الطريق الى السعادة للشيخ سعد الشهاوى





الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، وفق من شاء من عباده لما يحب ويرضاه، وفضل الصالح على الطالح واجتباه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ومصطفاه، طوبى لمن اقتدى به ووالاه، وويل لمن أعرض عن شرعه وعاداه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين كان هواهم تبعا لهواه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى أن نلقاه
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون تعالوا بنا اليوم نكشف الستار عن أمر يبحث عنه جميع الناس ألا وهو السعادة! فلو سألت الناس جميعاً ماذا تطلبون من الدنيا؟ وماذا تريدون؟ وما هي أغلى أمنية عندك في هذه الدنيا؟ أغلب الناس وكل واحدٍ منهم سوف يقول: أريد أن أعيش سعيداً مرتاحاً مطمئناً، أبحث عن شيء يُسمَّى السعادة والراحة، كلّ الناس يلهث ويتعب وراءها، وينصب من أجلها، من أجل أن يعيش سعيداً في هذه الحياة الدنيا
وقد اشتاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذا العيش عَيْشَ السُّعَدَاءِ فكان يدعو كما عند الترمذي وابن خزيمة وغيرهم ويقول : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْفَوْزَ عِنْدَ الْقَضَاءِ ، وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ ، وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ ، وَمُرَافَقَةَ الأَنْبِيَاءِ ، وَالنَّصْرَ عَلَى الأَعْدَاءِ )( صحيح ابن خزيمة, التهجد وقيام الليل لابن أبي الدنيا»
ومما لاشك فيه أن كـل النـاس يبحثـون عن السعـادة.
1. فالبعض يظن أن السعادة في المال:
فمن الناس من ينظر إلى صاحب الأموال الكثيرة، والسيارات الفارهة، والقصور العالية، ويظن أنه من أسعد الناس فهو يظن أن السعادة في الغنى وكثرة الأموال وجمعها بأي طريق وأي وسيلة ، فتراهم يسعدون إذا كثر المال ويحزنون إذا قَلَّ ، وهؤلاء نقول لهم: صحيح أن المال يُعدُّ أحدَ ركني زينة الحياة الدنيا كما قال ربنا في كتابه الكريم:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}، وقال سبحانه:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}
إلا أن المال وحده ليس كافيًا لتحقيق السعادة لأنه وسيلة لا غاية ، فكثير من الناس لديهم أموال كثيرة لكنهم لا يشعرون بالسعادة ، بل ربما يكون المال فتنة ووبالاً على صاحبه في الدنيا قبل الآخرة إذا لم يؤدِّ حق الله فيه، وقد أشار القرآن الكريم إلى شقاء أصحاب الأموال الذين لا يتقون الله في جمعها وإنفاقها، ومعرفة حق الله فيها، فقال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55] أي: يعذبهم بجمعها، فيوصلون الليل بالنهار في تحصيلها، ويبخلون بإنفاقها، وهم كافرون بمنع حق الله فيها.
ويقول عز وجل محذرًا من فتنة المال:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}،
والكل يعرف أن قارون لم يخسف الله به الا بسبب ماله منح الله قارون كنوزاً كالتلال ما جمعها بجهده، ولا بذكائه، ولا بعرقه، ولا بعبقريته، وظن أنه هو السعيد وحده، وكفر نعمة الله، وقد حذره ربه، وأنذره مولاه مغبة تصرفاته الوقحة، فأبى وأصر على تجريد المال من الشكر، والسعي في الأرض فساداً، فكان الجزاء المر فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ (81) [القصص81].
أحدهم يموت من كثرة المال فرحاً والآخر يموت من فقده حزناً: يقول أحد المعاصرين: أنه رأى رجلاً غنياً ثرياً، أنعم الله عليه بالنعمة، ووسع عليه بالرزق، ولما اشتد الحال بالناس اشترى صفقةً من الطعام، وكانت صفقةً كبيرة، فدخلتُ عليه وقد أخبره رجل أن سعر الطعام الذي اشتراه قد ارتفع إلى أضعافٍ كثيرة، فلم يتحمل الفرحة فسقط ميتاً على دفتره، قال: ومضت الأيام، وتبدلت الأحوال، فدخلت على رجلٍ من أهل المدينة في كرائم نعمه وقد اشترى صفقةً من نفس الطعام، قال: والله فأتاه الخبر بأن سعر الطعام قد انخفض، فلم يتحمل الصدمة فسقط ميتاً. فقال: سبحان الله! عجبت لرجلٍ يموت عند الغلاء فرحاً، ورجلٌ يموت عند الرخص حزناً!!
قال البستي : ويا حريصاً على الأموالِ تجمعُها * * * أُنْسيتَ أنَّ سرورَ المالِ أحزانُ ؟
زع الفؤاد عن الدنيا وزينتها * * * * فَصَفْوُها كدرٌ والوصلُ هِجْـرانُ
تشير الإحصاءات المقدَّمة من منظمة الصحة العالمية إلى أنَّ نِسَبَ الانتحار الأعلى في العالم هي في دول الاتحاد السوفيتي السابق وكذلك في بعض الدول الأوروبية الغنية كفرنسا والسويد وسويسرا، فإلى ماذا تشير تلك المعلومة لمن تأملها ؟ لا بد من التنويه قبل ذلك إلى أنَّ الإنسان لا يُقدِم على الانتحار إلا إذا وصل إلى مرحلة نفسية معقدة وشعور كبير باليأس والإحباط.
إنَّ تسجيل أعلى نسبة انتحار في دول ترفع راية الإلحاد واللادينية ( كدول الاتحاد السوفيتي السابق ) وكذلك في دولٍ مشهورة بالثراء والرفاهية والترف ( كالسويد: أعلى دخل فردي في العالم ) تشير إلى حقيقةٍ لا جدال فيها يفهمها أكثرُ الناس بشكل معكوس، وهي: أن السبيل إلى الراحة والسعادة ليس في التحرر من الدين والانسلاخ منه ( الشعوب السوفيتية مثالاً )، وكذلك ليس في الوصول إلى الشبع المادي بشتى صوره وألوانه (الشعوب الأوروبية مثالاً )، والتجارب أثبتت صدق هذا الكلام وإنْ ادَّعى الناس خلاف ذلك.

بل انظر إلى هذه المرأة التي تدعى "كريستينا أوناسيس": وهي ابنة المليونير اليوناني الشهير "أوناسيس"، مات أبوها وترك لها خمسة آلاف مليون ريال، وأسطولاً بحرياً ضخماً، وهي تملك جزراً كاملة، وتملك شركات طيران، تزوجت مرة وثانية وثالثة ورابعة، وفي كل مرة تبحث عن السعادة ولا تجدها. بل وسألها الصحفيون: هل أنت أغنى امرأة؟ قالت: نعم. أنا أغنى امرأة، ولكني أشقى امرأة. ثم عاشت بقية حياتها في تعاسة وهمّ، وبعد ذلك وجدوها ميتة في شاليه في الأرجنتين وحيدة شريدة.

يقول الدكتور مصطفى محمود – رحمه الله -:" إن السعادة أصلها شعور ديني وليست شعورا ماديا؛ ولهذا يمكن أن ينتحر مليونير يملك باخرة وطائرة وعدة ملايين من الدولارات؛ في حين تجد العابد الذي يعيش على الكفاف يضيء وجهه بسكينة داخلية لا حد لها، فالسعادة ليست في الجمال ولا في الغنى ولا في الحب ولا في القوة ولا في الصحة, السعادة في استخدامنا العاقل لكل هذه الأشياء". أ.ه
ولست أرى السعادة جمع مال ٍ * * * ولكن التقي هو السعيد ُ
وتـــــقوى الله خير الزاد ذخراً * * * وعنـــــــــــــــد الله للأتقى مزيدُ
فالسعادة بالمال سعادة وهمية غير حقيقية، فصاحب المال في كدٍ وتعب وشقاء لجمع هذا المال وإحرازه، ويظل هذا الشقاء والقلق خوفاً من ضياع هذا المال أو سرقته، بل ويستمر هذا الشقاء عندما يترك هذا المال الذي أفنى العمر في جمعه، فإنه يتركه لغيره كله، بل ويُحاسب عليه كله، ويُقدم على الله تعالى بأوزاره وسيئاته، فينادي بأعلى صوته ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ . هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} [الحاقة: 28-29]
ويُعذَّب بهذا المال في الآخرة؛ لأن هذا المال شَغَله عن طاعة الله، وأنه لم يؤدِ حق الله فيه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34-35]
فليس كل صاحب مال سعيد!! والله لن يذوق طعم السعادة إلا رجل منّ الله عليه بالمال؛ فعرف الوظيفة لهذا المال، فأنفقه لله في الليل والنهار، اكتسبه من الحلال وأنفقه فيما يرضي الكبير المتعال.
ولذلك يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ( إنَّمَا الدُّنْيَا لأرْبَعَةِ نَفَرٍ : عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلماً ، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقَّاً ، فَهذا بأفضَلِ المَنَازِلِ . وَعَبْدٍ رَزَقهُ اللهُ عِلْماً، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً ، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ ، يَقُولُ: لَوْ أنَّ لِي مَالاً لَعَمِلتُ بِعَمَلِ فُلانٍ ، فَهُوَ بنيَّتِهِ ، فأجْرُهُمَا سَوَاءٌ . وَعَبْدٍ رَزَقَهُ الله مَالاً ، وَلَمَ يَرْزُقْهُ عِلْماً ، فَهُوَ يَخبطُ في مَالِهِ بغَيرِ عِلْمٍ ، لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَلاَ يَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقّاً ، فَهذَا بأَخْبَثِ المَنَازِلِ . وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً ، فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ أنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بعَمَلِ فُلاَنٍ ، فَهُوَ بنِيَّتِهِ ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ).

فالنعمة الحقيقية في المال إنما هي في المال الصالح ، حيث يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحِ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ) (البخاري في الأدب المفرد)

ومن الناس من يرى السعادة في كثرة الأولاد ، ولهؤلاء نقول : مع أن الأولاد هم زهرة الحياة الدنيا وزينتها كما أخبرنا القرآن الكريم في أكثر من آية إلا أن نعمة الولد وحدها لا يمكن أن تحقق السعادة الكاملة ، بل ربما كان بعض الأبناء فتنة لآبائهم في دينهم ودنياهم ، وفي ذلك يقول سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُـوا وَتَصْفَــحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
وطلب السعادة الوليد بن المغيرة، فآتاه الله عشرة من الأبناء، كان يحضر بهم المحافل، خمسة عن يمينه، وخمسة عن يساره، ونسي أن الله خلفه فرداً بلا ولد ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كلا [المدثر -16].
فماذا فعل، كيف تصرف؟ أخذ عطاء الله من الأبناء، فجعلهم جنوداً يحاربون الله، إلا من رحم ربك، فقال الله فيه: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ. عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:26-30].
أما النعمة الحقيقية في الولد فهي في الولد الصالح الذي أُحسنت تربيته ، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقةٍ جَاريَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ

والبعض يظن أن السعادة في الشهرة: فمن الناس من يرى أن السعادة في الشهرة أو المنصب أو الجاه ، وهذا يلتمس السعادة في الشهرة فيقضي ساعاته في توجيه الناس إليه، ليصبح معبود الجماهير، وحديث الركبان، وشاغل الدنيا، فيقتلعه ربك من جذوره، ويمحق سعيه فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض [الرعد:17].
وذاك يظن أن السعادة في الفن، الفن المتهتك الخليع الماجن، فيدغدغ الغرائز، ويلعب بالمشاعر، ويفتن القلوب، ويسكب الغرام في النفوس، فيحمّله الله ذنوب من أغواهم، دون أن ينقص من ذنوبهم شيئاً، وهذا ظن خاطئ، إذ أن الشهرة تكون في غالب الأحيان سبب الشقاء والتعاسة. وهذا قول من نالوا حظاً من الشهرة:
ـ تقول الممثلة الأمريكية المشهورة "مارلين مونرو" قبل وفاتها أو انتحارها وهي تنصح المرأة: احذري المجد، واحذري كل من يخدعك بالأضواء، إنني أتعس امرأة على هذه الأرض، لم أستطع أن أكون أمّاً، إنني امرأة أُفضِّل البيت والحياة العائلية على كل شيء، إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة، لقد ظلمني كل الناس، إن العمل في السينما يجعل من المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة. فالشهرة لذة لا تقابلها لذة؛ أن تكون مشهوراً ومعروفا بين الناس؛ يقدمك الناس في المجالس؛ ويمدحون نتاجك؛ ولكن كثيراً من المشاهير كانت حياتهم كئيبة وانتهت بالانتحار؛ فمن المعلوم أن ديل كارنجي - صاحب كتاب ( دع القلق وابدأ الحياة ) وهو الكتاب المفيد الممتع الجميل - أنهى حياته منتحراً ؛ فقد قال للإنسان : دع القلق وابدأ الحياة!! انتحر وهو صاحب أروع الكتب في فن التعامل مع الناس !! وصاحب أكثر الكتب مبيعاً في العالم ، حيث بيعت ملايين النسخ من كتبه ، وترجمت إلى أكثر اللغات العالمية ، فهو صاحب كتاب كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس ؟!! وقد وضع قواعد رائعة في كيفية طرد القلق والانطلاق في الحياة العامة بكل سعادة وثقة؛ ولكن كل ذلك لم يمنع القلق من أن يسيطر على حياة كارينجي ، فعصفت الكآبة بحياته ، وسادت التعاسة والشقاء أيامه ، فقرر هو أيضاً التخلص من حياته عن طريق الانتحار!!

وما أجمل قول نبينا صلى الله عليه وسلم مبينا أن الشهرة أو المنصب أو الجاه إن لم يؤدِّ حق الله فيها وقع المتطلع إليها تحت قول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا في غَنَمٍ بِأفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينهِ).
ولهؤلاء وأولئك نقول: إن السعادة لا تتحقق بالشهرة وحدها ولا بالجاه وحده ولا بالمنصب وحده ، ولا بالمال وحده ، ولا بالولد وحده ، إنما هي في رضا الله عن الإنسـان وتوفيقــه له ، ورضـا الإنسـان بما قسـمه الله له ، فيســعد في
دنيــاه وأخراه على حد قول الشاعر :
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا *** وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
أما النعمة الحقيقية فهي فيمن أخذ الأمانة بحقها وأدى الذي عليه فيها فيكون صاحبها في مقدمة السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ ، وَشَابٌ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إنِّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُه مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً ففاضت عَيْنَاهُ).

وقد يظن البعض أن السعادة في الجاه:وهذا فهمٌ وظن خاطئ أيضاً، فأهل الجاه والسلطان والمناصب البعيدين عن الله، هم في شقاء وتعاسة وهمٍّ ونكد:
ـ ذكرت جريدة "الشرق الأوسط " بتاريخ 21/4/1415 هـ: أن زوجة الرئيس السابق "جورج بوش" حاولت الانتحار أكثر من مرة، وقادت السيارة إلى الهاوية تطلب الموت، وحاولت أن تختنق هرباً من همومها.
ـ وها هو "نابليون" يقول في "سانت هيلينا": لم أعرف ستة أيام سعيدة في حياتي.
ـ وقال هشام بن عبد الملك – الخليفة -: عددت أيام سعادتي فوجدتها ثلاثة عشرة يوماً.
ـ وكان أبوه عبد الملك يتأوه ويقول: يا ليتني لم أتولَّ الخلافة. فكان سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ يقول عندما يسمع هذا: الحمد لله الذي جعلهم يفرُّون إلينا، ولا نفر إليهم. أهـ
وهذا علي بن المأمون
والمأمون هذا هو الخليفة العباسي الكبير- وابنه علياً كان أميراً من الأمراء، وكان إذا أصبح الصباح خرج في شرفة القصر -في بغداد دار السلام - وقصور بني العباس كانت تلمع مع إشعاع الشمس من جودتها، وسموها، وورد أنهم كانوا يموهونها بماء الفضة؛ فإذا رأتها الشمس لمعت لمعاناً عجيباً، وبهرجاً غريباً، فكان يشرف على الشرفة -شرفة القصر- وينظر إلى الناس في أسواق بغداد ذاهبين وآيبين من دجلة إلى داخل بغداد، ولفت نظره رجلٌ مسكينٌ فقيرٌ، كان يعمل حمالاً يحمل أكياساً ومتاعاً للناس بأجرة، فإذا أتت صلاة الضحى توضأ من ماء دجلة، ثم صلى أربع ركعات، ثم يعود ليعمل إلى قرب الظهر، فإذا اقترب الظهر ذهب فنام؛ فإذا سمع أذان الظهر قام فتوضأ، ثم ذهب إلى المسجد فصلى، فإذا صلى أتى فأخذ قطعةً من الخبز اشتراها من السوق وشيئاً من البقل، فأتى فغسل البقل في نهر دجلة قريباً من قصر الأمير، وأكل هذه القطعة مع هذا البقل، ثم يقوم ويصلى إلى العصر، ثم يعمل بعد العصر، ثم يأخذ شيئاً ويذهب إلى بيته.. فأخذ يلمحه طيلة الأيام؛ وما تغير في سيرته، ولا في برنامجه شيء، فلفت نظره! وقال: أهو سعيد أم شقي؟ وما هي نفسيته؟.. وأراد أن يتساءل معه؛ فأرسل بعض خدمه إليه.. وقال له: الأمير يدعوك. قال: ما لي وللأمير.. أنا ما دخلت في حياتي على أمير من الأمراء، ولا أريد شيئاً من الدنيا، أي: ليس عندي من المشاكل، ولا من الطلبات، ولا من الأمور التي أعلمها شيء، وما تكلمت في أمير، وما أظن أنني أعرف أحداً منهم. قال: إنه يريدك لأمر. قال: آتيه غداً. قال: إنه يريدك اليوم.. فأتى بهيئته، وبثيابه البالية،. فدخلوا بهذا الفقير المسكين على الأمير؛ فأجلسه عنده، فلما رآه قال له الأمير: أأنت سعيد؟ قال: الحمد لله أنا في سعادة ما بعدها سعادة. قال: أتريد شيئاً من الدنيا؟ قال: لا والله ما أريد شيئاً. قال: فإني أعرض عليك شيئاً من هذا المال. قال: أسألك بالله عز وجل إلا تركتني وحالي. قال: فكن عندنا في قصرنا، قال: لا.. لا أريد الشقاء، أريد السعادة فيما أنا فيه. قال: ما هو عملك؟ وما هو دخلك، وأهلك؟ قال: أنا لي زوجةٌ وأخت؛ زوجة مقعدة وأخت عمياء، وليس لي من الدخل إلا ما أقوته في اليوم.. أذهب في الصباح، فأعمل إلى الظهر، ثم أتغدى بهذه الكسرة التي أجدها من العمل، بعد أن أتوضأ وأصلي الضحى، ثم أنام، ثم أصلي الظهر، وبعدها أصلي إلى العصر، ثم أعمل قليلاً لآخذ إفطاراً لزوجتي ولأختي؛ لأنهما تصومان الدَهر. قال: وهل تخافُ شيئاً؟ قال: لا والله. قال: هل عليك دينٌ؟ قال: ما عرفت الدَّين. قال: أعندك مشكلةٌ ترفعها إليَّ؟ قال: ما شاكلت أحداً في حياتي. قال: ما تريد؟ قال: أن تتركني. قال: فتركه فنزل. فلما نزل أخذ الأمير ينظر إليه متعجباً من هذا الصنيع، وفي آخر المطاف أتى هذا الأمير وكان عاقلاً حازماً، فاستدعى بعض المقربين من إخوانه وعشيرته، وقال: إنني سوف أذهب إلى مكان الله أعلم به، فإن تخلفت فأخبروا أبي أنني ذهبت إلى أرض، وأنني بخيرٍ إن شاء الله، فخلع ثيابه في غداةٍ من الأيام، وأخذ خاتماً بيده، وترك أمواله، وأوصى بكل شيءٍ من ذويه، ثم ركب. قالوا: فنزل واسط وهي بلدٌ في الشمال، فأخذ يعمل، وغير مهنته حمالاً وهذه في ترجمة علي بن المأمون الخليفة العباسي. وكان يصلي الليل، ويصوم النهار ويقرأ القرآن، وأخذ المأمون يقلب الدنيا ظهراً لبطن عنه، فما وجده، وما ظن أنه سوف يكون حمالاً، يُمر به ولا يعرفه أبداً. فلما حضرته الوفاة ذهب إلى الذي يعمل عنده، فقال: أنا ابن المأمون الخليفة، فإذا أنا مت فخذ هذا الخاتم، وهذه الدراهم فاشترِ لي بها كفناً، فإنني قد وجدت السعادة في الحياة، وأوصل هذا الخاتم لأهلي. فلما توفي غسل وكفن من دراهمه.. وما ترك تركةً، ولا دنياً فقد كان عابداً زاهداً مستقيماً فأتي المأمون بخاتمه بعد أن توفي؛ فبكى وذهب إلى قبره ليزوره، وقال: وجدت السعادة.
وهذا هارون الرشيد
قال أهل السير وأهل التاريخ: لما استقر هارون الرشيد في الخلافة، وتولاها بعد أبيه، أنفق الكنوز والقناطير المقنطرة، في عمارة قصر على نهر دجلة؛ يدخل النهر من شمال القصر ويخرج من جنوبه، وعمّر الحدائق التي تطل وتتمايل على النهر، ثم رفع الستور، وجلس للناس، فدخل الناس يهنئونه بقصره وبحدائقه، وكان فيمن دخل أبو العتاهية، فوقف أمام هارون الرشيد وقال له:
عِشْ ما بَدَا لكَ سالماً، في ظِلّ شاهقَة ِ القُصورِ
يقول: ليهنك العيش والسعادة، ودوام الصحة والعافية، في ظل هذا القصر، فارتاح هارون لهذا الكلام وقال: هيه، يعني زد، قال:
يسْعَى عليكَ بِمَا اشتهيْتَ لدَى الرَّوَاح أوِ البُكُورِ
يقول: يأتيك الخدم والجواري، بالأطعمة والأشربة، وكل ما أردت، صباحاً ومساء قال: هيه حسن ثم ماذا؟ ، قال:
فقال:فإذا النّفوسُ تَقعَقَعَتْ، في ظلّ حَشرجَة ِ الصّدورِ
فَهُناكَ تَعلَم، مُوقِناً، مَا كُنْتَ إلاَّ فِي غُرُورِ!!
قال: أعد. أعد. قال: فإذا النفوس تغرغرت، يعني إذا حضرت سكرات الموت، وحان الأجل، وساعة الصفر، وبلغت الروح التراقي: وقيل من راق [القيامة:27]. والتُمس الطبيب، وذلك الذي يحيد منه العبد.
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهنـاك تعلـم موقنـاً ما كنت إلا في غرور!!
يقول: إذا أتتك سكرات الموت، وأشرفت على الهلاك، سوف تعلم أنك كنت تضحك على نفسك، وأنك كنت تعبث كما يعبث الصبيان، قال: أعد، ثلاثاً، فردد أبو العتاهية:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهنـاك تعلـم موقنـاً ما كنت إلا في غرور!!
فبكى هارون حتى وقع على الأرض، ثم أمر بالستور فهتكت، والأبواب فأغلقت، ونزل في قصره القديم، فلم يمض عليه شهر واحد، حتى أصبح في عداد الموتى.
هذا هو هارون الذي كان يصلي في اليوم مائة ركعة نافلة، ويغزو سنة، ويحج سنة.
يقول المتنبي الشاعر:
أبَني أبِينَا نَحْنُ أهْلُ مَنَازِلٍ أبَداً غُرابُ البَينِ فيها يَنْعَقُ
نَبْكي على الدّنْيا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ جَمَعَتْهُمُ الدّنْيا فَلَمْ يَتَفَرّقُوا
أينَ الأكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى كَنَزُوا الكُنُوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا
مِن كُلِّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بِجَيشِهِ حتى ثَوَى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيّقُ
خُرْسٌ إذا نُودوا كأنْ لم يَعْلَمُوا أنّ الكَلامَ لَهُمْ حَلالٌ مُطلَقُ
فَالمَوْتُ آتٍ وَالنُّفُوسُ نَفائِسٌ وَالمُسْتَعِزُّ بِمَا لَدَيْهِ الأحْمَقُ
فهذا عبد الملك بن مروان حكم العالم الإسلامي، طوله وعرضه، شرقه وغربه، ولكنه لما أتته سكرات الموت، نزل من على سرور الملك، لأن سرير الملك لرجل آخر غيره، لأنه لا يمكن أن يستمر عليه، فالله – تبارك وتعالى – وحده، هو صاحب الملك والملكوت، وهو وحده الذي يعزل ويولي، ويملك ويخلع، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت.
نزل، وسمع غسالاً بجانب القصر في سعادة، وفي هناء، ما عنده ملك، ولا مشاغل، ولا مشاكل، وكان هذا الغسال ينشد نشيداً، وهو يغسل الثياب، فقال عبد الملك: يا ليتني كنت غسالاً، يا ليتني ما عرفت الخلافة، يا ليتني ما توليت الملك، ثم مات. قال سعيد بن المسيب، معلقاً على هذه الكلمات: الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا في سكرات الموت، ولا نفر إليهم.
وقد يظن البعض أن السعادة في نيل الشهادات العالية والمراكز المرموقة:
فنقول أيضاً: هذا ليس سبيلاً للسعادة.
تقول إحدى الطبيبات والتي لم تذق طعم السعادة: "السابعة من صباح كل يوم يستفزني، يستمطر أدمعي... لماذا؟ اركب خلف السـائق متوجهة إلى عيادتي – بل مدفني، بل زنزانتي- وعندما أصل إلى مكتبي – بل إلى مثواي- أجد النساء بأطفالهم ينتظرنني، وينظرن إلى معطفي الأبيض وكأنه بردة حريرية فارسية، هذا في نظر الناس وهو في نظري لباس حداد لي.
ثم تواصل قولها: أدخل عيادتي أتقلد سماعتي، وكأنها حبل مشنقة يلتف حول عنقي، والعقد الثالث يستعد الآن لإكمال التفافهُ حول عنقي- أي بلغت الثلاثين- والتشاؤم ينتابني على المستقبل.
وأخيراً تصرخ وتقول: خذوا شهادتي، ومعاطفي، وكل مراجِعي، وجالب السعادة الزائفة – المال والمركز- وأَسْمِعُوني كلمة "ماما"، ثم قالت هذه الأبيات:
لقد كنت أرجو أن يقال طبيبة فقد قيـل فما نالني من مقـالها
فقل للتي كانت ترى فيَّ قدوةً هي اليوم بين الناس يُرثَى لحالها
وكل مُناها بعضَ طفلٍ تضمّهُ فهل ممكن أن تشتريـه بمـالها
(التوقيع دكتورة س. ع. ع. الرياض، نقلا من كتاب السعادة بين الوهم والحقيقة صـ24ـ 26)
تنبيه:
هذا ليس تقليل من شأن مهنة الطب، أو عدم المسارعة إليها وإلى غيرها من الوظائف المهمة، ولكن المقصد أن طلب أي مهنة والاشتغال بها لا يكون بعيداً عن طاعة الله.

والبعض يظن أن السعادة في شرب الخمور، وسماع المعازف، واتخاذ الخليلات:
لا. والله، لم تكن السعادة مطلقاً في ارتكاب الآثام، وفعل المعاصي وما يغضب رب العالمين.

بل قد يظن البعض أن السعادة تكون في دول أوربا، حيث التقدم ومقومات الحياة، لكن الواقع والإحصائيات تقول بخلاف ذلك، فهناك أكبر نسبة للانتحار، والاغتصاب، والطلاق، والجرائم والسعار الجنسي، والشذوذ، والأمراض الجنسية الفتاكة، والإغراق في شرب الخمور وسائر المخدرات، والاكتئاب والاضطرابات النفسية.

إذاً السعادة ليست في المال، ولا في الشهرة، ولا في الشهادة، ولا في المنصب، ولا في الجاه، ويـبـقـى الســؤال: أيـن نـجـد الـسـعــادة ؟! فأين السعادة؟ أين توجد لمن يبحث عنها؟ أين مكانها؟ من الذي أتى بالسعادة وأدخلها القلوب؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام.
السعادة الإيمان والعمل الصالح، وجدها يونس بن متى، وهو في ظلمات ثلاث: في بطن الحوت، في ظلمة اليم، في ظلمةالليل، حين انقطعت به الحبال، إلا حبل الله، وتمزقت كل الأسباب، إلا سبب الله، فهتف من بطن الحوت، بلسان ضارع حزين: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين [الأنبياء7]. فوجد السعادة.
ووجدها موسى عليه السلام، وهو بين ركام الأمواج في البحر، وهو يستعذب العذاب في سبيل الواحد الأحد: كلا إن معي ربي سيهدين [الشعراء:62].
ووجدها محمد عليه الصلاة والسلام، وهو يطوّق في الغار بسيوف الكفر، ويرى الموت رأي العين، ثم يلتفت إلى أبي بكر ويقول مطمئناً: لا تحزن إن الله معنا [التوبة:40].
سَهِرَتْ أَعينٌ، وَنَامَتْ عُيونُ في أمورٍ تكونُ أو لاتكونُ
فَادْرَأ الهمَّ مَا استَطعْتَ عَنْ النَّفْـ ــس فحملا نكَ الهمومَ جنونُ
إن رَّباَّ كفاكَ بالأمسِ ما كا نَ سَيَكْفِيكَ في غَدٍ مَا يَكُونُ
ووجد السعادة يوسف عليه السلام، وهو يسجن سبع سنوات فيسألونه عن تفسير الرؤى، فيتركها، ثم يبدأ بالدعوة فيقول: يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار [يوسف:39]. فيعلن الوحدانية، فيجد السعادة.
ووجدها أحمد بن حنبل في الزنزانة، وهو يجلد جلداً، لو جلده الجمل لمات، كما قال جلاده، ومع ذلك يصر على مبدأ أهل السنة والجماعة، فيجد السعادة.
أما الذي جلده، وهو المعتصم، فلما حضرته سكرات الموت، رفع بساطه، ومرغ وجهه في التراب، وبكى وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه. ثم يقول: لو علمت أني أموت شاباً، ما فعلت الذي فعلت من الذنوب.
ووجدها ابن تيمية، وهو يكبّل بالحديد، ويغلق عليه السجان الباب، داخل غرفة ضيقة مظلمة، فيقول ابن تيمية: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب [الحديد:13].
ويلتفت ابن تيمية إلى الذين هم خارج السجن، فيرسل لهم رسالة، وينشد لهم نشيداً، وينقل لهم نبأ وخبراً من السجن فيقول: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن سرت فهي معي. . أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة!!.
ووجدها إبراهيم بن أدهم، وهو ينام في طرف السكك في بغداد، لا يجد كسرة الخبز ويقول: والذي لا إله إلا هو، إنا في عيش، لو علم به الملوك لجالدونا عليه بالسيوف!.
هذه هي السعادة، وهذه أحوال السعداء، ولا يكون ذلك إلا في الإيمان والعمل الصالح، الذي بعث به الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن سكن القصر بلا إيمان، كتب الله عليه: فإن له معيشة ضنكاً [طه 4]. ومن جمع المال بلا إيمان، ختم الله على قلبه: فإن له معيشة ضنكا. ومن جمع الدنيا، وتقلد المنصب بلا إيمان، جعل الله خاتمته فإن له معيشة ضنكا.
فيا طلاب السعادة، ويا عشاق السعادة، ويا أيها الباحثون عن الخلود في الآخرة، في جنات ونهر، لا يكون ذلك إلا من طريق محمد عليه الصلاة والسلام. عباد الله: إن الإسلام دين السعادة والطمأنينة؛ فالإسلام حينما أمرنا بفعل الأوامر والطاعات؛ ونهانا عن النواهي والمحرمات؛ فلا شك أن لذلك معنىً ومغزىً هاماً وحكمة جليلة ألا وهي سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.

وقبل أن نطوف معكم في حديثنا عن السعادة أقف مع تعريفها كما قال العلماء بأنها: شعور داخلي يحسه الإنسان بين جوانبه يتمثل في سكينة النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر، وراحة الضمير والبال نتيجة لاستقامة السلوك الظاهر والباطن المدفوع بقوة الإيمان.
والهدف من بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – هو إخراج الناس من الشقاوة إلى السعادة؛ ومن الضلالة إلى الهدي؛ ومن الجهالة إلى العلم؛ ومن الظلمات إلى النور ؛ فالقرآن نزل لسعادة البشرية لا لشقائها؛ وحينما ننظر إلى سورة طه نجد أنها تكلمت في مطلعها وثناياه وخاتمتها عن الشقاوة التي هي ضد السعادة؛ ففي مطلعها قال تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ( طه: 1 ؛ 2 )؛ وفي ثناياها بيَّن الله أن سبب طرد آدم من الجنة هو اتباع إبليس الداعي إلى العصيان والشقاوة . { فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى }(طه: 117) ؛ وفي ختام السورة يبين الله أن طريق السعادة في الدنيا والآخرة هو اتباع هدى الله – عز وجل – وأن شقاوة الناس في الإعراض عنه سبحانه وتعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى }( طه: 123 – 127)
أيها المسلمون: إن لفظ السعادة بمشتقاته لم يرد في القرآن سوى في سورة هود – عليه السلام – قال تعالى:{ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }.( هود: 105- 108). عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، "فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ", وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ, قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْرِصُ أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ, وَيُتَابِعُوهُ عَلَى الْهُدَى, فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لا يُؤْمِنُ إِلا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الذِّكْرِ الأَوَّلِ, وَلا يَضِلُّ إِلا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ الشَّقَاءِ فِي الذِّكْرِ الأَوَّلِ, ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَنْ لا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"[الكهف آية 6] , يَقُولُ: "إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ"[الشعراء آية 4]. ( الطبراني بسند ضعيف)
والسعادة في المنظور الإسلامي تشمل مرحلتين:
1- السعادة الدنيوية: فقد شرع الإسلام من الأحكام ووضح من الضوابط ما يكفل للإنسان سعادته الدنيوية في حياته الأولى، إلا أنه يؤكد بأن الحياة الدنيا ليست سوي سبيل إلى الآخرة، وأن الحياة الحقيقية التي يجب أن يسعى لها الإنسان هي حياة الآخرة؛ قال الله تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [النحل: 97]. فقد بينت الآية الكريمة أن من لوازم السعادة في الدنيا: الإيمان والعمل الصالح.
2- السعادة الأخروية: وهذه هي السعادة الدائمة الخالدة، وهي مرتبة على صلاح المرء في حياته الدنيا. هذا هو طريق السعادة يا شباب! هذا هو طريق السعادة يا أصحاب الأموال والمناصب! لن تشعروا بالسعادة في الدنيا والآخرة إلا إذا سلكتم هذا الدرب: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32]، لتسعد بعد ذلك إن سلكت هذا الدرب سعادة حقيقية أبدية لا تشقى بعدها أبداً في جنات النعيم، فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55]، وقال تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:105-108] هذه هي السعادة، إنها دار السعادة، ولن تدخل دار السعادة إلا إذا دخلتها في الدنيا، فحققت الإيمان، وسرت على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأعلى مراتب السعادة الأخروية الجنة ورؤية الله تعالى. قال تعالى:{ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }.(هود: 108). وقال: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (يونس: 26). فالحسنى : الجنة. والزيادة: هي أن تتمتع بالنظر إلى وجه الله في جنات النعيم
أحبتي في الله: إن نعيم الجنة الحقيقي ليس في لبنها، ولا خمرها، ولا ذهبها، ولا قصورها، ولا حريرها، ولا حورها، وإنما نعيم الجنة الحقيقي في رؤية وجه ربها، قال جل جلاله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. [القيامة:22-23] . عن أبي سعيد قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أهلَ الجنةِ فيقولونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا ".(متفق عليه).

فبينما أهل الجنة في نعيمهم إذ بالمنادي ينادي : يا أهل الجنة إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيّ على زيارته،
فيقولون: سمعًا وطاعة،
وينهضون إلى الزيارة مبادرين، في يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزه عن التمثيل والتشبيه، كما ترى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر، كما تواتر النقل فيه عن الصادق المصدوق، وذلك موجود في الصحاح، والسنن المسانيد، ومن رواية جرير، وصهيب، وأنس، وأبي هريرة، وأبي موسى، وأبي سعيد، فاستمع يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنة : إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيى على زيارته، فيقولون سمعاً وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جُعل لهم موعداّ، وجمعوا هناك، فلم يغادر الداعي منهم أحداً، أمر الرب سبحانه وتعالى بكرسيه فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم - وحاشاهم أن يكون بينهم دنئ - على كثبان المسك، ما يرون أصحاب الكراسي فوقهم العطايا، حتى إذا استقرت بهم مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي: يا أهل الجنة : سلام عليكم. فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة :
فيكون أول ما يسمعون من تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني، فهذا يوم المزيد. فيجتمعون على كلمة واحدة:
أن قد رضينا، فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة :إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد، فسلوني فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه. فيكشف الرب جل جلاله الحجب، ويتجلا لهم فيغشاهم من نوره ما لو لا أن الله سبحانه وتعالى قضى ألا يحترقوا لاحترقوا. ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه تعالى محاضرة، حتى إنه يقول: يا فلان، أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه. فيا لذت الأسماع بتلك المحاضرة. ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة. ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة.
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( القيامة:22-25) .

ولله أبصارٌ تـرى اللهَ جهرة ً ‍ *** فـلا الضَّيْمُ يَغشاها ولا هي تَسـأَََمُ
فيا نظرة ًأهدت إلى الوجه نضرة ً ‍ *** أَمِنْ بعدها يَسْلُو المحبُّ المتَيَّمُ
ولله كَمْ مِن خيرة ٍإنْ تبَسّمتْ *** أضاءَ لهـا نورٌ من الفجر ِأعظمُ
فيا لذةََ الأبصار ِإنْ هي أقْـبَلتْ *** ويا لـذَّةَ الأسماع ِحـينَ تَـكَلَّمُ

وفي الجنة أيها الأحبة لا يوجد إنسان إلا ويكون جميلَ الصورة فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ‏أَوَّلُ ‏ ‏زُمْرَةٍ ‏ ‏يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً لا يَبُولُونَ وَلا ‏ ‏يَتَغَوَّطُونَ ‏ ‏وَلا يَتْفُلُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ، أَمْشَاطُهُمْ الذَّهَبُ ‏وَرَشَحُهُمْ ‏ ‏الْمِسْكُ ‏ ‏وَمَجَامِرُهُمْ ‏ ‏الأَلُوَّةُ ‏ ‏(وهو ‏‏عُودُ الطِّيبِ) أَزْوَاجُهُمْ الْحُورُ الْعِينُ عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ ‏ آدم ‏ ‏سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ " رواه البخاري ومسلم.

السعادة والنعيم مطلب كل إنسان .. كلنا يحب أن يكون له قصر رضي .. وطعام شهي .. ومركب وطي .. و سيارة فارهة .. وملابس فاخرة .. وزوجة حسناء جميلة .هذا هو نعيم الدنيا الذي تعلقت به قلوبنا .. ولكن .. (وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)
نعيم الدنيا نراه بأعيننا ، ونحسُه بجوارحنا .. لكننا نؤمن أن نعيماً آخر ، هو أعظمُ وأبقى من هذا النعيم .. (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) .
نعم .. إنه نعيم الآخرة ، فهل رأينا ذلك النعيم؟ هل دخلنا الجنة؟
لا .. لكننا اليوم على موعد مع رحلة إيمانية ، نطوف من خلالها في أرجاء الجنة عبر الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، لنقف على شيء من ذلك النعيم ، ونقارنه بنعيم الدنيا .
ولننتقل إلى المشهد الأول ، عند أبواب الجنة .
الجنة تُزلف للمتقين وتُقرَّب إكراماً لهم ، وهم يُزَفّون إليها وفوداً مكرمين {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ }الزمر73
أبواب في غاية الوُسع والكُبر .. قال فيها صلى الله عليه وسلم : ((إن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة , وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام)).
فياله من مشهد عظيم ، أبواب الجنة الثمانية تفتح .. فأين أنت يا ترى؟ .. ويا ليت شعري من أي باب تدخل؟ .. فإذا دخلت يا فرحة قلبِك والملائكة تناديك { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ }.

تدخل الجنة ، وتمشي بقدميك على أرضِها ، فإذا بأرضِها ليست كأرضِنا
تمشي على تراب هو الزعفران .. تمشي على حصباء هي اللؤلؤ والياقوت .
أرض لها ذهب والمسك طينتها .. والزعفران حشيش نابت فيها

تدخل في الجنة ، وإذا هواؤها العليل ، وإذا ريحها الطيب ، روح وريحان ، وإذا قصورها وبساتينها أمامك .. فهل تعرف قصرك؟ هل يحتاج أهل الجنة إلى من يدلهم على بيوتهم ؟ قال تعالى
{ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ{4} سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ{5} وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ }
قال جمهور المفسرين : يعرفون بيوتهم في الجنة كما تعرفون بيوتكم في الدنيا .

ثم ما بناء هذه القصور؟ أهي كبيوتِنا مبنيةٌ من الطوب والإسمنت والرخام؟ لا .. بل هي كما قال صلى الله عليه وسلم : لبنة من ذهب ، ولبنة من فضة ، وملاطها (أي الطين الذي يوضع بين اللبِنات) من المسك الأذفر (طيب الرائحة) ..
وبناء آخر : لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً ..
وبناء آخر : غُرف يُرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها .. نسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من أهلها .

أما طعام أهل الجنة وشرابُهم فهو ألذ وأشهى من طعامِنا وشرابِنا ،
استمع إلى من صنع طعام الجنة وهو يصف هذا الطعام (وفاكهةٍ مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون)
فاكهة الجنة ، ألين من الزبد ، أحلى من العسل ، أبيض من اللبن.
وإذا اشتهيت الفاكهة في الجنة ، فهل تظن أنك تتكلف صعود النخيل والأشجار ، لكي تجني التمر والثمار؟ لا والله .. بل هي كما قال الله (قطوفها دانية) ، {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً }الإنسان14 يأكل منها القائم والقاعد والمضطجع.

يرى أحدهم الطير في السماء فيشتهيه ، فإذا به يسقط بين يديه ناضجاً شهياً (ولحم طير مما يشتهون) .
وأما شرابهم ، فحدث عن الكافور والسلسبيل ، والتسنيم والزنجبيل .. عينان تجريان .. وعينان نضاختان .

ويصف الله أنهار الجنة وهي تجري بالأشربة اللذيذة فيقول : { فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى }محمد15

نفى الله عن أشربةِ الجنةِ كل آفةٍ تَعرض لها في الدنيا ، فالماء غير آسن ، لا يتغير بطول المكث .. واللبن لا يفسد أو يحمض .. والخمر لا يُصدّع الرؤوس ، ولا يفسد العقول .. والعسل مصفى من الشوائب والأكدار .

وإذا أكل أهل الجنة وشربوا ، أين يذهب طعامهم وشرابهم؟ لا تظن أن مآله يكون كطعامِنا وشرابِنا .. بل هو مسك يخرج رشحاً وعرقاً من أجسادهم ، وجشاءً من أفواههم .

أما ثياب أهل الجنة ، فليست كثيابنا ، ولو صُنعت من أفخر أنواع الأقمشة .. قال الله {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً }الإنسان21
وصف الله ثياب أهل الجنة بحسن ألوانها فقال : خضر .. ووصفها بطيب ملمسها فقال ثياب سندس خضر وإستبرق) والسندس ما رق من الحرير ، والإستبرق ما غلظ منه.
ومع هذه الثياب الجميلة ، يُحلّون بالحُلي والأساور (يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ، ولباسهم فيها حرير)

أيها الأحبة : هل في الجنة مراكب؟ نعم ، نحن في هذا الزمان نُحب أن نركب السيارات الفاخرة .. ترى الواحد منا يركب الدين تلو الدين حتى يشتري سيارة .. ثُم تُراه في الغد يسوق السيارة إلى الورش الصناعية .. أو تسوقه حمانا الله وإياكم إلى الحوادث والأخطار .
نعيم الدنيا مشوب بالشقاء ، ليس له صفاء ، ليس له بقاء .. أما نعيم الآخرة فاستمع إلى هذا الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هل في الجنة من خيل؟
فقال صلى الله عليه وسلم : إِنِ اللَّهُ أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ، فَلَا تَشَاءُ أَنْ تُحْمَلَ فِيهَا عَلَى فَرَسٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ يَطِيرُ بِكَ فِي الجَنَّةِ حَيْثُ شِئْتَ إِلَّا فَعَلَتْ .. ثم جاء آخر فقال : يا رسول الله ، هل في الجنة من إبل؟ ، فأجابه صلى الله عليه وسلم بجواب يعم جميع المركوبات فقال : إن يدخلْك الله الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك . رواه الترمذي وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب .

وأما سماعهم وطربهم (فهم في روضة يحبرون) .. ليس كغناء الدنيا ومعازفها المحرمة ، فمن سماعهم غناء الحور العين ، يغنين بأجمل الأصوات .. ومن سماعهم أنّ الريح إذا هبّت في الجنة هزت غصون الأشجار ، وحرّكت أوراقها فتُسمع لها أصواتٌ لم تَسمعِ الخلائقُ مثلَها .. فإياك أن تُحرم هذا السماع بسماع الحرام

وأما نساء أهل الجنة فلسن كنساء الدنيا .. ألم تسمع قول الله تعالى (ولهم فيها أزواج مطهرة) ، مطهرة من الحيض والنفاس ، ومن البول والغائط والمخاط والبصاق وسائر الأنجاس .
فيا من انتهك حرمات رب العالمين .. إياك أن تبيع الحور العين ببنات الطين .. غض بصرك عن السفور ، واحفظ فرجك عن الفجور ، وقدّم العِفة مهراً للحور .
قال سبحانه : (وزوّجناهم بحور عين) الحوراء : الشابةُ الجميلةُ البيضاء ، شديدةُ سوادِ العين ، شديدةُ بياضها .. والعيناء :واسعة العينين .
وقال تعالى : (كأمثال اللؤلؤ المكنون) وقال (كأنهن الياقوت والمرجان) كأن الحورية الياقوت في صفائه ، والمرجان في حسن بياضه .
وقال سبحانه (فيهن خيرات حسان) خيّرات الأخلاق ، حِسان الوُجوه ، جمع الله لهن الجمال الحِسّي والجمال المعنوي .

أيها الأحبة .. ما رأيكم لو أن امرأة واحدة من الحور العين أطلت علينا في سمائنا ، ماذا يحدث في هذا الكون؟
استمع إلى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وهو يصف هذا المشهد ويقول : لو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً (أي ما بين المشرق والمغرب يعج بريحها الطيب ) ، قال : ولأضاءت ما بينهما (ليس لأنوار الأرض مكان ، ليس للشمس مكان عند نور الحورية) ، قال : ولنصيفها على رأسها (أي خمارها) خير من الدنيا وما فيها ) رواه البخاري عن أنس
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين ، على كلِ واحدةٍ سبعون حُلة ، يرى مُخ ساقها من وراء اللحم . أخرجه أحمد

لو ضحكت في وجه زوجها لأضاءت الجنة من نور مبسمها .. ولو بزقت في ماء البحر لجعلته عذباً زلالاً من حلاوة لعابها .. يَنظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة .
فضلا عن السعادة الكُبرى عندمـا تأخذ كتابك باليمين؛ وتصيح أمام العالمين : {هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِـتابِـيـهْ * إنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابـيـه}.
ومن صور السعادة الأخروية : السعادة بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - . فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ؛ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ".( البخاري )
أحبتي في الله: إن قلة السعادة وذهابها إلى غير أهلها وانتشار الشقاء بيننا من علامات الساعة؛ فعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ ابْنُ لُكَعٍ". ( الترمذي وحسنه ). ومعنى " لكع بن لكع " : أي لئيم بن لئيم ، أي رديء النسب ، دنيء الحسب . وقيل أراد به من لا يعرف له أصل ، ولا يحمد له خلق ، قاله القاري . وقال في النهاية : اللكع عند العرب العبد ثم استعمل في الحمق والذم، وقيل الوسخ ."( تحفة الأحوذي وفيض القدير ).

حقيقة السعادة
عباد الله: الكل يبحث عن السعادة؛ والكل يتمني أن يكون سعيدا؛ ويظن البعض أن السعادة في مال أو منصب أو جاه أو سلطان أو شهرة أو غير ذلك من أعراض الدنيا الزائلة!! ولكن السعادة الحقيقة ليست مادية وإنما هي معنوية روحية؛ فحينما تغذى الجانب الروحي تصير سعيدا مطمئنا قرير العين خالي البال؛ أما إذا أهملت الجانب الروحي وغذيت الجانب المادي ( الجسد ) فقط ؛ فأنت في هذه الحال كالبهائم – أعزكم الله- قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} ( محمد: 12)؛ يقول أحدهم :- لو كانت السعادة تكمن في ملذات الجسد وحدها , لكان الثور الذي يعيش في زريبة واحدة مع بقرة سمينة أكثر سعادة من البشرية جمعاء .يقول البستي:
يا خادمَ الجسمِ كمْ تَشقَى بِخِدْمَتِهِ ........... أتَطلُبُ الرِّبْـحَ فيما فيه خُسـرانُ
أقْبِلْ على النفسِ واسْتكمِلْ فَضائِلَها ......... فَأَنْتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسـانُ

ويقول الدكتور أنس أحمد كرزون:" فمن اجتهد في تزكية نفسه وترقيتها، حتى يبلغ درجة الإحسان، فقد فاز بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة، وتلك هي السعادة الحقة التي تختلف اختلافاً كبيراً عن السعادة المتوهمة، التي يسعى إليها أهل الدنيا، يشقون ليحظوا بها، فلا ينالون إلا مزيداً من الشقاء والتعاسة." ( منهج الإسلام في تزكية النفس )

ونقول لكل الشاردين، والمعرضين، والمسرفين، والمنحرفين عن الطريق المستقيم، وهدى رب العالمين: إن السعادة ليست في الشهوات الدنيوية، واللذات الدنية، وإنما السعادة كل السعادة في :
1ـ الـطــاعـة والـعـبــادة:
فالعين ما خلقت إلا للإبصار، والأذن للسماع، واللسان للتذوق والتحدث، فكذلك القلب ما خلق إلا لمحبة الله وعبادته وتوحيده، فلا يسعد إلا بذلك، وإذا تعلق القلب بغير الله فإنه يكون أشقى من العين إذا فقدت نورها، ومن الأذن إذا فقدت سمعها، ويظل هذا القلب في تقلُّب وشقاء، وهم وغم وحزن، فلا سعادة ولا حياة ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا في طاعته والقرب منه والأنس به، وعدم الالتفات إلى غيره، ففي القلب اضطراب وقلق وفاقة، لا يسكن ولا يطمئن إلا بالرجوع والإنابة إليه سبحانه، فالقلب يطمئن بالله، وإليه يسكن وبه يفرح، وعليه يتوكل، وإياه يرجو ومنه يخاف، وبذكره يطمئن، وبغيره يستوحش وبه يأنس.
فالقلب السليم دائماً يحن ويشتاق إلى الطاعة أكثر من حنين الجائع إلى الطعام والشراب، ومن المعلوم أن من أحبَّ الله أحبَّ خدمته، وصارت العبادة والطاعة قوت قلبه، وغذاء نفسه، وسر سعادته، وقد كان النبي يُصلِّي حتى تتورَّم قدماه، وهو الذي غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر.
وقد قيل: وكن لربك ذا حُبًّ لتخدمه إن المحبين للأحباب خُدَّام
وقال ابن المبارك:
تعصى الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
ولو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحبَّ لمن يحب مطيع
وكانت إحدى الصالحات تنصح بنيها فتقول لهم:
تعوَّدوا حب الله وطاعته، فإن المتقين ألفوا الطاعة فاستوحشت جوارحهم من غيرها، فإن عرض لهم الملعون بمعصية، مرَّت المعصية بهم محتشمة وهم لها منكرون.

وكما يجد العبد السعادة مع الطاعة والعبادة، فإنه كذلك يجد ضنك المعصية والشقاء في الإعراض عنه، فكم عصى الإنسانُ اللهَ فوجد جزاء ذلك من ضيق في الصدر، وسواد في الوجه، وشقاء في القلب، وانشغال البال، واضطراب في الفعال، وسر المسألة أن العبد إذا أطاع الله قرَّبه الله وأدناه، فيأنس بالله ويسعد به، ويُسر بخدمته، فيُقْبِل على النوافل فضلاً عن فعل الفرائض؛ فيحبه الله،
كما جاء في الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري:
"ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبُّه..." الحديـث
وإذا أحبه الله سخَّر له الكون كله لخدمته، كما قـال يحيى بن معـاذ ـ رحمه الله ـ:
"من سرّ بخدمة الله سرت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرَّت عينه بالله قرَّت عين كل أحد بالنظر إليه.أهــــ فهذه سعادة ما بعدها سعادة، أما سعادة الآخرة فيكفي منها القرب منه يوم القيامة ، فلا ينال التقرب من الله في الآخرة، ويسعد بجواره في الجنَّة إلا مَن اجتهد في التقرُّب إليه في الدنيا؛ لذا تجد أهل الفردوس هم أسعد الناس؛ لأن الفردوس سقفه عرش الرحمن، فحقيقة الأمر وسر المسألة أن سعادة العباد في الدنيا والآخرة لا تكون إلا في قربهم منه وطاعته .
ومن الأدلة القرآنية على أن السعادة في طاعة رب البرية:
قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى.قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا.قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}[طه: 123–126]
قال ابن كثير – رحمه الله- في تفسيره: قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:
{فَلا يَضِلُّ}: في الدنيا، { وَلا يَشْقَى}: في الآخرة، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أي: خالف أمري، وما أنزلته على رسلي، أعرض عنه وتناساه، وأخذ من غيره هداه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن نعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء.
وقوله تعالى:
{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13-14].
قال ابن القيم – رحمه الله- كما في "الداء والدواء" صـ147:
"ولا تظن أن قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} مختص بيوم الميعـاد فقط،
بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة، وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة.
وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من برد القلب، وسلامة الصدر، ومعرفة الرب تعالى ومحبته، والعمل على موافقته؟!. أهـ
ـ فهذه والله هي الحياة الطيبة التي يحياها عباد الله الطيبين، الذين استجابوا لرب العالمين، فسعدوا في الدنيا والآخرة، قال تعالى:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[النحل:97]
فهو وعد من الله تعالى لمن عمل صالحاً – وهو العمل التابع لكتاب الله وسُنَّة رسوله – من ذكر أو أنثى بأن يحييه الله تعالى حياة طيبة، وهي الحياة التي تثلج الصدور بلذة اليقين، وحلاوة الإيمان، والرغبة في الموعود، والرضا بالقضاء، وعتق الروح من العبودية لغير الله، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وذلك في الدنيا حتى ولو كان قليل مال وجاه وشهرة، وأما بعد الممات وأما في الآخرة: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[النحل: 97- 98].وقوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الأحقاف: 13].
الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا على الإيمان به فلا خوف عليهم بعد موتهم ولا من فزع يوم القيامة وأهواله، ولا هم يحزنون على ما خلفوا ورائهم بعد مماتهم من حظوظ الدنيا، فالسعادة الكبرى -والله- هي عند خروج العبد المؤمن من هذه الدنيا فيُبشر عند موته بروحً وريحان، وربٌ غير غضبان، وعند فوزه بدخول الجنة، فتلك -والله- هي السعادة العظمى التي لا يخالطها كدر.

أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس أن النبي قال: "ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"
ـ أحبتي في الله... لابد أن نعلم جميعاً أن الصلاة من أفضل الطاعات التي يتقرب بها العباد إلى رب الأرض والسماوات، وهى مصدر لسعادتهم، كما قال حبيبهم : "وجعلت قرَّة عيني في الصلاة".
ويقـول الدكتـور أنس أحمد كرزون في كتـابه "منهج الإسـلام في تزكية النـفس"(2/225-227):
إذا أقبل العبد على صلاته بهمَّة ورغبة، واستشعر مناجاته لربه وتضرعه بين يديه، فإن تلك الصلاة تُمِدُّهُ بقوة روحية، وتمنحه طمأنينة النفس وراحتها، وتعينه على مواجهة متاعب الحياة، ولذلك قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]، فالصلاة أكبر عون على مهمات الحياة ومصائبها، يلجأ فيها العبد المكروب إلى ربه فيجد راحته، ويحس بتأييد الله له ورحمته به.
فعن حذيفة قال:" (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى)) (رواه أبو داود وأحمد بسند ضعيف). وفى رواية كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلاةِ "
أقول لكم بصراحة: قد تكون في مشكلة كبيرة جداً، فتترك التدبير لها، وتذهب تتوضَّأ، وتدخل إلى غرفة الضيوف، وتصلي ركعتين، وفي السجود تناجي الله عزَّ وجل، هذا حل لمشكلة، وهذا أعظم حل، وهو هذا حل واقعي، وأنت الآن وكَّلت خالق الكون ليحل لك مشكلتك ؛ وكَّلت الذي بيده كل شيء، وكَّلت السميع، القريب، المجيب، الرحيم، العليم، الحكيم، وكَّلت من ناصية خصومك بيده، ومن ناصية أعدائك بيده، ومن ناصية الأقوياء بيده، ومن ملكوت كل شيءٍ بيده، وكلته، لذلك إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله،
(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى))
أو
(( إذا أحزنه أمرٌ فزع إلى الصلاة))
فإذا كان سيد الخلق وحبيب الحق يلجأ إلى الصلاة إذا اشتد عليه أمر، فنحن من باب أولى.
وعن أنس قال: قال رسول الله : "وجعلت قرَّة عيني في الصلاة"
وكان رسول الله يقول: "قم يا بلال فأرحنا بالصلاة" أي: أقم الصلاة لنستريح بها من مقاساة الشواغل، كما يستريح المتعب إذا وصل إلى مأمنه ومنزله.
وهكذا يشعر المؤمن في صلاته بالسكينة والطمأنينة، ويفزع إليها كما يفزع الخائف إلى ركن ركين، ومكان أمين. ولذلك لم تكن الصلوات مقصورة على الفرائض، وإنما هناك سنن ونوافل متنوعة، تزيد من صلة العبد بربه، وتقر بها عينه، وتأمن بها نفسه، حتى تصبح الصلاة سلاحه الدائم، والمفتاح لِحَل همومه ومشاكله، ولعل من المفيد الإشارة إلى بعض أقوال علماء النفس الغربيين في الاعتراف بأهمية الصلاة لبث الطمأنينة في النفس، وعلاجها من أمراضها.
يقول (الكسيس كارليل):
إن الصلاة تحدث نشاطاً روحياً معيناً، يمكن أن يؤدى إلى الشفاء السريع لبعض الأمراض.
ويقول (توماس هايسلوب): إن الصلاة أهم أداة عرفت حتى الآن؛ لبث الطمأنينة في النفوس، وبث الهدوء في الأعصاب.
أهـ باختصار
الله إنما شرع الشرائع من أجل أن يسعد المؤمنون بها في الدنيا والآخرة، فالله لا يستفيد شيئاً من طاعات العباد، كما أنه لا يتضرر بشيء من معـاصيهم، قال تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلإ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: 37].

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات