ركائز الأمن المجتمعي للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله الذي أعطى الأمان لمن شكر، سبحانه سبحانه رب
عظيم قد على فوق الخلائق واقتدر، سبحانه سبحانه عنت الوجوه لجاهه واستسلمت فطر
الحياة لأمره لما أمر، فأتم فيض نعيمه للمؤمنين العاملين لدينهم جنات عدن عزها نور
الجلال أفاءه أمر الذي في كل أمر قد أمر، وأضاف من مدد الخلود ما غاب عن وعي
المسامع والبصر، من كل فيض ناعم يسمو على كل الفكر ويفوق كل تصور عرفته أذهان البشر.
وأشهد أن لا إله إلا الله واحد أحد فرد صمد لا شريك له
في ملكه ولا سند، سبحانه سبحانه جعل الحياة مطية مطواعة للمؤمنين المحسنين لأنهم
قد وحدوا الله العظيم المقتدر ومشوا على درب الهدي لما بدى في المبتدى نور الذي
أحيا الفطر.
ونشهد أنه رسول
الله من جاء فخرا للحياة يؤمها نحو العلا حتى علت رغم الحفر، رغم الصعاب تقدمة
تمحو الظلام وتنتصر، بالعلم ترسم للحياة سبيلها من أجل إسعاد البشر.
العناصر
أولاً: فضل الأمن والأمان في الإسلام ثانيًا: أقسام الأمن والأمان
ثالثًا: وسائل الحفاظ على الأمن والاستقرار
الموضوع
الأمن هو: الحال التي يكون فيها الإنسان
مطمئنًا في نفسه، مستقرًا في وطنه، سالمًا من كل ما ينتقص دينه، أو عقله، أو عرضه،
أو ماله.
فهو
يشمل الأمن الظاهري والباطني النفسي والعقلي البدني والمالي والزماني
أولاً: فضل الأمن والأمان في الإسلام
وعد الله بها عباده في الجنة:
قال تعالى "ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ "الحجر 46
وقال
تعالى (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) الدخان 55
جعلها الله تعالى صفة دائمة
لبيته الحرام: فقال تعالى (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ
مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً) البقرة 125
وقال
تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ
مِنْ حَوْلِهِمْ) العنكبوت 67
وقال سبحانه (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً
آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ) القصص 57
من الله بها على أهل قريش: قال
تعالى (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ
وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) قريش 3/4
قدم النبي r
نعمة الأمن على نعمتي الصحة والمال: فعنْ
سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ
اللهِ r:"
مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِه، مُعَافى فِي بَدَنِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ
يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيا بِحَذَافِيْرِهَا" ([1])
دعاء الأنبياء به: أ-إبراهيم
u: قال
تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ...)
البقرة
فبدأ
بالأمن قبل الرزق لسببين:
الأول: لأن استتباب الأمن سبب للرزق، فإذا
شاع الأمن واستتبَّ ضرب الناس في الأرض، وهذا مما يدر عليهم رزق ربهم ويفتح
أبوابه، ولا يكون ذلك إذا فُقد الأمن.
الثاني: ولأنه لا يطيب طعام ولا يُنتفع
بنعمة رزق إذا فقد الأمن؛ فمَن مِن الناس أحاط به الخوف من كل مكان، وتبدد الأمن
من حياته ثم وجد لذة بمشروب أو مطعوم.
ب-يوسف
u: يطلب
من والديه دخول مصر مخبراً باستتباب الأمن بها؛ " فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى
يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ
آمِنِينَ"(يوسف: 99).
ج-موسى
u:
لمَّا خاف موسى أعلمه ربه أنه من الآمنين ليهدأ رَوْعه وتسكن نفسه؛ "وَأَنْ
أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا
وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ
"(القصص: 31)
د-النبي
r: عن
طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنّ النَّبِيَّ r : " كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَهلْهُ
عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ رَبِّي
وَرَبُّكَ اللَّهُ "([2])
أفعاله r تدل على الأمن: أ-لما
دخل المدينة آخى بين المسلمين: وأبرم صحيفة المدينة توثيقاً بين المسلمين وغير
المسلمين نشرا للأمن والأمان ومحافظة على الاستقرار
ب-لما
دخل النبي مكة عام الفتح: منح أهل مكة أعظم ما تتوق إليه نفوسهم، فأعطى الأمان
قائلا " من دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقَى السّلاحَ فهو آمن، ومن
دخل المسجدَ فهو آمن "
([3])
ولما
دخل مكة بجيشه العظيم الذي أعجز أهل مكة أن يقاوموه فيسمع سعد بن عبادة t
قول
مزهوًا: "اليوم يوم الملحمة"، فيردّ النبي (r): "بل اليوم يوم المرحمة"! ثم تأتي لحظة النصر فيقف أهل
مكة جميعًا أمامه خاضعين مستسلمين ينتظرون أيَّ قضاء يقضي فيهم رسول الله r فيعفوا
عنهم
ج-خاطر
بنفسه من أجل استتباب الأمن وحفظه: فعَنْ أَنَسٍ t قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ r وَقَدِ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي
طَلْحَةَ عُرْيٍ وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: " لَمْ تُرَاعُوا
لَمْ تُرَاعُوا، ثُمَّ قَالَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا، أَوْ قَالَ إِنَّهُ لَبَحْرٌ
"([4])
حفظ الإسلام الأمان حتى للحيوان: فقد
قال r"
دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ
تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ " ([5])
وعن
عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: كنا مع رسول الله r في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت
الحمرة فجعلت تفرش فجاء النبي r فقال:
من فجع هذه بولدها؟! ردوا ولدها إليها، ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: من حرق
هذه؟ قلنا: نحن قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار ([6]).
(الحمرة:
طائر صغير كالعصفور أحمر اللون. تفرش: ترفرف بجناحيها وتقترب من الأرض)
نعمة الأمن أفضل من نعمة الصحة: قال
الرازي رحمه الله: "سئل بعض العلماء: الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال: الأمن أفضل،
والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان، ثم إنها تقبل على الرعي
والأكل؛ ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا
تتناوله إلى أن تموت، وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل
من ألم الجَسَد"
تحصل على الدنيا ونعيمها بالأمن: ذلك في
قوله r :
«مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ
قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"([7])
العبادة لا يتأتى القيام بها على وجهها إلا في ظل الأمن: أ-الصلاة:
قال الله عنها (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ
لِلّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ
فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) البقرة
23239
ب-شرعت
صلاة الخوف تخفيفا في حال الخوف: قال تعالى (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ…. فَإِذَا
اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) النساء
وقوله:
"فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ" أي: أدوها بكمالها
وصفتها التامة في حال الأمن والاطمئنان
ج-الأمن
شرط من شروط الحج: فإذا وجد الإنسان نفقة الحج ولم يكن الطريق آمناً فلا يجب عليه
الحج قولاً واحداً
قال الله تعالى: (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) البقرة 196
وصف
حال دخولهم بالأمن فقال: "لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا
بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ
مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ " (الفتح: 27(
به تتقدم الأمم، وترتقي الأوطان، وتزدهر المجتمعات: الله
تعالى لما منَّ على قوم صالح u بنعمة
الأمن نهضوا بدولتهم وبنوا حضارتهم، قال تعالى:" وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ
الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ "الحجر
فلو
انعدم الأمن ما استطاعوا أن ينحتوا بيوتاً من الخشب فضلا عن الجبال.
كما
أن الله تعالى لما منَّ على سبأ حيثُ أسكنهم الديار الآمنة، تمكنوا من بناء
حضارتهم، وتشييد
مملكتهم،
قال تعالى (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي
وَأَيَّامًا آمِنِينَ) سبأ 18
عند الخوف يقل الإيمان، ويكثر الكذب، ويكثر النفاق: قال
تعالى (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ (
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن مسعود ،
قَالَ : " كَانَ
أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلامَهُ سَبْعَةً : رَسُولُ اللَّهِ r ، وَأَبُو بَكْرٍ ، وَعَمَّارٌ ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ ،
وَصُهَيْبٌ ، وَبِلالٌ ، وَالْمِقْدَادُ ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ r ، فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَمَّا أَبُو
بَكْرٍ ، فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ
الْمُشْرِكُونَ وَأُلْبِسُوا أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ ،
فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا وَآتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا ، إِلا بِلالٌ ،
فَإِنهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ ،
فَأَخَذُوهُ ، فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي
شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ : أَحَدٌ أَحَدٌ"([8])
ثانيا: أقسام الأمن والأمان
الأمن العقدي: هو المحافظة على العقيدة الإسلامية الصحيحة
ضد الأفكار الهدامة التي تزعزع أمن الإنسان في عقيدته وقد ظهر هنا وهناك رويبضات
يهرفون بما لا يعرفون ويخوضون فيما لا يفقهون ظهروا على الشاشات والفضائيات يبثون
سمومهم ويحاولون أن ينالوا من العقيدة الإسلامية الصافية فمن هؤلاء إسلام البحيري،
والمدعو ميزو، وغيرهم من أذناب العلمانيين ومن خادم الماسونيين
يقول
الدكتور عبد المنعم فؤاد عميد كلية الدراسات الإسلامية إن الأفكار الهدامة التي
يطلقها إسلام البحيري تضر بالأمن العقائدي لدى الناس فما كان يبثه إسلام البحيري
أفكار تمس الأمن العقدي والفكري للناس، ولقد أنزل الله تعالى الكتب وأرسل الرسول
لحماية الأمن العقدي من فساد الوثنيين والملحدين .
ولقد
عمل النبي r على
حماية امن العقيدة من الغزو العقدي والفكري فعن جابر بن عبد الله، عن النبي r، أن عمر أتاه فقال: إنا نسمع أحاديث من اليهود تعجبنا أفترى أن
نكتب بعضها؟ فقال: " أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها
بيضاء نقية، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي "([9])
وقد
سد النبي r كل الطرق والذرائع التي
توصل إلى زعزعة الأمن العقدي لدى المسلم فمن ذلك:
أ-عدم المغالاة في مدحه
عليه الصلاة والسلام:
عن عبد الله بن الشَّخِّير t قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله r، فقلنا: أنت سيِّدُنا، فقال: "السيِّد الله تبارك وتعالى"([10]).
فأراد
أن يسدّ هذا المديح خوفاً عليهم من الغلو
وعن
ابن عباس سمع عمر t يقول
على المنبر: سمعت النبي r يقول
(لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله) ([11])
ومعنى
(لا تطروني) من الإطراء وهو الإفراط في المديح ومجاوزة الحد فيه وقيل هو المديح
بالباطل والكذب فيه. ومعنى: (كما أطرت النصارى ابن مريم) أي بدعواهم فيه الألوهية
وغير ذلك.
ب-منع
الجمع بين اسم الله واسم رسوله: عَنْ
عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ رَجُلاً خَطَبَ عِنْدَ النَّبِىِّ -r-فَقَالَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشِدَ وَمَنْ
يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r: «بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ. قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ». قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ فَقَدْ غَوِىَ"([12])
فهذا
الحديث نص في منع الجمع بين اسم الله تعالى واسم رسوله -r -بالتكنية نحو: (ومن يعصهما) لما يوهم من التسوية، وفي هذا إتمام
حماية النبيr .
ج-حذر
الله سبحانه وتعالى المسلم أن يستمع إلى أهل الأهواء: لأن الاستماع إليهم يدخل
الشك والريب في نفس المستمع قال تعالى: "وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ
يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا
فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ
الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ" الأنعام: 68
وقال
تعالى:(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ
اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ
الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا "النساء: 140
الأمن على الأنفس: النفس هي أغلى ما يملك
الإنسان في هذه الحياة لذا جاءت الشريعة الغراء بالمحافظة عليها وحمايتها من التلف
بل وضعتها في سياج امن وحصن حصين من عدوان المفسدين
فأمن
النفس معناه: حمايتها من أن يتعرض لها أي شخص بأذى وإليكم كيف أسست الشريعة لأمن
النفوس
أ-نهى
عن كل صور الفساد: قال تعالى (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا
وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ
الْمُحْسِنِينَ) الأعراف.
ب-عقوبات
حددها الله من اجل الأمن: قال تعالى (وَلَكُمْ
فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة
179
وقال
تعالى (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ
فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ
لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) المائدة .
ج-حرمة
حمل ورفع السلاح على المسلمين: عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِىَّ -r- قَالَ «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا» ([13]).
حتى
لو كان ذلك الترويع على سبيل الهزل من غير ضرر أو اعتداء فقد نهى عنه الإسلام،
فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا
أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ r " أَنَّهُمْ
كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ r ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ،
فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا "([14])
د-جعل
الدماء أول شئ يقضى فيه بين الناس يوم القيامة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : " أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ "([15])
الأمن الفكري : وهذا النوع من أعظم أنواع الأمن
حيث أن الأفكار إما أن تعمر الديار وأما أن تخربها
والأمن الفكري هو: المحافظة على فكر أفراد المجتمع
من الأفكار الضارة والدعوات الهدامة التي تزعزع الثقة بين العبد وبين ربه و بين
الفرد و مجتمعة.
وهو
أيضا: أن يعيش المسلمون في بلادهم آمنين على مكونات أصالتهم وثقافتهم النوعية
ومنظومتهم الفكرية المنبثقة من الكتاب والسنَّة فالتكفير والإرجاء، والتشيّع،
والاعتزال، والتأويل، والإعراض عن الشرع، والعقلانية، والعلمانية، والليبرالية
كلها مما يهدد الأمن الفكري لدي المجتمع المسلم، وإن الناظر على الساحة الإسلامية
ليرى تلك الحرب الشعواء التي تسمى بالغزو الفكر الذي يستهدف عقول أبناء الأمة وعمل
غسيل مخ للشباب ومن هنا ظهرت الدعوات الهدامة بشتى ألوانها وخرج الخارجون عن هدي
الإسلام وقد عمل أعداء الأمة والوطن على بلبلة الأفكار وحددوا أهدافهم المدمرة
نذكر منها:
أ-تشْويه
عقائد المسلمين ودينهم
والتعرُّض
بالسوء للوَحْيَيْن من بوَّابة إثارة الشُّكوك والشبهات حول القرآن الكريم
والسنَّة النَّبويَّة، وشخصيَّة النَّبي -r -والصَّحابة
-رضوان الله عليهم -وأمَّهات المؤمنين -رضي الله عنهنَّ.
ب-التشكيك
في المراجع الإسلاميَّة والمصادر التَّشريعيَّة:
مثل: كتب السنَّة، وكتب الفقه، وكتُب العقائد، بالطَّعن
فيها والطَّعن في أصحابِها.
ج-التعرُّض
للتَّاريخ الإسلامي بالعَبَث، وبثّ الشّكوك والأكاذيب والتَّفسيرات الإسقاطيَّة،
بأن يُفسّر التَّاريخ الإسلامي بحسب معتقد وخلفية المتعرِّض له بالشَّرح والتعليق؛
لخدمة الأغراض والسياسات والثقافات المعادية للإسلام.
د-النَّيل
من التَّشريعات والحدود الإسلاميَّة بوسمها بالألْقاب التي تأنَف منه الأُذُن،
وترْفضها القلوب والعقول، ما ينخدع به كثيرٌ ممَّن عميتْ أبصارُهم عن العدْل
والرَّحمة في التَّشريع الإسلامي، فيسمّونها بمثل: الرجعيَّة، والوحشيَّة، وتجاهُل
حقوق الأقلّيَّات.
ذ-تمجيد
القِيَم الغربي وإنشاء جيل من حاملي راية الإستِشْراق والعلمانيَّة، وترسيخ روح
الذلَّة والتبعيَّة
في
نفوس المسلمين تجاه الغرب الكافر، في جولة من جولات الصراع بين الحق والباطل وبين
الإسلام والكفر.
ومن الوسائل الوقائية لحماية الأمن الفكري:
(1) العمل الدؤوب على إظهار وسطية
الإسلام والفكر الإسلامي
فالإسلام
وسط بين الغالي والجافي فلابد من إظهار وسطية الإسلام واعتداله وتوازنه: وترسيخ
الانتماء لدى الشباب لهذا الدين الوسط وإشعارهم بالاعتزاز بهذه الوسطية
"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا " (البقرة)
(2) القيام بدورات علمية وبرامج
إيمانية وندوات تبين للشباب خطورة تلك الأفكار وتزودهم بالأفكار الصحيحة من باب
عمل حذيفة –رضيك الله عنه – فعن حذيفة قال كان الناس يسألون
رسول
الله "r"
عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني...) ([16])
والله
سبحانه وتعالى بين لنا شبهة الكافرين ومن سار على دربهم وفندها سبحانه وتعالى ثم
بين الهدف من ذلك فقال "وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ
سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ "الأنعام
يقول
السعدي – رحمه الله-:(وَكَذَلِكَ
نُفَصِّلُ الآيَاتِ) أي: نوضحها ونبينها، ونميز بين طريق الهدى من الضلال، والغي
والرشاد، ليهتدي بذلك المهتدون، ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه. (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِين)
الموصلة إلى سخط الله وعذابه، فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت، أمكن
اجتنابها، والبعد منها، بخلاف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة، فإنه لا يحصل هذا المقصود
الجليل ([17]).
(3) الحوار سبيل فعال للقضاء على
الأفكار الواردة ووأدها في مهدها
فعن
سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله r إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها
وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط قال: فمررنا بالسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط
كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله r: الله
أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل "اجعل لنا إلها
كما لهم آلهة " قال: إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم) ([18])
الأمن على الأعراض : من مجالات الأمن التي جاء
الإسلام ليحافظ عليها الإعراض فهي أحد الركائز الخمسة التي جاءت الشريعة للمحافظة
عليها ومن أجل الحفاظ على الأعراض والأمن عليها من الذئاب البشرية وضعت الشريعة
الضوابط المتينة والأسس القويمة كعدم النظر إلى المحرمات والبعد عن الغيبة
والنميمة وغيرها...........
ثالثًا: وسائل الحفاظ على الأمن والاستقرار
الإقرار بنعم الله وشكرها وعدم كفرانها: قال
تعالى (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ
تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ
وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
وقال
تعالى: "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا "
"إبراهيم: 34"؛
وقال
تعالى:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا
وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ
الْقَرَارُ" (إبراهيم:
28؛ 29)
وقال:
"وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً
يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ
فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ
يَصْنَعُونَ" (النحل: 112).
قال القرطبي رحمه الله: سمى الجوع والخوف
لباساً؛ لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو اللباس
الإيمان والتوحيد والعبادة: قال
تعالى: "فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ" (الأنعام: 48
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ r:"
الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ؛ وَالْمُؤْمِنُ
مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ" ([19]) فإذا وجد الإيمان بين أهله حصلت لهم السعادة
الدائمة.
كما
أن التوحيد والعبادة أمن في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي
الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور: 55).
فلا أمن إلا بإقامة العبادة الخالية من شوائب
الشرك؛ فلا يُدعى غير الله، ولا يُستغاث إلا بالله.
وأما
في الآخرة فقد قال الله تعالى: "الذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ
إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ" (الأنعام:
82). مهتدون في الدنيا، آمنون في الآخرة؛ وهكذا كان الإيمان والتوحيد والعبادة أمن
في الدنيا والآخرة.
قيام العلماء والدعاة والمربون بدورهم متضامنا مع دور الإعلام على
اختلاف صوره في احتواء الشباب وإرشادهم إلى مكارم الأخلاق وتصحيح الأفكار
والمفاهيم الخاطئة وترشيد حماسهم، وتوجيه انفعالهم، وتسخير طاقاتهم في خدمة الأمة،
لا في هدمها؛ إذ أن امن الوطن لا يتحقق إلا بوجود الأمن الفكري لحماية الأجيال
الناشئة، وشباب الأمة، وتحصين أفكارهم من التيارات المشبوهة التي تسمم العقول،
وتحرف السلوك؛ من دعوات التخريب والفرقة والهدم
إشاعة التالف والتعاون بين الناس: فالاتحاد
عماد نهضة الأمم، به تغنم، وتنجو من الفتن، وتعلو، ويزهو العلم، وتبني الحضارات،
ويتحقق الأمن والاستقرار؛ بالاتحاد تنال الأمم مجدها، وتصل إلى مبتغاها، وتعيش
حياة آمنة مطمئنة؛ بالاتحاد، تكون الأمة مرهوبة الجانب، مهيبة الحمى، عزيزة
السلطان.
فما
من أمة تمسكت بالوحدة واعتصمت بحبل الله إلا نجحت وارتفعت، ومن هنا أكد القران
الكريم على ضرورة الجماعة والاتحاد، وحذر من تفرق القلوب والأجساد، قال تعالى ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ
مِنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )
آل عمران 103
وقال
تعالى (َوتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة.
الإصلاح بين الخصوم: قال تعالى (فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) الأنفال 1
وقال
الله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
"الحجرات 10"
وعن
أبي الدرداء t قال:
قال رسول الله r
" أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ
وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ
ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ"([20])
فبالصلح
تستجلب المودة وتعمر البيوت، ويبث الأمن فيها، ومن ثم يتفرغ الرجال للأعمال
الصالحة،
يتفرغون
للبناء والإعمار بدلا من إفناء الشهور والسنوات في المنازعات، والكيد في الخصومات،
وإراقة الدماء وتبديد الأموال.
كم
من بيت كاد أن يتهدم بسبب خلاف سهل بين الزوج وزوجه، كم من قطيعة كادت أن تكون بين
أخوين أو صديقين أو قريبين بسبب زلة أو هفوة وإذا بهذا المصلح يرقع خرق الفتنة
ويصلح بينهم، فكم عصم الله بالمصلحين من دماء وأموال وأعراض.
روي
أن عمر بن الخطاب t كان
له عامل على مدينة الأهواز، هذا العامل أراد أن يوسع داره، ولكن له جار مجوسي،
يعبد النار، جار حاكم الأهواز مجوسي، وما استنكف من جواره، ولكن قال: لو بعتني
دارك أضمها إلى داري؛ لأن الناس يكثرون من الدخول عليّ وأنا عندي أولاد وعندي
زوجات، فما تسع داري، قال له: لا أبيعك إياه، قال له: أنت حدد الثمن وأنا أدفع،
قال: ولو
بألف ألف درهم، لا أريد، هل هناك قانون في كتابك وسنة نبيك يلزمني بالبيع، قال:
لا. وهذا الحاكم الناس ضيقوا عليه، وفود تأتي من العراق، ووفود تأتي من الشام، وفي
يوم من الأيام من شدة الضيق، قال لعماله: اهدموا الدار وهذا المال يا صاحب الدار
إذا جئت خذ العوض، فجلس صاحب الدار على عتبة الدار يبكي، فقالت له زوجته: ما
يبكيك؟ هل أنتَ امرأة؟ قال: لا. لكن هذا ظالم هدم جداري وضم داري، قالت: ألا تشكوه
إلى أميره؟ قال: ومن الأمير؟ قالت: سمعت الناس يتحدثون أن له أميراً في مكان يسمى
المدينة، اذهب واشكوه، قال: وهل سيصنع لي شيئاً؟ الناس يتحدثون عن عدله، فشد
المجوسي الرحال، ودخل المدينة المنورة، وسأل: أين ملككم؟ قالوا: ليس عندنا ملك؟
فتذكر الكلمة التي قالتها زوجته، وقال: أين أميركم؟ قالوا: هناك، تجده تحت الجدار
أو تحت النخلة، فذهب، فقال له: أنت أميرهم؟ فقال: بلى، وكان عمر طاوياً شملته
ونائماً، فاعتدل t وقال
مالك؟ قال له المترجم، يقول: إن عاملك في الأهواز سلب منه داره عنوة، فقال عمر
لكاتبه بجواره، قال: اكتب "هذا ما كتبه أمير المؤمنين عبد الله، عمر بن
الخطاب إلى عامل الأهواز، أعد الدار على صاحبها، أو احضر". ثم طوي الجلد وبحث
عن خيط حتى يربطه، فلم يجد، فعاد إلى شملته وسلب منها خيط صوف وربط الكتاب وسلمه
إلى المجوسي.
والمجوسي
لما رأى الحاكم ليس عنده خيط إلا من شملته، رمى الكتاب في خرجه، وذهب إلى زوجته
يبكي، قالت: ما يبكيك؟ قال: لقد أتعبتيني كيف يقتص هذا الحاكم من هذا الظالم وهو
لا يجد خيطاً لرسالته وكتابه إليه؟ قالت: ويحك،
خذه إليه وسترى، فأخذه واستأذن وقدم له الكتاب، قال: من أين؟ قال: من عمر، قال:
ماذا؟ وجف ريقه وقام وقعد، وفتح الكتاب وقرأه فكاد أن يقف قلبه: (أعد الدار أو
احضر) فقال: أعيدوا إليه الدار، وابنوا له الجدار، وأعطوه خمسمائة درهم من بيت مال
المسلمين جزاء ما روعناه، فعاد المجوسي يضحك إلى امرأته، قال: صدقت يا امرأة،
قالت: أرأيت؟!
وهكذا
كان عمر رضي الله مثالاً لنشر الأمن وإصلاح ذات البين؛ بل كان حريصا على وحدة
المجتمع مع اختلاف الديانات والمعتقدات!!
فرض العقوبات الرادعة لكل من يخل بالأمن ويعمل على زعزعة الاستقرار: إن
الأمن الذي نعيشه ونستظل بظله، إنما هو منحة ربانية، ومنة إلهية، فحافظوا عليها،
واعلموا أن امن وطنكم مطلب شرعي، وحفظه واجب وطني، ووحدة صفه والحفاظ على قيمه
وأخلاقه ومقدراته مسؤولية الجميع.
ولو
فرضت عقوبات رادعة والضرب بيد من حديد لكل من تسول نفسه العمل على زعزعة الأمن
وانتشار الفوضى بالبلاد؛ لتحقق أمن الناس في عقولهم وأموالهم وأعراضهم وأمنهم على
ديارهم. قال تعالى:" وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ
وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ" (المائدة)
فالقصاص
والحدود والعقوبات شُرِعتْ لإحكام الأمن، مَن قَتَل بغير حقِّ قُتِل، ولو لم
يُقتلْ لقامت الثارات، وصار كلٌّ يأخُذ حقَّه بيده، ومَن سرق قُطِع، ولو لم يُقطَع
لصارت البلاد مَنْهَبَة؛ كلٌّ يأخُذ ما يَشاء ويذَر، ومَن حارَب وسعَى في الأرض
بالفَساد يُروِّع عباد الله ويقتلهم ويأخُذ أموالهم، أُقِيمَ عليه حدُّ الحرابة
بالتقتيل أو بالصلب، أو بالتقطيع من خِلاف، أو بالنفي من الأرض، ومَن شرب الخمر أو
قذَف محصنًا جُلِدَ، وشُرِع التعزيرُ لولِيِّ الأمر؛ ليؤدب كل معتدٍ بما يردعه عن
العودة إلى فعلته، فيأمن الناس ويطمئنُّون.
وينبغي
على القضاة المختصين الوصول إلى مرتكبي جرائم القتل والتخريب والتفجير وترويع
الآمنين بطرق ووسائل وأدلة تدل على ذكاء هؤلاء القضاة في حال انعدام الشهود أو
البينة.
وإليكم
هذه الواقعة التي تدل على ذكاء السلطان الحاكم في معرفة مرتكبي الجريمة: روي أن
قاضيا من القضاة لا يستطيع أن يفصل في القضاء إلا بعد مشاورة السلطان لحرص السلطان
على استتباب العدل.
وذات
يوم جيء بغلام مذبوح محمول، ووضعوه أمام القاضي، فنظر القاضي وسأل من قتله؟ قالوا:
لا ندري وجدناه تحت الجدار مذبوحاً منحوراً من الوريد إلى الوريد، والحكم الشرعي
في الجريمة المجهولة هو أن يقسم أهل الحي الذين وجد فيهم القتيل خمسين يميناً،
أنهم ما قتلوه، ولا يعرفون القاتل، وهذه هي القسامة كما في الفقه الإسلامي نفذها
القاضي، وأقسموا بالله، ووصل الخبر إلى السلطان، فحضر بنفسه يعاين الجثة، وقال:
أحضروا جميع الجزارين، فأحضروهم وصفوهم في طابور، ووضعوا الجثة أمامهم، وجلس
القاضي عن يمينها والسلطان عن يسارها على كرسيين وقالا: ليأتي كل جزار يتخطاها
برجله ثم يمر، وجلس الحاكم هكذا كأنه لا ينظر إلى الطابور، ولكن عينه ترمقهم
بطرفها، وإذا بأحد الجزارين كلما اقترب دوره رجع إلى الخلف وكلما اقترب رجع إلى
الخلف ففضح نفسه: (يكاد المريب أن يقول: خذوني) نعم.. فلما وصل الدور إليه أغمي
عليه، فقال: ادفنوه، فلما حملوه صاح القاضي، كيف عرفته أيها السلطان؟ قال: انظر
إلى جثة القتيل، فنظر إليها، قال: ما أرى شيئاً، قال هناك مسحة سكين على ثوب
القتيل، وهذه المسحة العفوية لا تأتي إلا من جزار محترف، إذا ذبح الذبيحة مسحها في
الخروف، فهذا لما ذبحه مسحه لا إرادياً، فعرفت أن القاتل جزاراً.
فتعجب
القاضي من ذكاء السلطان، واعترف الجزار بالجريمة وأقيم عليه الحد والقصاص، ولذلك
لابد من فرض العقوبات الرادعة على المفسدين.
أيها
الإخوة الأحباب إن بلدنا في حاجة ماسة إلى أن نتعاون فيما بيننا لنصلح من حالها
وكذلك الاعتصام بالله وكثرة اللجوء إليه وكثرة الدعاء والتذلل بين يديه ليحفظ الله
بلدنا من كل مكروه وسوء.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم
جمع وترتيب الشيخ أحمد أبو عيد
%%%%%%%%