من عوامل بناء الدول زيادة الإيمان في القلوب للشيخ احمد أبو عيد
الحمد لله رب العالمين، يسمع دعاء
الخلائق ويجيب، يؤنس الوحيد، ويَهدي الشريد، ويُذهب الوحشة عن الغريب، يغفر لمن
استغفره، ويرحَم مَن استرحمه، ويصلح المعيب، يستر العصاة، ويمهل البغاة، ومن تاب
منهم قبل وأثيب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له المهيمن والرقيب، من تبع شرعه والاه، ومن تقرب إليه فاز بالتقريب، من أوى إليه
آواه، ومن استحيا منه فليس عليه تثريب، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه فالفرج
قريب، من اعتصم به فهو مولاه، ومن ارتجاه مخلصًا لا يخيب، من ذكره خاشعًا اجتباه،
ومن تاب إليه فهو منيب، من شكر عطاءه نماه، ومن تواضع له نجا من التعذيب.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المقرب
والحبيب، خلقه نعمة، ومبعثه رحمة، وشمس سنته لا تغيب، نظره لحظ، وكلامه وعظ،
واللفظ منه لا يريب، نوره يخطَف الأبصار، ومسجده علم ومزار، وأنفاسه مسك وطيب،
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه عدد ما وسعه علم الحساب من تربيع وتكعيب، وكلما أثنى
عليه شاعر أو أديب، وطالما عرف حقه عالم أو نجيب، وعلى الصحب والآل وكل من انتسب
إليه من بعيد أو قريب.
العناصـــر
أولا: تعريف الإيمان وهل يزيد وينقص وما سبب ذلك؟
ثانياً: الأسس التي يقوم عليها الإيمان
ثالثًا: آثار الإيمان في القلوب
رابعـاً: جـزاء المؤمـنيـن
الموضـــــــــــــوع
أولا: تعريف الإيمان وهل يزيد وينقص وما سبب ذلك؟
الإيمان لغةً: هو التصديق والاطمئنان
اصطلاحا: فهو الإيمان بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
فهذه الأمور الستة هي التي عليها مدار النفس وتفكيرها، في
حاضرها ومستقبل أمرها، في شئون الحياة الدنيا، وما يصلح الأموال فيها، وفي
المستقبل المنتظر حدوثه في هذه الحياة الدنيا، أو ما يحصل بعد الموت وعند البعث
والنشور.
وقيل بأنه هو "الإقرار بالقلب، والنطق
باللسان، والعمل بالجوارح". فهو يتضمن الأمور الثلاثة: إقرار بالقلب ونطق باللسان وعمل بالجوارح.
هل الإيمان يزيد وينقص وما سبب ذلك؟
الإيمان يزيد وينقص، وذلك لأن الإقرار بالقلب يتفاضل فليس
الإقرار بالخبر كالإقرار بالمعاينة، وليس الإقرار
بخبر الرجل كالإقرار بخبر الرجلين وهكذا، ولهذا قال إبراهيم،
عليه الصلاة والسلام: "رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن
قلبي".
فالإيمان يزيد
من حيث إقرار القلب وطمأنينته وسكونه، والإنسان يجد ذلك من نفسه فعندما يحضر مجلسَ ذكرٍ فيه
موعظة، وذكرٍ للجنة والنار يزداد الإيمان حتى كأنه يشاهد ذلك رأي العين، وعندما
توجد الغفلة ويقوم من هذا المجلس يخف هذا اليقين في قلبه.
كذلك يزداد الإيمان من حيث القول فإن من ذَكَرَ الله عشر مرات
ليس كمن ذَكَرَ الله مئة مرة، فالثاني أزيد بكثير.
وكذلك أيضاً من أتى بالعبادة على وجه كامل يكون إيمانه أزيد ممن
أتى بها على وجه ناقص.
وكذلك العمل فإن الإنسان إذا عمل عملاً بجوارحه أكثر من الآخر
صار الأكثر أزيد إيماناً من الناقص وقد جاء ذلك في القرآن والسنة -أعني إثبات
الزيادة والنقصان-قال تعالى: "وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا
الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً"، وقال تعالى: "وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول:
أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون. وأما
الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهو كافرون"، وفي الحديث
الصحيح عن النبي r، قال: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين
أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن"
([1])
فالإيمان إذاً يزيد وينقص.
ولكن ما سبب زيادة الإيمان؟
للزيادة أسباب وهي:
1-معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته: فإن الإنسان كلما ازداد
معرفة بالله وبأسمائه وصفاته ازداد إيماناً بلا شك، ولهذا تجد أهل العلم الذين يعلمون من أسماء الله وصفاته ما لا يعلمه غيرهم تجدهم أقوى إيماناً من
الآخرين من هذا الوجه
2-تدبر القرآن على وجه العموم.
3ـ معرفة النبي r وما هو عليه من
الأخلاق العالية والأوصاف الكاملة.
4-النظر في آيات الله الكونية والشرعية فإن الإنسان كلما نظر في
الآيات الكونية التي هي المخلوقات ازداد إيماناً قال تعالى: "وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم
أفلا تبصرون". والآيات الدالة على هذا كثيرة أعني الآيات الدالة على أن الإنسان بتدبره
وتأمله في هذا الكون يزداد إيمانه.
5-الإكثار من ذكر الله في كل وقت.
6-التعلق بمناخات زيادة الإيمان وفي مقدمتها المساجد، ومجالسة
الصالحين.
7-كثرة الطاعات: فإن الإنسان كلما كثرت طاعاته ازداد بذلك
إيماناً سواء كانت هذه الطاعات قوليه، أم فعليه:
فالذكر يزيد الإيمان كمية وكيفية، والصلاة والصوم، والحج تزيد
الإيمان أيضاً كمية وكيفية.
أما أسباب النقصان فهي
على العكس من ذلك:
1-الجهل بأسماء الله وصفاته يوجب نقص الإيمان لأن الإنسان إذا
نقصت معرفته بأسماء الله وصفاته نقص إيمانه.
2-الإعراض عن التفكر في آيات الله الكونية والشرعية فإن هذا
يسبب نقص الإيمان، أو على الأقل ركوده وعدم نموه
3-فعل المعصية: فإن للمعصية آثاراً عظيمة على القلب وعلى الإيمان،
فعن أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ: لا يَزْنِي
الزَّانِي حِينَ يَزْني وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا
وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ" ([2])
4-ترك الطاعة: فإن ترك
الطاعة سبب لنقص الإيمان، لكن إن كانت الطاعة واجبة وتَرَكَها بلا عذرٍ فهو نقص
يلام عليه ويعاقب، وإن كانت الطاعة غير واجبةٍ أو واجبةً لكن تركها بعذر فإنه نقص
لا يلام عليه.
ثانياً: الأسس
التي يقوم عليها الإيمان
1-طهارة القلب من كل ما يعبد
من دون الله:
قال تعالى: " فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن
بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا
وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " (البقرة، آية: 256)
وقال تعالى: "
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ
لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ " (الزمر 17). وفي ذلك إشارة إلى أن
التطهير مقدم على التزكية وأن تخليص القلب من أدرانه ونجاسته المتمثلة بالمعتقدات
الباطلة وما يترتب عليها من محبة الطواغيت أو التعلق بهم واجب لحلول الإيمان
بالقلب.
2- الإيمان بالغيب:
قال تعالى: " الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ
هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ " (البقرة، آية: 1ـ 3)
والغيب هو كل ما غاب عنك وفي قوله: " الذين يؤمنون بالغيب
" أي: آمنوا بالله وملائكته ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره ولقائه،
وأمنوا بالحياة بعد الموت، وقد جمع الرسول r أصول الأمور الغيبية بتعريفه للإيمان في
حديث جبريل u ـ حيث قال: أن تؤمن
بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"([3]).
3ـ امتثال الأوامر
واجتناب النواهي:
قال تعالى: " وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" ففي هذه الآية بيان للحكمة التي خلق الله من
أجلها الناس
وهي أن يكلفهم بعبادته، بالامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه،
وقال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي
السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ " (البقرة، آية: 208) والسلم: هو الإسلام
والمراد بكافة:
أي جميع شرائع
الإسلام، ففي الآية يدعو الله المؤمنين إلى الأخذ بجميع شرائع الإسلام، وإقامة
جميع أحكامه، وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه.
4ـ الإخلاص لله في
العبادة:
قال تعالى: " إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا "
(الإنسان، آية: 9).
وقال تعالى: " هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " (غافر، آية: 65).
وقال تعالى: " أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ "
(الزمر).
فالإخلاص شرط
في صحة العبادة وأساس مهم من أسس الإيمان بدونه لا يدخل العبد في ولاية الله، ولا
يقبل منه عمل ولا يتحصل على ثمرات الإيمان وكراماته التي وعد بها عباده المؤمنين.
5- صدق المتابعة للنبي : r
قال تعالى: " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ
اللَّهَ كَثِيرًا " (الأحزاب، آية: 21) ، هذه الآية الكريمة أصل كبير في
التأسي برسول الله r في أقواله وأفعاله
وأحواله.
وقال تعالى: " فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا
صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا " (الكهف، آية: 110).
وهذان ركنا العمل المتقبل لابد أن يكون صواباً خالصاً فالصواب: أن يكون على السنة
وإليه الإشارة بقوله: " فليعمل عملاً صالحاً " والخالص: أن يخلص من
الشرك الجلي، والخفي، وإليه الإشارة بقوله: " ولا يشرك بعبادة ربه أحداً "
6ـ العلم:
قال تعالى: " وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ
وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ " (الأنعام 55). فالعلم أساس هام في
الإيمان بالله وركن بارز في دعوة النبي r كما قال تعالى: " قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي
وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " (يوسف) فدلت على أن
طريق النبي r يقوم على ثلاثة
أمور:
أـ الدعوة إلى التوحيد.
ب ـ العلم والبصيرة. في ذلك كله وقد بين سبحانه أن التعليم من أخص وظائف النبي r وأنه أخرج به
المسلمين من الضلال المبين، فقال سبحانه: " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ
مُّبِينٍ " (الجمعة، آية: 2)
ج-العمل الصالح من مستلزمات الإيمان كما قال
تعالى: "
وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
" (العصر).
فالعمل الصالح يقوم على الإيمان، والإيمان يقوم على التوحيد،
والإيمان الذي يريده الله هو الإيمان الحي الفاعل، هو الإيمان المؤثر النامي، هو
الإيمان القائد الموجه، الإيمان الذي ينفع صاحبه هو الإيمان الذي يغرس في قلبه
فينمو ويزدهر وينير ويضيء ويزين هذا القلب بزينته ويملؤه في كل جوانبه ويدفعه نحو
العمل الصالح بأنواعه.
ثالثًا: آثار
الإيمان في القلوب ([4])
يا من يحب الكنز! ويا من يحب الثروة! إن أعظم كنز يكتنزه العبد في
هذه الحياة هو كنز الإيمان، وإن أعظم ثروة يكتنزها العبد في هذه الحياة هي ثروة الإيمان..
إنه الثروة النفيسة، والكنز الثمين، يسعد به صاحبه حين يشقى الناس، ويفرح حين يحزن
الناس، هل لهذا الكنز، وهذه الثروة من أثر على الحياة؟ ، إن أثرها عظيم جدا عظيم لمن
كان له قلب فملأه بالإيمان.. إن إيمان العبد بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
والقدر خيره وشره ليعكس على الفرد، لا. بل على الأمة جميعاً أثراً عظيماً.
