الشفاء في بيان منازل الشهداء للشيخ محمد جودة عيد
أولاً : فضيلة الشهادة :
ثانياً : مَن هو الشهيد؟ ولماذا سمي شهيدًا؟ :
ثالثاً : منازل الشهداء عند الله يوم القيامة :
رابعاً : نماذج مِن الشهداء :
خامسا ً : الجزاء من جنس العمل :
الموضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوع
الحمد لله الذي كتب للشهداء أعلى الجنان، وللمدافعين عن أوطانهم النصر والرضوان
.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله
ورسوله .
فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من
تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، قال سبحانه وتعالى:( يا أيها الذين آمنوا
اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون).
أولاً : فضيلة الشهادة :
أحبتي في الله:
إن بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يَستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها، ولا ريب
أن سموَّ الأهداف وشرف المقاصد ونُبْل الغايات تَقتضي سمو التضحيات وشرفها ورقيَّ منازلها،
وإذا كان أشرف التضحيات وأسماها هو ما كان ابتغاء رضوان الله تعالى ورجاء الحظوة بالنعيم
المقيم في جنات النعيم فإن الذود عن حياض هذا الدين والذب عن حوزته والمُنافَحة عن
كتابه وشرعه ومقدساته ، وعن الوطن والمواطنين الأبرياء الشرفاء ، والدفاع عن سيادة
وقدسية بلاد الإسلام وأعراض المسلمين ، يتبوأ
أرفع درجات هذا الرضوان، ثم إن للتضحيات ألوانًا كثيرة ودروبًا متعدِّدة، لكن تأتي
في الذروة منها التضحية بالنفس، وبذل الروح رخيصة في سبيل الله لدَحرِ أعداء الله ونصر
دين الله ، وذلك هو المراد لمُصطَلح الشهادة والاستشهاد.
وإذا كان الإسلام يكره العدوان، ويبغض الحرب، وينفر من القتل، أو الارتماء في
أحضان الموت، أو البراعة في استعراض القوة، أو المباهاة بآلات الحرب وآليات الدمار،
فإنه في الوقت نفسه أوضح أن الحرب لا تكون إلا دفاعا عن الدين والأرض والعرض والمال،
وردا للعدوان، وبسطا للأمن الشامل، وكسرا لشوكة الأعداء الذين اعتدوا علينا، أو يخططون
لذلك.
والنص الشريف الخالد يذكرنا دوما بذلك، يقول (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):
(... لا تتمنوا لقاءَ العدوِّ واسألوا اللهَ العافيةَ، فإذا لقيتُمُوهم فاصبروا، واعلموا
أنَّ الجنةَ تحتَ ظلالِ السيوفِ)، ثم قام النبيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
وقال: (اللهم مُنَزِّلَ الكتابِ، ومُجْرِيَ السحابِ، وهازمَ الأحزابِ، اهزمهم وانصُرْنَا
عليهم) (أخرجه مسلم في صحيحه).
وتتعاظم الحرب إذا كان العدوُ مجهولا ومباغتًا، ينثر بذورَ الخوفِ في أرض الله،
وينشر شرَّه وخبثه وعدوانَه في كل مكان كما يفعل الإرهابيون؛ لذلك كانت الحاجة ماسة
دومًا إلى أناس من طراز فريد؛ تساموا فوق الحياة وملذاتها وشهواتها، وسمت مواقفُهم
وبطولاتُهم إلى أعلى الأعالي.. باعوا أنفسهم لله.. يرون الجبن والفرار من ساحة المعركة
عارًا وبورًا.. إنهم الشهداء..
إن الشهادة في سبيل الله درجة عالية لا يَهبُها الله إلا لمن يَستحقُّها، فهي
اختيار من العلي الأعلى للصفوة من البشر ليَعيشوا مع الملأ الأعلى، ﴿ وَلِيَعْلَمَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ﴾ [آل عمران: 140]، إنها
اصطفاء وانتقاء للأفذاذ من البشر ليكونوا في صحبة الأنبياء ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء:
69].
ومن أسف أصبَح الجيل المسلم اليوم لا يفكر في الشهادة، ولا في قدرها وعظم
أمرها ، لا يفكر في أعظم صورة من صور التكريم الإلهي للإنسان، ولو ناقشت ابنك - أيها
المسلم - في كل مكان عن الشهادة وسألته : مَن هو الشهيد ؟ وما له عند الله ؟ ومن هم
الشهداء في أمة محمد صلى الله عليه وسلم لما عرف الجواب ؛ لأنها قضية قد غابت وتلاشت
عن حسِّ الجيل المسلم ، وصارت همومه صغيرة
،!!!!!!!!!! * حين رجع عمير بن أبي وقاص أخو سعد رضي الله عنهما
مع من رجع من المُجاهدين الصغار إلى المدينة بكى عمير، قيل ما يبكيه قال: أخوه سعد
والله يا رسول الله ما خرج من المدينة للقافلة ، إنما خرج من المدينة يريد الشهادة
في سبيل الله ، فلا تحرمه الشهادة في سبيل الله يا رسول الله ، فلما سمع ذلك النبي
صلى الله عليه وسلم أكبر عنده هذا الشعور العظيم الإيماني الكبير فأذن له على صِغَر
سنة ونحافة جسمه ؛ حيث إن سعدًا يقول : أخذت أربط حمائل سيفه على بطنه فلا تقواه فتنزل؛
لأنه كان نحيفًا يجرُّ سيفه خلفه ، وله همة عظيمة أعلى من قمم الجبال ولا يطيقها أعظم
الرجال، إنه لم يذق من شهوة الدنيا شيئًا، لا يزال طفلاً صغيرًا يَخرج إلى مسافة بعيدة
، إلى الأقطار يريد الشهادة ؛ لأنه سمع الله وسمع رسوله يحدثه عن الشهادة ومنازل الشهداء
، وما عند الله للشهيد ، فكان من أوائل الشهداء في غزوة بدر رضي الله عنه وأرضاه، وجدير
بأبنائنا أن يحفظوا اسمه وأن يكون لهم قدوة وأسوة .
أيها المسلمون:
روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه ) قال : " الْمَوْت
طَالِبٌ حَثِيثٌ لَا يَفُوتُه الْمُقِيمُ، ولَا يُعْجِزُه الْهَارِبُ، إِنَّ أَكْرَمَ
الْمَوْتِ الْقَتْلُ".
فبين حتمية الموت واختيار الإنسان للقتل في سبيل الله فرق عظيم، وقد ورد في
العديد من الروايات بيان منزلة القتل الذي يكون في سبيل الله ، ويكفي في عظمته أن يصفه
الإمام علي (رضي الله عنه ) بأنه أكرم الموت،
لما فيه من عزة ورفعة لمن اختاره، كما وصفه رسول الله بأنه أشرف الموت، فقال (صلّى
الله عليه وآله): " أشرف الموت قتل الشهادة ".
والكرامة في موت الشهادة تتمثل في أنها لقاء الإنسان مع ربه، وهذا اللقاء هو
الأمنية التي يسعى إليها المؤمن وهي مضمونة للشهداء، بل إن سيرهم للحرب والقتال لا
يكون إلا وقد وضعوا نصب أعينهم لقاء ربهم .
أما في البعد الأخروي فللشهداء منزلة خاصة نجد أن الإمام علي (رضي الله عنه ) يسأل الله أن يجعله في تلك المنزلة
فيقول: "نَسْأَلُ اللَّه مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ ومُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ، ومُرَافَقَةَ
الأَنْبِيَاءِ".
إنّ هذه المكانة تجعل المجاهد في سبيل الله يُقبل وهو في غاية الشوق إلى لقاء
الله عز وجل كما وصفها القائل بقوله :
"مَنِ الرَّائِحُ إِلَى اللَّه كَالظَّمْآنِ يَرِدُ الْمَاءَ".
بل له خصوصية تمني العودة إلى هذه الحياة ليس طلباً للبقاء فيها بل طلباً للقتل
مرة أخرى، لما في لحظة الشهادة من عظمة يعيشها الشهيد فعن رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم ): "ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أنها ترجع إلى الدنيا، ولا
أن لها الدنيا وما فيها، إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيُقتل في الدنيا، لما يرى
من فضل الشهادة ".
·
وقد خص الله عز وجل الشهداء بحياة خاصة مبيناً
معالم ثلاثة في تلك الحياة :
الأولى : أنهم يأتيهم الرزق من ربهم .
والثانية : أنهم يعيشون الفرح بما يصل إليهم من عطاء الله عز وجل .
والثالثة : أنّهم يعيشون البشرى بالنصر المكتوب لمن خلفهم وبالأجر الذي يصلهم
.
قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا
بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ
أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ
اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
إن إحياء ذكرى الشهيد ، وإكرام الشهداء من أبناء جيشنا وشرطتنا البواسل
المرابطين المدافعين عن الديار والأوطان ، وتكريم أسرهم , هو نوع من الشكر لهم لما
قدّموه وبذلوه .!!
أولاً: لأنهم انعتقوا وتحرروا من سجن الدنيا الفانية الدنية وانطلقوا إلى تلك
الحياة الأبدية الخالدة الأزلية، حيث الكرامة والعزة والسلام والطمأنينة والأمن والأمان،
ولأنهم بشهادتهم أيضاً أصبحت حياتهم أشد وأقوى.
وثانياً: نشكرهم لكل ما قدموه من أجلنا ومن أجل الناس ومن أجل الأمة والمقدسات
والحاضر والماضي والمستقبل . ونحن بحمد الله تعالى في هذه الظروف العصيبة - التي
يمر بها وطننا الحبيب ومحاولة تدميره بيد الإرهاب والإفساد - ، وفي هذه المسيرة لشهدائنا
الأطهار نحن ممن يعرفون النعمة ويعترفون بها ويشكرون صاحب النعمة على نعمته، ونقرّ
لأهل الفضل بالفضل، وهذا مقتضى الشرف، وبالشكر تدوم النعم، ولئن شكرتم لأزيدنّكم. وعلى
هذا الأساس يجب أن نتذكر دائماً ونستحضر دائماً ما قدّمه هؤلاء الشهداء لشعبنا، لأمتنا،
لأجيالنا، لمستقبلنا".
·
كما جاء التحذير الشديد من خيانتهم في أهليهم،
وتعظيم حرمة ذلك، فعن بريدة (رضي الله عنه): قال: قال رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ): (حُرمَةُ نِساءِ المُجاهِدينَ على القاعِدينَ، كحُرمَةِ أُمَّهاتِهم. وما
مِن رجُلٍ منَ القاعِدينَ يَخلُفُ رجُلًا منَ المُجاهِدينَ في أهلِه، فيَخونُه فيهِم،
إلَّا وقَف له يومَ القيامَةِ، فيَأخُذُ من عمَلِه ما شاء. فما ظَنُّكم؟). وفي روايةٍ:
فقال: (فخُذْ من حسَناتِه ما شِئتَ). فالتفَت إلينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
فقال: (فما ظَنُّكم؟) (أخرجه مسلم في صحيحه). وهكذا فإِنَّ حِمايةَ المجتمَعِ المسلِمِ
لنِساءِ المُجاهدين وأسرهم والحِفاظَ عَليهنَّ، مِمَّا يُعينُ على الجِهادِ في سبيلِ
اللهِ؛ لأنَّ المرابط سيأمَنُ على مَنْ يَترُكُ من زَوجَةٍ وأبناءٍ؛ لذلك شَدَّد النَّبيُّ
(صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) على حُرمَةِ نِساءِ المُجاهِدين، وغَلَّظَ مِن شأنِ النَّيلِ
منهم أو انتِهاكِ حُرْمتهنَّ، وجَعَلَ نِساءَهم في الحُرمَةِ كأُمَّهاتِ القاعِدين،
ومن ثم يحرم التَّعرُّضِ لَهُنَّ برِيبَةٍ أو فَسادٍ، ويجب القيامِ بقَضاءِ حَوائِجِهنَّ
ورِعايَةِ أُمورِهنَّ، كما يَرعَى الإنسانُ حُرمَةَ أُمِّه ، ويَقومُ على قَضاءِ حَوائِجِها،
وفي الحديث بيانُ عِظَمِ إثمِ مَن خان المجاهدَ في أهلِه ونِسائِه وخَلَفَه فيهم بِشَرٍّ،
موضحًا أنَّ مَن فَعَلَ ذلك إلَّا وَقَفَ له المُجاهدُ، فيَأخذُ مِن عملِ الخائنِ أي:
مِن حَسناتِه ما شاء. وقَولُه (صلَّى اللهُ عليه وسلَّم): (فما ظَنُّكم؟) أي: فما ظَنُّكم
باللهِ عزَّ وجلَّ أنَّه يَصنَعُ مع هذا الخائنِ مِنَ العذابِ الشَّديدِ، وفي هذا منَ
الوَعيدِ والزَّجرِ والتَّهديدِ ما فيه.؛ لتعظيم حرمة أسر الشهداء.
ثانيا ً : مَن هو الشهيد؟ ولماذا سمي شهيدًا؟ :
أما من هو الشهيد
لقد أوضحت السنة أن الشهداء لهم تعريف خاص، تتبَّعنا هذه التعريفات للشهداء
فوجدنا أولها : ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله))؛ مَن اعتنق
الحق، وأخلص له، وضحى في سبيله، وبذل دمه ليروي شجرة الحق به فهذا شهيد .
شهيد آخر: هو الذي يأبى الدنية، ويَرفض المذلة والهوان، فإن الله - سبحانه وتعالى
- جعل العزة للمؤمنين، فإذا حاول أحد أن يستذلَّك فدافِع، إذا حاول أحد أن يجتاح حقك
فقاوم، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل
يريد أخذ مالي؟ قال: ((فلا تعطه مالَكَ)) قال: أرأيتَ إن قاتلني؟ قال: ((قاتِلْه))،
قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد))، قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: ((هو في النار)).
وجاء في السنن أيضًا: ((مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد،
ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد))، فالمسلم ينبغي أن يتشبث بحقوقه،
وأن يدافع عنها، وألا يجعل الدنية صفة له، بل ينبغي أن يُحافظ على حقه الأدبي والمادي.
