الحلال بيِّن والحرام بيِّن للشيخ أحمد أبو عيد

  






Pdf


Word 

الحمد لله رب العالمين أحمده حمد من رأى آيات قدرته وقوته، وشاهد الشواهد من فردانيته ووحدانيته.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه .

العناصر

أولاً:  الحلال بيِّن                                          ثانيًا: وسائل تحري الحلال

ثالثًا: نماذج على تحري الحلال                          رابعًا: الحرام بيِّن

خامسًا: أسباب أخذ المال الحرام.                        سادسًا: من صور المال الحرام

الموضوع

أولًا: الحلال بيِّن

وضوح الحلال والحرام: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب. (متفق عليه)

أمر الله تعالى بطلب الرزق الحلال: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} الملك

أمر الله تعالى بالكسب الطيب الحلال وعدم التجارة في الحرام: عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله "أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ "([1])

إعطاء حق الله فى المال مثل الزكاة والصدقات حتى تتحقق البركات والنماء والطهارةيقوّم بضاعته كل عام ويزكيها بنسبة ربع العشر، أي: 2,5%، في كل ما هو معد للبيع، ويصرفها كما أمر الله تعالى في الأصناف الثمانية، فلا يترك للشيطان مجالاً للوسوسة وللأمر بالفحشاء والتخويف من الفقر، كما قال تعالى: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "البقرة.

نِعْمَ المال الصالح: عَن عَمْرِو بن العاصِ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنِ اجْمَعْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ وَثِيَابَكَ ثُمَّ ائْتِنِي» قَالَ: فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: «يَا عَمْرُو إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِأَبْعَثَكَ فِي وُجْةٍ يُسَلِّمُكَ اللَّهُ وَيُغَنِّمُكَ وَأَزْعَبَ لَكَ زَعْبَةً مِنَ الْمَالِ» . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَتْ هِجْرَتِي لِلْمَالِ وَمَا كَانَتْ إِلَّا لِلَّهِ ولرسولِه قَالَ: «نِعِمَّا بِالْمَالِ الصَّالِحِ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» ([1])

المال أمانة: أمر الله بأداء الأمانة إلى أهلها والأمر في كتاب الله يقتضي الوجوب، فقال تعالى:﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾"النساء: 58".

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» ([2])

ثانيًا: وسائل تحري الحلال

القناعة والرضا: عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ y، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ r فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي؛ ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ إِنَّ هذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزأْ أَحَدًا بَعْدكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ y، يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ y دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ r، حَتَّى تُوُفِّيَ)) ([3]).

 تقوى الله: قال تعالى : ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ

عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏ ﴾ [الطلاق: 3] .

وما عند الله تعالى من رزق حلال إنما يطلب بطاعة الله ؛ وهذا الذي يأخذ الرشوة أو يأكل الربا أو يظلم الناس ، إنما يطلب الكسب بمعصية الله ، ومن غير طرقه المشروعة ، ولا يدرك ما عند الله إلا بطاعته فعن ابن مسعود y أن رسول الله r قال ليس من عمل يقرب من الجنة إلا قد أمرتكم به ولا عمل يقرب من النار إلا وقد نهيتكم عنه فلا يستبطئن أحد منكم رزقه فإن جبريل ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله أيها الناس وأجملوا في الطلب فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله فإن الله لا ينال فضله بمعصيته"([4])

 الحذر من تعلق القلب بالمال: قال الحسن البصري رحمه الله: والله لقد أدركتُ أقوامًا وإن كان أحدُهم لَيَرِثُ المال العظيم، قال: وإنه والله لمجهودٌ شديدُ الجهد، قال: فيقول لأخيه: يا أخي، إني قد علمت أنَّ ذا ميراثٌ وهو حلال، ولكني أخاف أن يُفسِد عليَّ قلبي وعملي، فهو لك لا حاجة لي فيه، قال: فلا يرزأ منه شيئًا أبدًا، قال: وهو والله مجهود شديد الجهد ([5]).

أن الله تعالى بين الحكمة من إنزال المال وهي عبادته تعالى: عن أبي واقد الليثيِّ قال: كنا نأتي النبيَّ r إذا أنزل عليه، فيحدِّثنا، فقال لنا ذات يوم: ((إن الله عز وجل قال: إنَّا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم وادٍ لأحَبَّ أن يكون إليه ثانٍ، ولو كان له واديانِ لأحبَّ أن يكون إليهما ثالثٌ، ولا يملأُ جوفَ ابن آدم إلا الترابُ، ثم يتوب الله على مَن تاب))([6])

العلم بأنه مسئول عنه يوم القيامة: عن أَبي برزة نَضْلَة بن عبيد الأسلمي - y - ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله - r - : (( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَومَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أفنَاهُ ؟ وَعَنْ عِلمِهِ فِيمَ فَعَلَ فِيهِ ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أيْنَ اكْتَسَبَهُ ؟ وَفيمَ أنْفَقَهُ ؟ وَعَنْ جِسمِهِ فِيمَ أبلاهُ ؟ )) ([7])

ان المال كما هو زينة فهو فتنة كذلك: قال تعالى: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران:]

 وقال تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46]

وقال تعالي ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر: 20] فكما أن المال  نعمة وزينة ويحبه الإنسان هو كذلك فتنة فعن كعب بن عياض - y - ، قَالَ : سَمِعْتُ رسول الله - r- ، يقول : (( إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً ، وفِتْنَةُ أُمَّتِي : المَالُ )) ([8])

قال المناوي رحمه الله: "((إن لكل أمةٍ فتنةً))؛ أي: امتحانًا واختبارًا، وقال القاضي: أراد بالفتنة الضلالَ والمعصية، ((وإن فتنةَ أمتي المالُ))؛ أي: الالتهاءُ به؛ لأنه يشغَلُ البال عن القيام بالطاعة، ويُنسِي الآخرة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [التغابن: 15]، وفيه أن المال فتنةٌ، وبه تمسَّك من فضَّل الفقر على الغنى، قالوا: فلو لم يكُنِ الغنى بالمال إلا أنه فتنةٌ، فقلَّ مَن سلِم مِن إصابتها له وتأثيرها في دينه، لكفى" ([9])

ثالثًا: نماذج على تحري الحلال

النبي صلى الله عليه وسلم: عن أَبِي هُرَيْرَةَ y، عَنِ النَبِيِّ r، قَالَ: إِنِّي لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةَ عَلَى فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيَهَا" ([10])

عن أبي هُرَيْرَةَ قال أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « كِخْ كِخْ ارْمِ بِهَا أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ». ([11])

صاحب التفاحة: بينما كان رجل يسير بجانب بستان وجد تفاحة ملقاة على الأرض فتناول التفاحة وأكلها ثم حدثته نفسه بأنه أتى على شيء ليس من حقه فأخذ يلوم نفسه وقرر أن يرى صاحب هذا البستان فإما أن يسامحه أو أن يدفع له ثمنها، وذهب الرجل لصاحب البستان وحدثه بالأمر، فأندهش صاحب البستان لأمانة الرجل، وقال له: ما اسمك؟؟ قال له: ثابت، قال له: لن أسامحك في هذه التفاحة إلا بشرط أن تتزوج ابنتي واعلم أنها خرساء عمياء صماء مشلولة، إما أن تتزوجها وإما لن أسامحك في هذه التفاحة فوجد ثابت نفسه مضطرًا، يوازي بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فوجد نفسه يوافق على هذه الصفقة؛ وحين حانت اللحظة التقى ثابت بتلك العروس، وإذ بها آية في الجمال والعلم والتقى فأستغرب كثيرًا لماذا وصفها أبوها بأنها صماء مشلولة خرساء عمياء، فلما سألها قالت: أنا عمياء عن رؤية الحرام، خرساء صماء عن قول وسماع ما يغضب الله، ومشلولة عن السير في طريق الحرام، وتزوج هذا ثابت بتلك المرأة، وكان ثمرة هذا الزواج: الإمام أبى حنيفة النعمان ابن ثابت.

كان محمد بن المنكدر، له سلع تباع بخمسة، وسلع تباع بعشرة، فباع غلامه في غَيبته شيئا من سلع الخمسة بعشرة، فلما عرف ابن المنكدر ما فعل غلامه اغتمّ لصنيعه، وطفق يبحث عن المشتري طوال النهار … حتى وجده، وكان من الأعراب، فقال له ابن المنكدر: إنَّ الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة، فقال الأعرابي: يا هذا قد رضيت. فقال ابن المنكدر: وإن رضيت فإنّا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث: إما أن تستعيد مالك وتعيد السلعة، وإما أن تُردَّ إليك خمسة، وإما أن تأخذ من سلعة الخمس سلعة العشر. فقال الأعرابي: أعطني خمسة، فرد عليه الخمسة وانصرف؛ فسأل الأعرابي أهل السـوق عن هذا التاجـــر الأمين؟ فقيل له: هذا محمد بن المنكدر، فقال: لا إله إلا الله، هذا الذي ملأ الآفاق ذكره.

رابعًا: الحرام بيِّن

 دخول النار والحرمان من الجنة: قال تعالى: " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) " النساء.

وعن أَبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي - y - : أنَّ رَسُول الله - r - ، قَالَ : (( مَن اقْتَطَعَ حَقَّ امْرىء مُسْلِم بيَمينه ، فَقدْ أوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ ، وَحَرَّمَ عَلَيهِ الجَنَّةَ )) فَقَالَ رَجُلٌ : وإنْ كَانَ شَيْئاً يَسيراً يَا رَسُول الله ؟ فَقَالَ : (( وإنْ قَضيباً مِنْ أرَاك )) ([12])، وعن خولة الأنصارية أن رسول الله r قال: «إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة»([13])

 عدم قبول الدعاء: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ». ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ » ([14]).

ولما سعى أهل الكوفة به إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه أرسل جماعة للكوفة يسألون عن حاله من أهل الكوفة فصاروا كلما سألوا عنه أحدا قال خيرا وأثنى عليه ، حتى سألوا رجلا يقال له أبو سعدة فذمه وقال لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية ، فلما بلغ سعدا ذلك قال : اللهم إن كان كاذبا فأطل عمره وأدم فقره وأعمي بصره وعرضه للفتن فعمي وافتقر وكبر سنه وصار يتعرض للإماء في سكك الكوفة فإذا قيل له كيف أنت يا أبا سعدة يقول شيخ كبير فقير مفتون أصابتني دعوة سعد ([15]) ، فالكسب الحرام سبب في منع قبول الدعاء واستجابة الرجال ورفع العمل الصالح لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا .

 عدم قبول العمل الصالح: عن عمر بن الخطاب - y - ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيبَر أقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ أصْحَابِ النَّبيِّ - r - ، فقَالُوا : فُلاَنٌ شَهِيدٌ ، وفُلانٌ شَهِيدٌ ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ ، فقالوا : فُلانٌ شَهِيدٌ . فَقَالَ النَّبيُّ - r - : (( كَلاَّ ، إنِّي رَأيْتُهُ في النَّار في بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءة )) ([16])

رأيتُ حَلالَ المالِ خيرَ مغَبةٍ

**

وإِياكَ والمالَ الحرامَ فإِنه

وإِياكَ والمالَ الحرامَ فإِنه

**

وبالٌ إِذا ما قدّم الكفانِ


خامسًا: أسباب أخذ المال الحرام

 الطمع وعدم الرضا بالقليل: وهو الذي يُفسِد على المرء دينَه ودنياه وأخراه، فالناظر إلى ما تعيشه البشرية في الحقبة الأخيرة من حروبٍ طاحنة، وظلم واستبداد، يرى الطمعَ هو الذي يجعل الدول يقتلُ بعضها بعضًا من أجل الاستيلاء على ثروات ومدَّخرات الأمم.

فعن كعب بن مالك - y - ، قَالَ : قَالَ رسول الله - r - : (( مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا في غَنَمٍ بِأفْسَدَ

 لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينهِ ))  ([17]).

 قال المناوي: (فمقصودُ الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفسادًا للدِّين من إفساد الذئبينِ للغنم؛ لأن ذلك الأشر والبَطَر يستفزُّ صاحبه ويأخُذُ به إلى ما يضرُّه، وذلك مذمومٌ؛ لاستدعائه العلوَّ في الأرض والفساد المذمومينِ شرعًا)([18]).