1-الثبات بكل صوره
الثبات بكل صوره ومعانيه عند الشدائد والمحن والمصائب، الثبات يوم
تمتحن الأمة بأعدائها، الثبات للداعي في دعوته، والثبات للمصاب عند مصيبته، والثبات
للمريض عند مرضه حتى الممات، الثبات أمام الشهوات، الثبات أمام الشبهات، الثبات على
الطاعات، الثبات العام، وكفى بالثبات!
أ- النبي r
وها هو صلى الله عليه وسلم يحمل الإيمان في صف، والبشرية كلها في
صف مضادٍ فانتصر بالإيمان، صدع بالحق لا يرده عنه رادٌ ولا يصده صادٌ، فوقعت قريش منه
في أمر عظيم،
وناصبوه العداء كأشد ما يكون، وأروه الأذى، وضعوا سلى الجزور على
ظهره صلى الله عليه وسلم، ثم لم يجد له مُعِيناً بعد الله إلا بنيته الصغيرة فاطمة
رضي الله عنها وأرضاها.
ثم ليس هذا فحسب، بل أخرجوه من مكة ، ودموعه على وجنتيه صلى الله
عليه وسلم وهو يقول: { والله إنك لخير أرض
الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت }([5]).
ومع ذلك فقد ثبت صلى الله عليه وسلم بالإيمان، فنصره الله، ونصر دينه، وأعلى كلمته،
فما من مئذنة الآن إلاّ وهي تقول في اليوم خمس مرات: أشهد أن محمداً رسول الله؛ صلى
الله عليه وسلم.
ويأتي صحابته رضوان الله عليهم ومَن بعدهم ليثبتوا بالإيمان ثبات
الجبال الشُّم الراسية.
ب- خالد بن الوليد رضى
الله عنه
يقارع الروم في أرضهم -كما روى ابن كثير - حتى كانت الدائرة على
الروم، فما كان منهم إلاّ أن فرُّوا وتحصنوا في مدينة قنسرين ؛ مدينة من مدنهم محصنة
بالجدران المنيعة والأبواب الثقيلة التي لا يقتحمها مقتحم ، فماذا كان من خالد ؟ حاول
اقتحامها فما استطاع، حاول أن يحاصرها حصاراً عاماً عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً
فما أفلح، استعصت عليه، فما كان منه إلا أن دوَّن رسالة، قال في هذه الرسالة بثبات
المؤمن الذي يثق بنصر الله جل وعلا: [[من خالد بن الوليد أبي سليمان إلى قائد الروم
في بلدة قنسرين أما بعـد: فأين تذهبون منا؟ والذي نفس خالد بيده! لو صعدتم إلى السحب
لأصْعَدَنا الله إليكم، أو لأمْطَركُم علينا]] كلمات الثقة بنصر الله عز وجل، كلمات
الثبات الذي لا يكون إلا للمؤمنين، تخرج كالصواعق على أعداء الله، وكالبلسم على أولياء
الله.
وصلت الرسالة إلى ذلك العلج، فقرأها وارتعدت فرائصه، وسقطت من بين
يديه، وما كان منه إلا أن قال: افتحوا أبواب المدينة، واخرجوا مستسلمين، لا طاقة لنا
بهؤلاء.
ما الذي ثبَّت خالداً إلا الإيمان، ما الذي ثبت جند الله إلا الإيمان
يوم أخذوه، وأخذوه بحق وبجدية.
ليس هذا فحسب، وليس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب
ج- فها هو ابن تيمية عليه
رحمة الله
ذلكم الداعية الذي قارع الطغيان ودمغ البدعة والمبتدعين، فكثر الأعداء
فما وهن وما استكان، لسان حاله: فكيف تخاف من زيد وعمرو وعند الله رزقك والقضاء
ليلقى في السجن فيثبت بإيمانه الراسخ، يقفل السجان عليه الباب فيقول:
فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن
قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13].
ينظر إلى السجناء ويقول: ما يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في
صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي
سياحة، إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة الإيمان واليقين.
يمرض فيثبت ثبات المؤمن في أوقات الشدائد، دخلوا عليه وهو مريض وما
اشتكى، فيقولون له: ماذا تشتكي يا إمام؟ قال:
تموت النفوس بأوصابها
ولم يدرِ عُوَّادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي
أذاها إلى غير أحبابها
ثم يختم المصحف في السجن بضعاً وثمانين مرة، حتى إذا بلغ قول الله
جل وعلا: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ
مُّقْتَدِرِ [القمر:54-55] لقي الله فرحمه الله، وجمعنا به وبالصالحين من أمة محمد
بن عبد الله صلَّى وسلم عليه الله.
2- اتهام النفس:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ
أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مِنَ الْمُوبِقَاتِ"([6]).
و (( المُوبقاتُ )) : المُهلِكَاتُ . ولاحظ انه يقول ذلك هذا لخير
القرون، فماذا يقال فينا؟
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قال: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ
يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ
الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ، فَقَالَ: بِهِ هَكَذَا،
فَطَارَ"([7]).
السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ مُنَوَّرٌ، فَإِذَا
رَأَى مِنْ نَفْسِهِ مَا يُخَالِفُ مَا يُنَوَّرُ بِهِ قَلْبُهُ عَظُمَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ،
وَالْحِكْمَةُ فِي التَّمْثِيلِ بِالْجَبَلِ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ قَدْ
يَحْصُلُ التَّسَبُّبُ إِلَى النَّجَاةِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْجَبَلِ إِذَا سَقَطَ عَلَى
الشَّخْصِ لَا يَنْجُو مِنْهُ عَادَةً، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَغْلِبُ عَلَيْهِ
الْخَوْفُ لِقُوَّةِ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْإِيمَانِ، فَلَا يَأْمَنُ الْعُقُوبَةَ بِسَبَبِهَا،
وَهَذَا شَأْنُ الْمُؤْمِنِ أَنَّهُ دَائِمُ الْخَوْفِ وَالْمُرَاقَبَةِ يَسْتَصْغِرُ
عَمَلَهُ الصَّالِحَ وَيَخْشَى مِنْ صَغِيرِ عَمَلِهِ السَّيِّئِ ( وَإِنَّ الْفَاجِرَ
) أَيْ الْفَاسِقَ ( قَالَ بِهِ ) أَيْ أَشَارَ إِلَيْهِ أَوْ فَعَلَ بِهِ ( هَكَذَا
) أَيْ دَفَعَ الذُّبَابَ بِيَدِهِ
فمن آثار الإيمان على حياة الناس: ديمومة اتهام النفس، والخوف من
الرياء والنفاق، وعدم احتقار الذنب.
يقول ابن أبي مليكة: [أدركت ثلاثين من صحابة رسول الله صلى الله
عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل]
([8]).
{فالمؤمن يرى ذنوبه كجبل يقعد تحت أصله، يخشى أن يسقط عليه، أما
المنافق فيرى ذنوبه كذباب
وقع على أنفه فأطاره بيده}،
ما خاف النفاق إلاَ مؤمن، وما أَمِنَه إلا منافق.
3- الإيمان هو أساس بناء
بيوت الله تعالى
قال تعالى: "لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ
أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ
عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى
شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ
إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ "التوبة
فبدون الإيمان والتقوى الإخلاص لا يقبل الله تعالى هذا البناء
4- هو أساس قيام المدينة
المنورة
النبي r قبل ان يهاجر إلى
المدينة المنورة ربَّى في المهاجرين الإيمان بالله تعالى والتضحية في سبيله بكل
غالي ونفيس ، وأرسل مصعب بن عمير ليدعوا أهل المدينة إلى الإيمان بالله ولولا
الإيمان ما قامت الدعوة الى الله في المدينة.
5- زيادة الأمن في البلدان
وعلى الأموال والأعراض، والطمأنينة والهدوء في الأنفس والقلوب، يقول
المولى سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ
لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]
قال الإمام ابن القيم –رحمه الله-: "ومن له معرفة بأحوال العالم
ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه، وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب
اقتضت حدوثه، ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تُحْدثُ لهم من الفساد العام والخاص
ما يجلب عليهم من الآلام، والأمراض، والأسقام، والطواعين والجدوب، وسلب بركات الأرض،
وثمارها، ونباتها، وسلب منافعها، أو نقصانها أمورًا متتابعة يتلو بعضها بعضًا، فإن
لم يتسع علمك لهذا فاكتف بقوله -تعالى-: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41] اهـ. ([10])
6- به سبق أبو بكر جميع
المسلمين
قال أحد كبار التابعين بكر بن عبد الله المزني، في تفسير هذه المكانة
أنّه: "ما فَضَلَ أبو بكر النَّاسَ بكثرة صلاةٍ ولا بكثرة صيامٍ، ولكن بشيءٍ وقر
في قلبه"، فذلك هو الإيمان، ولذلك كان وصفُه بل وتسميته بالصديق، فالعبرة ليست
بكثرة العمل، ما دام أن الإنسان قد نهض بالواجبات، واجتهد في المندوبات، بل العبرة
تكمن في هذا القلب وسلامته وطهارته، مصداقاً لقوله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ
وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 – 89]
7- نبذ العصبيات والنعرات
الجاهلية
نبذ كل ما يفرق الأمة من قوميات وعصبيات وعنصريات ونَعَرَات جاهلية؛
فالمقياس عند المؤمنين حقاً؛ التقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ""
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اخوة [الحجرات:10] لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، جسد مؤمن
واحد، بنيان واحد، أمة واحدة، لا شرق ولا غرب.
لو كبرت في جموع الصين مئذنة
أبا سليمان قلبي لا يطاوعني إذا اشتكى مسلم في الهند أرَّقني ومصر ريحانتي والشام نرجسي أرى بخارى بلادي وهي نائية وأينما ذكر اسم الله في بلدٍ شريعة الله لَمَّتْ شملنا وبنت |
**
**
**
**
**
**
**
|
سمعت في الغرب تهليل المصلين
على تجاهل أحبابي وإخواني وإن بكى مسلم في الصين أبكاني وفي الجزيرة تاريخي وعنواني وأستريح إلى ذكرى خراسان عددت ذاك الحمى من صُلْب أوطاني لنا معالم إحسان وإيمان |
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء يغبطهم الأنبياء والشهداء قيل من هم لعلنا نحبهم
قال هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا
يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ ألا إن أولياء الله
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"
([11])
يأتي سهيل بن عمرو ، ويأتي أبو سفيان رضيَ الله عنهما إلى مجلس عمر
رضيَ الله عنه وأرضاه الذي لا يدخله إلا المؤمنون حقاً، فيستأذن أبو سفيان -وهو سيد
من سادات قريش، بإشارة تتحرك ألوف، وبإشارة منه أخرى ترعد أنوف- فلا يؤذن له، وهو مسلم
رضى الله عنه وأرضاه بعد إسلامه، ويأتي سهيل بن عمرو -وهو سيد من سادات قريش- ويستأذن
في الدخول على عمر فلا يؤذن له، ويأتي بلال الحبشي الذي أكرمه الله بالإسلام فيؤذن
له، ويأتي صهيب الرومي فيؤذن له، ويأتي سلمان الفارسي فيؤذن له كذلك، فماذا كانت النتيجة؟
أنا مسلم وأقولها مِلء الورى
سلمان فيها مثل عمر لا ترى وبلال بالإيمان يشمخ عزة وخبيب أخمد في القنا أنفاسه ورمى صهيب بكل مال للعدا إن العقيدة في قلوب رجالها |
**
**
**
**
**
**
|
وعقيدتي نور الحياة وسؤددي
جنساً على جنس يفوق بمحتدي ويدق تيجان العنيد الملحد لكن صوت الحق ليس بمُخْمدِ ولغير ربح عقيدة لم يقصد من ذرة أقوى وألف مهند |
8- تنقية القلوب من الأدران
من آثار الإيمان على حياة الناس: تنقية قلوبهم من الحسد، وتصفيتها
من الحقد والغل، واستلال الضغائن والسخائم منها؛ لتصبح الأمة كما قال رب العالمين:
"أَشدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ قَالُوا
يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا
أَفَاءَ فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُعْطِى رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ
الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ فَقَالُوا يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ يُعْطِى قُرَيْشًا
وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
فَحُدِّثَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ قَوْلِهِمْ فَأَرْسَلَ
إِلَى الأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِى عَنْكُمْ
». فَقَالَ لَهُ فُقَهَاءُ الأَنْصَارِ أَمَّا ذَوُو رَأْيِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ قَالُوا
يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ يُعْطِى قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ
مِنْ دِمَائِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فَإِنِّى أُعْطِى
رِجَالاً حَدِيثِى عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ أَفَلاَ تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ
النَّاسُ بِالأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ فَوَاللَّهِ
لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ ». فَقَالُوا بَلَى يَا
رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَضِينَا. قَالَ « فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَثَرَةً شَدِيدَةً
فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّى عَلَى الْحَوْضِ ». قَالُوا
سَنَصْبِرُ([12])
وقيل ان القوم بكوا حتى اخضلَّت لِحَاهُم بالدموع وهم يقولون: رضينا
برسول الله قسماً وحظّاً، رضينا برسول الله قسماً وحظّاً، ولسان حالهم: خذوا الشياة
والجمال والبقر* فقد أخذنا عنكم خير البشر
أرأيت كيف استلَّ صلى الله عليه وسلم ما في قلوبهم، إنه لو لم يكن
فيها إيمان لما استلَّ ما في قلوبهم رضوان الله عليهم جميعاً.
9- أنه حجاب من المعاصي والشهوات والشبهات
عن أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْني وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ
يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ"
([13])
إن المؤمن -يا أيها الأحبة- يقدِّم مراد الله على شهواته وعلى لذائذه،
فييسر الله أمره، ويعصمه سبحانه وبحمده.
وها هو الشاب القوي الحيِّي العالم، الذي يبلغ ثلاثين سنة؛ إنه الربيع
بن خثيم ، يتمالئ عليه فُسَّاق لإفساده، فيأتون بغانية جميلة، ويدفعون لها مبلغاً من
المال قدره ألف دينار، فتقول: علام؟ قالوا: على قبلة واحدة من الربيع بن خيثم ، قالت:
ولكم فوق ذلك أن يزني؛ لأنه نقص عندها منسوب الإيمان، فما كان منها إلا أن تعرضت له
في ساعة خلوة، وأبرزت مفاتنها له، فما كان منه إلا أن تقدم إليها يركض ويقول: يا أَمَة
الله! كيف بك لو نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟! أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟!
أم كيف بك يوم تقفين بين يدَيْ الرب العظيم؟! أم كيف بك إن شقيت يوم تُرْمَين في الجحيم؟!
فصرخت وولَّت هاربة تائبة إلى الله، عابدة زاهدة حتى لقِّبت بعد ذلك بعابِدَة الكوفة،
وكان يقول هؤلاء الفُسَّاق: لقد أفسدها علينا الربيع .
فما الذي ثبَّت الربيع أمام هذه الفتنة؟ هل هي قلة الشهوة؟ إنها
الشهوة العظيمة، إذ هو في سن أوج الشهوة وعظمتها -سن الثلاثين- ومع ذلك ما الذي ثبته
هنا، وما الذي عصمه بإذن الله؟ إنه الإيمان بالله .
الإيمان -يا أيها الأحبة- كالجمرة، متى ما نفخت بها أضاءت واشتعلت؛
فأصبحت إضاءتها عظيمة عظيمة، وحين ينقص منسوب الإيمان يقع الإنسان في الفواحش والآثام،
يغرق في الشهوات، ثم يقع بعد ذلك في الموبقات.
10- سعادة البيوت والأسر
والإيمان هو الزمام والفيصل. ومن آثاره على الحياة: سعادة البيوت
والأسر، بيت يدخله الإيمان بيت سعيد؛ لا يُخْرج إلا السعداء بإذن رب الأرض والسماء؛
استعاض أهله عن الغناء بترتيل القرآن آناء الليل وأطراف النهار، واستغنوا عن المجلات
الماجنة بتقليب المصحف وكتب السُّنة والكتب المفيدة، واستغنوا عن السجائر وما في حكمها
من الخبائث بالسواك فطهروا أفواههم وأرضوا ربهم، سعادة وأي سعادة، نساء هذا البيت مسلمات
مؤمنات قانتات تائبات عابدات متحجبات ممتثلات لأمر رب الأرض والسماوات، يخرج الزوج
المؤمن من البيت المؤمن فتقول الزوجة: اتق الله فينا ولا تطعمنا إلا حلالاً؛ فإنا نصبر
على الجوع ولا نصبر على النار.
وهذا عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله ورضوانه في يوم العيد، وهو
خليفة المسلمين يدخل رجال المسلمين ليهنئونه ويدعون له بقبول الصيام والقيام، ثم يذهب
الرجال، ويدخل أطفال الرعية في هيئة حسنة وجميلة، وبينهم طفل من أطفال عمر ثيابه خَلِقَة
وثيابه بالية، وميزانية الأمَّة كلها تحت يديه، ومع ذلك جعل الدنيا تحت قدميه، وربَّى
في أهله الإيمان، ففازوا بأعظم حُلة؛ إنها حلة الإيمان.
يوم رأى ابنه في يوم العيد بين أطفال الرعية وهم في هيئة حسنة وهو
في تلك الهيئة طأطأ رأسه وبكى، فقال هذا الطفل الصغير -والذي تربى على الإيمان-: أبتاه!
ما الذي طأطأ رأسك وأبكاك، قال: يا بني -والله- ما من شيء إلا أني خشيت أن ينكسر قلبك
يوم العيد بين أطفال الرَّعية، وأنت بهذه الهيئة وهم بتلك الهيئة.
فردَّ ردَّ الرجال المؤمنين، قال: أبتاه! إنما ينكسر قلب من عصى
ربه ومولاه، وعقَّ أمه وأباه، أما أنا فلا والله، فمن الذي علَّم هذا الطفل إلاّ الله
الذي رزقه الإيمان من صغره فتربى على الإيمان، فكان منه ما كان.
11- الولاء والبراء
ومن آثاره -أعني الإيمان- على الفرد: الولاء الخالص للمؤمنين، والعداء
لأعداء الدين ولو كانوا آباءً أو أبناءً أو إخواناً أو عشيرة، ناهيك عن أن يكونوا من
المغضوب عليهم والضالين والمجوس والذين أشركوا، وكلهم ضالون: لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ
أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
12- العزة
ومن آثار الإيمان على حياة الناس: أنه يُكسب العزة التي تجعل الإنسان
يمشي نحو هدفه مرفوع القامة والهامة، لا يحني رأسه لمخلوق، ولا يطأطئ رقبته لجبروت
أو طغيان أو مال أو جاه، فهو سيد في الكون هذا وعبد لله وحده.
لا غرو إذا رأينا مؤمناً أعرابياً مثل ربعي بن عامر حين باشرت قلبه
بشاشة الإيمان، وأضاءت فكره آيات القرآن، يقف أمام رستم في سلطانه غير مكترث له ولا
عابئ به، حتى إذا سأله رستم: من أنتم وما الذي جاء بكم؟
فأجابه إجابة في عزة مؤمنة خلدها التاريخ فقال: [[نحن قوم ابتعثنا
الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة،
ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]]. عزة وأي عزة! إنها لا توجد إلاّ في ظلال الإيمان.
وذلكم الشيخ سعيد الحلبي عالم الشام في عصره، كان في درس من دروسه
ماداً رجله في مسجد من مساجد الشام ، فدخل إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا والي مصر
آنذاك، فقام الناس كلهم إلاّ هذا الشيخ، وبقي مادّاً رجله في حلقته يلقي قال الله وقال
رسوله صلى الله عليه وسلم، فتأثر ذلك الطاغية، وأثَّر ذلك في نفسه إذ لم يقم له هذا
الشيخ، فقال في نفسه: لآتينه من باب لطالما أُتي طلبة العلم من هذا الباب، فذهب وأضمر
له ما أضمر، وأحضر ألف ليرة ذهبية -في وقت الشيخ قد لا يجد فيه ليرة واحدة- وقال لأحد
جنوده: اذهب إلى الشيخ وأعطه هذه، فأخذ هذا الجندي ذلك المبلغ، وذهب به إلى الشيخ ولا
زال مادّاً رجله في حلقته يدرس قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكتسب العزة
من خلال قال الله وقال رسوله.
فجاء إليه وقال: إن إبراهيم باشا يقول: خذ هذه الألف الليرة الذهبية،
فما كان منه إلا أن نظر إليه بعزة المؤمن، وتبسم تبسم المغضب، وقال: ردها له، وقل له:
إن الذي يمد رجليه لا يمد يديه.
أنا أقول: ربما يكون الشيخ في تلك اللحظة لا يملك ليرة ذهبية واحدة،
لكن كنز الإيمان أعظم وأغلى من أن يباع بألف ليرة أو بليرة أو بأقل أو بأكثر، وهكذا
يكون المؤمنون: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
13- صدق التوكل على الله،
وتفويض الأمور إلى الله جل وعلا
والاعتماد عليه في السعي في هذه الحياة، واستمداد العون منه في الشدة
والرخاء؛ فالمؤمنون يجدون في توكلهم على الله راحة نفسية، وطمأنينة قلبية، إن أصابهم
خير حمدوا الله جل وعلا وشكروه، وإن أصابتهم شدة صبروا وشكروا، ولسان حالهم ومقالهم: (قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا
هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) [التوبة:51-52].
14- انشراح الصدر، وطمأنينة
القلب:
قال تعالى: "أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ
عَلَى نُورٍ من رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللهِ [الزمر:22]، المؤمن منشرح الصدر، مطمئن القلب، قد
آمن بالله ربَّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فذاق حلاوة الإيمان،
فانشرح صدره.
أحد الصالحين يقول -وقد انشرح صدره للإيمان فتلذذ بهذه العبادات
التي هي من الإيمان-: والله لولا قيام الليل ما أحببت البقاء في هذه الدنيا، ووالله
إن أهل الليل في ليلهم مع الله ألذ من أهل اللهو في لهوهم، والله إنه لتمر بالقلب ساعات
يرقص فيها طرباً بذكر الله حتى أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي
نعيم عظيم.
والعكس بالعكس؛ من نقص إيمانه كانت حياته ضنكاً، وكان صدره ضيقاً
حرجاً كأنما يصَّعد في السماء، وصدق الله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى [طه:124].
