الأمل واليأس د . محمد عامر
عناصر الخطبة
1- المقدمة
2- الأمل للأمة كالروح من الجسد
3- الإسلام دين الأمل
4- اليأس وأثاره السلبية
5- نماذج وقصص في الأمل وعدم اليأس والقنوط
6- الخطبة الثانية
7- المؤمن والأمل
المقدمة
الحمد لله رب العالمين الذي هدانا للإيمان، وأكرمنا بالإسلام، ووفقنا للطاعات، وجعلنا من المسارعين إلى الخيرات، وجعل من بعد العسر يسرًا، ومن بعد الشدة فرجًا، فقال تعالى: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6.
فنَحمَد سبحانه وتعالى على عظيم نِعمه، وتوالي مِننه، ودوام بره، وعظيم لُطفه، هو سبحانه وتعالى أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، نَحمَده سبحانه وتعالى على آلائه ونِعمه التي لا تُعد ولا تحصى، حمدًا كما يحب ربُّنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك والحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، حرَّم اليأس وندَّد بالقنوط، فقال على لسان نبيه يعقوب عليه السلام: ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، وقال تعالى على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام: ﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56.
وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أمرنا بالتيسير والتبشير، فرُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا).
فاللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحْبه، وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
قال الله تعالى : (وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } (يوسف:87)
الأمل للأمة كالروح للجسد:
فلولا الأمل ما بني بان , ولا غرس غارس , ولولا الأمل لما تحققت كل الإنجازات التي وصلت إليها البشرية . وذلك لأن المخترع لم يتمكن غالبا من تحقيق انجازه من أول مرة . أديسون بعدما أخطأ 999 مرة نجح في صنع أول مصباح كهربائي .
وإلا فما يدفع الزارع للكد والعرق ويرمي بحبات البذور في الطين ؟ إنه أمله في الحصاد وجني الثمار .
وما الذي يغري التاجر بالأسفار والمخاطر ومفارقة الأهل والأوطان ؟ إنه الأمل في الربح .
وما الذي يدفع الطالب إلي الجد والمثابرة والسهر والمذاكرة ؟ إنه أمله في النجاح.
وما لذي يحفز الجندي إلي الاستبسال في القتال والصبر علي قسوة الحرب ؟ إنه أمله في إحدى الحسنيين إما نصر وإما شهادة .
وما الذي يجعل المريض يتجرع الدواء المرير وربما في ببعض الأحيان أن يقطع من جسده في عملية جراحية ؟إنه أمله في العافية .
وما الدافع الذي يجعل المؤمن يسلك سلوكا تكرهه نفسه وبه يخالف هواه ويطيع ربه ؟ إنه أمله في مرضاة خالقه والجنة .
فالأمل قوة دافعة تشرح الصدر وتبعث النشاط في الروح والبدن , واليأس يولد الإحباط فيؤدي إلي الفشل .
الإسلام دين الأمل
فإذا مرض الإنسان فلا يسقطه المرض، بل يتأمل الشفاء، وإذا كان فقيراً فلا يحبطه الفقر بل يظلّ يأمل انفتاح أبواب الرزق وتغيّر الحال إلى الأحسن، وإذا
واجهته بعض التحديات والأمور المخيفة فلا ينهار أمام أسباب الخوف، بل يحاول أن يتمسّك بحبل الله تعالى وبذكره، فيمنحه ذلك الأمن والأمان..
ويعطينا القرآن الكريم نموذجاً رائعاً عن الأمل الذي عاشه نبيّ الله يعقوب (ع)، فإنّه ورغم طول غيبة يوسف (ع) عنه دون أن يعرف عنه شيئاً ظلّ متمسكاً بحبل الأمل، وقال لأولاده: {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنّه لا ييأس من روح الله إلا القوم
الكافرين} [يوسف 87].
عباد الله
لقد ابتليت الأمة بنكبات كثيرة علي مر الدهور والأزمان حتى إلي يومنا هذا ... وأشد أنواع النكبات التي قد تبتلي بها أمة أن يتسرب اليأس إلي القلوب وتتفرغ القلوب من الأمل , عباد الله، ما أحوجَنا ونحن في هذا الزمن، زمن الفتن والغموض إلى عبادة الأمل. فمن يدري؟! ربما كانت هذه المصائب بابًا إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، أوليس قد قال الله: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) (البقرة:216)؟! {.... فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء :19)
اليأس وآثاره السلبية
اليأس في الحياة هو واحد من أخطر الأمراض التي تفتك بالإنسان فتشل إرادته وتنعكس على صحته الجسديّة والنفسيّة، وتؤثر على علاقاته مع الآخرين، سواءً في الدائرة الصغيرة، أعني دائرة الأسرة، أو في غيرها من الدوائر الاجتماعية.
وإننا نلاحظ أنّ الإنسان اليائس لسبب أو لآخر قد يدفعه يأسه إلى الانتحار، وربما يقتل زوجته وأولاده معه، لأنّه لا يريد لهم – بزعمه - أن يعيشوا القهر والمعاناة، وقد يدفع – اليأس- البعض الآخر من اليائسين إلى ارتكاب شتى الجرائم والاستخفاف بحياة الناس والاستهانة بحقوقهم.
كما أنّ اليأس قد يدفع بعض الناس إلى الكفر بالله تعالى والشكّ في عدالته أو حكمته أو قدرته!
وقد حرم الله تعالى اليأس واعتبره قرين الكفر، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87.
وندَّد بالقنوط واعتبره قرين الضلال، فقال تعالى: ﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56.
وأجمع العلماء أنهما من الكبائر، بل أشد تحريمًا، وجعلهما القرطبي في الكبائر بعد الشرك من حيث الترتيب؛ قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (الكبائر أربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأْس من رَوح الله، والأمن مِن مكر الله(.
واليأْس فيه سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى، فقال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا ﴾ [الإسراء: 83
ولقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم على الذين ينفِّرون الناس، ويضعون الناس في موقع الدونية والهزيمة النفسية، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((إذا قال الرجل: هلَك الناس، فهو أهلكهم)).
.
فاليأس داء خطير , العاجزون عن الإصلاح والمأجورون وأصحاب المصالح والمُعَوِّقون يزرعونه بين أفراد الأمة خدمة مجانية لأعدائها .
فاليأس توأم الكفر: لأنه سوء ظن بالله قال الله تعالى : (وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } (يوسف:87)
وفي معركة أحد يقول ربنا عن طائفة اليائسين {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران :154 ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه سبحانه مضيع جنده ودينه .
وحكم علي اليائسين بالبوار فقال تعالي :(بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} (الفتح :12. وهو تعبير عجيب موح . فالأرض البور ميتة جرداء . وكذلك قلوبهم . وكذلك هم بكل كيانهم . بور . لا حياة ولا خصب ولا إثمار . وما يكون القلب إذ يخلو من حسن الظن بالله؟ لأنه انقطع عن الاتصال بروح الله؟ يكون بوراً . ميتاً أجرد نهايته إلى البوار والدمار .
واسمع إلى هذا الحديث روى البخاري وأبو داود والنسائي وأحمد عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو لَنَا . (فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ -زيادة عند أبي داود وأحمد) فَقَالَ « قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِى الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ) .
فالصحابة رضوان الله ضٌربوا وعُذِّبوا وأُوذوا وضُيِّق عليهم في أرزاقهم وحُوصروا في شعب أبي طالب حتى أكلوا أوارق الأشجار وتقيّحت شفاههم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت , وكانوا قبل البعثة أو إن شئت فقل قبل حدوث ثورة الإسلام علي الكفر والطغيان كانوا يعيشون ويأكلون ويشربون ولم تمر بهم هذه الأزمات ولم يمروا بهذه القلاقل وأياًّ كانت العيشة فالمهم أنهم كانوا يعيشون , وليست المدة هينة لقد صبروا ثلاث عشرة سنة في العهد المكي , فالنفوس قد ملت وسئمت الاضطرابات والتضييق , فمن يوم أن قامت ثورتك يا رسول الله لم نر يوم راحة فلتطلب من السماء التدخل الفوري لحل الأزمة هكذا لسان حالهم ينطق .
قصص في الأمل وعدم اليأس والقنوط
1- إبراهيم عليه السلام:
)وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ*إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ*قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ*قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ*قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ *قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}(الحجر :51-56) إنه الخطاب لرسول الله صلي الله عليه وسلم يعلم أصحابه المضطهدين والملاحقين أن ينبئهم عن خبر إبراهيم يوم أن جاءته الملائكة مبشرين بغلام عليم فتعجب إبراهيم من قدرة الله أبعد الكبر والزوجة العاقر يكون الولد ؟ كيف ذلك ؟إن قلبه مملوء بالأمل وهذا ما دفعه للدعاء ,حتى بعد ما بلغ الثمانين من العمر يطلب الولد {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } (الصافات :100) ولكنه يسأل عن السبب والكيفية فكان الرد ( قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ) فوعد الله حق وقدرة الله حق وإرادة الله حق واعلم أن هذا الكون يسير بقدرة مقتدر لا يحتاج إلي سبب ليُوجد المسَبَّب , والكون يسير بتدبير الله , بعلم الله , بحكمة الله , بلطف الله (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) فلم يتسرب اليأس يوما إلي قلبه لأنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون . الضالون عن طريق الله ، الذين لا يستروحون روحه ، ولا يحسون رحمته ، ولا يستشعرون رأفته وبره ورعايته . فأما القلب الندي بالإيمان ، المتصل بالرحمن ، فلا ييأس ولا يقنط مهما أحاطت به الشدائد ، ومهما ادْلَهَمَّت حوله الخطوب ، ومهما غام الجو وتلبَّد ، وغاب وجه الأمل في ظلال الحاضر وثقل هذا الواقع الظاهر . . فإن رحمة الله قريب من قلوب المؤمنين المهتدين .
)وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ*قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ*قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ }(هود :71-73)
2- قصة نبي الله يعقوب عليه السلام
فقصة نبي الله يعقوب عند فقد ابنه يوسف عليهما الصلاة والسلام درس عظيم في ترك اليأْس، وحسن الظن بالله، والصبر على البلاء، ورجاء الفرج من الله، في عدة مواضع منها: - عندما جاءه نعي أحب أولاده إليه يوسف عليه الصلاة والسلام -وهذا أعظم المصائب على قلب الأب- لم يفقد صوابه، وقابل قدر الله النازل، بالصبر والحلم، والاستعانة بالله سبحانه على رفعه. {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} [يوسف من الآية:18]. - ولما عظمت المصيبة بفقد ابنه الثاني ازداد صبره، وعظم رجاؤه في الفرج من الله سبحانه، فقال لأبنائه: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:83]. - حين عوتب في تذكر يوسف عليه الصلاة والسلام بعد طول الزمان، وانقطاع الأمل، وحصول اليأْس في رجوعه، قال بلسان المؤمن الواثق في وعد الله برفع البلاء عن الصابرين، وإجابة دعوة المضطرين {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86]. - وأخذ بالأسباب في السعي والبحث عن يوسف وأخيه فقال لأبنائه: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87]. - فكانت العاقبة لمن صبر وأمل ورضي ولم يتسخط قال تعالى: {فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف من الآية:96] من عند الحبيب مبشرًا باللقاء القريب {أَلْقَاهُ} قميص يوسف {عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} [يوسف من الآية:96] فرجع البصر، وبلغ الأمل، وزال الكرب، وحصل الثواب لمن صبر ورضي وأناب، {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف من الآية:96].
3- الإمام الكسائي
ذكر عن الكسائي إمام أهل الكوفة في النحو أنه طلب النحو فلم يتمكن، وفي يوم من الأيام وجد نملة تحمل طعامًا لها وتصعد به إلى الجدار، وكلما صعدت سقطت، ولكنها ثابرت حتى تخلصت من هذه العقبة، وصعدت الجدار، فقال الكسائي: هذه النملة ثابرت حتى وصلت الغاية، فثابر حتى صار إمامًا في النحو، فينبغي أن نثابر ولا نيأس؛ فإن اليأْس معناه سدُّ باب الخير، وينبغي لنا ألا نتشاءم، بل نتفاءل، وأن نعِد أنفسنا خيرًا
4- موسى عليه السلام:
ولد بالأمل ويعيش بالأمل منذ كان رضيعا في اليم {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص :7)
ويخرج مطاردا إلي مدين{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ}(القصص :22) {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (القصص :24)
حتى يخرج من مصر بأمر الله وفي كنفه وتحت رعايته , ويتبعهم فرعون وجنوده , إن موسى وقومه أمام البحر ليس معهم سفين ولا هم يملكون خوضه وما هم بمسلَّحين . وقد قاربهم فرعون بجنوده شاكي السلاح يطلبونهم ولا يرحمون! وقالت دلائل الحال كلها:أن لا مفر والبحر أمامهم والعدو خلفهم فظن أتباع موسي الغرق وأصابهم اليأس والشؤم{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}وبلغ الكرب مداه ، وإن هي إلا دقائق تمر ثم يهجم الموت ولا مناص ولا معين !
ولكن موسى الذي تلقى الوحي من ربه ، لا يشك لحظة وملء قلبه الثقة بربه ، واليقين بعونه ، والتأكد من النجاة ، وإن كان لا يدري كيف تكون ,ولكن حاشا لنبي من أولي العزم أي يقربه اليأس والقنوط , فما كان يمتلك خطة نجاة وما كان يعرف طريقا للهرب من بطش فرعون ولكن إن كان قد فقد الأسباب فمعه رب الأسباب , وإن كان بلا حول ولا قوه فحول الله وقوته تحيطانه من كل جانب فهو إذا بأمله وبثقته في ربه يملك النجاة والفوز المبين علي فرعون وجنوده {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} كيف يا موسي لا أدري ولكن ما دام ربي معي فثم الهداية والنجاة{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } (الشعراء:61-63) ولولا انتفاضة موسي وقلبه الذي ينبض بالأمل والثقة لأدركهم فرعون بسبب شؤمهم
5- محمد صلي الله عليه وسلم:
روى البخاري ومسلم أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِى إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِى ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِى فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، فَنَادَانِى مَلَكُ الْجِبَالِ ، فَسَلَّمَ عَلَىَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً » وقد تحق ما أراد صلي الله عليه وسلم فكان سيف الله المسلول وجند الله الذي ملأ الدنيا عدلا وعمَّ الأرض حرية وإسلاما وعبَّد الأرض لله من أصلاب هؤلاء , فكان خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وعمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب وغيرهم .
6- الأمل والواقع المعاصر
: في القرن العشرين وقعت حربان عالميتان وكانت الثانية منهما أشد من الأولي ودفع ثمن الثانية اليابان وألمانيا فضربت اليابان بالقنابل النووية وألمانيا تم شطرها إلي غربية وشرقية ودمرت البنية التحتية نهائيا ولكن بالأمل أصبحت اليابان في خاتمة القرن العشرين من أقوى الدول اقتصاديا علي مستوى العالم وتوحدت ألمانيا وأصبحت من أولي الدول صناعيا واقتصاديا .
روى البخاري ومسلم وأحمد واللفظ له عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى فَلْيَظُنَّ بِى مَا شَاءَ ) . فلنظن بالله خيرا ونصرا وتمكين ورفعة .
اقول قولي هذا واستغفر الله
الخطبة الثانية
عباد الله:
لا نتصور مؤمناً بالله وبالقرآن يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً، مهما أظلمت أمامه الخطوب، واشتدت عليه وطأة الحوادث، ووقعت في طريقه العقبات، إن القرآن يضع اليأس في مرتبة الكفر، ويقرن القنوط بالضلال، قال تعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر من الآية:56.
فيجب أن نعيش الأمل فحسب، بل وأن نعمل على بثّ ثقافة الأمل في النفوس، ولا سيّما في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا حيث إنّ أسباب اليأس والإحباط كثيرة.
إنّ علينا أن نعيَ جيّداً أنّ هذا الدين كلّه رحمة وأمل وعدل، وأنّ انتماءنا إلى هذا الدين يحتّم علينا أن نكون دعاة ومبشّرين بثقافة الأمل.
ومن التعاليم الرائعة التي يوصينا بها الرسول الأكرم (ص) - بحسب الرواية - أنّه إذا دخل الشخص على المريض عائداً فيجمل به أن يؤمّله بالحياة، لا أن يتحدّث معه بطريقة تشعره وكأنّه ميّت في هذا المرض ولا أمل له بالنجاة ولا فرصة له في الحياة ، كما قد يفعل البعض عندما يقول للمريض:
"لا تحزن فكلّنا على هذا الطريق أو كلّنا ميّتون"، وربّما يتأفف البعض أمام المريض وتبدو عليه الصدمة والتأثر ما يزيده هماً على هم، ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: "قال رسول الله (ص): إذا دخلتم على المريض فنفّسوا(وسعوا) له في الأجل، فإنّ ذلك لا يردّ شيئاً وهو يطيّب
النفس".
أخي المسلم
عندما تشعر بوحدتك, وتتقلب الدنيا بك, وتشعر أنك غريق بين سكراتها، علق قلبك بربك، وجدد الأمل فيه، وقل وأنت موقن بالفرج {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ}(الأنبياء:87)، فيأتيك الفرج عاجلاً أو آجلاً.
وحينما ينصرف عنك الإخوان والخلان, وينساك القريب والحبيب , ويتخلى عنك الصديق والجار , تذكر قول أيوب عليه السلام { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}(الأنبياء:83، 84)، فيحدوك الأمل أن يذهب الله عنك الوحشة والوحدة، وأن يملأ قلبك أُنْساً ولذة.
وعندما يضيق بك الرزق ولا تقدر علي الإنفاق, فتذكر قول الله جل وعلا {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}(الذاريات:58)، وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا)(رواه أحمد وابن ماجة), فيتجدد عندك الأمل أن يأتيك الرزق من الله.
وحينما تتذكر العناء في تربية الأولاد وتراهم يكبرون وتخاف عليهم من الفتن والشهوات والشبهات، فعلق قلبك بالله، وألح عليه بالدعاء، فعندها يتجدد في قلبك الأمل أن تراهم وقد قرت عينك بهدايتهم وصلاحهم.
وعندما يصيبك مرض أو داء, ويظل ملازما لك لفترة من الزمان، وترى أنه قد تمكن منك وأضرك في حياتك وعبادتك، فتذكر قرب ربك منك، وأنه يسمع دعائك، فقوي أملك في الله، وارفع يديك إلى السماء بالدعاء والبكاء والرجاء, وعندها يحدوك الأمل في الشفاء مهما طال الزمان واشتدت الأوجاع.
عباد الله: إن الأمل قوة دافعة تشرح الصدر للعمل، وتخلق دواعي الكفاح من أجل الواجب، وتبعث النشاط في الروح والبدن، وتدفع الكسول إلى الجد، والمجد إلى المداومة على جده، كما أنه يدفع المخفق إلى تكرار المحاولة حتى ينجح، ويحفز الناجح إلى مضاعفة الجهد ليزداد نجاحه، والإيمان يبعث في النفس الأمل ويدفع عنها اليأس والأسى، والمؤمن الصادق يرى أن الأمور كلِّها بيد الله تعالى فيحسن ظنه بربه ويرجو ما عنده من خير، فما أضيق العيش في الدنيا لولا فسحةُ الأمل.
فاحذروا يا عباد الله من ضياع العمر في غير طاعة، وخافوا من التسويف، فهو بئس البضاعة، فكم من مؤملٍ لم يبلغ ما أمَّله، وحيل بينه وبين ما كان يرجو عمله. أسأل الله تعالى أن يمن علينا بالأمل الذي يوصلنا إلى العمل الصالح الرشيد، والفوز بجنة الخلد عند رب كريم عظيم.
عباد الله: إن الله تعالى قد أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56.
هذا وما كان من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأٍ، أو سهوٍ، أو نسيانٍ، فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه الأطهار الأخيار ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.