المال الحرام وعاقبته في الدنيا والآخرة د . محمد أحمد حواش






العناصر :
مكانة المال ووجوب اكله من حلال
1- السحت وحديث القرآن عنه
2- حال السلف الصالح مع المال الحرام
3- من صور المال الحرام
4- عقوبة اكل المال الحرام
5- الخاتمة
الحمد لله كما علمنا ان نحمد والصلاة والسلام على النبي المجتبى سيدنا محمد
وبعد :
1- فإن الله تعالى قضى الله وقدر ان يكون المال عصب وقوام الحياة بيعا وشراء وتعاملا وتصرفا، وأحد زينتي الدنيا فقال جل شانه :" المال والبنون زينة الحياة الدنيا" ووصفه الله تعالى بالخيرية، ووضع في فطرة البشر حبه والرغبة فيه ، قال تعالى:" وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا"
وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب " ويشيب ابن آدم وتشيب معه خصلتان، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حب المال وطول العمر( ( رواه البخاري ومسلم) وكل هذا خلل في العقيدة وضعف في الإيمان فإن من لازم الإيمان أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها :
عن حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هلُمُّوا إليَّ»، فأقبَلوا إليه فجلَسُوا. فقال: «هذا رسولُ ربِّ العالمين جبريلُ نفثَ في روعِي أنه لن تموتَ نفسٌ حتى تستكمِلَ رِزقَها وإن أبطَأَ عليها، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب، ولا يحمِلنَّكم استِبطاءُ الرِّزق أن تأخذُوه بمعصية الله؛ فإن الله لا يُنالُ ما عندَه إلا بطاعتِه» (أخرجه البزار)
(وأجمِلوا في الطلبِ ) أي: في طلبِ الرِّزق والسعي لتحصيل الدنيا والمكاسِب .
وحب المال ليس خطأً ولا حراما إنما الخطأ والحرام هو كسبه من حرام
فقد أمر الله تعالى بأكل الطيب فقال تعالى :" يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم" ونهى عن اكل الحرام الخبيث الباطل فقال :" ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " واكل المال بالباطل هو اكله من الرشوة والسرقة والربا والظلم والغش وسائر انواع الحرام
وسمي ايضا سحتا . ومن عبقرية لغتنا العربية ان اللفظ العربي اللغوى يتسق مع المعنى الشرعي
2- ما هو السحت ؟
السحت: هو المال الحرام و كل ما لا يحلُّ تناولُه، وكل حرام يقبح ذكرُه.
و قيل: هو ما خَبُث من المكاسب أو الحرام الذي لا يحل كسبه..
والسحت: القشر الذي يستأصل، قال تعالى: ﴿فيسحتكم بعذاب﴾ يعنى يستأصلكم وينهيكم ويقضي عليكم والسحت هو المحظور الذي يلزم صاحبه العار، كأنه يسحت دينه ومروءته اى يذهب الدين ويذهب المروءة
ويطلق على المال الحرام، وقد سمي بذلك لأنه يسحت الحسنات، أي يذهبها ويستأصلها،
قال العلامة القرطبي رحمه الله تعالى تفسيره لقول الله تعالى
" سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ "
قال: ( وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها
وكل وصف لأكل المال بالباطل والسحت وصف به اليهود في القرآن الكريم
وكل وصف لأكل المال بالباطل وصف به اليهود في القرآن الكريم
قال تعالى عنهم :" فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا "
وقال تعالى عن احبارهم ورهبانهم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ "
وقد انتشرت صور من اكل المال الحرام في عصرنا هذا فصار الناس متهاونين في الكسب الحرام بانواعه سرقة ورشوة وغشا وتدليسا واحتكارا وربا وغيره
فصار الكثير لا يفرقُ في كسبه بين حلالٍ وحرامٍ، فلا يهمه من أين اكتسب المال ؟وكل ما يهمهُ أن يكون المال بين يديه ينفقه كيفما شاء. وهذا تصديقٌ لما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام) رواه البخاري.
وقد ينسى بعض الناس أنه سيحاسب على ماله، وأنه سيسأل عن هذا المال من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه ؟ فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه) رواه الترمذي
حال السلف الصالح مع المال :
وقدوتنا وأسوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم امتناعه عن الحرام وبعده عن الشبهات ومن بعده صحابته الكرام عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَائِمًا فَوَجَدَ تَمْرَةً تَحْتَ جَنْبِهِ ، فَأَخَذَهَا ، فَأَكَلَهَا ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَضَوَّرُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، وَفَزِعَ لِذَلِكَ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ ، فَقَالَ : إِنِّي وَجَدْتُ تَمْرَةً تَحْتَ جَنْبِي فَأَكَلْتُهَا ، فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَة )
وقد حرص الصحابة رضى الله عنهم على اكل الحلال والبعد عن الحرام بل حتى عن شبهة المال الحرام
واسمع معي لنري تعامل السلف مع المال:ـ
الصديق رضي الله عنه :ـ
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، غلامٌ يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنتُ لإنسانٍ في الجاهلية، وما أُحسِن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنه)
وها هو الصديق رضى الله عنه لما تولى الخلافة فى صبيحة ولايته بخرج من بيته واضعا حبله على عاتقه ذاهبا إلى السوق متاجرا ليعيش من كسب يده فينادى عليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه قائلاً: يا أبا بكر قد كفيناك اجلس لمصالح المسلمين. ثم ينادى عمر رضى الله عنه على أبى عبيدة بن الجراح أمين الأمة ويقول يا أبا عبيدة: اجعل لأبى بكر ما يكفيه وأهله من بيت المال فيقول أبو عبيدة: له مقدار شاه فى كل يوم وليلة وله ثوب فى الصيف وثوب فى الشتاء لا يأخذ ثوب الصيف إلا إذا سلم ثوب الشتاء ويستمر أبو بكر على هذا مراعيا لحق الأمة حريصا على مالها العام. ويدخل عمر رضى الله عنه ليحصى تركه أبى بكر بعد موته فيجدها تساوى القليل فيبكى ويقول: لقد أتعبت من جاء بعدك. ولما تولى الخلافة عمر بن الخطاب بعد الصديق سار بالمسلمين أعظم سيرة حافظا لها ولأموالها مراعيا حرمة المال العام حتى إنه يسير يوما فيرى أبقارا سمانا فيقول لمن هذه الأبقار فيقولون له إنها لعبد الله بن عمر فيقول رضى الله عنه: ضموها إلى بيت المال فوالله ما سمنت إلا باسم أمير المؤمنين. إذا رعت هنا أو هناك يقولون دعوها إنها أبقار ابن أمير المؤمنين. ردوها إلى بيت المال. جاءوا له بزكاة المسك فوضع يده على أنفه حتى لا يشتم رائحته ورعاً عن المال العام فقالوا يا أمير المؤمنين إنما هي رائحة ؛ فقال: وهل يستفاد منه إلا برائحته ؛ الله أكبر فأين من نظر للمال العام بأنه غنيمة باردة فأخذ ينهب منها بغير حساب .
قال عمر رضي الله عنه: ((كنَّا نَدَعُ تسعةَ أعشار الحلال؛ مخافةَ الوقوع في الحرام))، وإنما فعل ذلك رضي الله عنه امتثالاً لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير: (إنَّ الحلال بَيِّنٌ، وإنَّ الحرام بَيِّنٌ، وبينهما مشتبهاتٌ، لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمَنِ اتَّقى الشُّبهات، استبرأ لدينه وعِرْضِه، ومَنْ وَقَعَ في الشُّبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمى، يوشك أن يَرْتَعَ فيه) الحديث.
ولمَّا قاتَلَ الصحابة الفُرس وهَزَموهم، وأخْمَدَ الله نارَ المجوس، وجدوا تاجَ كِسرى وبِسَاطه،
واللآلئ والجواهر، ووجدوا دُورًا مَليئة بأواني الذهب والفضة، ووجدوا كافورًا كثيرًا جدًّا، ظنُّوه مِلْحًا، خَلَطوه بالعجين، فصار العجينُ مُرًّا، فعَرَفوا أنه ليس بِمِلْحٍ.