15- نجاة سفينة الأمة، ووصولها
لبر الأمان
نتيجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من الإيمان، بل هو
عماد من أعمدة الإيمان.
فالحياة كلها سفينة تمخر عباب البحر، لا تكاد تسكن حتى تضطرب، ولن
يكتب الله السلامة لها فوق الموج المضطرب حتى يكون كل شخص منها على حذر مما يفعل، ويقظة
لما يريد.
والمجتمع كالسفينة يركب ظهرها البَرُّ والفاجر، والمتيقظ والغافل،
وطالب العلم والجاهل، هذا يصلح وذاك يحرق ويفسد، والمؤمن بإيمانه هو الصالح المصلح،
يجاهد بأمره ونهيه وإصلاحه، فإن تحطمت السفينة بعد ذلك فشتان بين غريق وغريق؛ غريق
في جهنم، وغريق في الجنة شهيد بإذنه ربه.
16- حفظ الجوارح، وتذليلها
لطاعة الله، وانقيادها لأوامر الله.
حفظ القلب من الشهوات والشبهات، وحفظ اللسان من الغيبة والنميمة
والوقوع في أعراض المسلمين والإفساد، وحفظ السمع إلا من كتاب الله، وذكر الله، والأمر
بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما أباحه الله، وحفظ البصر من إطلاقه فيما حرَّم الله؛
ليجد بعد ذلك حلاوة إيمانه إلى أن يلقى الله، وحفظ البطن فلا يدخله إلا ما أحله الله،
والله طيب لا يقبل إلا طيباً، فالمؤمن بإيمانه يحفظ جوارحه، والله خير حافظاً وهو أرحم
الراحمين.
17- آثاره على المجالس، حيث
يجعلها رياضاً من رياض الجنة
ملائكة تحفُّ، ورحمة تتنزل، وسكينة تغشى، ورب رحيم كريم يقول: انصرفوا
مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات، فيا لله ما أعظمها من مجالس! وما أعظم جالسيها
ومرتاديها، جعلنا الله وإياكم من أهلها!
18- ثبات المؤمنون في
اللحظة الاخيرة
في تلك اللحظة الحاسمة، في لحظة الموت العصيبة المريرة التي لا يثبت
فيها إلا المؤمنون، يوم يعتقل اللسان، ولو لم يعتقل لصاح الميت من شدة ما يلاقي من
السكرات حتى تندك جدران الغرفة التي هو فيها، يوم يخدر الجسم، ولو لم يخدر لما مات
أحد على فراشه، ولما مات إلا في شعب الجبال ورؤوسها؛ من شدة ما يلاقي من السكرات.
أ- عمرو بن
العاص رضي الله عنه وأرضاه قال وهو في اللحظات الأولى من لحظات السكرات، ولا زال لسانه لم يعتقل،
ولا زال جسمه لم يخدر: [[والله لكأن على كتفي جبل رضوى ، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن
روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما]].
في هذه اللحظات المريرة العصيبة يأتي أثر الإيمان واليقين، فيلهمك
الله النطق بالشهادتين: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلاّ الله دخل الجنة}.
في تلك اللحظات يأتي المؤمنون فيسعدون بتلك اللحظات؛ لأنهم يعلمون
أنها آخر عناء وتعب، وآخر نَصَب ووصب، ليس هذا فحسب، بل تستقبلهم الملائكة، بل تبشرهم
الملائكة، فلا خوف ولا حزن: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا
مَا تَدَّعُونَ [فصلت:30-31].
ب- عمر بن
عبد العزيز عليه رحمة الله في سكرات الموت يقول: مرحباً بالوجوه ليست بوجوه جن ولا إنس، ثم
يطلب ممن حوله أن يخرجوا، وإذا به يقول: تِلْكَ
الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ
فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]
ليلقى الله عز وجل على ذلك.
ج- مؤذن لطالما رفع الأذان من على المنائر كل يوم خمس مرات يختمها بلا
إله إلا الله، وهو في منطقة الجنوب، وفي تلك اللحظات الأخيرة من حياته يغمى عليه إغماءة
مستمرة، فما كان يفيق إلا في وقت الصلاة، فإذا جاء وقت الصلاة قام وأذن حتى يقول: لا
إله إلا الله، ثم يعود إلى إغمائه، وفي مرة من المرات، يفيق من إغمائه ويقول: يا بني
-وابنه معه- أحان وقت الصلاة؟ قال: نعم، فقال: الله أكبر، الله أكبر ... حتى ختمها
بلا إله إلا الله، ليلقى الله على تلك الحال:
يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الآَخِرَةِ [إبراهيم:27].
وفي المقابل تجد الذين لا إيمان لهم في تلك اللحظات، الذين لم ينضبط
سلوكهم قد ضيق الله عليهم، وعسَّر أمورهم، وأوغر صدورهم، ثم لا يُلْهمون الشهادة ليختموا
بها حياتهم، فيا لها من سوء خاتمة!
د- شاب في
سكرات الموت، يقولون
له: قل: لا إله إلا الله -ولطالما دنَّس فمه بشرب الدخان- فيقول: أعطوني دخاناً، فيقولون:
قل: لا إله إلا الله، فيقول: أعطوني دخاناً، أعطوني دخاناً، فيقولون: قل: لا إله إلا
الله عله أن يختم لك بها، قال: أنا بريء منها، أعطوني دخاناً، ليلقى الله على تلك الحال،
نسأل الله حسن الخاتمة.
ذ- شاب أخر كان صادّاً نادّاً عن الله جل وعلا، وحلَّت به سكرات الموت التي
لابد أن تحل بي وبك، لا أدري أقريب أم بعيد؟ ونسأل الله أن يحسن لنا ولكم الختام، جاء
جلاسه وقالوا: قل: لا إله إلا الله، فيتكلم بكل كلمة ولا يقول لا إله إلا الله، ثم
يقول في الأخير: أعطوني مصحفاً، ففرحوا واستبشروا وقالوا: لعله يقرأ آية من كتاب الله،
فَيُختم له بها، فأخذ المصحف ورفعه بيده، وقال: أشهدكم أني قد كفرت برب هذا المصحف،
ثم يلقى الله على ذلك، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الختام: وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ
وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
19- السكينة والثبات في القبر
ويوم القيامة
يوم تطرح وحيداً فريداً لا أنيس ولا صاحب ولا قريب ولا حبيب ولا
خليل، يوم تكون مع أهلك في ليلة تفترش الوثير، وتشرب النمير، وإذ بك في ليلة أخرى تفترش
التراب مرتهناً بعملك، فيا لذلك ويا لحسرتك إن كنت محسناً تريد الزيادة، وتعض أصابع
الندم على ما فرطت، وإن كنت مسيئاً ندمت على التفريط، وأنَّى لك بالندم أن ينفعك في
تلك اللحظة؟
وأنت على هذه الحال -يا أيها المؤمن- تأتيك نعمة الإيمان فيثبتك
الله ويلهمك الإجابة على الأسئلة الثلاثة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ثم بعدها يُفتح
لك باب إلى الجنة؛ لتنعم من رَوحِها وطيبها، جعلنا الله وإياكم من سكانها.
وتأتي آثار الإيمان يوم القيامة، يوم يبعثر ما في القبور، ويُحصَّل
ما في الصدور، يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ
مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ
أَمَداً بَعِيداً [آل عمران:30].. يَوْمَ
يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ
* لِكُلِّ امْرِئٍ منْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]
يوم يسأل كل إنسان عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه
وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به، يوم يجمع الله الخلائق وأنت منهم، علويّهم والسفلي،
أولهم والآخر، ذكرهم والأنثى، حفاة عراة، قلقين فزعين، قد دنت الشمس منهم قدر ميل،
قد بلغ العرق منهم الحناجر، يومها يشيب الصغير، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل
ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، عندها تجد المؤمنين
تحت ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، آمنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، اللهم اجعلنا
منهم يا رب العالمين!
ثم تظهر آثار الإيمان عند الميزان: يوم تعرض السجلات سجلاً سِجلاً،
وصفحة صفحة، وكلمة كلمة، ولحظة لحظة، ويوماً يوماً لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، يوم ينادى
على رءوس الخلائق لقد سعد فلان ابن فلان سعادة لا
يشقى بعدها أبداً.
وتظهر آثار الإيمان يوم يعبر على الصراط والناس يتساقطون في النار
تساقط الفراش على الشهاب، وتظهر آثار الإيمان يوم يقول الله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:70] فإلى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب
بشر: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ [السجدة:17].
فيا بائعاً هذا ببخس معجــــــــل كأنك لا تدري بلى سوف تعــــلمُ
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ
هذه بعض آثار الإيمان على الحياة، هي غيض من فيض، وقطر من بحر، فإن
كنت تريد الآخرة فالطريق الإيمان، وإن كنت تريد الدنيا فالطريق الإيمان، وإن كنت تريد
الله والدار الآخرة والدنيا معاً فالطريق الإيمان.
عار أيما عار -يا عبد الله- أن تعيش عشرين عاماً أو خمسين أو أقل
أو أكثر بلا إيمان، ثم تستقبل الآخرة بلا بطاقة لا إله إلا الله، ولا جواز: ادْخلُوُا
الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:70]
فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى
أَفِقْ قد دنا الموت الذي ليس بعده وتشهد أعضاء المسيء بما جنى فحيَّ على جنات عدن فإنها وحيَّ على روضاتها وخيامها |
**
**
**
**
**
|
صريع الأماني عن قليل ستندم
سوى جنة أو حر نار تَضَّرم كذاك على فِيهِ المهيمن يختم منازلنا الأولى وفيها المخيَّم وحيَّ على عيشٍ بها ليس يُسْأَم |
رابعـاً: جـزاء
المؤمـنيـن
1-المغفرة والرزق الكريم
والدرجات العالية:
قال تعالى "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ *" (الأنفال 74)
وقال تعالى:" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ
زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ *" (سورة الأنفال 2-4).
2-رحمة الله لهم:
قال تعالى
"وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ". ( التوبة 71).
وقال تعالى " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
" (الحجرات )
وقال تعالى (وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِـئَايَـٰتِنَا
يُؤْمِنُونَ) الأعراف 156
3-يرثون الفردوس هم فيها
خالدون:
قال تعالى : "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ
هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ
(3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ (5) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ
الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (11) ( سورة المؤمنون) .
4-استغفار النبي r
لهم:
قال تعالى: "إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ
عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ "(سورة النور
62)
5-شهادة الله لهم
بالصدق:
قال تعالى
"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " الحجرات
6-هداية الله لهم:
قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ)
7-الأمن والأمان:
قال تعالى﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾طه
وقال تعالى "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ "(69)"
وقال تعالى "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ "(69)"
وقال تعالى "وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ
إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ r يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلا، قَالَ:
" وَعِزَّتِي لا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ، إِذَا
خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي
الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ([14])
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
01098095854
******************
لتحميل
الخطبة #pdf برجاء
الدخول إلى الرابط التالي
أو
ولتحميل
الخطبة #word برجاء الدخول إلى الرابط التالي
أو
لـــ word 2003
أو
ولتحميل
الخطبة وخطب أخرى متنوعة برجاء الدخول إلى الرابط التالي
ولقراءة
الخطبة مرتبة ومنسقة وجميع الخطب السابقة واللاحقة بإذن الله برجاء الدخول إلى
الرابط التالي
ولمشاهدة
الخطبة وخطب أخرى على اليوتيوب برجاء الدخول إلى الرابط التالي