من دروس الهجرة النبوية حسن التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب للشيخ / محمد حســـــن داود

للتحميل pdf
للتحميل word

الموضـــــوع : الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )التوبة40). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد



إن من اجل الأحداث التي كان لها أثرها في حياة الأمة الإسلامية " الهجرة النبوية المباركة " ،ذلك أن المسلمين حينما انتقلوا من مكة إلى المدينة أصبح لهم كيان خاص ،فقد انتقلت الدعوة الإسلامية من الدور المحلي إلي الدور العالمي، ومن عهد مكي إلي عهد مدني، ومن ضعف إلي قوة، فلم تكن الهجرة هروبا ولا انكسارا، وإنما كانت انطلاقا وانتصارا، وان المتأمل في أحداث الهجرة النبوية يرى في طياتها دروسا جليلة و معان سديدة هي نبراس يهدينا إلى طريق الحياة الكريمة الرشيدة ومن اجلها " حسن التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب "
فلم تكن الهجرة النبوية معجزة ربانية فحسب ،ولا تخطيطا بشريا فحسب ، بل اجتمع فيها الأمران التأييد الالهى بعنايته ورعايته ،والتخطيط البشرى متمثلا في الأخذ بالأسباب؛ فرغم ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بحماية ربه له إلا أن هذا لم يمنعه من أن يأخذ الاحتياط البشري، ويجيد التخطيط .
فلقد بدت حادثة الهجرة درسا عمليا راقيا في التخطيط الجيد والأخذ بالأسباب، إذ يذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر رضي الله عنه في وقت شديد الحر حين يستريح الناس في بيوتهم حتى لا يراه احد ، فيأمر أبا بكر أن يخرج من عنده حتى لا ينتشر الأمر ويظل طي الكتمان، بل لما حدثه عن الهجرة لم يفصح إلا عن الأمر بالهجرة فقط، وكتم تفاصيل الأمر، فعَنْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ: لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الخُرُوجِ إِلَى المَدِينَةِ، لَمْ يَرُعْنَا إِلَّا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا، فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا جَاءَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ، يَعْنِي عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ، قَالَ: "أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ". قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الصُّحْبَةَ"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِي نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إِحْدَاهُمَا، قَالَ: " قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ " البخاري)، كما جهز النبي صلى الله عليه وسلم الوسائل الضرورية للسفر قبل الموعد بزمن كاف، لتفادي السرعة والارتباك، الذين قد يحصلا لحظة الهجرة وحتى لا يلفت الأمر انتباه قريش، ولذلك جهزت الراحلة قبل الموعد بأربعة أشهر، وبسرية تامة، كما حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على توزيع الأدوار والاختصاصات وتوفير الأدوات، فلم تكن الهجرة عملاً عشوائيًّا، بل كانت خطة محكمة جدًّا وتنظيمًا دقيقًا، وُزِّعَت فيها الاختصاصات وحُدِّدَت المسئوليات فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرافق الرسول صلى الله عليه وسلم ويعاونه ويساعده ،وهذا على رضي الله عنه، ينام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم للتمويه ولرد الأمانات والودائع لأصحابها، و عبد الله بن أبي بكر لنقل أخبار قريش إلى النبي وصاحبه، وهذه أسماء بت أبى بكر تحمل الغذاء إلى النبي وصاحبه، ومن جميل التخطيط، تكليف الراعي عامر بن فهيرة أن يسلك بقطيعه طريق الغار، ليزيل آثار الأقدام المؤدية إليه، ثم يسقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه من لبن غنمه كما استعان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط ألليثي؛ ليدله على أفضل الطرق الخفية إلى المدينة باعتباره خبيرا ماهرا في الطرق ، غير أنه يتحلى بالرجولة ، فلا تضعف نفسه أمام مكافآت ترصدها قريش، 
ومن اجل ما كان في هذا التخطيط البارع، تهيئ التربة الصالحة في المدينة النبوية، لاستقبال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فكان لا بد من اختيار عنصر يجمع بين الكفاءة العلمية، والشجاعة النفسية، والجرأة الدعوية، والفطانة التواصلية، بحيث يستطيع أن يدخل الإسلام إلى كل بيت من بيوت المدينة فاختار النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه المهمة الجريئة مصعب بن عمير، الذي يعتبر نموذجاً للعلم والشجاعة والفطنة وفن التواصل .
لقد بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما في طاقته لإنجاح عملية الهجرة، وهذا البذل و الجد والتخطيط والأخذ بالأسباب هو الإعداد المطلوب من أبناء الأمة جميعهم أفرادا وجماعات ، في كل جوانب الحياة وفي كل ظرف، إذ يجب أن نبذل أقصى وسعنا وأن نبذل كامل جهدنا في التفكير وإعمال الذهن ، وتوطين النفوس على تحمل المشاق ومواجهة الصعاب، فان الأمم لن تتقدم بالكسالى المتواكلين ، بل تتقدم بالسواعد العاملة الآخذة بالأسباب.
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعتمد على الأسباب وترك رب الأسباب، حاشا لله، إنما كان يعلم أن الأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع ولا ترزق ولا تمنع إلا بأمر مسبب الأسباب، قال تعالى (وتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) الفرقان58) كما أن فقدان التوكل ينافي أصل الإيمان، قال تعالى( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ) المائدة23) وقال تعالى( إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ) يونس84) ولذا كانت عناية الله عز وجل تصاحبه صلى الله عليه وسلم وصاحبه في كثير من مواطن الهجرة منها :
ما وقع له عند خروجه من مكة، وقد تآمر به كفار قريش ليقتلوه بضربة رجل واحد ليتفرق دمه في القبائل عملاً بمشورة أبي جهل، قال تعالى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)الأنفال30) إذ يخرج صلى الله عليه وسلم من بيته بحفظ الله تعالى له ، وفي رعايته وعنايته وهو يخترق صفوف المشركين، وفي يده الشريفة حفنة من التراب، فجعل يذره على رؤوسهم، وهو يتلو قول الله تعالى( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)يس 9 )، فقد أعمى الله أبصار قريش عن مقره فلا يرونه مع سعيهم الدائب في البحث عنه، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، فلقد أخرج الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ اقْتُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ أَخْرِجُوهُ. فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسِبُونَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي يَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَقُومُ فَيَفْعَلُونَ بِهِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَرَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللَّهُ مَكْرَهُمْ فَقَالُوا أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي فاقتصوا أَثَرَهُ. فَلِمَا بَلَغُوا الْجَبَلَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ فَصَعِدُوا الْجَبَلَ فَمَرُّوا بِالْغَارِ فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ العنكبوت فَقَالُوا لَو دخل هَا هُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ. فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ"
وفي خبر سراقة بن مالك وهو يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، خير دليل على عناية الله ورعايته لنبيه صلى الله عليه وسلم وصاحبه؛ فحينما اقترب منهما، وهو على فرس له، ورآه أبو بكر وقع في نفسه الخوف والحزن، فالتفت أبو بكر، فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): ( لا تحزن إن الله معنا). وفي ذلك، يقول أبو بكر (رضي الله عنه) ـ كما في صحيح مسلم ـ " فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ وَنَحْنُ فِي جَلَدٍ مِنْ الْأَرْضِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُتِينَا فَقَالَ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَطَمَتْ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا أُرَى فَقَالَ إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ فَادْعُوَا لِي فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ فَدَعَا اللَّهَ فَنَجَا فَرَجَعَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ قَدْ كَفَيْتُكُمْ مَا هَاهُنَا فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ". وتظهر اجل صور العناية الإلهية والرعاية الربانية للنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة؛ عندما استكن النبي وصاحبه الغار واشتد المشركون في طلبهما وتعقّبوا كل مكان يمكن أن يختبئا فيه، ووصلوا إلى باب الغار، اشتد الأمر على أبي بكر، فعاجله النبي صلى الله عليه وسلم بأن عناية الله تحوطنا، قال تعالى (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)التوبة40)، وفي هذا يروي مسلم بسنده عن أنس عن أبي بكر قال " نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ ، فَقَالَ "يَا أَبَا بَكْرٍ : مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا " قال تعالى (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )التوبة40).
ومن ثم فان عناية الله ورعايته تلازم السعي والجد والأخذ بالأسباب فها هو عمر بن الخطاب حين رأى من يترك الأسباب ويجلس في المسجد ينتظر الرزق دون عمل أو سعى قال : لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: " اللهم ارزقني " وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وإن الله تعالى يقول: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ )الجمعة 10).
ومما يجدر بنا التأكيد عليه أن التخطيط الجيد والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله بل إن الأخذ بالأسباب هو عماد التوكل على الله تعالى، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، فلا يُترك الأخذ بالأسباب ولا يُترك التوكل على الله، قال سهل بن عبد الله ألتستري" من طعن في الحركة - (يعني في السعي والكسب والأخذ بالأسباب ) - فقد طعن في السنة ، ومن طعن في التوكل، فقد طعن في الإيمان، فالتوكل حال النبي - صلى الله عليه وسلم - والكسب سنته ، فمن عمل على حاله ،فلا يتركن سنته ،وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصًا ، وَتَرُوحُ بِطَانًا " مستدرك الحاكم) والمتدبر لحال الرسول صلى الله عليه وسلم يجده لم يترك الأخذ بالأسباب في أموره جميعها ففي غزوة بدر جعل الشمس خلفه حتى إن طلعت تتجه إلى عيون المشركين، وفي أحد لبس درعين، فلم يترك سببًا حتى ولو كان هينًا، فوازن صلى الله عليه وسلم بين التوكل على الله وبين الأخذ بالأسباب المتاحة المشروعة، وهذا مما ارشد أصحابه إليه وحثهم عليه للوصول إلى حياة كريمة مشمسة بالخير والتقدم والرقى حتى في اقل الأشياء فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال: قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ (يعنى ناقته ) وكأنه كان يفهم أن الأخذ بالأسباب ينافي التوكل على الله تعالى، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مباشرة الأسباب أمر مطلوب ولا ينافي بحال من الأحوال التوكل على الله تعالى ما صدقت النية في الأخذ بالأسباب) فقال له صلى الله عليه وسلم " اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ " ومن الأدلة على ذلك أيضا أن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يرض أن يقف الإنسان عاجزا لا يدافع عن نفسه ويعتقد أن هذا من تمام الرضا فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قال "انَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ، فَقَالَ: مَا قُلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ "إن الله يلوم على العجز" ( اى أن نستسلم، ألا نعمل، ألا ندبر، ألا نخطط، ألا نتحرك، ألا نتعاون، )كما أن الأخذ بالأسباب من علامات حسن التوكل على الله ، والرضا بقضائه وقدره، فلا يعنى الرضا بالقضاء والقدر أن نضعف أمام المحن، أو نستسلم لليأس، ولكن عين الرضا هو التوكل على الله والأخذ بالأسباب ،فطلب الشفاء صورة من صور التوكل على الله والأخذ بأسباب الدواء وفى نفس الوقت لا يرد من قدر الله شيئا فعَنِ ابْنِ أَبِي خُزَامَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا ، وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا ، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ : " هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ " جامع الترمذي) وإذا تدبرننا القران الكريم و نظرنا في حال الأنبياء لوجدنا أن الأخذ بالأسباب ،من نهجهم وسنتهم فانظر كيف استغل سيدنا يوسف -عليه السلام - سبع الرخاء للسبع الشداد وكيف اخذ بالأسباب وخطط لنجاة البلاد والعباد من مجاعة مهلكة وخطر محدق ولم تكن خطة ليوم أو لشهر أو لسنة بل لخمسة عشر سنة قال تعالى ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾يوسف43-49) وهذا نبي الله موسى عليه السلام أًمر أن يضرب البحر بعصاه حيث اتبعه فرعون وجنوده يريدون إلحاق الضرر به وبمن امن معه وما كانت العصي إلا سبب من أسباب النصر والتأييد الالهى قال تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )الشعراء 52-68) وهذا سيدنا نوح عليه السلام أمره ربه تبارك وتعالى بإعداد سفينة عملاقة لحمل الأحياء من كل زوجين اثنين ومن آمن من البشر ولو شاء الله أن ينجيه لنجاه ولكنه أرشده إلى الأخذ بالأسباب ، قال تعالى (وَأوحِيَ إِلى نوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤمِنَ مِن قَومِكَ إِلّا مَن قَد آمَنَ فَلا تَبتَئِس بِما كانوا يَفعَلونَ * وَاصنَعِ الفُلكَ بِأَعيُنِنا وَوَحيِنا وَلا تُخاطِبني فِي الَّذينَ ظَلَموا إِنَّهُم مُغرَقونَ * وَيَصنَعُ الفُلكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيهِ مَلَأٌ مِن قَومِهِ سَخِروا مِنهُ قالَ إِن تَسخَروا مِنّا فَإِنّا نَسخَرُ مِنكُم كَما تَسخَرونَ * فَسَوفَ تَعلَمونَ مَن يَأتيهِ عَذابٌ يُخزيهِ وَيَحِلُّ عَلَيهِ عَذابٌ مُقيمٌ * حَتّى إِذا جاءَ أَمرُنا وَفارَ التَّنّورُ قُلنَا احمِل فيها مِن كُلٍّ زَوجَينِ اثنَينِ وَأَهلَكَ إِلّا مَن سَبَقَ عَلَيهِ القَولُ وَمَن آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلّا قَليلٌ * وَقالَ اركَبوا فيها بِسمِ اللَّـهِ مَجراها وَمُرساها إِنَّ رَبّي لَغَفورٌ رَحيمٌ ﴾هود 36 – 41) و تدبر ما كان من سيدنا أيوب حينما اخذ بالأسباب فدعي الله سبحانه وتعالى بالشفاء و حينما اخذ بالأسباب مرة ثانية فضرب الأرض برجله امتثالا لأمر الله تعالى فنبع الماء فأغتسل وشرب ، فذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى وجميع ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا ، قال تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ) ص 41-42) وهنا قد يقول العقل - أيعقل أن رجلا يضرب برجله الأرض فينبع الماء من تحت قدمه؟ والأشد انه رجلا مريضا به من الضعف ما به، فكيف ذلك ولو كان صحيحا ما نبع الماء تحت قدمه بضربه الأرض ولو كانوا مائة رجل أو أكثر؟ليس ذلك فحسب بل إن باغتساله عليه السلام بالماء و بشربه منه ذهب المرض ،فهل بالاغتسال تذهب الأمراض ؟ إنها الأسباب فلا ينبغي تركها وان كانت ضعيفة فكل يتوجه بقلبه واثقا في الله وبجوارحه عاملا من اجل بلوغ المراد 
وانظر حال السيدة مريم إذ جاءها المخاض ( طلق الولادة ) ومع ذلك أمرها الله بهز النخلة والأخذ بالأسباب، مع أنك لو جئت بعشرة رجال ذي جلد وقوة ما استطاعوا هزها هزا يتساقط على أثره الرطب؟ ولكنها الأسباب قال تعالى (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا* فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا* وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا )مريم23- 26)
ألــــــم تر أنَّ الله أوحى لمريــــــم *** فهزي إليك الجذع تساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزها ***جنته ولكن كل شيء له سبــــــب
إن الأخذ بالأسباب من صميم التوكل على الله سبحانه وتعالى، وان عناية الله جل وعلا وتوفيقه تصاحب أهل التوكل عليه، وإن التخطيط أساس نجاح أي عمل من الأعمال سواء في حياة الفرد أو المجتمع؛ فالتخطيط سلوك إسلامي قويم، ومنهج رشيد حثَّ الإسلام على ممارسته في جميع شئون الحياة؛ فبه يحقق المسلم فعالية في عمله وإنتاجه، وكفاءة في أدائه، وبه تتقدم الأمم وتزدهر وترقى فكما نوهنا أن الأسر والمجتمعات لا تنهض أبدا على الكسالى والمتواكلين بل تنهض على سواعد العاملين المتوكلين على الله الآخذين بالأسباب، يروى أن شقيقاً البلخي، ذهب في رحلة تجارية، وقبل سفره ودع صديقه إبراهيم بن أدهم حيث يتوقع أن يمكث في رحلته مدة طويلة، ولكن لم يمض إلا أيام قليلة حتى عاد شقيق ورآه إبراهيم في المسجد، فقال له متعجباً: ما الذي عجّل بعودتك؟ قال شقيق: رأيت في سفري عجباً، فعدلت عن الرحلة، قال إبراهيم: خيراً ماذا رأيت؟ قال شقيق: أويت إلى مكان خرب لأستريح فيه، فوجدت به طائراً كسيحاً أعمى، وعجبت وقلت في نفسي: كيف يعيش هذا الطائر في هذا المكان النائي، وهو لا يبصر ولا يتحرك؟ ولم ألبث إلا قليلاً حتى أقبل طائر آخر يحمل له العظام في اليوم مرات حتى يكتفي، فقلت: إن الذي رزق هذا الطائر في هذا المكان قادر على أن يرزقني، وعدت من ساعتي، فقال إبراهيم: عجباً لك يا شقيق، ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى الكسيح الذي يعيش على معونة غيره، ولم ترض أن تكون الطائر الآخر الذي يسعى على نفسه وعلى غيره من العميان والمقعدين؟ أما علمت أن اليد العليا خير من اليد السفلى؟
(رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات