تحري الحلال وتجنب الحرام سبب لقبول الأعمال للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله رب العالمين أحمده حمد من رأى آيات قدرته وقوته، وشاهد
الشواهد من فردانيته ووحدانيته، وطرق طوارق سره وبره، وقطف ثمار معرفته من
شجر مجده وجوده، وأشكره شكر من اخترق واغترف من نهر فضله وإفضاله، وأومن به
إيمان من آمن بكتابه وخطابه، وأنبيائه وأصفيائه، ووعده ووعيده، وثوابه
وعقابه.
واشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد
وهو على كل شيء قدير، سبحان من خلق الأشياء وقدرها ومن يجود على العاصي ويستره، يخفي القبيح ويبدي كل صالحة ويغمر العبد إحسانـا ويشكره، ويغفر الذنب للعاصي ويقبلـه إذا أنـاب وبالغفران يجبـره، ومن يلوذ
به في دفع نـائبة يعطيه من فضله عزا وينصره.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه
وحبيبه كاشف الظلم ورافع التهم وموضح الطريق للأمم، المخصوص بجوامع الكلم
والمبعوث إلى جميع العرب والعجم.
ليس لدي من شفيع
إلا النبي المصطفى
|
**
|
ومن لدنك اصطفيته
دون الأنـام حبيب
|
صلى عليه وسلم
رب السماوات العلا
|
**
|
ما ســار سائـر
إليه بـنـاقة ونجـيب
|
وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه
واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين
العناصر
أولاً: وسائل تحري الحلال والابتعاد عن الحرام ثانيًا: أسباب أخذ المال الحرام
ثالثًا: صور المال الحرام رابعًا: أضرار الكسب الحرام
الموضوع
أولًا: وسائل تحري
الحلال والابتعاد عن الحرام
أمر الله تعالى بطلب الرزق الحلال: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ
رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} الملك
أمر الله تعالى بالكسب الطيب الحلال وعدم
التجارة في الحرام: عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله "أَيُّ
الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ
"([1])
إعطاء حق الله فى المال مثل الزكاة والصدقات حتى
تتحقق البركات والنماء والطهارة: يقوّم بضاعته
كل عام ويزكيها بنسبة ربع العشر، أي: 2,5%، في كل ما هو معد للبيع، ويصرفها كما
أمر الله تعالى في الأصناف الثمانية، فلا يترك للشيطان مجالاً للوسوسة وللأمر
بالفحشاء والتخويف من الفقر، كما قال تعالى: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ
الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ
وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "البقرة
وقوله تعالى: "وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ
يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ " سبأ.
نِعْمَ المال الصالح: عَن عَمْرِو بن العاصِ قَالَ:
أَرْسَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنِ اجْمَعْ
عَلَيْكَ سِلَاحَكَ وَثِيَابَكَ ثُمَّ ائْتِنِي» قَالَ: فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ
فَقَالَ: «يَا عَمْرُو إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِأَبْعَثَكَ فِي وُجْةٍ يُسَلِّمُكَ
اللَّهُ وَيُغَنِّمُكَ وَأَزْعَبَ لَكَ زَعْبَةً مِنَ الْمَالِ» . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَا كَانَتْ هِجْرَتِي لِلْمَالِ وَمَا كَانَتْ إِلَّا لِلَّهِ ولرسولِه قَالَ:
«نِعِمَّا بِالْمَالِ الصَّالِحِ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» ([1])
وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه: قال
تعالى "قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ "سبأ
المال أمانة: وأمر الله بأداء الأمانة
إلى أهلها والأمر في كتاب الله يقتضي الوجوب، فقال تعالى:﴿ إِنَّ اللّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم
بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم
بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾"النساء: 58".
وقال تعالى:﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُواْ "آل عمران: 103" ، قال الطيبي: الحبل: العهد
والأمانة والذمة، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ
وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» ([2])
الجوارح امانه: عينك وسمعك ويدك ورجلك
وفرجك وجميع جوارح جسدك كلها امانة ستسأل يوما ما عن تفريطك فيها او استخدامها فى
غير ما خلقت له، قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْم إِنَّ
السَّمْع وَالْبَصَر وَالْفُؤَاد كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الإسراء.
وبينما كان رجل يسير بجانب بستان وجد تفاحة ملقاة على الأرض
فتناول التفاحة وأكلها ثم حدثته نفسه بأنه أتى على شيء ليس من حقه فأخذ يلوم نفسه
وقرر أن يرى صاحب هذا البستان فإما أن يسامحه أو أن يدفع له ثمنها، وذهب الرجل
لصاحب البستان وحدثه بالأمر، فأندهش صاحب البستان لأمانة الرجل، وقال له: ما
اسمك؟؟ قال له: ثابت، قال له: لن أسامحك في هذه التفاحة إلا بشرط أن تتزوج ابنتي
واعلم أنها خرساء عمياء صماء مشلولة، إما أن تتزوجها وإما لن أسامحك في هذه
التفاحة فوجد ثابت نفسه مضطرًا، يوازي بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. فوجد نفسه
يوافق على هذه الصفقة؛ وحين حانت اللحظة التقى ثابت بتلك العروس، وإذ بها آية في
الجمال والعلم والتقى فأستغرب كثيرًا لماذا وصفها أبوها بأنها صماء مشلولة خرساء
عمياء، فلما سألها قالت: أنا عمياء عن رؤية الحرام، خرساء صماء عن قول وسماع ما
يغضب الله، ومشلولة عن السير في طريق الحرام، وتزوج هذا ثابت بتلك المرأة، وكان
ثمرة هذا الزواج: الإمام أبى حنيفة النعمان ابن ثابت.
كان محمد بن المنكدر، له سلع تباع بخمسة، وسلع تباع بعشرة،
فباع غلامه في غَيبته شيئا من سلع الخمسة بعشرة، فلما عرف ابن المنكدر ما فعل
غلامه اغتمّ لصنيعه، وطفق يبحث عن المشتري طوال النهار … حتى وجده، وكان من
الأعراب، فقال له ابن المنكدر: إنَّ الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة،
فقال الأعرابي: يا هذا قد رضيت. فقال ابن المنكدر: وإن رضيت فإنّا لا نرضى لك إلا
ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث: إما أن تستعيد مالك وتعيد السلعة، وإما أن
تُردَّ إليك خمسة، وإما أن تأخذ من سلعة الخمس سلعة العشر. فقال الأعرابي: أعطني
خمسة، فرد عليه الخمسة وانصرف؛ فسأل الأعرابي أهل السـوق عن هذا التاجـــر الأمين؟
فقيل له: هذا محمد بن المنكدر، فقال: لا إله إلا الله، هذا الذي ملأ الآفاق ذكره.
القناعة والرضا: عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ y، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ r فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ
سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي؛ ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ إِنَّ هذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ،
فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ
نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا
خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ وَالَّذِي
بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزأْ أَحَدًا بَعْدكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا
فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ y، يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ، فَيَأْبَى
أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ y دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَأَبَى
أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ
يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ r، حَتَّى تُوُفِّيَ)) ([3]).
تقوى
الله: قال
تعالى : ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ
جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3] .
وما عند الله تعالى من رزق حلال إنما يطلب بطاعة الله ؛ وهذا الذي يأخذ
الرشوة أو يأكل الربا أو يظلم الناس ، إنما يطلب الكسب بمعصية الله ، ومن غير طرقه
المشروعة ، ولا يدرك ما عند الله إلا بطاعته فعن ابن مسعود y أن رسول الله r قال ليس من عمل يقرب من الجنة
إلا قد أمرتكم به ولا عمل يقرب من النار إلا وقد نهيتكم عنه فلا يستبطئن أحد منكم رزقه
فإن جبريل ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله
أيها الناس وأجملوا في الطلب فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله فإن الله
لا ينال فضله بمعصيته"([4])
الحذر
من تعلق القلب بالمال: قال
الحسن البصري رحمه الله: والله لقد أدركتُ أقوامًا وإن كان أحدُهم لَيَرِثُ المال العظيم،
قال: وإنه والله لمجهودٌ شديدُ الجهد، قال: فيقول لأخيه: يا أخي، إني قد علمت أنَّ
ذا ميراثٌ وهو حلال، ولكني أخاف أن يُفسِد عليَّ قلبي وعملي، فهو لك لا حاجة لي فيه،
قال: فلا يرزأ منه شيئًا أبدًا، قال: وهو والله مجهود شديد الجهد ([5]).
الاقتداء بالنبي r والسلف الصالح: عن أَبِي هُرَيْرَةَ y، عَنِ النَبِيِّ r، قَالَ: إِنِّي لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ
التَّمْرَةَ سَاقِطَةَ عَلَى فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ
تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيَهَا" ([6])
عن أبي هُرَيْرَةَ قال أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ تَمْرَةً مِنْ
تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « كِخْ كِخْ ارْمِ بِهَا أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا
لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ». ([7])
أبو بكر الصديق y لما تولى الخلافة فى صبيحة
ولايته بخرج من بيته واضعا حبله على عاتقه ذاهبا إلى السوق متاجرا ليعيش من كسب يده
فينادى عليه عمر بن الخطاب y قائلاً: يا أبا بكر قد كفيناك
اجلس لمصالح المسلمين. ثم ينادى عمر y على أبى عبيدة بن الجراح أمين
الأمة ويقول يا أبا عبيدة: اجعل لأبى بكر ما يكفيه وأهله من بيت المال فيقول أبو عبيدة:
له مقدار شاه فى كل يوم وليلة وله ثوب فى الصيف وثوب فى الشتاء لا يأخذ ثوب الصيف إلا
إذا سلم ثوب الشتاء ويستمر أبو بكر على هذا مراعيا لحق الأمة حريصا على مالها العام.
ويدخل عمر y ليحصي تركه أبى بكر بعد موته
فيجدها تساوى القليل فيبكى ويقول: لقد أتعبت من جاء بعدك.
عمر بن الخطاب لما تولى الخلافة سار بالمسلمين أعظم سيرة حافظا لها ولأموالها مراعيا
حرمة المال العام حتى إنه يسير يوما فيرى أبقارا سمانا فيقول لمن هذه الأبقار فيقولون
له إنها لعبد الله بن عمر فيقول y: ضموها إلى بيت المال فوالله ما سمنت إلا باسم
أمير المؤمنين. إذا رعت هنا أو هناك يقولون دعوها إنها أبقار ابن أمير المؤمنين. ردوها
إلى بيت المال. جاءوا له بزكاة المسك فوضع يده على أنفه حتى لا يشتم رائحته ورعاً عن
المال العام فقالوا يا أمير المؤمنين إنما هي رائحة؛ فقال: وهل يستفاد منه إلا برائحته
؛ الله أكبر فأين من نظر للمال العام بأنه غنيمة باردة فأخذ ينهب منها بغير حساب، وكان يقول: ((كنَّا نَدَعُ تسعةَ أعشار الحلال؛
مخافةَ الوقوع في الحرام)).
عمر بن عبد العزيز جاءه أحد الولاة وأخذ يحدثه عن أمور المسلمين وكان الوقت ليلاً وكانوا
يستضيئون بشمعة بينهما، فلما انتهى الوالي من الحديث عن أمور المسلمين وبدأ يسأل عمر
عن أحواله قال له عمر: انتظر فأطفأ الشمعة وقال له : الآن اسأل ما بدا لك ، فتعجب الوالي
وقال : يا أمير المؤمنين لما أطفأت الشمعة ؟ فقال عمر: كنت تسألني عن أحوال المسلمين
وكنت أستضيء بنورهم ، وأما الآن فتسألني عن حالي فكيف أخبرك عنه على ضوء من مال المسلمين
، أطْفَأَ المصباح؛ حتى لا يستعمل مالَ المسلمين في غير ما هو لعامَّة المسلمين. لقد
كانتْ لهم مواقفُ رائعة في تعفُّفهم عن المال العام؛ ليَضربوا المثلَ لغيرهم على مدى
التاريخ، ووقفوا بقوَّة أمام التصرُّفات التي يظنُّ أنَّ فيها مسَاسًا بأموال المسلمين،
فصادروا ما رأوه من هذا القبيل، وأوْدَعوه بيت المال، إنه لا يعصم من الانحرافِ بخصوص
المال العامِّ إلا رقابةُ الله – تعالى – الذي لا تَخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في
السماء، وإلاَّ الإيمانُ بأنَّ كلَّ لحمٍ نَبَت من سُحْتٍ، فالنارُ أوْلَى به، وإلاَّ
حُسْنُ اختيار من تُوكَل إليهم الأمور على أساس الخبرة والأمانة؛ كما قال يوسف للعزيز:
﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف:
55].
أن الله تعالى بين الحكمة من إنزال المال وهي
عبادته تعالى: عن أبي
واقد الليثيِّ قال: كنا نأتي النبيَّ r إذا أنزل عليه، فيحدِّثنا،
فقال لنا ذات يوم: ((إن الله عز وجل قال: إنَّا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة،
ولو كان لابن آدم وادٍ لأحَبَّ أن يكون إليه ثانٍ، ولو كان له واديانِ لأحبَّ أن يكون
إليهما ثالثٌ، ولا يملأُ جوفَ ابن آدم إلا الترابُ، ثم يتوب الله على مَن تاب))([8])
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فأخبر سبحانه أنه أنزَل المال
ليُستَعان به على إقامةِ حقِّه بالصلاة، وإقامة حق عباده بالزكاة، لا للاستمتاع والتلذُّذ
كما تأكل الأنعام، فإذا زاد المال على ذلك، أو خرج عن هذين المقصودين، فات الغرضُ والحكمة
التي أُنزل لها، وكان الترابُ أولى به، فرجع هو والجوف الذي امتلأ بمحبتِه وجمعِه إلى
التراب الذي هو أصله، فلم ينتفع صاحبُه به، ولا انتفع الجوفُ الذي امتلأ به بما خُلق
له من الإيمان والعلم والحكمة؛ فإنه خُلق لأَنْ يكون وعاءً لمعرفة ربه وخالقه، والإيمان
به ومحبته وذِكره، وأنزل عليه مِن المال ما يَستعينُ به على ذلك، فعطَّل الجاهلُ بالله
وبأمر الله وبتوحيد الله وبأسمائه وصفاته جوفَه عمَّا خُلِق له، وملأه بمحبة المال
الفاني الذاهب، الذي هو ذاهبٌ عن صاحبه أو بالعكس، وجمعه والاستكثار منه، ومع ذلك فلم
يمتلِئْ، بل ازداد فقرًا وحرصًا إلى أن امتلأ جوفُه بالتراب الذي خُلق منه، فرجع إلى
مادته الترابية التي خُلق منها هو وماله، ولم تتكمَّل مادته بامتلاءِ جوفه من العلم
والإيمان، الذي بهما كمالُه وفَلاحه وسعادته في معاشه ومعاده، فالمال إن لم ينفَعْ
صاحبَه، ضرَّه ولا بد، وكذلك العلم والملك والقدرة، كل ذلك إن لم ينفَعْه ضرَّه، فإن
هذه الأمور وسائلُ لمقاصدَ يُتوسَّل بها إليها في الخير والشر، فإن عُطِّلت عن التوسل
بها إلى المقاصد والغايات المحمودة، تُوسِّل بها إلى أضدادها؛ فأربحُ الناسِ مَن جعلها
وسائل إلى الله والدار الآخرة، وذلك الذي ينفعه في معاشه ومعاده، وأخسرُ الناس مَن
توسَّل بها إلى هواه ونَيْل شهواته وأغراضه العاجلة، فخسِر الدنيا والآخرة، فهذا لم
يجعَلِ الوسائلَ مقاصدَ، ولو جعلها كذلك لكان خاسرًا، لكنه جعلها وسائل إلى ضد ما جُعِلت
له، فهو بمثابة مَن
توسَّل بأسباب اللذَّة إلى أعظم الآلام وأدومها"([9]).
فأين الذين شغَلهم المال عن
عبادة الكبير المتعال؟ وأين الذين كان ولاؤهم وبراؤهم، وحبُّهم وبغضهم من أجل المال؟
وأين الذين أنساهم المالُ اللهَ تعالى، فأنساهم الله تعالى أنفسَهم فلم ينتبهوا إلا
وهم في معسكرِ الأموات؟ .
نرى أن الإسلام يقر وجود هاتين الغريزتين في الإنسان. والمال في الإسلام
وسيلة لا غاية، فهو وسيلة إلى مرضاة الله -عز وجل- وليس هو غاية في حد ذاته. واعتبره
الإسلام من الضروريات التي أمَرَ الشرع بحِفْظها: “الدِّين، والنفس، والعقْل، والنَّسْل،
والمال”. واعتبره من أهمِّ أساليب تعمير الأرض؛ لتُعين الإنسان على عبادة الله – عزَّ
وجلَّ
العلم بأن جوارحه أمانه ومسئول عنها بين يدي
الله: عينك
وسمعك ويدك ورجلك وفرجك وجميع جوارح جسدك كلها امانة ستسأل يوما ما عن تفريطك فيها
او استخدامها فى غير ما خلقت له، قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْم
إِنَّ السَّمْع وَالْبَصَر وَالْفُؤَاد كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الإسراء.
العلم بنهى الله تعالى ورسوله r عن الخيانة: فقال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ
اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾"الأنفال"
قال البيضاوي-رحمه الله-: وأصل الخون: النقص كما أن أصل الوفاء
التمام واستعماله في ضد
الأمانة لتضمنه إياه، والخيانة
آية المنافق ودليل نفاقه وعصيانه، عن أبي هريرة عن النبي r قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد
أخلف وإذا اؤتمن خـان» ([10])
العلم بأنه مسئول عنه يوم القيامة: عن أَبي برزة نَضْلَة بن عبيد الأسلمي - y - ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله - r - : (( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَومَ القِيَامَةِ
حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أفنَاهُ ؟ وَعَنْ عِلمِهِ فِيمَ فَعَلَ فِيهِ
؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أيْنَ اكْتَسَبَهُ ؟ وَفيمَ أنْفَقَهُ ؟ وَعَنْ جِسمِهِ فِيمَ
أبلاهُ ؟ )) ([11])
ان المال كما هو زينة فهو فتنة كذلك: قال تعالى: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ
عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران:]
وقال تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ
زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46]
وقال تعالي ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر: 20]
فكما أن المال نعمة وزينة ويحبه الإنسان
هو كذلك فتنة فعن كعب بن عياض - y - ، قَالَ : سَمِعْتُ رسول الله - r- ، يقول : (( إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً
، وفِتْنَةُ أُمَّتِي : المَالُ )) ([12])
قال المناوي رحمه الله: "((إن لكل أمةٍ فتنةً))؛ أي: امتحانًا واختبارًا،
وقال القاضي: أراد بالفتنة الضلالَ والمعصية، ((وإن فتنةَ أمتي المالُ))؛ أي: الالتهاءُ
به؛ لأنه يشغَلُ البال عن القيام بالطاعة، ويُنسِي الآخرة، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [التغابن: 15]، وفيه أن المال
فتنةٌ، وبه تمسَّك من فضَّل الفقر على الغنى، قالوا: فلو لم يكُنِ الغنى بالمال إلا
أنه فتنةٌ، فقلَّ مَن سلِم مِن إصابتها له وتأثيرها في دينه، لكفى" ([13])
ثانيًا: أسباب أخذ
المال الحرام
الطمع وعدم
الرضا بالقليل: وهو
الذي يُفسِد على المرء دينَه ودنياه وأخراه، فالناظر إلى ما تعيشه البشرية في الحقبة
الأخيرة من حروبٍ طاحنة، وظلم واستبداد، يرى الطمعَ هو الذي يجعل الدول يقتلُ بعضها
بعضًا من أجل الاستيلاء على ثروات ومدَّخرات الأمم.
فعن كعب بن مالك - y - ، قَالَ : قَالَ رسول الله - r - : (( مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا في
غَنَمٍ بِأفْسَدَ
لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ
عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينهِ )) ([14]).
قال المناوي: (فمقصودُ الحديث
أن الحرص على المال والشرف أكثر إفسادًا للدِّين من إفساد الذئبينِ للغنم؛ لأن ذلك
الأشر والبَطَر يستفزُّ صاحبه ويأخُذُ به إلى ما يضرُّه، وذلك مذمومٌ؛ لاستدعائه العلوَّ
في الأرض والفساد المذمومينِ شرعًا)([15]).
وقال ابن عبد القدوس
لا تَحرِصَنَّ
فَالحِرص لَيسَ بِزائِد
|
**
|
في الرِزقِ بَل
يَشقى الحَريص وَيَتعَب
|
وَيَظل مَلهوفاً
يَروح تحيلا
|
**
|
وَالرِزقُ لَيسَ
بِحيلَة يُستَجلَب
|
كَم عاجِز في
الناسِ يَأتي رِزقُه
|
**
|
رَغداً وَيحرم
كيس وَيَخيب
|
عدم الخوف والحياء من الله: وعن أبي مسعودٍ الأنصاري - y - قال : قال النبيّ - r - : (( إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ
النُّبُوَّةِ الأولَى : إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ )) . ([16])
إذا لم تخش عاقبة
الليالي
|
**
|
ولم تستح فاصنع
ما تشاء
|
فلا والله ما
في العيش خير
|
**
|
ولا الدنيا إذا
ذهب الحياء
|
يعيش المرء ما
استحيا بخير
|
**
|
ويبقى العود ما
بقي اللحاء
|
وقال
آخر
ورب قبيحة ما حال بيني
|
**
|
وبين ركوبها إلا
الحياء
|
فكان هو الدواء
لها ولكن
|
**
|
إذا ذهب الحياء
فلا دوا
|
قَالَ أَبُو حَسَّانٍ عِيْسَى بنُ عَبْدِ اللهِ البَصْرِيُّ: سَمِعْتُ
الحَسَنَ بنَ عَرَفَةَ يَقُوْلُ: قَالَ لِي ابْنُ المُبَارَكِ: اسْتَعَرتُ قَلَماً
بِأَرْضِ الشَّامِ، فَذَهَبتُ عَلَى أَنْ أَرُدَّهُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ مَرْوَ، نَظَرْتُ،
فَإِذَا هُوَ مَعِي، فَرَجَعتُ إِلَى الشَّامِ حَتَّى رَدَدْتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ.
([17]) ، وروي عن امرأة صالحة أنه قد أتاها نعي زوجها (
خبر وفاته ) وهي تعجن العجين فرفعت يدها ، وقالت : هذا طعام قد صار لنا فيه شريك (
تعني الورثة ).
الحرص على
المكسب السريع : بعض
الناس يستعجلون في قضية الرزق فهم يريدون الحصول على المال من أي جهة وبأي طريق حتى
لو كان من حرام ، فالمكسب السريع عندهم هو الغاية المرجوة والهدف المنشود ، وقد يتأخر
الرزق عن بعض الناس لحكمة يعلمها مقدر الأرزاق ومقسمها ؛ فيحمله استبطاء الرزق على
أن يطلبه بمعصية الله و ولقد حزر النبي r من ذلك فقال فيما رواه عنه
ابن مسعود y أن رسول الله r قال: " ليس من عمل يقرب من الجنة إلا قد أمرتكم
به ولا عمل يقرب من النار إلا وقد نهيتكم عنه فلا يستبطئن أحد منكم رزقه فإن جبريل
ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه فاتقوا الله أيها الناس
وأجملوا في الطلب فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله فإن الله لا ينال
فضله بمعصيته "([18])
فلا يبع العاقل دينه من أجل نعيم زائل يزول مع أول صبغة في النار أعاذنا
الله منها فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ r: يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا ، مِنْ
أَهْلِ النَّارِ ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ، ثُمَّ
يُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ
قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لاَ ، وَاللهِ ، يَا رَبِّ ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ فِي
الدُّنْيَا ، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً ، فَيُقَالُ
لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ
؟ فَيَقُولُ : لاَ ، وَاللهِ ، يَا رَبِّ ، مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ ، وَلاَ رَأَيْتُ
شِدَّةً قَطُّ. ([19])
الجهل بخطورة
الكسب الحرام وحكمه : كثير
من الناس يجهل خطورة الكسب الحرام وحكمه وأثره السيئ عليه ، ويتهاون في معرفة ما يحصله
من أموال ، وما يتناوله من طعام .
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كَانَ لأبي بَكر الصديق - y - غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الخَرَاجَ ، وَكَانَ
أَبُو بَكْرٍ يَأكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ ، فَجَاءَ يَوْماً بِشَيءٍ ، فَأكَلَ مِنْهُ أَبُو
بَكْرٍ ، فَقَالَ لَهُ الغُلامُ : تَدْرِي مَا هَذَا ؟ فَقَالَ أَبُو بكر : وَمَا هُوَ
؟ قَالَ : كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإنْسَانٍ في الجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الكَهَانَةَ
، إِلاَّ أنّي خَدَعْتُهُ ، فَلَقِيَنِي ، فَأعْطَانِي لِذلِكَ ، هَذَا الَّذِي أكَلْتَ
مِنْهُ ، فَأدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ ([20]) (( الخَرَاجُ )) : شَيْءٌ يَجْعَلُهُ السَّيِّدُ
عَلَى عَبْدِهِ يُؤدِّيهِ كُلَّ يَومٍ ، وَباقِي كَسْبِهِ يَكُونُ لِلْعَبْدِ .
وأوصت إحدى الصالحات زوجها وقالت له: يا هذا، اتق الله في رزقنا، فإنا
نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.
ثالثًا: صور المال
الحرام
الربا: عن سَمُرة بن جُندب قال: كان رسول الله r إذا صلَّى أقبل علينا بوجهه،
فقال: ((هل رأى أحدٌ منكم الليلةَ رؤيا؟))؛ الحديث، قال رسول الله r: ((رأيتُ الليلةَ رجلينِ أَتَيَاني فأخَذا بيدي،
فأخرَجاني إلى أرض مستوية
أو فضاء))؛ الحديث، وقال فيه: ((فانطلَقْنا حتى انتهَيْنا إلى نهرٍ مِن دمٍ، فيه رجال
قيام، ورجل قائم
على شط النهر، بين يديه حجارة، فيقبل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرُجَ
منه، رماه الرجل بحجرٍ في فِيهِ، فردَّه حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرجَ
رماه في فيه بحجرٍ فردَّه حيث كان، فقلتُ لهما: ما هذا؟ فقالا: الذي رأيته في النهر
آكلُ الربا))([21])، وهذا إشارةٌ إلى ما يقع فيه من الطمع، كلما أراد
الخروج منه طمِع، فرجَع لحبِّ المال.
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 278]، وربما سمى الناس الربا بغير اسمه؛ كأن يقال:
"الفائدة"، و"الفوائد"، أو "أذون الخزانة"، أو غير ذلك!
وهذا كله لا يُخرِجُه عن كونه محرَّمًا، وقد أخبر النبيُّ r عن صنوفِ أهل آخِرِ الزمان بأنهم يأكلون الربا ويسمُّونه
بغير اسمه، ويشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها.
وما نُشاهِده اليوم من الفقر والفاقة إنما هو بسببِ محق البركة الناتج
عن التعامل بالربا والله تعالى قد قال: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ
﴾ [البقرة: 276]، بل إن الرِّبا أبلغ من كثير من الفواحش، ولكن الناس قلَّ
أن يلتَفِتوا لذلك!
فعن أبي هريرة y أنَّ رسولَ الله r قال: ((اجتَنِبُوا السبعَ المُوبِقات))، قيل: يا
رسولَ الله، وما هُنَّ؟ قال: ((الشركُ بالله، والسِّحرُ، وقتلُ النَّفْس التي حرَّم
الله إلا بالحق، وأكلُ مال اليتيم، وأكلُ الرِّبا، والتولِّي يوم الزحف، وقذفُ المُحصَنات
الغافلات المؤمنات)) ([22]).
فالربا حرام بكل أشكاله ، وجميع تعاملاته ، قليله وكثيره سواء ، قَاْلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : " وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا " ، ولقد جاء التحذير من خطورة الربا
أو التعامل به في سنة المصطفى r ، عَنْ جَابِرٍ y قَالَ : " لَعَنَ رَسُولُ
اللَّهِ r آكِلَ الرِّبَا ، وَمُؤْكِلَهُ
، وَكَاتِبَهُ ، وَشَاهِدَيْهِ ، وَقَالَ : هُمْ سَوَاءٌ " ([23])
الغش والخداع: وإخفاء العيوب، وتغيير تاريخ الصلاحية، ونسبة المنتَج إلى غير مُنتجِه،
وغير ذلك من صورٍ تُسوِّل للإنسان نفسُه بها، وخاصة في ظل غياب الرقابة على المواصفات
والمقاييس والمصانع والسلع ونحوها، وهذا كثير وكثير، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ. أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -r- مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ
فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً فَقَالَ « مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ
». قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « أَفَلاَ جَعَلْتَهُ
فَوْقَ الطَّعَامِ كَىْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّى »([24]) ، والمقصود بالسماء : المطر ومعنى الصبرة : الكومة المجموعة بلا كيل ولا
وزن .
الرشوة: قد انتشرت في شتى المصالح والدوائر - إلا مَن رحم ربك - وسمَّوها بغير
اسمها، فهذا يقول: عمولته، وآخر يقول: دخانه، وثالث يقول: قهوته، وأصبحت المصالحُ لا
تُقضَى إلا بها، وهذا
من كبائر الذنوب التي لا يبالي
بها كثيرٌ من أبناء الأمة!
قال الذهبي: "فيه أن الرشوة
كبيرةٌ، قال: والناس في القضاء على مراتب في الجودة والرداءة، والقاضي مكشوف للناس
لا يمكنه التستر، والناس شهداء الله في أرضه، فمَن ارتشى منهم وجار وتضرر به الخلق،
فقد رأيناه جهارًا"([26]).
التعدي على المالِ العامِّ: ومِن أخطر صور الجشع والطمعِ التعدِّي على المالِ العامِّ بالسرقة، أو
النهب، أو الاختلاس، أو التفريط ، ولقد رأينا مَن يتخوضون في مالِ الله ويُضيِّعونه،
فرأينا مَن يسرق المليارات ويهربونها إلى خارج البلاد، ويسوي أموره - كما يقولون -
ويظنون أنهم بذلك قد أمَّنوا مستقبلهم، وما علِموا أن ما فعَلوه من كبائر وعظائم الذنوب،
فليس لهم في الآخرة إلا الفضيحة على الملأ، يوم الفضيحة الكبرى.
وعن أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ r اسْتَعْمَلَ عَامِلاً، فَجَاءَهُ الْعَامِلُ حِينَ
فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هذَا لَكُمْ، وَهذَا أُهْدِيَ لِي
فَقَالَ لَهُ: "أَفَلاَ قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى
لَكَ أَمْ لاَ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ r عَشِيَّةً، بَعْدَ الصَّلاَةِ،
فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ،
فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هذَا مِنْ عَمَلِكمْ،
وَهذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلاَ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى
لَهُ أَمْ لاَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَغُلُّ أَحَدُكُمْ مِنْهَا
شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، إِنْ كَانَ
بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خوَارٌ،
وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ، فَقَدْ بَلَّغْتُ، فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ:
ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللهِ r يَدَهُ حَتَّى إِنَّا لَنَنْظُرُ
إِلَى عُفْرَةِ إِبْطَيْهِ" ([27])
فهم يسرقون ويُبرِّرون ذلك بأن أموال الدولة أموالٌ للشعب، وهذا أمرٌ
في غايةِ الفساد والبطلان، فمالُ الدولة يُسمَّى مالًا عامًّا، وهذا يُصرَفُ في مصارف
المسلمين العامَّة، ويُطعَم منه جائعُهم، ويُواسَى منه فقيرهم ومنكوبهم، وتُصرَف منه
رواتب العاملين في الدولة، أما أخذُه مِن أي فرد بدون مسوِّغٍ، فهو من أكل أموال الناس
بالباطل، ويكفي في احترام المال العامِّ مالِ الدولة أن سارقه يُحَدُّ، والمال العام
ليس أخفَّ من المال الخاص في التحريم، بل هو أشدُّ منه حرمة؛ لأن لكل فرد من أفراد
المجتمع الحقَّ فيه، بخلاف المال الخاص.
عن عَدِيّ بن عَميْرَةَ - y - ، قَالَ : سمعت رَسُول الله - r - ، يقول : (( مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ
عَلَى
عَمَل ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطاً
فَمَا فَوْقَهُ ، كَانَ غُلُولاً يَأتِي به يَومَ القِيَامَةِ )) فَقَامَ إليه رَجُلٌ
أسْوَدُ مِنَ الأنْصَارِ ، كَأنِّي أنْظُرُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُول الله ،
اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ ، قَالَ : (( وَمَا لَكَ ؟ )) قَالَ : سَمِعْتكَ تَقُولُ كَذَا
وكَذَا، قَالَ : (( وَأَنَا أقُولُه الآنَ : مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِيءْ
بقَليله وَكَثيره ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أخَذَ ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى ))
([28])
وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ
بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 161]
اقتراض المال وفي نيته عدم آدائه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ y ، عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ : ” مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ
أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَخَذَها يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ
اللَّهُ ” ([29]) .
إن أكل المال بمثل هذه الصورة من صور المال الحرام هو ظلم وتعد على الأموال
المعصومة ، فمن كانت لديه أموال لأناس أسدوا له معروفاً ، وقدموا له إحساناً فعليه
أن يرد المال لأصحابه ، والإحسان إحساناً ، يقول الله جل وعلا : " هَلْ جَزَاءُ
الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) " الرحمن.
وقال تعالى : " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ
إِلَى أَهْلِهَا " النساء، واعلموا أيها الناس أن من يأكل أموال الناس
بطريقة خسيسة ، وحيلة ملتوية ، لا إسلام ، ولا إيمان له ، ويصدق ذلك قول رَسُولُ اللَّهِ
r : " الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ
مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ " ([30]) ، فأين الإسلام ممن لم يسلم الناس من يده ، وأين
الإيمان ممن لم يرع أموال الناس ، فاتقوا الله عباد الله ، وردوا الأمانات إلى أهلها
، وتوبوا إليه قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، وإنما هي الحسنات والسيئات.
بيع
المسلم على بيع أخيه ، وشرائه على شرائه: كمن يشتري سلعة من شخص ، ثم يأتي آخر ، فيعرض مبلغاً أكثر من الأول بقصد
الإضرار أو بلا قصد ، فهذا بيع وشراء محرم ، وكذلك بيع المسلم على بيع أخيه ، كمن يبيع
سلعة على شخص ثم يأتي بائع آخر ، فيعرض سلعته على المشتري بقصد الإضرار بالبائع الأول
، أو بغير قصد ، فهذا بيع وشراء حرام ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ -r- قَالَ « لاَ يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ
أَخِيهِ وَلاَ يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ »([31]). ، فلا يجوز للمسلم إذا رأى أخيه المسلم أقدم على
شراء سلعة أن يقدم على شرائها ، حتى يتم البيع أو يترك المشتري السلعة ، ولا يجوز للمسلم
أن يبيع سلعة على مسلم قد باعها إياه بائع آخر ، حتى يتم البيع أو يترك المشتري ، وكذلك
لا يجوز أن يسوم المسلم على سوم أخيه ، لقوله r : " لَا يَسُومُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ
أَخِيهِ " ([32]) هذه من محاسن الإسلام ، وخصاله الحميدة ، وصفاته النبيلة ، التي فقدها
كثير من التجار ، ولم يرمها كثير من الناس اليوم ، لا سيما في بيعهم وشرائهم ، فعليكم
بتقوى الله ، وتحري الكسب الحلال في أموالكم ، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً .
بيع
النجش:
وهو أن يزيد
أو ينقص في ثمن السلعة من لا يريد شراءها ، وإنما يريد الإضرار بالبائع أو المشتري
، سواءً كان متواطئاً مع البائع أم المشتري أم لم يكن ، فكل ذلك من أكل المال الحرام
، عَنِ ابْنِ عُمَرَ r قَالَ : " نَهَى النَّبِيُّ
r عَنِ النَّجْشِ " ([33]) ، فاحذروا عباد الله أسباب سخط الله تعالى ، وكلوا
الرزق الحلال الطيب ، ليبارك لكم فيما رزقكم ربكم .
بيوع أخرى محرمة: بعض العمال والأجراء يتفق مع الزبون لبيع السلعة بسعر ، ويخفي السعر
الحقيقي عن صاحب العمل ، ويأخذ الفرق بين السعرين ، وهذا حرام لما فيه من الغش والكذب
والخيانة.
ومن الأموال المحرمة بيع سلعة تقليدية أو تجارية على أنها سلعة أصلية
، ولا يخفى على كل مسلم ما لهذا العمل المشين من خيانة للمسلمين ، وأكل أموالهم بالباطل
، وهذا لا شك أنه يأكل هذا المال ظلماً وعدواناً ، إنما يأكل في بطنه ناراً ، فليتق
الله ويسلم ، أو ليعصه فيندم .
ويدخل في ذلك أيضاً بيع آلات اللهو والطرب ، وبيع أشرطة الغناء ، وأشرطة
الفيديو التي تحوي مسلسلات هابطة ، وأفلام خليعة ، مخلة بالآداب ، ملفتة إلى الحرام
، وتصد عن سبيل الله وعن الصلاة ، وتبعد عن طريق الله القويم ، وصراطه المستقيم .
ومن الأموال المحرمة بيع الدخان والشيشة والمخدرات ، مما لا يخفى على
كل مسلم ضررها على الأفراد والمجتمعات والأمم ، وإن الله عز وجل إذا حرم شيئاً حرم
ثمنه ، فهذه الأموال التي بسببها يتم تدمير شباب الأمة ورجالها ونسائها ، حرام أشد
الحرمة ، وصاحبها معرض للعقوبة والعياذ بالله ، إذا وضع في قبره ، وعند لقاء ربه ،
هذه الأموال بهذه الطرق الغير مشروعة سحت حرام ، وكل جسد نبت من السحت فالنار أولى
به والعياذ بالله .
أكل مال الغير من الأعيان بغير حق: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ y قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
r :”لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ
بِغَيْرِ حَقِّهِ ، إِلَّا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
” ([34]) .
ألا فلتعلمَ أن ما أكلتَ من حق أختك وغيرك من الضعفاء؛ من مال وعقار؛
ستُطوقه يومَ القيامة بإذن الله، لو ظلمتهم جنيهًا سيأتي عليك نارًا، وعَنْ أَبِى أُمَامَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -r- قَالَ « مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ
بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
». فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ
« وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ »([35]). الأراك
: جمع أراكة وهي شجرة يستاك بقضبانها
أكل مال
اليتيم:
لقد حذَّر الإسلام
أشد الحذر من أكل أموال اليتامى بالباطل وعدَّه من الكبائر؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
y (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)، قِيلَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ
النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ
مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ) ([36]) ، وقال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيرًا} [النساء: 10]
التسول وسؤال الناس بلا حاجة أو ضرورة: فالتسول سبب لمحق بركة المال ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -r- « لاَ تُلْحِفُوا فِى الْمَسْأَلَةِ فَوَاللَّهِ
لاَ يَسْأَلُنِى أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّى شَيْئًا
وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ »([37]).
التسول تعتيم لصورة الإسلام المضيئة ، وتشويه لحقيقته الوضاءة ، فكم
سعى الأعداء للنيل من الإسلام بشتى الطرق والوسائل ، ومنها تغيير منهج المساجد وملؤها
بأولئك المتسولين والمتسولات ، حتى تفاقم الوضع وانتشر ، وزاد المكر والخطر ، ينهبون
الناس بكلمات رقيقة جذابة ، صنعها لهم صُناع الكلمة من العصابات ، والمؤسسات المنحرفة
، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ -r- قَالَ « لاَ تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ
حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ فِى وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ »([38]). ومزعة يعني قطعة
وكم من الناس اليوم من يعاني
الفقر ، ويصارع الجوع ، ويدفع الفاقة ، ومع ذلك تراه عفيف النفس ، شامخ الأخلاق ، فلا
يمد يديه إلا لله ، ولا يُنزل حاجته إلا بالله ، ومع فقره وشدة حاجته فهو كما قال الله
تعالى : " لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ
بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ
اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) "البقرة ، وهناك من الناس من
يسأل عباد الله ، ويترك من بيده خزائن السموات والأرض ، لا حاجة ولا فاقة ، وإنما إكثاراً
من الأموال وتكسباً ، فأصبح التسول هو وظيفته ، ومصدر رزقه ، وقَالَ r : " لَا يَفْتَحُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ
بَابَ مَسْأَلَةٍ ، إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ ، يَأْخُذُ الرَّجُلُ
حَبْلَهُ فَيَعْمِدُ إِلَى الْجَبَلِ ، فَيَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَأْكُلُ بِهِ
، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ ، مُعْطًى أَوْ مَمْنُوعًا " ([39])
ومع حرمة التسول ، وأليم عقابه في الآخرة ، إلا أن هناك أنواعاً من التسول
أجازها الشارع الكريم فعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ قَالَ : تَحَمَّلْتُ
حَمَالَةً ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ أَسْأَلُهُ
فِيهَا ، فَقَالَ : " أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ
بِهَا " ، ثُمَّ قَالَ : يَا قَبِيصَةُ ! إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا
لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ : رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى
يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ
لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ، أَوْ قَالَ : سِدَادًا مِنْ
عَيْشٍ ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا
مِنْ قَوْمِهِ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى
يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ، أَوْ قَالَ : سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ ، فَمَا سِوَاهُنَّ
مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا ، يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا
" ([40])
والحجا : العقل الكامل، الفاقة : الحاجة والفقر، القوام : ما تقوم به
الحاجة الضرورية
فلا تحل المسألة إلا لثلاثة وهم رجل تحمل حمالة: يعني التزم في ذمته
لإصلاح ذات البين، فهذا يعطي وله أن يسأل حتى يصيبها ثم يمسك ولا يسأل، ورجل - آخر
- أصابته جائحة اجتاحت ماله كنار وغرق وعدو وغير ذلك فيسأل حتى يصيب قواما من عيش ،
والثالث: رجل كان غنيا فافتقر بدون سبب ظاهر وبدون جائحة معلومة فهذا له أن يسأل لكن
لا يعطى حتى يشهد ثلاثة من أهل العقول من قومه بأنه أصابته فاقة فيعطي بقدر ما أصابه
من الفقر .
فهؤلاء الثلاثة هم الذين تحل لهم المسألة وما سوى ذلك فإن الرسول r قال: وما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها
سحتا ، والسحت هو الحرام وسمي سحتا لأنه يسحت بركة المال، وربما يسحت المال كله فيكون
عليه آفات وغرامات تسحت ماله من أصله ([41]).
رابعًا: أضرار
الكسب الحرام
ظلمة القلب
وكسل الجوارح عن الطاعة:
الكسب الحرام
له آثار وأضرار وخيمة على صاحبه فهو يؤدي إلى ظلمة القلب وكسل الجوارح عن طاعة الرب
، ونزع البركة من الرزق والعمر .
وقال ابن عباس y:" إن للحسنة نوراً في القلب، وضياء في الوجه،
وقوة في البدن، وزيادة في
الرزق، ومحبة في قلوب الخلق.
وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنا في البدن
، ونقصاً في الرزق وبغضاً في قلوب الخلق" .
ويقول يحيى بن معاذ: الطاعة خزانة من خزائن الله إلا أن مفتاحها الدعاء،
وأسنانه لقم الحلال.
خرج الأمير شروان للصيد فأدركه العطش فرأى في البرية بستاناً وعنده صبي
فطلب منه ماء فقال ليس عندنا ماء قال ادفع لي رمانة فدفعها إليه فاستحسنها فنوى أخذ
البستان ثم قال ادفع لي أخرى فدفع له أخرى فوجدها حامضة فقال أما هي من الشجرة الأولى
قال نعم قال كيف تغير طعمها قال لعل نية الأمير تغيرت فرجع عن ذلك في نفسه ثم قال ادفع
لي أخرى فدفع له أخرى فوجدها أحسن من الأولى فقال كيف صلحت قال بصلاح نية الأمير ([42]).
دخول النار والحرمان من الجنة: قال تعالى: " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرًا (30) " النساء.
وعن أَبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي - y - : أنَّ رَسُول الله - r - ، قَالَ : (( مَن اقْتَطَعَ حَقَّ امْرىء مُسْلِم
بيَمينه ، فَقدْ أوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ ، وَحَرَّمَ عَلَيهِ الجَنَّةَ )) فَقَالَ
رَجُلٌ : وإنْ كَانَ شَيْئاً يَسيراً يَا رَسُول الله ؟ فَقَالَ : (( وإنْ قَضيباً
مِنْ أرَاك )) ([43])، وعن خولة الأنصارية أن رسول الله r
قال: «إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة»([44])
عدم قبول
الدعاء: عَنْ
أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ
لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ
بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا
صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ». ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ
أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ
حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى
يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ » ([45]).
ولما سعى أهل الكوفة به إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه أرسل جماعة
للكوفة يسألون عن حاله من أهل الكوفة فصاروا كلما سألوا عنه أحدا قال خيرا وأثنى عليه
، حتى سألوا رجلا يقال له أبو سعدة فذمه وقال لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية
، فلما بلغ سعدا ذلك قال : اللهم إن كان كاذبا فأطل عمره وأدم فقره وأعمي بصره وعرضه
للفتن فعمي وافتقر وكبر سنه وصار يتعرض للإماء في سكك الكوفة فإذا قيل له كيف أنت يا
أبا سعدة يقول شيخ كبير فقير مفتون أصابتني دعوة سعد ([46]) ، فالكسب الحرام سبب في منع قبول الدعاء واستجابة
الرجال ورفع العمل الصالح لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا .
عدم قبول
العمل الصالح: عن عمر
بن الخطاب - y - ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيبَر أقْبَلَ
نَفَرٌ مِنْ أصْحَابِ النَّبيِّ - r - ، فقَالُوا : فُلاَنٌ شَهِيدٌ ، وفُلانٌ شَهِيدٌ
، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ ، فقالوا : فُلانٌ شَهِيدٌ . فَقَالَ النَّبيُّ - r - : (( كَلاَّ ، إنِّي رَأيْتُهُ في النَّار
في بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءة )) ([47])
رأيتُ حَلالَ
المالِ خيرَ مغَبةٍ
|
**
|
وإِياكَ والمالَ
الحرامَ فإِنه
|
وإِياكَ والمالَ
الحرامَ فإِنه
|
**
|
وبالٌ إِذا ما
قدّم الكفانِ
|
وقال آخر :
لا ترغبنْ في
كثيرِ المالِ تكنزهُ
|
**
|
من الحرامِ فلا
ينمى وإِن كَثُرا
|
واطلبْ حلالاً
وإِن قلَّتْ فواضلهُ
|
**
|
إِن الحلالَ زكيٌ
حيثما ذُكِرا
|
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ أحمد أبو عيد
0109 809 58 54
نسألكم الدعاء