وقال ابن عبد القدوس

لا تَحرِصَنَّ فَالحِرص لَيسَ بِزائِد

**

في الرِزقِ بَل يَشقى الحَريص وَيَتعَب

وَيَظل مَلهوفاً يَروح تحيلا

**

وَالرِزقُ لَيسَ بِحيلَة يُستَجلَب


كَم عاجِز في الناسِ يَأتي رِزقُه

**

رَغداً وَيحرم كيس وَيَخيب

عدم الخوف والحياء من الله: وعن أبي مسعودٍ الأنصاري - y - قال : قال النبيّ - r - : (( إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأولَى : إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ )) . ([19])

إذا لم تخش عاقبة الليالي

**

ولم تستح فاصنع ما تشاء

فلا والله ما في العيش خير

**

ولا الدنيا إذا ذهب الحياء


يعيش المرء ما استحيا بخير

**

ويبقى العود ما بقي اللحاء

 الحرص على المكسب السريع : بعض الناس يستعجلون في قضية الرزق فهم يريدون الحصول على المال من أي جهة وبأي طريق حتى لو كان من حرام ، فالمكسب السريع عندهم هو الغاية المرجوة والهدف المنشود ، وقد يتأخر الرزق عن بعض الناس لحكمة يعلمها مقدر الأرزاق ومقسمها ؛ فيحمله استبطاء الرزق على أن يطلبه بمعصية الله و ولقد حزر النبي r من ذلك فقال فيما رواه عنه ابن مسعود y أن رسول الله r قال: " ليس من عمل يقرب من الجنة إلا قد أمرتكم به ولا عمل يقرب من النار إلا وقد نهيتكم عنه فلا يستبطئن أحد منكم رزقه فإن جبريل ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله أيها الناس وأجملوا في الطلب فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله فإن الله لا ينال فضله بمعصيته "([20])

 الجهل بخطورة الكسب الحرام وحكمه : كثير من الناس يجهل خطورة الكسب الحرام وحكمه وأثره السيئ عليه ، ويتهاون في معرفة ما يحصله من أموال ، وما يتناوله من طعام .

عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كَانَ لأبي بَكر الصديق - y - غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ ، فَجَاءَ يَوْماً بِشَيءٍ ، فَأكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ لَهُ الغُلامُ : تَدْرِي مَا هَذَا ؟ فَقَالَ أَبُو بكر : وَمَا هُوَ ؟ قَالَ : كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإنْسَانٍ في الجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الكَهَانَةَ ، إِلاَّ أنّي خَدَعْتُهُ ، فَلَقِيَنِي ، فَأعْطَانِي لِذلِكَ ، هَذَا الَّذِي أكَلْتَ مِنْهُ ، فَأدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ ([21]) (( الخَرَاجُ )) : شَيْءٌ يَجْعَلُهُ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ يُؤدِّيهِ كُلَّ يَومٍ ، وَباقِي كَسْبِهِ يَكُونُ لِلْعَبْدِ .

وأوصت إحدى الصالحات زوجها وقالت له: يا هذا، اتق الله في رزقنا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.

سادسًا: من  صور المال الحرام

الربا: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278]، وربما سمى الناس الربا بغير اسمه؛ كأن يقال: "الفائدة"، و"الفوائد"، أو "أذون الخزانة"، أو غير ذلك! وهذا كله لا يُخرِجُه عن كونه محرَّمًا، وقد أخبر النبيُّ r عن صنوفِ أهل آخِرِ الزمان بأنهم يأكلون الربا ويسمُّونه بغير اسمه، ويشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها.

وما نُشاهِده اليوم من الفقر والفاقة إنما هو بسببِ محق البركة الناتج عن التعامل بالربا والله تعالى قد قال: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276]، بل إن الرِّبا أبلغ من كثير من الفواحش، ولكن الناس قلَّ أن يلتَفِتوا لذلك!

 فعن أبي هريرة y أنَّ رسولَ الله r قال: ((اجتَنِبُوا السبعَ المُوبِقات))، قيل: يا رسولَ الله، وما هُنَّ؟ قال: ((الشركُ بالله، والسِّحرُ، وقتلُ النَّفْس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكلُ مال اليتيم، وأكلُ الرِّبا، والتولِّي يوم الزحف، وقذفُ المُحصَنات الغافلات المؤمنات)) ([22]).

فالربا حرام بكل أشكاله ، وجميع تعاملاته ، قليله وكثيره سواء ، قَاْلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا " ، ولقد جاء التحذير من خطورة الربا أو التعامل به في سنة المصطفى r ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ r آكِلَ الرِّبَا ، وَمُؤْكِلَهُ ، وَكَاتِبَهُ ، وَشَاهِدَيْهِ ، وَقَالَ : هُمْ سَوَاءٌ " ([23])

الغش والخداع: وإخفاء العيوب، وتغيير تاريخ الصلاحية، ونسبة المنتَج إلى غير مُنتجِه، وغير ذلك من صورٍ تُسوِّل للإنسان نفسُه بها، وخاصة في ظل غياب الرقابة على المواصفات والمقاييس والمصانع والسلع ونحوها، وهذا كثير وكثير، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -r- مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً فَقَالَ « مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ». قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَىْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّى »([24]) ،

 والمقصود بالسماء : المطر ومعنى الصبرة : الكومة المجموعة بلا كيل ولا وزن .

الرشوة: قد انتشرت في شتى المصالح والدوائر - إلا مَن رحم ربك - وسمَّوها بغير اسمها، فهذا يقول: عمولته، وآخر يقول: دخانه، وثالث يقول: قهوته، وأصبحت المصالحُ لا تُقضَى إلا بها، وهذا من كبائر الذنوب التي لا يبالي بها كثيرٌ من أبناء الأمة!

عن عبد الله بن عمرو، قال: سمعتُ رسول الله r يقول: ((لعَن الله الراشي والمرتشي)) ([25]).

التعدي على المالِ العامِّ: عن عَدِيّ بن عَميْرَةَ - y - ، قَالَ : سمعت رَسُول الله - r - ، يقول : (( مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَل ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطاً فَمَا فَوْقَهُ ، كَانَ غُلُولاً يَأتِي به يَومَ القِيَامَةِ )) فَقَامَ إليه رَجُلٌ أسْوَدُ مِنَ الأنْصَارِ ، كَأنِّي أنْظُرُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُول الله ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ ، قَالَ : (( وَمَا لَكَ ؟ )) قَالَ : سَمِعْتكَ تَقُولُ كَذَا وكَذَا، قَالَ : (( وَأَنَا أقُولُه الآنَ : مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِيءْ بقَليله وَكَثيره ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أخَذَ ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى )) ([26])

وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 161]

اقتراض المال وفي نيته عدم آدائه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ y ، عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ : ” مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَخَذَها يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ ” ([27]) .

 أكل مال اليتيملقد حذَّر الإسلام أشد الحذر من أكل أموال اليتامى بالباطل وعدَّه من الكبائر؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ y (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) ([28]) ، وقال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]

التسول وسؤال الناس بلا حاجة أو ضرورةفالتسول سبب لمحق بركة المال ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « لاَ تُلْحِفُوا فِى الْمَسْأَلَةِ فَوَاللَّهِ لاَ يَسْأَلُنِى أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّى شَيْئًا وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ »([29]).

وعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ -r- قَالَ « لاَ تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِى وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ »([30]). ومزعة يعني قطعة.

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

جمع وترتيب: الشيخ أحمد أبو عيد

0109 809 58 54

نسألكم الدعاء



[1])) صحيح الأدب المفرد

[2])) السلسة الصحيحة

([3]) صحيح البخاري

([4]) صحيح الترغيب والترهيب

([5]) الزهد؛ للإمام أحمد 444

([6]) السلسلة الصحيحة

([7]) صحيح سنن الترمذي

([8]) صحيح سنن الترمذي

([9]) فيض القدير (2/ 507)

([10]) صحيح البخاري

([11]) صحيح مسلم

([12]) صحيح مسلم

([13]) صحيح البخاري

([14]) صحيح مسلم

([15])أنساب الإشراف 3/296

([16]) صحيح مسلم

([17]) صحيح سنن الترمذي

([18]) فيض القدير (5/ 445)

([19]) صحيح البخاري

([20]) السلسلة الصحيحة

([21]) صحيح البخاري

([22]) صحيح البخاري

([23]) صحيح مسلم

([24]) صحيح مسلم

([25]) صحيح الترغيب والترهيب

([26]) صحيح مسلم

([27]) صحيح البخاري

([28]) صحيح البخاري

([29]) صحيح مسلم

([30]) صحيح مسلم


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات