الأمر بالإصلاح والنهي عن الإفساد في قصة سيدنا شعيب عليه السلام للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إلاه إلا الله ولي
الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله إمام النبيين
وبعد
العناصر
أولًا: التعريف بهم وبنبيهم ثانياً: رسالة سيدنا شعيب u
إلى قومه
ثالثًا: عقاب الله للكافرين منهم رابعًا: الدروس المستفادة
الموضوع
أولًا: التعريف بهم وبنبيهم([1])
قوم مدين: كان أهل مدين قوماً عرباً، يسكنون مدينتهم مدين التي هي قرية من
أرض معان، من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز، قريباً من بحيرة قوم لوط، وكانوا بعدهم
بمدة قريبة، ومدين قبيلة عرفت بهم القبيلة. وهم من بني مدين بن مديان بن إبراهيم
الخليل.
وكان أهل مدين كفاراً، يقطعون السبيل،
ويخيفون المارة، ويعبدون الأيكة، وهي شجرة من الأيك، حولها غيضة ملتفة بها، وكانوا
من أسوء الناس معاملة، يبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيهما، يأخذون بالزائد، ويدفعون
بالناقص.
نسب نبي الله شعيب u: هو ابن ميكيل بن يشجن، ويقال:
شعيب بن يشخر بن لاوي بن يعقوب.
ويقال: شعيب بن نويب بن عيفا بن
مدين بن إبراهيم.
ويقال: شعيب بن ضيفور بن عيفا بن
ثابت بن مدين بن إبراهيم.
وقيل غير ذلك في نسبه.
كان بعض السلف يسمي شعيباً خطيب الأنبياء،
يعني لفصاحته وعلو عبارته، وبلاغته في دعاية قومه إلى الإيمان برسالته.
حديث الله عنهم في القرآن:
ذكرهم الله
في عدة مواضع متفرقة في القرآن الكريم
قال الله تعالى في سورة الأعراف بعد
قصة قوم لوط: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً
قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ
أَشْيَاءهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .......} [الأعراف: 85-95].
وقال في سورة هود بعد قصة قوم لوط
أيضاً: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ
إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * .......}
[هود: 84-95].
وذكرهم الله في سورة الحجر بعد قصة
قوم لوط أيضاً: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا
مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 78-79].
وذكرهم في سورة الشعراء بعد قصتهم: {كَذَّبَ
أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * .......} [الشعراء:
176-191].
ثانياً: رسالة سيدنا شعيب u إلى
قومه
دعاهم سيدنا شعيب بالإيمان بالله وحده: قال تعالى: {وَإِلَى
مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 85]
أي: دلالة وحجة واضحة، وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به، وإنه أرسلني. وهو ما أجرى
الله على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلاً، وإن كان هذا اللفظ قد دل عليها
إجمالاً.
وأمرهم بالوفاء بالكيل وإعطاء الناس حقوقهم كاملة، ونهاهم عن
الفساد في الأرض، قال تعالى: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}
[الأعراف: 86]
أمرهم بالعدل، ونهاهم عن
الظلم، وتوعدهم على خلاف ذلك، فقال تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
* وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} أي: طريق. {تُوعِدُونَ} أي:
تتوعدون الناس بأخذ أموالهم من مكوس وغير ذلك، وتخيفون السبل.
قال السدي في (تفسيره) عن الصحابة:
{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} أنهم كانوا يأخذون العشور من أموال
المارة.
{وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} [الأعراف: 86] فنهاهم
عن قطع الطريق الحسية الدنيوية والمعنوية الدينية.
ذكرهم بنعمة
الله تعالى عليهم، في تكثيرهم بعد القلة، وحذرهم نقمة الله بهم إن خالفوا ما
أرشدهم إليه، ودلهم عليه قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ
وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} ، كما قال لهم في القصة الأخرى:
{تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ
عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84].
أي: لا تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا
فيه، فيمحق الله بركة ما في أيديكم، ويفقركم ويذهب ما به يغنيكم، وهذا مضاف إلى عذاب
الآخرة، ومن جمع له هذا وهذا فقد باء بالصفقة الخاسرة. فنهاهم أولاً عن تعاطي ما
لا يليق من التطفيف، وحذرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم، وعذابه الأليم في أخراهم،
وعنفهم أشد تعنيف.
ثم قال لهم آمراً بعدما
كان عن ضده زاجراً: {وَيَا
قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ
أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}.
قال ابن عباس، والحسن البصري:
{بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} أي: رزق الله خير لكم من أخذ أموال الناس.
وقال ابن جرير: ما فضل لكم من الربح
بعد وفاء الكيل والميزان، خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف.
والمقصود: أن الربح الحلال مبارك
فيه وإن قل، والحرام لا يجدي وإن كثر.
وقوله: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ
بِحَفِيظٍ} أي: افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله، ورجاء ثوابه لا لأراكم أنا
وغيري.
استهزاء قومه به: قال تعالى: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ
أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي
أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:
87].
يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والتنقص
والتهكم، أصلاتك هذه التي تصليها هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلا إلهك، ونترك
ما يعبد آباؤنا الأقدمون، وأسلافنا الأولون. أو أن لا نتعامل إلا على الوجه الذي
ترتضيه أنت، ونترك المعاملات التي تأباها، وإن كنا نحن نرضاها؟
{إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}
قال ابن عباس: يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء.
تلطفه u في رده
عليهم: قال
تعالى: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي
مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ
إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
هذا تلطف معهم في العبارة، ودعوة لهم
إلى الحق بأبين إشارة، يقول لهم: {أَرَأَيْتُمْ} أيها المكذبون {إن كنت على
بينة من ربي} أي: على أمر بيـِّن من الله تعالى أنه أرسلني إليكم.
{وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً}
يعني النبوة والرسالة، يعني وعمى عليكم معرفتها فأي حيلة لي بكم.
وقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ
إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أي: لست آمركم بالأمر إلا وأنا أول فاعل له، وإذا
نهيتكم عن الشيء فأنا أول من يتركه، وهذه هي الصفة المحمودة العظيمة، وضدها هي المردودة
الذميمة.
{ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}
أي: ما أريد في جميع أمري إلا الإصلاح في الفعال والمقال، بجهدي وطاقتي.
{وَمَا تَوْفِيقِي} أي: في جميع
أحوالي.
{إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي: عليه أتوكل في سائر الأمور، وإليه مرجعي ومصيري في كل
أمري، وهذا مقام ترغيب.
ثم انتقل إلى نوع من الترهيب
فقال: {وَيَا
قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ
أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}.
أي: لا تحملنكم مخالفتي وبغضكم ما
جئتم به، على الاستمرار على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم، فيحل الله بكم من العذاب والنكال
نظير ما أحله بنظرائكم وأشباهكم، من قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، من المكذبين المخالفين.
وقوله: {صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ
لُوطٍ مِنْكُمْ} فإنهم لم يكونوا بعيدين منهم لا زماناً، ولا مكاناً، ولا صفاتٍ.
مزج الترهيب بالترغيب فقال: {وَاسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} أي: أقلعوا عما
أنتم فيه، وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود، فإنه من تاب إليه تاب عليه، فإنه رحيم بعباده،
أرحم بهم من الوالدة بولدها، ودود: وهو الحبيب ولو بعد التوبة على عبده، ولو من الموبقات
العظام.
الرفض لأي صورة
للدعوة والتهديد بالقتل: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا
لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا
بِعَزِيزٍ} [هود: 91] وهذا من كفرهم البليغ، وعنادهم الشنيع، حيث قالوا:
{مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} أي: ما نفهمه ولا نعقله لأنا لا نحبه
ولا نريده، وليس لنا همة إليه، ولا إقبال عليه.
وهو كما قال كفار قريش لرسول الله
صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ
وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}
[فصلت: 5].
وقولهم: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا
ضَعِيفاً} أي: مضطهداً مهجوراً.
{وَلَوْلَا رَهْطُكَ} أي: قبيلتك
وعشيرتك فينا.
{لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا
بِعَزِيزٍ}
ذكرهم بأن الله وحده هو من ينبغي أن يخافوه ويقدروه حق قدره، وليس قومه وعشيرته: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ
عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي: تخافون قبيلتي وعشيرتي وترعوني بسببهم، ولا تخافون
جنبة الله، ولا تراعوني لأني رسول الله، فصار رهطي أعز عليكم من الله.
{وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً}أي:
جانب الله وراء ظهوركم.
{إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ
مُحِيطٌ} أي: هو عليم بما تعملونه وما تصنعونه، محيط بذلك كله وسيجزيكم عليه يوم
ترجعون إليه.
ثالثًا: عقاب الله للكافرين
منهم
توعدهم -u- بالعذاب إن أصروا على عنادهم وطغيانهم: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا
عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ
وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} وهذا أمر تهديد شديد،
ووعيد أكيد، بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم، وشاكلتهم فسوف تعلمون من تكون له عاقبة
الدار، ومن يحل عليه الهلاك والبوار.
{مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}
أي: في هذه الحياة الدنيا.
{وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} أي: مني
ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر.
{وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ
رَقِيبٌ}.
وهذا كقوله: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ
مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
* قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ
نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}
[الأعراف: 87-89].
طلبوا بزعمهم أن يردوا من
آمن منهم إلى ملتهم، فانتصب شعيب للمحاجة عن قومه فقال: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}
أي: هؤلاء لا يعودون إليكم اختياراً، وإنما يعودون إليه إن عادوا اضطراراً مكرهين،
وذلك لأن الإيمان إذا خالطته بشاشة القلوب، لا يسخطه أحد، ولا يرتد أحد عنه، ولا محيد
لأحد منه.
ولهذا قال: {قَدِ افْتَرَيْنَا
عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ
مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا
وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} أي: فهو كافينا،
وهو العاصم لنا، وإليه ملجؤنا في جميع أمرنا.
ثم استفتح على قومه، واستنصر
ربه عليه في تعجيل ما يستحقونه إليهم فقال: {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ
خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} أي: الحاكمين، فدعا عليهم والله لا يرد دعاء رسله إذا استنصروه
على الذين جحدوه وكفروه، ورسوله خالفوه.
ومع هذا صمموا على ما هم عليه مشتملون،
وبه متلبسون: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ
شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [الأعراف: 90].
نزول العذاب على الكافرين:
قال الله
تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}
[الأعراف: 91].
ذكر في سورة الأعراف أنهم أخذتهم رجفة
أي: رجفت بهم أرضهم، وزلزلت زلزالاً شديداً أزهقت أرواحهم من أجسادها، وصيرت حيوانات
أرضهم كجمادها، وأصبحت جثتهم جاثية، لا أرواح فيها ولا حركات بها، ولا حواس لها.
وقد جمع الله عليهم أنواعاً
من العقوبات،
وصنوفاً من المثلات، وأشكالاً من البليات، وذلك لما اتصفوا به من قبيح الصفات، سلط
الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحة عظيمة أخمدت الأصوات، وظلة أرسل الله عليهم
منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات.
ولكنه تعالى أخبر عنهم في كل سورة
بما يناسب سياقها، ويوافق طباقها.
في سياق قصة الأعراف: أرجفوا نبي
الله وأصحابه، وتوعدوهم بالإخراج من قريتهم، أو ليعودن في ملتهم راجعين. فقال تعالى:
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} فقابل الإرجاف
بالرجفة، والإخافة بالخيفة.، وهذا مناسب لهذا السياق ومتعلق بما تقدمه من السياق.
وأما في سورة هود: فذكر أنهم أخذتهم
الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وذلك لأنهم قالوا لنبي الله على سبيل التهكم والاستهزاء
والتنقص:
{أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ
مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ
الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} فناسب أن يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكلام
القبيح، الذي واجهوا به هذا الرسول الكريم الأمين الفصيح، فجاءتهم صيحة أسكتتهم، مع
رجفة أسكنتهم.
وأما في سورة الشعراء: فذكر أنه
أخذهم عذاب يوم الظلة، وكان ذلك إجابة لما طلبوا، وتقريباً إلى ما إليه رغبوا، فإنهم
قالوا: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ
السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}
[الشعراء: 185-188].
قال الله تعالى وهو السميع العليم:
{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ} ذكروا أنهم أصابهم حر شديد، وأسكن الله هبوب الهواء عنهم سبعة أيام، فكان
لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل، ولا دخولهم في الأسراب، فهربوا من محلتهم إلى البرية
فأظلتهم سحابة، فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها، فلما تكاملوا فيه أرسلها الله ترميهم
بشرر وشهب، ورجفت بهم الأرض، وجاءتهم صيحة من السماء؛ فأزهقت الأرواح، وخربت الأشباح.
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا
فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:
91-92].
ونجى الله شعيباً ومن معه
من المؤمنين كما
قال تعالى وهو أصدق القائلين: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ
فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْداً
لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 94-95].
ثم ذكر تعالى عن نبيهم أنه نعاهم إلى
أنفسهم، موبخاً، ومؤنباً، ومقرعاً فقال تعالى: {... يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ
رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي:
أعرض عنهم مولياً عن محلتهم بعد هلكتهم قائلا: {يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ
رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} أي: قد أديت ما كان واجباً علي من البلاغ
التام، والنصح الكامل، وحرصت على هدايتكم بكل ما أقدر عليه، وأتوصل إليه، فلم ينفعكم
ذلك لأن الله لا يهدي من يضل، وما لهم من ناصرين، فلست أتأسف بعد هذا عليكم، لأنكم
لم تكونوا تقبلون النصيحة، ولا تخافون يوم الفضيحة.
ولهذا قال: {فَكَيْفَ آسَى}
أي: أحزن على قوم كافرين أي: لا تقبلون الحق ولا ترجعون إليه، ولا تلتفون إليه،
فحل بهم من بأس الله الذي لا يرد ما لا يدافع ولا يمانع، ولا محيد لأحد أريد به عنه،
ولا مناص منه.
رابعًا: الدروس المستفادة
الدعوة إلى الله
بالحكمة والموعظة الحسنة: قوله - عز وجل -: ﴿ يَا قَوْمِ ﴾، فيها استدراجٌ جميل، وتقريب للمدعو،
وهذا النِّداء لا تخلو منه قصة نبي أو مُصلح؛ لأنَّ فيه منَ التودُّد مع المدعو ما
يجعل جسور القرب تَمْتَد، وفيه من مقابَلة الجحود والاستهزاء بالحلْم والأناة ما يجعل
أبواب القرب تنفتح.
وهي أدوات الرُّسُل والمصلحين الضروريَّة؛
لإصلاح القلوب والنفاذ إلى سوَيْدائها، وهذه هي عين الحكمة في قوله تعالى: ﴿ ادْعُ
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ﴾ [النحل: 125]، هذه الحكمة المفْقُودة في خطاب
كثيرٍ مِمن انْتَسَبوا للدعوة زورًا وكذبًا، وهي في الحقيقة سلاح الدُّعاة إلى الله،
فقول نبي الله شعيب: ﴿ يَا قَوْمِ ﴾، تذيب الجليد الممْتَد بينه وبين قومه، وتُقَلِّل
من الجفاء والتنافُر، فمُبادأة القوم بهذا النِّداء الرباني يُشعرهم بقُرْب الداعية
منهم، وكأنه منهم، وكأنهم منه، وخاصة من نفسه، وهذا لعمري كَفيلٌ بزرْع الثِّقة في
الأنفس واستِمالة القلوب.
مشاهَدة المنَّة، وشُكر
المنْعِم: قوله
- عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ﴾: اعتراف من نبيِّ الله شعيب
برِزْق ربِّه، وشكره على فضْله وإحْسانه،
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أبوء
لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي))، الأولى: توجب للداعية المحبَّة والحمد والشكر لوليِّ
النِّعمة، والثانية: توجب له الذُّل والافْتِقار إلى ربِّه، وتسديده في دعوته، فهو
لا يرى نفسه إلا مقصِّرًا، وهذا من خير الزاد.
مطابَقة القول للعمل: قوله - عز وجل -: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا
أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾: ذلك أنَّ صاحب المنهج المعوج والرسالة الكاذبة يأمر الناس بفعلٍ،
ويأتي عكسه، وهذه قاصمة، وتأمَّل معي - رعاك الله - حديثَ الصادق المصدوق؛ فعن أسامة
بن زيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يُجاء بالرجل يوم القيامة، فيُلْقَى
في النار، فتندلق أقتابه في النار فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار
عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟! أليس كنت تأمُرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟!
قال: كنتُ آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)) ([2])
الإصلاح رسالة الأنبياء
والمصلحين: قوله - عز وجل -: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا
الْإِصْلَاحَ ﴾، وهذا لبُّ الأمرِ وأُسُّه؛ فالإصلاح هو مَقْصد بعْثة الرسُل والأنبياء
والمصلحين، فنبي الله شعيب حين ردَّد هذه الكلمات: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ
﴾، فكأنما كان يتحدَّث بلسان الرُّسل والأنبياء جميعًا، وبقدر ما يكون الإصلاحُ قائمًا
مستمرًّا عامًّا في الناس، فهُمْ في منجًى منَ الهلاك والعقاب، وبقَدْر ما يفرِّطون
في وظيفة الإصلاح، ويُمسكون عنه، ويتركون الإفساد يعيثُ في الأرض، وأولياؤه يَصُولون
ويَجُولون من غَيْر مُدافَعة الخير لهم - يهلك الحرْث والنسْل، ويحل العقاب، وتتنَزَّل
النِّقَم.
التوفيق منَ الله: قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ﴾، إرشاد آخر
من العلِيِّ القدير لعبادِه المصلحين: أنَّ العمل مهما بذل فيه من جهد يبقَى التوفيقُ
منه وحْده؛ حتى لا يتَّكِل الدَّاعيةُ على الأسباب، ويربط التوفيق بكدِّه وسَعْيِه،
ومناسَبة النتائج للأسباب.
ولهذا نرى نبي الله شعيبًا - u - يضع حدودًا لنفْسه
ويلتزم بها؛ ﴿ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾، فما التوفيق في الدَّعْوة، واستجابة الخلق لها إلا
من الله، فربَّما فَتَحَ الله عليك باب العمل، ولم يفتحْ عليك باب القبول، وربما فَتَحَ
عليك بابَ العِلْم، ولم يفتحْ عليك بابَ الإخلاص، فاطرق أي باب شئْتَ، واسأل التوفيق
منه وحْده.
بيان تحريم فعلهم في كل
شريعة: قال
الله -تعالى-: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ
يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ . أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ
أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
(المطففين:1-6)
وقال -تعالى-: (قُلْ لا يَسْتَوِي
الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) (المائدة:100)
وقال: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا
وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة:276)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الْبَيِّعَانِ
بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي
بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) ([3])
أن الجزاء من جنس العمل، فمن بخس أموال الناس، يريد زيادة
ماله، عوقب بنقيض ذلك، وكان سببا لزوال الخير الذي عنده من الرزق لقوله )إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ) أي: فلا تسببوا إلى زواله بفعلكم.
أن على العبد أن يقنع بما
آتاه الله،
ويقنع بالحلال عن الحرام وبالمكاسب المباحة عن المكاسب المحرمة، وأن ذلك خير له لقوله:
(بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ) ففي ذلك، من البركة، وزيادة الرزق ما ليس في التكالب
على الأسباب المحرمة من المحق، وضد البركة.
أن الصلاة، لم تزل مشروعة
للأنبياء المتقدمين،
وأنها من أفضل الأعمال، حتى إنه متقرر عند الكفار فضلها، وتقديمها على سائر الأعمال،
وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي ميزان للإيمان وشرائعه، فبإقامتها تكمل أحوال العبد،
وبعدم إقامتها، تختل أحواله الدينية.
المال أمانه: أن المال الذي يرزقه الله
الإنسان -وإن كان الله قد خوله إياه - فليس له أن يصنع فيه ما يشاء، فإنه أمانة عنده،
عليه أن يقيم حق الله فيه بأداء ما فيه من الحقوق، والامتناع من المكاسب التي حرمها
الله ورسوله، لا كما يزعمه الكفار، ومن أشبههم، أن أموالهم لهم أن يصنعوا فيها ما يشاءون
ويختارون، سواء وافق حكم الله، أو خالفه.
أن من تكملة دعوة الداعي
وتمامها أن يكون أول مبادر لما يأمر غيره به، وأول منته عما ينهى غيره عنه، كما
قال شعيب u: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ
أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) ولقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ
تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ).
أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم
إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها أو بتحصيل ما يقدر عليه منها وبدفع
المفاسد وتقليلها ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة، وحقيقة
المصلحة هي التي تصلح بها أحوال العباد وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية
أن من قام بما يقدر عليه
من الإصلاح لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله ما لا يقدر عليه فعلى العبد أن يقيم من
الإصلاح في نفسه وفي غيره ما يقدر عليه
فقوله - عز من قائل -: ﴿ مَا اسْتَطَعْتُ
﴾، هذه اللطيفة - التي جاءت عقب الإصلاح - فيها إقرارٌ بالضعْف؛ ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ
ضَعِيفًا ﴾، وفيها إرشاد للدُّعاة والمصلحين لبَذْل المُسْتَطاع في حُدُود الوسع البشري؛
يقول تعالى: ﴿ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ
بِالْحَقِّ ﴾ [المؤمنون: 62]، هذه الآية الكريمة تضع القانون المطلق بالحق المطلق،
﴿ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾، يقول د. عدنان رضا النحوي: "فلا
يأتي التكليف من عند الله إلا في حُدُود وسع الإنسان؛ فالله هو الخالِق، وهو أعلَمُ
بوسْع الإنسان وطاقته وقدرته، والوسع الذي سيُحاسبه الله عليه يوم القيامة إنه الوسع
الصادق، حتى نفرقه عن الوسع الكاذب، الوسع الذي يرسمه الهوى والأوهام، والذي يلتمس
به الإنسان الأعْذار، ليسوغ به وهنه وعجزه وضعفه"؛ انتهى.
فكم من مسؤولية فرَّطْنا فيها! وكم
من فرصة ضيَّعناها! وكم مِن مصْلحة لم نبذلْ في سَبيلها وسْعنا الصادق، فانقلبتْ إلى
مفْسدة، وسنحاسب عليها غدًا يوم القيامة! فتأمَّل هذه البصائر الرَّبانيَّة.
أن العبد ينبغي له ألا يتكل
على نفسه طرفة عين بل
لا يزال مستعينا بربه متوكلا عليه سائلا له التوفيق وإذا حصل له شيء من التوفيق فلينسبه
لموليه ومسديه ولا يعجب بنفسه لقوله وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
الترهيب بأخذات الأمم وما
جرى عليهم وأنه
ينبغي أن تذكر القصص التي فيها إيقاع العقوبات بالمجرمين في سياق الوعظ والزجر، كما
أنه ينبغي ذكر ما أكرم الله به أهل التقوى عند الترغيب والحث على التقوى
أن التائب من الذنب كما
يسمح له عن ذنبه ويعفى عنه فإن الله تعالى يحبه ويوده ولا عبرة بقول من يقول "إن التائب
إذا تاب فحسبه أن يغفر له ويعود عليه العفو وأما عود الود والحب فإنه لا يعود (فإن
الله قال وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ).
أن الله يدفع عن المؤمنين
بأسباب كثيرة قد
يعلمون بعضها وقد لا يعلمون شيئا منها وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم أو أهل وطنهم الكفار
كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام
والمسلمين لا بأس بالسعي فيها بل ربما تعين ذلك لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
جمع وترتيب: الشيخ أحمد أبو عيد
0109 809 58 54
نسألكم الدعاء