وأما لماذا سمي شهيدًا؟
يقول الإمام النووي - رحمه الله -: "وأما سبب تسميته شهيدًا فقال النضر
بن شميل: لأنه حي؛ فإن أرواحهم شهدَت وحضرت دار السلام وأرواح غيرهم إنما تَشهدها يوم
القيامة.
وقال ابن الأنباري: إن الله تعالى وملائكته عليهم الصلاة والسلام يشهدون له
بالجنة.
وقيل: لأنه شهد عند خروج روحه ما أعده الله تعالى له من الثواب والكرامة.
وقيل: لأن ملائكة الرحمة يشهدونه فيأخذون روحه.
وقيل: لأنه شُهد له بالإيمان وخاتمة الخير بظاهر حاله.
وقيل: لأن عليه شاهدًا بكونه شهيدًا، وهو الدم.
وقيل: لأنه ممن يشهد على الأمم يوم القيامة بإبلاغ الرسل الرسالة إليهم، وعلى
هذا القول يشاركهم غيرهم في هذا الوصف".
أيها المُستمعون الكرام:
نُحيِّي شهداءنا الأبرار،من أبناء الجيش والشرطة ، الذين يَحرصون على وحدة أمتهم،
وكرامة بلدهم، وصون مجتمعهم ،
نعم:
فالله كرَّمه وأعلى شأنه وله الخلود بجنة الرضوان
إن الشهيد مقامه في أوجه كالنَّجم يَسمو فوق كل مكان
حيٌّ، وكل الناس في أجداثهم فالرُّوح في الرَّوضات والأفنان
ثالثا ً : منازل الشهداء عند الله يوم القيامة :
للشهداء فضل لا تحتويه العبارة، ويكفيهم فضلا أنهم دخلوا إلى السعادة من أبواب
الله، ودخلوا إلى الطمأنينة في معية الله، وتشرفوا باللِّواذ بِجَلال الله وجماله...
وفي السطور التالية نتحدث عن بعض مظاهر تكريم الله عز وجل للشهادة والشهيد، ومنها:
1-
أن الشهادة في سبيل الله درجة عالية من الحياة،
لا يَهبُها الله تعالى إلا لمن يَستحقُّها، فهي اختيار من العلي الأعلى الوهاب للصفوة
من البشر؛ ليَعيشوا مع الملأ الأعلى؛ ذلك لأن الشهيد لما بذل حياته لله، أعطاه اللهُ
حياةً أكمل منها، حيث يحيا مع الله الذي مَنَّ عليه بالحياة الأبدية، فكان موت الشهيد
حياة له وكان موته حياة للأمة من بعده.
فعن مسروق قال: سألنا عبدا لله عن هذه الآية ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
﴾ [آل عمران: 169] قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: ((أرواحُهم في جوف طير خضر لها
قناديل معلقة بالعرش تسرَح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع إليهم
ربهم اطِّلاعةً فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث
شِئنا؟! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يسألوا قالوا: يا
رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتَل في سبيلك مرةً، أخرى فلما رأى أن ليس
لهم حاجة تُركوا))؛ رواه مسلم، والترمذي وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، والطبراني، وغيرهم.
وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
﴾ [محمد: 4 - 6]،
2-
أن الشهيد أصاب الفردوس الأعلى،
والأجر العظيم، والفوز المبين والكرامة العليا، كما أن الشهادة في سبيل الله طريق مباشر إلى الجنة،
ففي معركة بدر، وعندما التقى المسلمون بالمشركين، قال النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (قوموا
إلى جنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ) (رواه مسلم).
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: ((إن أول ثلة تدخل الجنة الفقراء المهاجرون، الذين تُتَّقى بهم المكاره،
إذا أُمِروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تُقضَ له حتى يموت
وهي في صدره، وإن الله تعالى يدعو يوم القيامة الجنة، فتأتي بزخرفها وريِّها، فيقول:
أين عبادي الذين قاتلوا في سبيل الله، وقتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في
سبيلي؟ ادخلوا الجنة، فيدخلونها بغير حساب ولا عذاب، فتأتي الملائكة، فيقولون: ربنا
نحن نسبح لك الليل والنهار، ونقدس لك من هؤلاء الذين آثَرتهم علينا؟ فيقول الرب - تبارك
وتعالى: هؤلاء الذين قاتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، فتدخل عليهم الملائكة من كل
باب سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار))؛ رواه الحاكم -واللفظ له - وقال: حديث
صحيح الإسناد، ولم يُخرجه، ووافقه الذهبي، ورواه أحمد، والطبري، والبيهقي في الشعب،
وغيرهم.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما أحد يدخل الجنة
يحب أن يَرجِع إلى الدنيا، وإن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد؛ فإنه يتمنَّى أن
يرجع إلى الدنيا، فيُقتل عشر مرات؛ لما يرى من الكرامة))؛ متَّفق عليه.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت
الليلة رجلين أتياني فصَعِدا بي الشجرة فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل، لم أر قط أحسن
منها، قالا لي: أما هذه فدار الشهداء))؛ رواه البخاري.
3-
أن الله تعالى جعل الشهداء مَضْرِبَ المثل في الإخلاص والدرجات العلا، بعد النبيين
والصديقين: قال الله تعالى: ?وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً?(النساء: 69).
4-
أن الله جعلهم من أصحاب التجارة
الرابحة، فقد ربح بيع نفوسهم لمولاهم.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].
5-
أن الله تعالى جعل لهم "مكانة العندية"،
فهم عند ربهم، في معيته وفي جنابه الأعلى. قال الله تعالى: ?وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ
رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ? وجعل لهم المغفرة والأجر العظيم والنور المبين،
قال تعالى: ?وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ
اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ? (آل عمران: 157)، وقوله تعالى: ’’ وَمَنْ
يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا
عَظِيمًا ’’ (النساء: 74)
6- أن الله تعالى جعلهم من المصطفين فقال ?وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ? (آل عمران: 140)، إنها اصطفاء وانتقاء
للأفذاذ من البشر؛ ليكونوا في صحبة الأنبياء ’’ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا’’ (النساء: 69).
7 - أن الله تعالى جعل
الشهداء في مأمن فلا يفزعون حين يفزع الناس، ولا يخافون حين يخاف الناس، قال تعالى:
’’ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ
وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ
أَجْرًا عَظِيمًا ’’ (النساء: 74).
8- أن الله تعالى جعل الشهيد
شفيعا لسبعين من أهل بيته، فعن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: (الشَّهيدُ
يُشفَّعُ في سبعين من أهلِ بيتِه) (أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب وإسناه صحيح).
9- أن الله تعالى جعل الله تعالى أرواح الشهداء في حواصل طير
خضر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أرواح الشهداء
في أجواف طير خضْر، تعلق من ثمر الجنة، أو شجر الجنة))؛ رواه الترمذي وصحَّحه، وتعلق:
أي ترعى من أعالي شجر الجنة.
يقول ابن النحاس في كتابه "مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق" (ص:
270) مبينًا الحكمة في جعل أرواح الشهداء في أجساد الطيور ذات اللون الأخضر والقناديل
المعلقة في ظل العرش: "لأن ألطف الألوان اللون الأخضر، وألطف الجمادات الشفافة
الزجاج، ولهذا جعل أرواح الشهداء في ألطف الأجساد وهو الطير، واختار ألطف الألوان وهو
الأخضر، ويأوي ذلك الطير الأخضر إلى ألطف الجمادات وهي القناديل المنورة المفرحة في
ظل العرش؛ لتكمل لها لذة النعيم في جوار الرب الكريم".
10- أن الله تعالى أمَّن
الشهيد من فتنة القبر، ويُجار من عذابه، ولا يسأله الملكان.. قال رجل يَا رَسُولَ اللَّهِ:
مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلا الشَّهِيدَ قَالَ (كَفَى
بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً) (الترغيب والترهيب وإسناده صحيح).
فالشهيد لا يسأله الملكان في قبره. ولعل السبب في ذلك أنه قد اُمتحن بأهوال الحرب حتى
استشهد؛ فكان ذلك امتحانًا كافيًا في الدلالة على قوة إيمانه وصدقه المبين مع ربِّ
العالمن.
11- أن الشهداء
يأمنون من الفزع الأكبر، ولا يُصعقون من النفخ في الصور، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه)
عن النبي اللَّهُ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): أنه سأل جبريل عليه السلام
عن هذه الآية؟ ’’وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ’’ فأخبره أن الشهداء هم المستثنون من الصعق
في الآية.
12- أن الله تعالى أسقط
عن الشهيد ذنوبه وكتب له المغفرة عند سقوط أول قطرة من دمه، يقول النبي (صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (للشهيدِ عندَ اللهِ ستُّ خصالٍ: يُغفرُ لهُ في أولِ دفعةٍ،
ويَرى مقعدَهُ منَ الجنةِ، ويُجارُ منْ عذابِ القبرِ، ويأمنُ منَ الفزعِ الأكبرِ، ويُوضعُ
على رأسِهِ تاجُ الوقارِ، الياقوتةُ منها خيرٌ منَ الدنيا وما فيها، ويُزوَّجُ اثنتينِ
وسبعينَ زوجةً من الحورِ العينِ، ويُشفَّعُ في سبعينَ منْ أقاربِهِ) (أخرجه الترمذي
في سننه).
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين))؛ رواه مسلم.
13- أن الشهيد رائحة دمه مسكٌ يوم القيامة، وتفوح منه هذه
الرائحة العطرة، ليكوم مُمَيَزًا ومُتَمَيِّزًا في ساحة الحساب.
14- أن الشهداء يُرزَقون ورزقُهم من الله؛ ومن ثَمَّ فهم فرِحُون
بما أَعطاهم الله، ويستَبشِرون بإخوانهم القادِمين عليهم.
15- أن الله تعالى جعل للشهيد عُرسًا، حيث يزوجهم الله بالحور
العين اللاتي ذكرهن الله تعالى في كتابه بقوله : ’’ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ *فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
* كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ,, (الرحمن: 56 -58).
ودم الشهيد يجفُّ، لكن قبل أن يجفَّ يكون الله قد أنعم عليه ووهبه من فضله زوجتيه
من الحور العين! رزقنا الله الشهادة في سبيله؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:
ذُكر الشهيد عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى يبتدره
زوجتاه، كأنهما ظئران أظلتا أو أضلتا فصيليهما ببراح من الأرض، بيد كل واحدة منهما
حلة خير من الدنيا وما فيها))؛ رواه أحمد الحديث ضعفه الشيخ الألباني والشيخ شعيب الأرنؤوط،
والعلامة أحمد شاكر .
16- الشهيد لا يجد ألم
القتل ولا يشعر به، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (ما يجدُ الشهيدُ من مَسِّ القتلِ إلا كما يجدُ أحدكم من مَسِّ
القَرْصَةِ)(أخرجه الترمذي في سننه).
17- أن الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا لكي يُقتل عشر مرات،
فعن أنس (رضي الله عنه) أن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: (ما أحَدٌ
يدخلُ الجنَّةَ، يحبُّ أن يرجِعَ إلى الدُّنيا ولَهُ ما علَى الأرضِ مِن شيءٍ إلَّا
الشَّهيدُ يتمنَّى أن يرجعَ إلى الدُّنيا فيُقتلَ عَشرَ مرَّاتٍ، لما يَرى منَ الكَرامةِ)
(أخرجه البخاري في صحيحه).
18- أن الشهيد يجري عليه عمله الصالح حتى يبعث، ولا ينقطع
عمله حتى قيام الساعة.
بل يَزيد ويتضاعَف، فعند الترمذي عن رسول الله صلى اللله عليه وسلم أنه قال:
((كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطًا في سبيل الله، فإنه يُنمى له عمله إلى
يوم القيامة، ويُأمَّن من فتنة القبر)).
19- أن الشهيد لا يفضله
النبيون إلا بدرجة واحدة.
20- من فضائل الشهادة : أن منهم
مَن ينال الفضل العظيم وإن لم يركع لله ركعةً واحدة، أحد الصحابة عمرو بن أقيش كان
له رِبًا في الجاهلية فمات، فلمَّا مات جاء سعد بن معاذ قال لأخته: سليه أقاتَلَ حميةً
أم عصبية؟ فقال: بل لله - جل وعلا.
وقصة أخ لسلَمة بن الأكوع في خيبر قاتل بشدة فارتد عليه سيفه، فتكلم الصحابة
فيه؛ لأن سيفه ارتد عليه هل يعتبر شهيدًا؟ هل مات شهيدًا في سبيل الله؟ فلما أخبر النبي
صلى الله عليه وسلم قال: ((كذبوا، مات جاهدًا مجاهدًا فله أجره مرتين))؛ متفق عليه.
21- أن مَن طلب الشهادة صادقا بلَّغه ربه منازل الشهداء،
فعلينا أن نجتهد ونُخلص في طلب الشهادة حتى يعطينا الله أجرها؛ فالنبي (صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أعلنها مدوية في سمع الزمان بقوله: (مَن سأَل اللهَ الشَّهادةَ
صادقًا مِن قلبِه أعطاه منازِلَ الشُّهداءِ وإنْ مات على فِراشِه) (أخرجه الطبراني
في المعجم الأوسط).
ولقد يُبيِّن الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم أن للشهيد عند الله ستَّ خصال؛
((يُغفَر له عند أول دفعة من دمه، ويرى مكانه في الجنة، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع
على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما عليها، ويُزوَّج ثنتين وسبعين
زوجة من الحور العين، ويَشفع في سبعين من أهله))؛ رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الشيخ
الألباني؛ عن المقدام بن معدي كرب.
وحديث آخر رواه البخاري: ((يعطى الشهيد ست خصال؛ عند أول قطرة من دمه تُكفَّر
عنه خطاياه، ويرى مقعده من الجنة، ويُزوَّج من الحور العين، ويؤمن من الفزع الأكبر،
ومِن عذاب القبر، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: ويُحلى حلة الإيمان)).
ولتسمع - أيها المحزون على الشهداء - ماذا أعدَّ الله لهم من جوائز؛ يقول النبي
صلى الله عليه وسلم عنها: ((يُعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه؛ يُكفَّر عنه
كل خطيئة، ويَرى مقعده من الجنة، ويُزوَّج من الحور العين، ويؤمَّن مِن الفزع الأكبر،
ومن عذاب القبر، ويُحلى حلة الإيمان))؛ رواه أحمد.
ولذلك يقول الشهيد وهو يحلق في السماء:
لا تحزَنوا يا إخوتي إني شَهيد المِحنةِ
وكرامتي بشَهادتي هي فرحتي ومسرَّتي
ولئن صرعتُ فذا دمي يوم القيامة آيتي
الريح منه عاطر واللون لون الوردةِ
آجالنا محدودة ولقاؤنا في الجنةِ
ولقاؤنا بحبيبنا بمحمَّد والصُّحبةِ
وسلاحنا إيماننا وحياتنا في عزَّةِ
رابعا ً : نماذج مِن الشهداء:
الشهداء الذين ذهبوا إلى الله - على اختلاف أماكنهم ودرجاتهم - لهم نماذج في
التاريخ القديم والحديث، وما أحوج الأمة الإسلامية إلى هذه النماذج ! ما أحوجها أن
تعرف من رجالها الكبار! ومَن أبطالها الذين تأخذ منهم الأسوة ! ذلك لأن أعداء الإسلام
ما طمعوا فيه، ولا نالوا منه، ولا تجرؤوا عليه، إلا لأن أمتنا ثشبَّثت بالحياة على
الأرض، وأخلدت إلى الهوى والشهوة، وقاتلت على الحُطام الفاني، ونافسَت فيما لا وزن
له عند الله.
لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقَّفون تلك المنح والعطايا من
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيَتسابقون إلى ميدان الجهاد، ويتسابقون إلى الشهادة
في سبيل الله، ففي معركة بدر وحين التقى المسلمون بالمشركين، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض))، فقال: عمير بن الحمام الأنصاري
يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض، قال: "نعم"، قال بخ بخ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ما يَحمِلُك على قولك: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول
الله إلا رجاءةَ أن أكون من أهلها! قال: ((فإنك من أهلها)) فأخرج تمرات من قرنه، فجعل
يأكل منهن، ثم قال: "لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى
بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل"؛رواه مسلم (5024).
بل إن من جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم حين يَسمع عن الجنة، وأنها تحت ظلال
السيوف يسرع نحو العدو مقاتلاً في سبيل الله، فعن أبي بكر بن عبدالله بن قيس عن أبيه
قال: سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبواب
الجنة تحت ظلال السيوف"، فقام رجل رثُّ الهيئة، فقال: يا أبا موسى آنتَ سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال: نعم، قال: فرجَع إلى أصحابه، فقال: "أقرأ
عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه، فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرَب به حتى قتل"؛
رواه مسلم (5025).
وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً أسْوَدَ أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
يا رسول الله، إني رجل أسوَدُ، مُنتِن الريح، قبيح الوجه، لا مال لي، فإن أنا قاتلت
هؤلاء حتى أقتل، فأين أنا؟ قال: في الجنة، فقاتل حتى قتل، فأتاه النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: قد بيَّض الله وجهك، وطيب ريحك، وأكثر مالك، وقال لهذا أو لغيره: لقد رأيتُ
زوجته من الحور العين، نازعته جبةً له من صوف، تَدخُل بينه وبين جبته))؛ رواه الحاكم
وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يُخرجاه، وقال الذهبي: على شرط مسلم، وصحَّحه
أيضًا في (تاريخ الإسلام: 2/419)، ورواه البيهقي في (دلائل النبوة 4/303)، وصحَّحه
الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
يقول التاريخ: إن الدولة الفارسية برغم أنها هزمت في "القادسية"
وسقطت عاصمتها بقيت تقاوم مقاومة عنيدة حتى خُشي على بقاء الإسلام هناك، فدخل عمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه المسجد، وتفرَّس في الصفوف؛ ليَختار قائدًا من المصلين يَبعث
به إلى "فارس" فنظر فإذا "النعمان بن مقرن" رضي الله عنه يُصلي،
فذهب إليه وقال له: يا نعمان، أريد أن أستعملك في عمل، فقال له النعمان: إن كان جابيًا
فلا - أي: إن كنت تريد أن تبعثني لأجيء بمال فلا - فقال له: بل بعثتك لتقود جبهة المسلمين
في فارس، فقال: نعم.
وذهب النعمان ليقود المعركة الحاسمة في "فارس"، المعركة التي أجهزت
على النفوذ الفارسي تمامًا، وأخمدت أنفاسه إلى الأبد، وتُسمَّى المعركة في التاريخ
معركة "نهاوند"، الرجل قبْل أن يَهجم قال للمسلمين: إني هازٌّ لوائي ثلاثا،
وإني داع فأمنوا، ودعا فقال: اللهم ارزق المسلمين نصرًا، وارزقني فيه الشهادة!
الحقيقة أني تأملت في المعركة واستغربت؛ يقول المؤرخون: إن المعركة بلغ من ضراوتها
وكثرة ما سُفك من دم فيها أن الخيل كانت تنزلق على الصخر من كثرة ما سفك من دم، وقاد
النعمان بن مقرن المعركة، وأصيب بجرح قاتلٍ وسقطَ، ولكنه سقط حيًّا، وقاد المعركة رجل
آخر من المسلمين، وانتصر المسلمون، وجاء البشير إلى النعمان وهو جريح يقول له: انتهت
المعركة، قال: على من الدائرة؟ قال: على أعداء الله، فحمد الله، ومات!
انظر إلى الرجل القائد - خرِّيج المسجد - الراكع الساجد، الرجل الذي أَبى أن
يذهب في منصب يَنتظر أن يغنم منه شيئًا، أو يفيد منه خيرًا، واشترط على الخليفة عمر
- أول ما حدثه - ألا يذهب في منصب من هذه المناصب، ثم لما دعا - ناس كثيرون قد يفكرون
في أن يعودوا إلى بلدهم ليجنوا ثمرة النصر الذي أحرزوه، تلتفُّ حولهم الجماهير، يهتفون
لهم، يُهنِّئونهم، يضعون الألقاب وراء أسمائهم، النعمان احتقر هذا كله - طلبَ النصر
للمسلمين، والشهادة للنعمان!
خامساً : الجزاء من جنس العمل :
أيها الكرام :
لما ترك المجاهد الفراش والأزواج جاد عليه الملك الوهاب بكثرة الأزواج من الحور
العين والجزاء عند الله من جنس العمل، فاز بوصال مَن خُلقت من النور، ونشأت في ظلال
القصور مع الولدان والحور، في دار النعيم والسرور، والله لا يجفُّ دم الشهيد حتى تلقاه،
وتستمتِع بشهود نورها عيناه، حوراء عيناء، جميلة حسناء، بكر عذراء، كأنها الياقوت لم
يطمثها إنس قبله ولا جان، كلامها رخيم، وقدها قويم، وشعرها بهيم، وقدرها عظيم، وجفنها
فاتر، وحسنها باهر، وجمالها زاهر، ودلالها ظاهر، كحيل طرفها، جميل ظُرفها، عذب نطقها،
عجب خَلْقها، حسن خُلُقها، زاهية الحُليِّ، بهية الحُلل، كثيرة الوداد، عديمة الملل،
قد قصرت طرفها عليك، فلم تنظر سواك، وتحبَّبت إليك بما وافق هواك، لو برَز ظفرها لطمس
بدر التمام، ولو ظهر سُوارها ليلاً لم يبقَ في الكون ظلام، ولو بدا معصمها لسَبى كل
الأنام، ولو اطَّلعتْ بين السماء والأرض لمُلئ ريحًا ما بينهما، كلما نظرتَ إليها ازدادتْ
في عينيك حسنًا، وكلما جالستها زادتْ إلى ذلك الحسن حسنًا، أيَجمٌل بعاقل أن يسمع بهذه
ويقعُد عن وصالها، كيف وله في الجنة من الحور العين أمثال أمثالها؟!
فنهيئا لكم أيها الأبطال الأبرار.. هنيئا لكم وأنتم تحاربون الأشرار.. هنيئا
لكم وأنتم تحاربون أناسًا باعوا أنفسهم للشيطان، وباعوا آخرتهم بدنياهم.. هنيئا لكم
وأنتم تجاهدون من أجل تخليص البلاد والعباد بل والعالم كله من شر هؤلاء الإرهابيين
الأوغاد، الذين صدَّروا للعالم صورة سيئة عن ديننا الحنيف، وهو منهم ومَن على شاكلتهم
براءٌ براءٌ.
هنيئا لكم أيها السادة الشهداء والمرابطون لحراسة الدين والوطن والعرض والمال،
وصدق الرسول الكريم القائل فيما أخرجه الترمذي في سننه: (عَينانِ لا تمَسَّهما النَّارُ:
عينٌ بكت من خشيةِ اللهِ، وعينٌ باتت تحرسُ في سبيل اللهِ).
يا للشهيد
كأنه ملِكٌ دُنياه
شامخة وأُخراهُ
لله درُّ
أبيه مِن بطل كالكوكب
الدرِّيِّ تَلقاهُ
مِسكُ الجنان
يفوح من دمه والبدر
يَسطع مِن مُحياهُ
في الأرض
ندفنه وفي قمم الفردوس عند الله
محياهُ
ليلاه حوراء الجنان إذا
كل
امرئ شغفَتْهُ ليلاهُ
هذا الشهيد
ألستَ تعرفه العزُّ بين يديه والجاهُ
العزُّ في
كنف العزيز ومَن عبَدَ
العبيد أذله اللهُ