراضين
، وأنه ما ابتلاك ليهلكك أو ليعذبك ، إنما ابتلاك امتحاناً لك ليسمع تضرعك ونجواك
وابتهالك ...فسبحان من ابتلاك لترفع إليه شكواك، كم في البلاء من النعم التي تخفى
على العبد ..
وتأمل في
حال العبد حين البلاء كيف يذل وينكسر ويقر ويعترف ، كم يلح على الله في الدعاء ،
وكم يتضرع إلى ربِّ الأرض والسماء ، وكم ، وكم يظهر من الذلّة والمسكنة لله ربّ
العالمين ..ولولا المصيبة والابتلاء ما عرف العبد هذا.
وقال تعالى: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)
) [سورة المعارج ]
قال ابن تيمية: ذكر الله تعالى في كتابه: الصّبر الجميل،
والصّفح الجميل، والهجر الجميل .
فالصّبر الجميل: هو الّذي لا شكوى فيه ولا معه، والصّفح
الجميل: هو الّذي لا عتاب معه، والهجر الجميل: هو الّذي لا أذى معه» ([41])
عدم استواء الجزاء: قال تعالى: (وَمَنْ
أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي
مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا
السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
) [سورة فصلت ]
الاستعانة بالصبر والصلاة: قال تعالى: (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
(البقرة/ 153) ، أي يا أيها المؤمنون اطلبوا العون من الله في كل
أموركم: بالصبر على النوائب والمصائب، وبالصبر على ترك المعاصي والذنوب، والصبر
على الطاعات والقربات، وبالصلاة التي تطمئن بها النفس، وتنهى عن الفحشاء والمنكر،
إن الله مع الصابرين بعونه وتوفيقه وتسديده، وفي الآية: إثبات معيَّة الله الخاصة
بالمؤمنين، أما المعية العامة، المقتضية للعلم والإحاطة فهي لجميع الخلق.
ترك الاستعجال: عن أبي عبد الله
خَبَّاب بنِ الأَرتِّ - t- قَالَ:
شَكَوْنَا إِلَى ... رسولِ الله - ﷺ - وَهُوَ متَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ في ظلِّ
الكَعْبَةِ، فقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ألا تَدْعُو لَنا؟ فَقَالَ: «قَدْ
كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ في الأرضِ فَيُجْعَلُ
فِيهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأسِهِ فَيُجْعَلُ نصفَينِ،
وَيُمْشَطُ بأمْشَاطِ الحَديدِ مَا دُونَ لَحْمِه وَعَظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلِكَ
عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ الله هَذَا الأَمْر حَتَّى يَسيرَ الرَّاكبُ
مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَموتَ ... لا يَخَافُ إلا اللهَ والذِّئْب عَلَى
غَنَمِهِ، ولكنكم تَسْتَعجِلُونَ» ([42])
فمَدْحُ الصبر على العذاب في الدين، وكراهة الاستعجال.
قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم
مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء
وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى
نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة (214) ] .
النظر
إلى مصائب الغير: حتى
تهون عليك المصيبة عبد الله ..انظر إلى مصاب غيرك .. آدم عانى المحن إلى أن خرج من
الدنيا ..أُخرج من الجنة ، وتاه في الأرض ، وقتل هابيل قابيل.. وبكى نوح ثلاثمائة
عام ، وصبر على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وأخذ الطوفان ابنه ولم تؤمن زوجته
.. ثم أُلقي في النار الخليل ، ووضع ابنه وزوجه في وادٍ غير ذي زرع ، ثم يأمره الله
بذبحه ثم هو يصبر ويحتسب.. وبكى يعقوب حتى ذهب بصره ..وقاسى موسى من فرعون ومن بني
إسرائيل ما قاسى .. وعيسى ابن مريم لا مأوى له إلاَّ البراري والصحراء .. ومحمد ﷺ
مطارد في الغار ، قاسى الفقر، وقُتل أصحابه، هذا
حال الأنبياء وهم أشد الناس حباً وثقة بالله
الاستعانة بالله على الصبر: قال النبي ﷺ: (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ
اللهُ. وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْراً وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْر» ([43]) ومن استعان بالله يسر له الشدائد وهون عليه
الأمور وأزال عنه العقبات.
وقال
تعالى: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) (سورة
البقرة) . أما حال العافية فيدعو بإتمام العافية والستر ودوام النعمة.
محبة الله وخشيته: فإن محبة الله تحمل المؤمن على الصبر على الطاعة وخشيته تحمله على الصبر
عن المعصية وعلى المصيبة فكلما قويت الخشية والمحبة قوي الصبر، فالمحب الصادق
يوافق هوى محبوبه ولا يخالف مراده.
تَعصي
الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ |
** ** ** |
هَذا
مَحالٌ في القِياسِ بَديعُ |
التأمل في صبر الأنبياء والصالحين وأخذ العبرة واستنهاض الهمة قال تعالى: (لَقَدْ
كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا
يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ
وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). فيتأمل في صبر النبي أيوب على البلاء
وصبر النبي يوسف عن المعصية وصبر خاتم النبيين محمد على القيام بالدعوة إلى الله
وتحمله المشاق والأذى في سبيل الله.
وصلِّ
اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
جمع
وترتيب: الشيخ أحمد أبو عيد
%%%%%%%%
[1])) مفردات الراغب (5273)
[2])) متفق عليه
[3])) صحيح مسلم
[4])) صحيح مسلم
[5])) تفسير ابن القيم
[6])) بصائر ذوي التمييز
[7])) السلسلة الصحيحة
[8])) إحياء علوم الدين للغزالي
[9])) متفق عليه
[10])) صحيح مسلم بشرح النووي
[11])) متفق عليه
[12])) مدارج السالكين
[13])) الفوائد لابن القيم
[14])) تفسير ابن كثير
[15])) صحيح الترمذي
[16])) التفسير الميسر
[17])) صحيح الترمذي
[18])) صحيح الترمذي
[19])) التفسير الميسر
[20])) المختصر في تفسير القرآن
[21])) التفسير الميسر
[22])) متفق عليه
[23])) صحيح البخاري
[24])) متفق عليه
[25])) متفق عليه
[26])) صحيح مسلم
[27])) صحيح البخاري
[28])) متفق عليه
[29])) صحيح البخاري
[30])) صحيح مسلم
[31])) صحيح الترمذي
[32])) متفق عليه
[33])) متفق عليه
[34])) متفق عليه
[35])) الأدب المفرد (صحيح)
[36])) الأدب المفرد للبخاري
[37])) صحيح البخاري
[38])) السلسلة الصحيحة
[39])) متفق عليه
[40])) صحيح مسلم
[41])) مدارج السالكين
[42])) صحيح البخاري
[43])) متفق عليه