فضل الايام العشر للشيخ محمد عبدالعظيم أبو هند
*فضلُ العشرِ الأُولِ مِن ذي الحجةِ: لقد خصَّ اللهُ أمةَ سيدِ الأنامِ بمِنَحٍ وعطايا، وجعلَ لهم مِن مواسمِ الخيراتِ التي تُضاعَفُ فيها الأجورُ، وتحطُّ فيها الأوزارُ، ما يتنافسُ فيه المتنافسون، ويسعى إلى تحصيلِهِ العقلاءُ الأخيارُ، واللهُ جلَّ وعلا قد امْتنَّ بهذه المنةِ العظيمةِ كي يتعظَ العاقلُ، وينتبهَ الغافلُ قالَ ربُّنَا: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾، وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مَنْ رَحِمَتِهِ، يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ»
إنَّ أعمارَ هذه الأمةِ هي أقصرُ أعمارًا مِن الأممِ السابقةِ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:«أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ، إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ»(الترمذي وحسنه وابن ماجه)، لكنَّ اللهَ بمنهِ وكرمهِ عوضهَا بأنْ جعلَ لها الأعمالَ الصالحةَ التي تُباركُ في عمرِهَا، فكأنَّ مِن عملِهَا رُزقَ عمرًا طويلًا، وفيما يلِي أوجزُ في عجالةٍ أهمَّ ما اشتملتْ عليه العشرُ الأولُ مِن ذي الحجةِ مِن فضائل:
*أنَّ اللهَ أقسمَ بها في كتابهِ العزيزِ:لقد وردتْ الإشارةُ إلى فضلِ هذه الأيامِ العشرِ في بعضِ آياتِ القرآنِ الكريمِ، منها قولُهُ تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾، بل أقسمَ اللهُ بها في سورةِ الفجرِ فقالَ: ﴿وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْر﴾،والقسُم يقتضِي التفخيمَ والتعظيمَ، إذ العظيمُ لا يقسمُ إلَّا على عظيمٍ، وقد اختلفَ أهلُ العلمِ في معرفةِ الليالِي العشرِ فقيلَ: هي العشرُ الأواخرُ مِن رمضانَ، كما في روايةِ ابنِ عباسٍ، وقيلَ العشرُ الأولُ مِن المحرمِ كما في روايةٍ أُخرى عنه، وقيلَ هى العشرُ الأولُ مِن شهرِ ذي الحجةِ، وهو القولُ الراجحُ، إذ نهارُ العشرِ الأوائلِ مِن ذي الحجةِ تفضلُ نهارَ العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ، كما نصَّ عليه الإمامُ الطبري، وأكدَ ذلك ابنُ كثيرٍ في تفسيرهِ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ وابنِ الزبيرِ ومُجاهدٍ وغيرِ واحدٍ مِن السلفِ والخلفِ.
*أنَّها مِن جملةِ الأربعين التي وعدَهَا اللهُ موسَى عليه السلامُ:قالَ تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ يقولُ الإمامُ ابنُ كثيرٍ: (وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ مَا هِيَ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثِينَ هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَالْعَشَرُ عَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَمَسْرُوقٌ وابنُ جريجٍ وروي عن ابنِ عباسٍ وغيرهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ كَمُلَ الْمِيقَاتُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَحَصلَ فِيهِ التَّكْلِيمُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِيهِ أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أ.ه تفسير القرآن العظيم 3/ 421 .
ثم جاءتْ سنةُ الأمينِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتأكيدِ ما سبقَ فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ»
إنَّ هذه العشرَ فرصةٌ لتزكيةِ النفسِ وطهارتِهَا مِن الأمراضِ القلبيةِ المختلفةِ حتى تستقبلَ أنوارَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وفيوضاتِ الإلهِ؛إذ التخليةُ قبلَ التحلِيةِ قالً تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾، فليحذرْ المسلمُ المعاصِي في هذه الأيامِ، فإنَّ إثمَهَا عندَ اللهِ أعظمُ، فإذا كانتْ الحسنةُ تَتَضَاعفُ في أيامِ الخيرِ، فكذا السيئةُ قالَ ربُّنَا: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾، ومن لم يعرفْ شرفَ زمانهِ فسيأتِي عليه وقتٌ يعرفُ ذلك، لكنْ بعدَ فواتِ الأوانِ، وفي وقتٍ لا ينفعُ فيهِ الندمُ ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ .
ومما ينبغِي التنبهُ لهُ شموليةَ العملِ الصالحِ المتقربِ بهِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ لكلِّ ما يُقصدُ بهِ وجه اللهِ وابتغاءَ مرضاتهِ في هذه العشرِ، سواءً أكانَ ذلك قولًا أم فعلًا، وهو ما يُشيرُ إليهِ قولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلم: "العَمَلُ الصَّالِحُ"؛ ففي التعريفِ بألِ الجنسيةِ عموميةٌ وعدمُ تخصيصٍ وفي هذا تربيةٌ على الإكثارِ مِن الأعمالِ الصالحةِ، كما أنَّ فيه بُعدًا تربويًّا لا ينبغِي إغفالُهُ يتمثلُ في أنِّ تعددَ العباداتِ وتنوعَهَا يغذِّي جميعَ جوانبِ النموِّ "الجسميةِ والروحيةِ والعقليةِ ...إلخ" وما يتبعُهَا مِن جوانبَ أُخرى عندَ المسلمِ، ألَا فليحرصْ العاقلُ ألًّا يفوتهُ أيَّ بابٍ مِن أبوابِ الخيرِ وحتى ولو كانً مَن حولَهُ يتغافلُ عنهُ فعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ، كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» (مسلم)
* أنَّ اللهَ أكملَ فيها لنبيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمتهِ دينَهَا، ورضيهُ لعبادهِ:حيثُ أكملَ اللهُ فرائضَهُ، وأمرَهُ ونهيَهُ، وحلالَهُ وحرامَهُ، والأدلةَ التي نصبهَا على جميعِ ما بهِ الحاجةِ إليهِ مِن أمرِ دينِنَا،قالوا: وكان ذلك في يومِ عرفة في العامِ الذي حجَّ فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلم حجةَ الوَدَاعِ، وقالوا: لم ينزلْ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم بعدَ هذه الآيةِ شيءٌ مِن الفرائضِ، ولا تحليلُ شيءٍ ولا تحريمُهُ، وأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلم لم يعشْ بعدَ نزولِ هذه الآيةِ إلَّا إحدَى وثمانين ليلةً عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: «قَالَتِ الْيَهُودُ لِعُمَرَ: لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ يَهُود، نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً﴾ نَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: فَقَدْ عَلِمْتُ الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ، وَالسَّاعَةَ، وَأَيْنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ، نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ، وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ» (متفق عليه) .
* أكثرُ ما يعتقُ اللهُ فيها مِن النارِ حيثُ فيها "يومُ عرفة":الذي هو مِن أعظمِ أيامِ الدنيا؛ لأنَّهُ يومُ مغفرةِ الذنوبِ، والتجاوزِ عنها، ويومُ العتقِ مِن النارِ، ويومُ المُباهاةِ فعن عَائِشَةَ قالتْ قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟» (مسلم) .
ويُستحبُّ في يومِ عرفة حفظُ الجوارحِ مِن المحرماتِ، وعدمُ الاسترسالِ في الموبقاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَةَ فَجَعَلَ الْفَتَى يُلَاحِظُ النِّسَاءَ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ وَجَعَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَهُ بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ وَجَعَلَ الْفَتَى يُلَاحِظُ إِلَيْهِنَّ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ابْنَ أَخِي إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَلِسَانَهُ غُفِرَ لَهُ» (أحمد، وسنده صحيح) .
كما يُستحبُّ الإكثارُ فيهِ مِن الدعاءِ وذكرِ اللهِ تعالى قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (الترمذي، وإسناده حسن) .
*أنَّ فيها "يومَ النحرِ": وهو يومُ العاشرِ مِن ذي الحجةِ، وهو أعظمُ أيامِ الدُنيَا فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» (أبو داود، وأحمد، وإسناده صحيح) .
(2من اعمال عشر ذو الحجة نصرة النبي معاشر المؤمنين والمؤمنات: يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفتح: 8، 9]، يقول ابن تيمية رحمه الله وهو يبين تكريم الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:
« ومن ذلك: أنَّ الله أمر بتعزيره وتوقيره فقال: ﴿ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾، والتعزير: اسم جامع لنصرته وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتَّوقير: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يُعامل من التَّشريف والتَّكريم والتَّعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار ». أهـ.
وقد علَّق الله تعالى الفلاح بنصرة نبيه ورسوله، فقال تعالى: ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157]، يقول ابن عباس رضي الله عنه: « ﴿ وَعَزَّرُوهُ ﴾: حموه ووقَّروه ». ويقول مجاهد: « ﴿ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ﴾؛ عزروه: سدَّدوا أمره، وأعانوا رسوله»، ويقول الطبري: « وقوله: ﴿ نَصَرُوهُ ﴾، يقول: وأعانوه على أعداء الله وأعدائه، بجهادهم ونصب الحرب لهم، ﴿ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ﴾ يعني القرآن والإسلام، ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ يقول: الذين يفعلون هذه الأفعال التي وصف بها -جل ثناؤه- أتباع محمد صلى الله عليه وسلم هم المنجحون المدركون ما طلبوا ورجوا بفعلهم ذلك ». أهـ.
والله سبحانه وتعالى جعل نصرتَه صلى الله عليه وسلم من علامات صدق الإيمان، قال تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8].
عباد الله، وسائل نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم متعددة على جميع المستويات، بداية من الفرد المسلم ومرورًا بالأسرة ووصولًا إلى المجتمع بأسره، فهناك العديد من الأمور التي تٌوضّح دور الأسرة في نصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، منها ما يأتي:
غرس محبّته في نفوس الأبناء وحثّهم على الاقتداء به والعمل بسنته. فنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على المسلمين بالمفهوم العام للنصرة، فالنصرة إحدى مقتضيات اتِّباعه وحبِّه وتقديمه على النَّفس والمال والولد، وعلى كل أحد، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك»، فقال له عمر: فإنَّه الآن والله لأنت أحبَّ إليَّ من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر».
ومن مقتضيات محبته:
نصرتُه عليه الصلاة والسلام، وهو ما كان الصحابة رضي الله عنهم يترجمونه بأفعالهم وأقوالهم في حياته وبعد مماته.
ومن ذلك تربية النشء المسلم على التوحيد والعقيدة الصحيحة كما قال تعالى:(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: " يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم: أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف " رواه الترمذي واحمد.
ومن ذلك عناية الأسرة بالسيرة النّبويّة الشريفة؛ وذلك من خلال قراءتها، وأخذ العبرة والفائدة من مواقفها، والسعي لربط البيت المسلم بها. قال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: «كنا نعلَّمُ مغازي النبي وسراياه كما نعلَّمُ السورةَ من القرآن». والمراد بالمغازي: ما وقع من قصد النبي صلى الله عليه وسلم الكفارَ بنفسه أو بجيشٍ من قبله. "الفتح" (7/ 326).
تعريف الأبناء بشمائل النبي صلى الله عليه وسلم الكريمة وأخلاقه النبيلة، ويمكن أن يستفيد المربي والوالدان من كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم ومختصره للشيخ محمد بن عبد الوهاب، و"الفصول في سيرة الرسول" لابن كثير، و"الرحيق المختوم" للمباركفوري.
حثهم على حفظ الأذكار الشرعية والأوراد النبويّة، فهي حصن وحزر لحفظ الأبناء من الشرور والشياطين.
وحثهم على كتاب الله قراءة وتدبرا وحفظا وبذل الجهد في بثّ روح الحماسة لدى الأبناء لحفظ القرآن الكريم ومراجعته قال عليه الصلاة والسلام: « خيركم من تعلم القرآن وعلمه ».
حثهم على حفظ أحاديث رسول الله مثل: "الأربعين النووية"، و"شرحها" لابن رجب، وكتاب "عمدة الأحكام" و"بلوغ المرام" وكلها في أحاديث الأحكام. ومكافأتهم وتشجيعهم على ذلك.
قال ابراهيم بن أدهم: « قال لي أبي: يا بني، اطلبِ الحديث، فكلما سمعت حديثًا وحفظته فلك درهم. فطلبت الحديث على هذا ».
وفي سير العلماء والصالحين عبرة؛ في "صحيح البخاري" في باب: تعليم الصبيان القرآن عَنْ سعيد بن جبير، قَالَ: إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ المُفَصَّلَ هُوَ المُحْكَمُ، قَالَ: وَقَالَ ابن عباس: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَقَدْ قَرَأْتُ المُحْكَمَ، يقول الشافعي رحمه الله: « حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر».
تعويد الأبناء على استخدام الأمثال والحِكَم النبويّة، في الحديث، كقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا »، و« لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين »، « يسروا ولا تعسروا ».
تعليم الصغير آداب الأكل والشراب وغيرها من الآداب الشرعية؛ فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا غلام، سمِّ اللهَ، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك))، فما زالت تلك طُعمتي بعد؛ متفق عليه، ففي هذا الحديث الشريف مشروعية تربية الصغار على الآداب الشرعية، وأن الصغير يتأثر بذلك، وينطبع هذا في ذهنه، وأنه يسهُلُ عليه تعويد نفسه على الخير إذا عُوِّد عليه من الصغر، فهذا راوي الحديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما يقول بعد أن علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأدب: فما زالت تلك طُعْمتي بعد.
ومن الوسائل العملية حثّ الأبناء على كفالة اليتيم ومساعدة الفقير والمسكين؛ عملًا بالأحاديث التي تحثّ على ذلك واقتداءً برسول الله.
حسن العشرة بين الزوجين وبر الوالدين والمعاملة الحسنة مع أهل البيت وحسن الجوار اقتداء في ذلك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
الحرص على عمران البيوت بالطاعات والذكر والصلوات وتنقيتها من المنكرات والمخالفات كالمعازف والأغاني وشرب الشيشة والدخان محرم وهي أمام الأبناء أشنع.
حسن معاملة الخدم والعمال والأجراء والرفق بهم واعانتهم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
تربية البنات على الحياء والعفاف والتزام الحجاب والستر والجلباب ومجانبة التبرج والسفور، فهذا يحفظ للمرأة والفتاة قدرها وكرامتها الذي شرعه الله لها وسنه رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتعميق ذلك بالاقتداء بزوجات النبي أمهات المؤمنين والصحابيات في عبادتهن وأخلاقهن.
الاستفادة من البرامج والوسائط الحديثة المرئية والمسموعة المتضمنة أحاديث النبي وسنته بما يناسب الأطفال والفتيان والفتيات بشرط معرفة مصدرها وسلامتها وخلوها من المحاذير الشرعية.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعنا بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة...
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وبعد فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وعلموا أولادكم محبة رسول الله والاهتداء بهديه وكثرة الصلاة والسلام عليه ففيها الأجور الوفيرة، قال بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم: « من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا »؛ رواه مسلم.
اللهم احينا على سنته، وأمتنا على ملته، واحشرنا في زمرته وتحت لوائه مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.