لَمَّا قَسمَ سعد الغنائِمَ، حصَلَ الفارس على اثني عشر ألفًا، وكانوا كلُّهم فُرسانًا، كانوا في معركة بدرٍ ليس معهم إلا فارس، وبعضُهم يتعاقبون بعيرًا، وبعضهم مُشَاة، حتى عُقْلَة البعير لا يجدها، وبعَثَ سعد أربعةَ أخماس البِساط إلى عُمر، فلمَّا نَظر إليه عمر، قال: “إنَّ قومًا أدوا هذا لأُمَناء”، فقال عَلِي: “إنَّك عَفَفْتَ فعفَّتْ رعيَّتُك، ولو رتَعْتَ لرَتَعُوا”، ثم قَسمَ عمر البِسَاط على المسلمين، فأصابَ عليًّا قطعةٌ من البِسَاط، فبَاعَها بعشرين ألفًا”.
ورَحِم الله عمر بن عبدالعزيز سليل الأماجِد الطاهرين، جاءه أحد الولاة وأخذ يحدثه عن أمور المسلمين وكان الوقت ليلاً وكانوا يستضيئون بشمعة بينهما ، فلما انتهى الوالي من الحديث عن أمور المسلمين وبدأ يسأل عمر عن أحواله قال له عمر : انتظر فأطفأ الشمعة وقال له : الآن اسأل ما بدا لك ، فتعجب الوالي وقال : يا أمير المؤمنين لما أطفأت الشمعة ؟ فقال عمر : كنت تسألني عن أحوال المسلمين وكنت أستضيء بنورهم ، وأما الآن فتسألني عن حالي فكيف أخبرك عنه على ضوء من مال المسلمين ، أطْفَأَ المصباح؛ حتى لا يستعمل مالَ المسلمين في غير ما هو لعامَّة المسلمين.
3- من انواع السحت او المال الحرام :
1- التعدي علي المال العام :ـ
لقد حرم الله تعالي الاعتداء علي المال العام لأنه اعتداء علي الأمة كلها ، واعتبر حماية المال العام من قبيـل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولقد أمر الله المسلمين جميعاً به ، فهذا واجب التنفيذ مصداقاً لقوله تبارك وتعالى : ” كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ” (آل عمران : 110) ، وقول رسول الله : ” من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمـان ” (رواه مسلم).
واعتبر الإسلام حفظ المال من الضروريات وقد عرَّف العلماءُ الضرورة بأنها: ما لا بدَّ منها في قيام مصالح الدِّين والدنيا؛ حيث إذا فُقِدَتْ لَم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتَهَارُج.
والمسلمون لهم حق في المال العام ولا يشكُّ عاقلٌ في أنَّ المسلمين لهم حقٌّ في المال العام، وأنهم يعتبرونه مِلْكًا لهم، وأنَّ مَن اؤْتُمِنَ على هذا المال، فأخَذَ منه شيئًا، فلا شكَّ أنَّه مُعَرِّضٌ نفسَه لسَخَطِ الله.
وليس مِلْكًا لفِئَة معيَّنة من الناس، والقائمون عليه إنَّما هم أُمَناء في حِفْظه وتحصيله، وصَرْفه لأهْله، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يعتديَ عليه، أو يأخُذَ منه ما لا يستحقُّ.
والله عزَّ وجلَّ توعَّد بالوعيد الشديد لِمَن أخَذَ من المال العام شيئًا، فقال: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنْ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ قَالَ:(وَمَا لَكَ؟) قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا.قَالَ: (وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ )
أتدرون ما الغلول؟ وما مصيبة الغلول؟ الغلول ولو لشيء يسير قد يذهب بالحسنات العظام بل حتى بالجهاد في سبيل الله . أخرج البخاري أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ فَقَالَ النَّاسُ هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا)
فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ فَقَالَ هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ) رواه البخاري
2- أكل مال الغير في الميراث :ـ
أعطى الإسلام الميراث اهتمامًا كبيرًا، وعمل على تحديد الورثة، أو من لهم الحق في تركة الميت، ليبطل بذلك ما كان يفعله العرب في الجاهلية قبل الإسلام من توريث الرجال دون النساء، والكبار دون الصغار، فجاء الإسلام ليبطل ذلك لما فيه من ظلم وجور، وحدد لكل مستحق في التركة حقه، فقال سبحانه"يوصكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين...." الآية "
فالدين يحسم من الإرث، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( مَنْ فَرَّ مِنْ مِيرَاثِ وَارِثِهِ قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنْ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ( رواه ابن ماجة).
ألا فلتعلمَ أن ما أكلتَ من حق أختك؛ من مال وعقار؛ ستُطوقه يومَ القيامة بإذن الله، لو ظلمتها جنيهًا سيأتي عليك نارًا، ولو ظلمتها شبرًا من أرضِ فسيأتي حول عنقك يومَ القيامة نارًا من سبع أرضين، قال الصادق المصدوق ُالذي لا ينطق عن الهوى: ” مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الأرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ” (أخرجه البخاري)
وهذا الحديثُ له قصةٌ عجيبة في صحيح مسلم؛ وذلك أَنَّ أَرْوَى بِنْتَ أُوَيْسٍ ادَّعَتْ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهَا فَخَاصَمَتْهُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالَ سَعِيدٌ ـ وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ـ: أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ؟ قَالَ: وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: “مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الأرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ”.
فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا! فَقَالَ سَعِيدُ بْن زَيْدٍ ـ رضي الله عنه :اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً؛ فَعَمِّ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا!
قال بعض الرواة: فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، ثُمَّ بَيْنَا هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ ( أخرجه مسلم)
وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ” َخَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ نَهْبُ مُؤْمِنٍ، أَوْ الْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، أَوْ يَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالاً بِغَيْرِ حَقٍّ” (أخرجه أحمد)
وأحسب ـ والله ـ أن جريمة أكلِ حقوقِ البنات ـ في الميراث ونحوه ـ من ” نَهْب المُؤْمِن”، بل هي من السبع المهلكات ـ ولا سيما في حال اليتيمات
قال صلى الله عليه وسلم: “اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ!!! ” قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ: ” الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ (أخرجه البخاري)
4- سوء عاقبة اكل المال الحرام :
أولاً : عدم قبول الدعاء :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ) وقال : ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء ، يا رب ، يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ". ( رواه مسلم )
قال ابن رجب رحمه الله :" أكل الحرام وشربه ولبسه والتغذي به سببٌ موجبٌ لعدم قبول إجابة الدعاء وفي وصية رسول الله لخاله سعد بن ابي وقاص : أطب مطعمك تستجب دعوتك
فيامن تشكو من عدم اجابة الدعاء ويامن تطيل الدعاء ولا يجاب : اطب مطعمك تستجب دعوتك
ثانياً : عدم قبول العمل الصالح :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم : (من جمع مالا حراما ، ثم تصدق به ، لم يكن له فيه أجر ، وكان إصره عليه "). (رواه ابن خزيمة
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه آله وسلم قال : لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلاَ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ .( رواه مسلم )
قال ابن عبّاس رضي اللّه عنهما: لا يقبل اللّه صلاة امرىء في جوفه حرام. ( و قال سفيان الثوري رحمه الله: من أنفق الحرام في الطاعة كمن طهّر الثوب بالبول؛ والثوبُ لا يطهِّره إلا الماء ، والذنبُ لا يُكفِّره إلا الحلال ، كيف يُقبل من آكل الحرام عمل أو يُرفع له دعاء والله تعالى يقول: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ) "
وقال الغزالي رحمه الله :" العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام وإنّ أكل الحلال هو أساس العبادات كلها " وقال أيضاً:" العبادة مع أكل الحرام كالبناء على أمواج البحار)
ثالثا : سبب من أسباب عذاب القبر :
جاء في صحيح البخاري في رؤياه صلى الله عليه وعلى آله وسلم التي رآها في عذاب أصحاب المعاصي في قبورهم قال صلى الله عليه آله وسلم : ( فأتينا على نهرٍ حسبتُ أنه كان يقول أحمر مثل الدم ، وإذا في النهر رجلٌ سابحٌ يسبح ، وإذا على شِطِّ النهرِ رجلٌ عنده قد جَمع حجارةً كثيرة ، وإذا ذلك السابحُ يسبحُ ما سبح ، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغَرُ فاه ، فيلقمه حجراً ، فينطلق فيسبح ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر فاه فألقمه حجراً )
قال الإمام الذهبي: " وجاء في حديث فيه طول : أنّ آكل الربا يُعذَّبُ مِن حينِ يموتُ إلى يوم القيامة بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم ويلقَمُ الحجارةَ وهو المال الحرام الذي جمعه في الدنيا، يُكلَّفُ المشقةَ فيه ويلقَمُ حجارةً مِن نارٍ كما ابتلع الحرام الذي جمعه في الدنيا، هذا العذابُ له في البرزخ قبل يوم القيامة مع لعنةِ الله له" . ( الكبائر )
وهذا مجاهدٌ قُتلَ في سبيلِ الله، فقال الصحابةُ - رضي الله عنهم- هنيئاً لهُ الشهادةِ يا رسول الله , فقال صلى الله عليه آله وسلم :كلاَّ والذي نفسي بيده إنّ الشملةَ, لتلتهبُ عليه ناراً, أخذها يوم خيبر من الغنائم، لم تُصبها المقاسم ، قال: فَفَزِعَ الناسِ فجاءَ رجلٌ بشراكٍ أو شراكين، وقال: أخذتهما يوم خيبر فقال رسولُ الله صلى الله عليه آله وسلم : شراكٌ أو شراكان في النار. (متفق عليه )
رابعاً : سببٌ في سوء الخاتمة :
قال الغزالي رحمه الله تعالى :" ومهما ضعُف الإيمانُ ضعُف حبُّ الله تعالى وقوي حبُّ الدنيا، فيصير بحيث لا يبقى في القلب موضعٌ لحب الله تعالى إلا من حيث حديث النفس، ولا يظهر له أثرٌ في مخالفة النفس والعدول عن طريق الشيطان فيورثُ ذلك الانهماكَ في اتباع الشهوات حتى يٌظلمَ القلبُ ويقسوَ ويسودَّ وتتراكمِ ظلمةُ النفوسِ على القلب، فلا يزال يُطفئ ما فيه من نور الإيمان على ضعفه حتى يصير طبعاً ورَيناً، فإذا جاءت سكراتُ الموتِ ازداد حبُّ الله ضعفاً لما يبدو من استشعار فراقِ الدنيا وهي المحبوبُ الغالبُ على القلب، فيتألمُ القلبُ باستشعار فراقِ الدنيا وينقلبُ ذلك الحبُّ الضعيفُ لله بغضاً؛ فإنِ اتفق زهوقُ روحِه في تلك اللحظة التي خطرت فيها هذه الخطرةُ فقد خُتم له بالسوء وهلك هلاكاً مؤبداً".
قال الهيثمي :" وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يَخْتِمَ اللَّهُ لَهُ بِسُوءٍ ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ اعْتِيَادُ الرِّبَا وَالتَّوَرُّطُ فِيهِ عَلَامَةً عَلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ ، إذْ مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَيْفَ يُخْتَمُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ بِخَيْرٍ ؟ وَهَلْ مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَهُ إلَّا كِنَايَةٌ عَنْ إبْعَادِهِ عَنْ مَوَاطِنِ رَحْمَتِهِ وَإِحْلَالِهِ فِي دَرَكَاتِ شَقَاوَتِه" ..
5- الخاتمة ..
أيها المسلمون ..
اعلموا أن المال الحلال ينير القلب، ويشرح الصدر، ويورث الطمأنينة والسكينة والخشية من الله، ويعين الجوارح على العبادة والطاعة، ومن أسباب قبول العمل الصالح وإجابة الدعاء.
واطلبوا المال بتقوي الله تعالي ، قال تعالى : “ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏ ”
وما عند الله تعالى من رزق حلال إنما يطلب بطاعة الله ؛ وهذا الذي يأخذ الرشوة أو يأكل الربا أو يظلم الناس ، إنما يطلب الكسب بمعصية الله ، ومن غير طرقه المشروعة ، ولا يدرك ما عند الله إلا بطاعته .
عن حذيفة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن روح القدس نفث في روعي إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله عز وجل ، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته»

نسأل الله العظيم أن يرزقنا الحلال وأن يجنبنا الحرام ما ظهر منه وما بطن ، اللهم ارزقنا الورع واملأ قلوبَنا بتقواك، واجعلنا نخشَاك كأنّا نراك، وبارِك لنا في القرآن والسنّة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة. اللهم آمين .
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات