خطـورة الكـبر للشيخ أحمد أبو عيد
الحمدُ لله مَوْصُولا
كما وجبا، فهو الذي برداء العِزّة احْتَجَبا، الباطِن الظّاهرِ الحق الذي عَجَزَ تْعنه
المدارِكُ لما أمْعَنَتْ طَلَبا.
وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، علا عنِ الوصْفِ مَن لا شيءَ يُدْرِكُه وجَلَّ عن سبَبٍ
من أوْجَدَ السّببا، والشُّكرُ للهِ في بدْءٍ ومُخْتَتَم، فالله أكرَمُ من أعْطى ومَنْ
وَهَبا.
وأشهد أن سيدنا وقائدنا
وقدوتنا، سيد الأولين والآخرين، وحبيب رب العالمين، والشفيع المشفع يوم الدين.
عناصر الموضوع
أولا:
تعريف الكبر وأسبابه ومظاهره ودرجاته ثانيًا: الترهيب من الكبر
ثالثًا:
نماذج على الكبر رابعًا: الوسائل المعينة على ترك الكِبْر
الموضوع
أولا: تعريف الكبر وأسبابه ومظاهره ودرجاته
تعريف
الكبر: قال ابن منظور: الكبر بالكسر:
الكبرياء، والكبر العظمة والتّجبّر، وقيل: الرّفعة في الشّرف، وقيل: هي عبارة عن كمال
الذّات ولا يوصف بها إلّا الله تعالى.
وقال الجاحظ: الكبر هو استعظام
الإنسان نفسه، واستحسان ما فيه من الفضائل، والاستهانة بالنّاس واستصغارهم والتّرفّع
على من يجب التّواضع له. ([1])
أسباب الكبر: قال الغزالي: أسباب الكبر أربعة وهم العجب، والحقد، والحسد، والرّياء.
أمّا العجب: فإنّه
يورث الكبر الباطن، والكبر يثمر التّكبّر الظّاهر في الأعمال والأقوال والأحوال.
وأمّا الحقد: فإنّه
يحمل على التّكبّر من غير عجب، كالّذي يتكبّر على من يرى أنّه مثله أو فوقه، ولكن قد
غضب عليه بسبب سبق منه فأورثه الغضب حقدا ورسخ في قلبه بغضه، فهو لذلك لا تطاوعه نفسه
أن يتواضع له وإن كان عنده مستحقّا للتّواضع.
وأمّا الحسد: فإنّه
أيضا يوجب البغض للمحسود وإن لم يكن من جهته إيذاء وسبب يقتضي الغضب والحقد، ويدعو
الحسد أيضا إلى جحد الحقّ حتّى يمنع من قبول النّصيحة وتعلّم العلم، فكم من جاهل يشتاق
إلى العلم وقد بقي في رذيلة الجهل لاستنكافه أن يستفيد من واحد من أهل بلده أو أقاربه
حسدا وبغيا عليه، فهو يعرض عنه ويتكبّر عليه مع معرفته بأنّه يستحقّ التّواضع بفضل
علمه، ولكنّ الحسد يبعثه على أن يعامله بأخلاق المتكبّرين، وإن كان في باطنه ليس يرى
نفسه فوقه.
وأمّا الرّياء: فهو
أيضا يدعو إلى أخلاق المتكبّرين، حتّى إنّ الرّجل ليناظر من يعلم أنّه أفضل منه وليس
بينه وبينه معرفة ولا محاسدة ولا حقد، ولكن يمتنع من قبول الحقّ منه ولا يتواضع له
في الاستفادة خيفة من أن يقول النّاس إنّه أفضل منه فيكون باعثه على التّكبّر عليه
الرّياء المجرّد، ولو خلا معه بنفسه لكان لا يتكبّر عليه.
مظاهر التكبر: قال ابن قدامة المقدسي: (في الجملة، فكلُّ ما يمكن أن يُعتقد كمالًا- وإن
لم يكن كمالًا- أمكن أن يتكبر به، حتى الفاسق قد يفتخر بكثرة شرب الخمر والفجور؛ لظنِّه
أنَّ ذلك كمال) . وقال الغزالي: (اعلم أنَّه لا يتكبر إلا من استعظم نفسه، ولا يستعظمها
إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال، وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي، فالديني
هو العلم والعمل، والدنيوي هو النسب والجمال والقوة والمال وكثرة الأنصار، فهذه سبعة
أسباب:
الأول: العلم وما
أسرع الكِبْر إلى العلماء... فلا يلبث العالم
أن يتعزز بعزة العلم، يستشعر في نفسه جمال العلم وكماله، ويستعظم نفسه ويستحقر الناس،
وينظر إليهم نظره إلى البهائم، ويستجهلهم... هذا فيما يتعلق بالدنيا، أما في أمر الآخرة
فتكبره عليهم؛ بأن يرى نفسه عند الله تعالى أعلى وأفضل منهم، فيخاف عليهم أكثر مما
يخاف على نفسه، ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم.
الثاني: العمل والعبادة،
وليس يخلو عن رذيلة العزِّ والكِبْر، واستمالة قلوب الناس الزهاد، والعباد، ويترشح
الكِبْر منهم في الدين والدنيا، أما في الدنيا فهو أنهم يرون غيرهم بزيارتهم أولى منهم
بزيارة غيرهم، ويتوقعون قيام الناس بقضاء حوائجهم، وتوقيرهم، والتوسع لهم في المجالس،
وذكرهم بالورع، والتقوى، وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ... وأما في الدين فهو أن
يرى الناس هالكين، ويرى نفسه ناجيًا، وهو الهالك تحقيقًا.
الثالث: التكبر بالحسب
والنسب، فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب، وإن كان أرفع منه عملًا وعلمًا،
وقد يتكبر بعضهم، فيرى أنَّ الناس له أموال وعبيد، ويأنف من مخالطتهم ومجالستهم.
الرابع: التفاخر
بالجمال، وذلك أكثر ما يجري بين النساء، ويدعو ذلك إلى التنقص، والثلب، والغيبة، وذكر
عيوب الناس.
الخامس: الكِبْر
بالمال، وذلك يجري بين الملوك في خزائنهم، وبين التجار في بضائعهم، وبين الدهاقين في
أراضيهم، وبين المتجملين في لباسهم وخيولهم، ومراكبهم، فيستحقر الغني الفقير، ويتكبر
عليه.
السادس: الكِبْر
بالقوة وشدة البطش، والتكبر به على أهل الضعف.
السابع: التكبر بالأتباع والأنصار، والتلامذة والغلمان،
وبالعشيرة، والأقارب، والبنين، ويجري ذلك بين الملوك في المكاثرة بالجنود، وبين العلماء
في المكاثرة بالمستفيدين ([2])...
درجات الكبر: يقول ابن قدامة المقدسي: (واعلم أنَّ العلماء والعباد في آفة الكِبْر على
ثلاثة درجات:
الأولى: أن يكون الكِبْر مستقرًّا في قلب الإنسان منهم، فهو يرى نفسه خيرًا من
غيره، إلَّا أنه يجتهد ويتواضع، فهذا في قلبه شجرة الكِبْر مغروسة، إلا أنَّه قد قطع
أغصانها.
الثانية: أن يظهر لك بأفعاله من الترفع في المجالس، والتقدم على الأقران، والإنكار
على من يقصر في حقه، فترى العالم يصعر خده للناس، كأنه معرض عنهم، والعابد يعيش ووجهه
كأنه مستقذر لهم، وهذان قد جهلا ما أدَّب الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، حين
قال: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء:
215].
الدرجة الثالثة: أن يظهر الكِبْر بلسانه، كالدعاوى والمفاخر، وتزكية النفس، وحكايات الأحوال
في معرض المفاخرة لغيره، وكذلك التكبر بالنسب، فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له
ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملًا. قال ابن عباس: يقول الرجل للرجل: أنا أكرم
منك، وليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى. قال الله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، وكذلك التكبر بالمال، والجمال،
والقوة، وكثرة الأتباع، ونحو ذلك، فالكِبْر بالمال أكثر ما يجري بين الملوك والتجار
ونحوهم. والتكبر بالجمال أكثر ما يجري بين النساء، ويدعوهن إلى التنقص، والغيبة وذكر
العيوب. وأما التكبر بالأتباع والأنصار، فيجري بين الملوك بالمكاثرة بكثرة الجنود،
وبين العلماء بالمكاثرة بالمستفيدين) ([3])
.
ثانيًا: الترهيب من الكبر
هو
أول ذنبٍ عُصِيَ به الله تعالى في السماء، وذلك لَمَّا أمر الله تعالى
الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا، إلا إبليس أبى واستكبر؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ
وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34]، وقد كان قياسه فاسدًا لما أجاب
ربه، بعد أن سألَه سبحانه عن سبب إبائِه: ﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ *
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ [ص:
75، 76]، فالمتكبرون يظنون - جَهْلاً - أنهم أفضل من الناس وأعز وأكرم، كما قاس
الملعون إبليس؛ لظنِّه أن عنصر النار أشْرَف من الطين، فيدفعهم ذلك إلى ظن الرِّفعة
والتميُّز، مرتكزين إلى نسب أو منصبٍ أو مالٍ، وذلك وهْمٌ كبيرٌ، فالأفضلية للدِّين
والتقوى.
صرف الهداية عنهم: قال تعالى: (سَأَصْرِفُ
عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (الأعراف/
46) ،
قال الزّجّاج: أي أجعل جزاءهم الإضلال عن هداية آياتي،
قال: ومعنى يتكبّرون: أي أنّهم يرون أنّهم أفضل الخلق، وأنّ لهم من الحقّ ما ليس لغيرهم.
وهذه الصّفة لا تكون إلّا لله خاصّة، لأنّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي له القدرة والفضل
الّذي ليس لأحد مثله.
يصرف
عن الطاعة: قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ
وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [ البقرة 34]
وقال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا
تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)
[البقرة 34] ، قال الحسن- رحمه الله- «السّجود يذهب بالكبر، والتّوحيد يذهب
بالرّياء»
علامة
على جحود القلوب: قال تعالى: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ
وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)
[النحل 22] أي إلهكم المستحق وحده للعبادة هو الله الإله الواحد، فالذين
لا يؤمنون بالبعث قلوبهم جاحدة وحدانيته سبحانه، لعدم خوفهم من عقابه، فهم متكبرون
عن قبول الحق، وعبادة الله وحده.
يبغضهم
الله تعالى: قال تعالى: (لا جَرَمَ أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)
[النحل 23] {لاَ جَرَمَ} أَيْ حَقًّا، {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ
وَمَا يُعْلِنُونَ} أَيْ وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءَ {إِنَّهُ
لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} ([4]).
أبعد
الناس من رسول الله ﷺ: عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ
وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ
أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ
وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا
الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ فَمَا المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: «المُتَكَبِّرُونَ»
([5])
أن أبغض الناس للنبي صلى
الله عليه وسلم حتى وإن دخلوا الجنة بعد ذلك، لكن أبغضهم إليه في الدنيا، فالجنة ليس
فيها بغضاء، ولكن في الدنيا، يبغضه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كانوا في الجنة
نقاهم الله من ذنوبهم، وكانوا بعيدين عن النبي ﷺ.
(الثرثارون): وهو الذي يتكلم
كثيراً، رجلاً كان أو امرأة، (والمتشدقون) المتشدق: الإنسان الذي يتطاول على الناس
بكلامه، يزعم أنه فصيح وأنه بليغ، وأنه يعرف ما لا يعرفه غيره، ويتكلم بما لا يتكلم
به غيره، فهو يريد أن يتفاصح على الناس، ويريهم أنه أحسن منهم، هذا المتفاصح هو المتشدق،
أي: الذي يملأ شدقيه بالكلام، (والمتفيهق): الذي يقول الكلمة دون أن يفهم معناها وقلبه
فارغ، وعقله فارغ،
وليس فيه إلا لسان يتكلم
به، فيفتي في دين الله وهو لا يفهم فيه شيئا.
لا
يكلمهم الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ - قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: وَلَا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ - وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ
مُسْتَكْبِرٌ " ([6])
، يقول ابن تيمية: (فهؤلاء الثلاثة: اشتركوا في هذا الوعيد، واشتركوا في فعل هذه الذنوب
مع ضعف دواعيهم؛ فإنَّ داعية الزنا في الشيخ ضعيفة، وكذلك داعية الكذب في الملك ضعيفة؛
لاستغنائه عنه وكذلك داعية الكِبْر في الفقير، فإذا أتوا بهذه الذنوب- مع ضعف الداعي-
دلَّ على أنَّ في نفوسهم من الشرِّ الذي يستحقون به من الوعيد ما لا يستحقه غيرهم).
قال الأحنف بن قيس: «عجبا
لابن آدم يتكبّر وقد خرج من مجرى البول مرّتين» ([7])
لهم
العذاب الأليم المهين: قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ
وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) ) [لقمان] ، لَهْو
الحديث -وهو كل ما يُلهي عن طاعة الله ويصد عن مرضاته- ليضلَّ الناس عن طريق الهدى
إلى طريق الهوى، ويتخذ آيات الله سخرية، أولئك لهم عذاب يهينهم ويخزيهم، وإذا تتلى
عليه آيات القرآن أعرض عن طاعة الله، وتكبَّر غير معتبر، كأنه لم يسمع شيئًا، كأَنَّ
في أذنيه صممًا، ومَن هذه حاله فبشِّره -أيها الرسول- بعذاب مؤلم موجع في النار يوم
القيامة ([8]).
يتجرعون
الذل والهوان يوم القيامة: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ،
يُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ مِنْ جَهَنَّمَ يُسَمَّى: بُولَسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ،
وَيُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ، طِينَةَ الْخَبَالِ "([9])
(أمثال الذر ) أي في الصغر والحقارة، وقيل الذر هو النمل الأحمر الصغير واحدها ذرة
( في صور الرجال ) أي من جهة وجوههم . أو من حيثية هيئتهم من انتصاب القامة، ( يغشاهم
الذل ) أي يأتيهم، ( من كل مكان ) أي من كل جانب . والمعنى أنهم يكونون في غاية من
المذلة والنقيصة يطؤهم أهل الحشر بأرجلهم من هوانهم على الله، ( يساقون ) أي يسحبون
ويجرون ( إلى سجن ) أي مكان حبس مظلم مضيق منقطع فيه عن غيره ( يسمى ) أي ذلك السجن
بولس ( تعلوهم ) أي تحيط بهم وتغشاهم كالماء يعلو الغريق ( نار الأنيار ) معناه نار
النيران ، فجمع النار على أنيار وهي عصارة أهل النار.
لا
يعود مكرهم وكبرهم إلا عليهم: قال تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ
لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ
إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا
يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ
الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)) [فاطر] ، وأقسم كفار قريش بالله أشد
الأَيْمان: لئن جاءهم رسول من عند الله يخوِّفهم عقاب الله ليكونُنَّ أكثر استقامة
واتباعًا للحق من اليهود والنصارى وغيرهم، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم ما زادهم
ذلك إلا بُعْدًا عن الحق ونفورًا منه، وليس إقسامهم لقَصْد حسن وطلبًا للحق، وإنما
هو استكبار في الأرض على الخلق، يريدون به المكر السيِّئ والخداع والباطل، ولا يحيق
المكر السيِّئ إلا بأهله، فهل ينتظر المستكبرون الماكرون إلا العذاب الذي نزل بأمثالهم
الذين سبقوهم، فلن تجد لطريقة الله تبديلا ولا تحويلا فلا يستطيع أحد أن يُبَدِّل،
ولا أن يُحَوِّل ([10]).
يطبع
الله على قلوبهم: قال تعالى: (الَّذِينَ يُجادِلُونَ
فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ
الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)
[غافر 35]
الذين يخاصمون في آيات الله
وحججه لدفعها من غير أن يكون لديهم حجة مقبولة، كَبُر ذلك الجدال مقتًا عند الله وعند
الذين آمنوا، كما خَتَم بالضلال وحَجَبَ عن الهدى قلوب هؤلاء المخاصمين، يختم الله
على قلب كل مستكبر عن توحيد الله وطاعته، جبار بكثرة ظلمه وعدوانه.
الحسرة
والندامة: قال تعالى: (أَنْ تَقُولَ
نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ
(56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
(57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ
مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ
وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ
(60) ) [غافر]
من
نازع الله في كبريائه ادخله النار: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ
إِزَارِي، مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ» ([11])
من نازع الله في عظمته وكبريائه سبحانه فقد أتى ما لا يجوز له، إذ لا ليس لأحد أن ينازعه
في ذلك، فإذا أبى الإنسان إلا أن يستكبر وأن يعطي لنفسه صفةً لا تكون إلا للخالق سبحانه،
فيأبى الله أن يترك هذا على ما هو فيه حتى يذله ويذيقه الذل في الدنيا والآخرة، وأبى
الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه كما ذكرنا قبل ذلك.
بئس
مثواهم ومصيرهم: قال تعالى: (ادْخُلُوا أَبْوابَ
جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [غافر]
لا يدخل الجنة: عَنْ عَبْدِ اللهِ
بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ:
إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ:
«إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»
([12])
(بطر الحق) هو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا (غمط الناس)
معناه احتقارهم.
قال الغزالي: الكبر آفة عظيمة
هائلة، وفيه يهلك الخواصّ من الخلق، وقلّما ينفكّ عنه العبّاد والزّهّاد
والعلماء فضلا عن عوامّ الخلق،
وإنّما صار حجابا دون الجنّة لأنّه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلّها، وتلك
الأخلاق هي أبواب الجنّة، والكبر يغلق تلك الأبواب كلّها، لأنّه لا يقدر على أن يحبّ
للمؤمنين ما يحبّ لنفسه وفيه شيء من الكبر. فما من خلق ذميم إلّا وصاحب الكبر مضطرّ
إليه ليحفظ كبره، وما من خلق محمود إلّا وهو عاجز عنه خوفا من أن يفوته عزّه. فمن هذا
لم يدخل الجنّة من في قلبه مثقال حبّة منه. والأخلاق الذّميمة متلازمة، والبعض منها
داع إلى البعض لا محالة. وشرّ أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم وقبول الحقّ والانقياد
له ([13])
وعَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ،
قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الخُزَاعِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجَنَّةِ؟
كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلاَ أُخْبِرُكُمْ
بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ، جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ " ([14])
(متضعف) متواضع لين هين أي يستضعفه الناس ويحتقرونه. (أقسم) حلف يمينا
طمعا في كرم الله تعالى. (لأبره) لحقق له ما أقسم عليه ولأجاب طلبه ودعاءه. (جواظ)
شديد الصوت في الشر متكبر مختال في مشيته.
دخول
النار: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ
وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ
نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ
غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) ) [الأعراف] {لاَ
تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} قِيلَ: الْمُرَادُ لَا يُرْفَعُ لَهُمْ مِنْهَا
عَمَلٌ صَالِحٌ وَلَا دُعَاءٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَا تُفْتَحُ لِأَرْوَاحِهِمْ أَبْوَابُ
السَّمَاءِ {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}
حَتَّى يُدْخَلَ الْبَعِيرُ فِي خُرْقِ الإبرة، {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} المراد:
الفرش، {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} اللُّحُفُ. ([15])
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " اخْتَصَمَتِ الجَنَّةُ
وَالنَّارُ إِلَى رَبّهِمَا، فَقَالَتِ الجَنَّةُ: يَا رَبِّ، مَا لَهَا لاَ يَدْخُلُهَا
إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، وَقَالَتِ النَّارُ: - يَعْنِي - أُوثِرْتُ
بِالْمُتَكَبِّرِينَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي، وَقَالَ
لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي، أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا
مِلْؤُهَا، قَالَ: فَأَمَّا الجَنَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ
أَحَدًا، وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيهَا، فَتَقُولُ:
هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، ثَلاَثًا، حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَمْتَلِئُ، وَيُرَدُّ
بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ قَطْ "([16])
ثالثًا: نماذج على الكبر
قوم
نوح u: قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا
قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى
اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ
عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ
مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا
بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74))
[يونس]
أقوام
آخرون: قال تعالى: (وَعاداً وَثَمُودَ
وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ
فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ
وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما
كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا
عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا
بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ
كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40 ))[العنكبوت]
وأهلكنا قارون وفرعون وهامان،
ولقد جاءهم جميعًا موسى بالأدلة الواضحة، فتعاظموا في الأرض، واستكبروا فيها، ولم يكونوا
ليفوتوننا، بل كنا مقتدرين عليهم، فأخذنا كلا من هؤلاء المذكورين بعذابنا بسبب ذنبه:
فمنهم الذين أرسلنا عليهم ريحاً شديدة ترميهم بحجارة من طين متتابع، وهم قوم لوط، ومنهم
مَن أخذته الصيحة، وهم قوم صالح وقوم شعيب، ومنهم مَن خسفنا به الأرض كقارون، ومنهم
مَن أغرقنا، وهم قومُ نوح وفرعونُ وقومُه، ولم يكن الله ليهلك هؤلاء بذنوب غيرهم، فيظلمهم
بإهلاكه إياهم بغير استحقاق، ولكنهم كانوا أنفسهم يظلمون بتنعمهم في نِعَم ربهم وعبادتهم
غيره([17]).
المنافقون: قال تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ
اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6))
[المنافقون] وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: أقبلوا تائبين معتذرين عمَّا بدر
منكم من سيِّئ القول وسفه الحديث، يستغفر لكم رسول الله ويسأل الله لكم المغفرة والعفو
عن ذنوبكم، أمالوا رؤوسهم وحركوها استهزاءً واستكبارًا، وأبصرتهم -أيها الرسول- يعرضون
عنك، وهم مستكبرون عن الامتثال لما طُلِب إليهم، سواء على هؤلاء المنافقين أطلبت لهم
المغفرة من الله -أيها الرسول- أم لم تطلب لهم، إن الله لن يصفح عن ذنوبهم أبدًا لإصرارهم
على الفسق ورسوخهم في الكفر. إن الله لا يوفِّق للإيمان القوم الكافرين به، الخارجين
عن طاعته.
وضعه الله حيث يترفع الناس: عن عمرو بن شيبة؛
قال: «كنت بمكّة بين الصّفا والمروة فرأيت رجلا راكبا بغلة وبين يديه غلمان يعنّفون
النّاس. قال: ثمّ عدت بعد حين فدخلت بغداد فكنت على الجسر فإذا أنا برجل حاف حاسر طويل
الشّعر. قال: فجعلت أنظر إليه وأتأمّله، فقال لي: مالك تنظر إليّ؟ فقلت له: شبّهتك
برجل رأيته بمكّة ووصفت له الصّفة. فقال له: أنا ذلك الرّجل. فقلت: ما فعل الله بك؟
فقال: «إنّي ترفّعت في موضع يتواضع فيه النّاس فوضعني الله حيث يترفّع النّاس» ([18])
وصف بعض الشّعراء
الإنسان فقال:
يا مظهر الكبر إعجابا
بصورته ... انظر خلاك فإنّ النّتن تثريب
لو فكّر النّاس فيما
في بطونهم ... ما استشعر الكبر شبّان ولا شيب
هل في ابن آدم مثل
الرّأس مكرمة ... وهو بخمس من الأقذار مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها
سهك ... والعين مرفضّة والثّغر ملعوب
يا بن التّراب ومأكول
التّراب غدا ... أقصر فإنّك مأكول ومشروب ([19])
شُلَّت يده: عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ
الْأَكْوَعِ، أَنَّ أَبَاهُ، حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: «كُلْ بِيَمِينِكَ»، قَالَ:
لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: «لَا اسْتَطَعْتَ»، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ:
فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ) ([20])
متكبر وبائعة السمن: كان هناك رجل متكبر مغرور جداً يطوف في
السوق في زهو وفخر واضح، وبينما هو على هذه الحالة مرت بجانبه امرأة بسيطة تبيع السمن،
فاقترب منها الرجل المتكبر وسألها في تعالي: ماذا تبيعين أيتها المرأة؟ فقالت: أبيع
السمن يا سيدي، فقال لها: أرني، فقامت السيدة بإنزال دلو السمن من فوق رأسها، ولكن
خلال ذلك سقط القليل من السمن علي ثياب الرجل دون قصدها، فاشتعل الرجل غضباً وصاح في
قسوة وشدة: والله لن أغادر السوق حتي تعطيني ثمن ثيابي ، ظلت المرأة المسكينة تستعطفه
لأنه ليس لديها ثمن ثيابه، ولكن الرجل المتكبر أصر علي موقفه حتي النهاية، فسألته المرأة
وقد شعرت أن لا مفر من ذلك: كم ثمن الثوب يا سيدي؟ فرد الرجل في غرور وتعالي: ألف دينار،
فرغت المرأة فاها من الدهشة وهي تقول: أنا امرأة فقيرة يا سيدي فكيف أعطيك ألف دينار
وأنا لا أملك ربع هذا المبلغ، فقال لها : لا شأن لي، هذا ثمن خطئك وعليك أن تتحمليه
وحدك، اخذت المرأة ترجوه في ضعف وانكسار أن يصفح عنها ولكنه استمر في تهديدها .
ومن بعيد رآهما شاباً
وفهم ما يحدث فأقبل عليهما مسرعاً وقال للرجل: أنا سوف أدفع لك ثمن الثوب، وقام الشاب
على الفور بإخراج ألف دينار من جيبه، فعدها الرجل المتكبر في زهو وانتصار واضح وهم
بمغادرة المكان، فاستوقفه الشاب قائلاً: على رسلك أيها الرجل، ألم تأخذ ثمن الثوب؟
فقال: نعم، فقال الشاب: إذا أين الثوب، لقد أعطيناك ثمنه فأعطينا الثوب، فقال الرجل:
وكيف أسير عارياً؟ فقال الشاب: لا شأن لي أعطني
الثوب، فقال المتكبر: وإن لم أعطيك الثمن ماذا تفعل؟ فقال الشاب: إذاً تعطينا ثمنه،
فقال الرجل المتكبر: الألف دينار؟ فقال الشاب: كلا، تعطينا الثمن الذي نطلبه، فقال
المتكبر: وكم تريد؟ قال الشاب: ألفي دينار، صعق المتكبر وقال في ذهول: ولكن هذا كثير،
أتريد أن تفضحني؟ ابتسم الشاب ساخراً وقال: كما كنت تريد أن تفضح المرأة المسكينة،
فقال المتكبر في خجل: ولكن هذا ظلم، رد الشاب: الآن فقط تتكلم عن الظلم، شعر الرجل
المتكبر بالخجل والحزن الشديد فرد المال إلي اشاب واعتذر إلي المرأة بائعة السمن علي
مرأي ومسمع من جميع من في السوق.
قال ابن عوف- رحمه
الله-:
عجبت من معجب بصورته
... وكان بالأمس نطفة مذره
وفي غد بعد حسن صورته
... يصير في اللّحد جيفة قذره
وهو على تيهه ونخوته
... ما بين ثوبيه يحمل العذره
رابعًا: الوسائل المعينة على ترك الكِبْر ([21])
1- تذكير النفس بالعواقب
والآثار المترتبة على التكبر، سواء كانت عواقب ذاتية، أو متصلة بالعمل الإسلامي، وسواء
كانت دنيوية، أو أخروية، فلعل هذا التذكير يحرك النفس من داخلها، ويحملها على أن تتوب،
وتتدارك أمرها، قبل ضياع العمر وفوات الأوان.
2- عيادة المرضى،
ومشاهدة المحتضرين، وأهل البلاء، وتشييع الجنائز، وزيارة القبور، فلعل ذلك أيضًا يحركه
من داخله، ويجعله يرجع إلى ربه ويتواضع.
3- الانسلاخ من صحبة
المتكبرين، والارتماء في أحضان المتواضعين المخبتين، فربما تعكس هذه الصحبة بمرور الأيام
شعاعها عليه، فيعود له سناؤه، وضياؤه الفطري، كما كان عند ولادته.
4- مجالسة ضعاف الناس
وفقرائهم، وذوى العاهات منهم، بل ومؤاكلتهم ومشاربتهم، كما كان يصنع النَّبي صلى الله
عليه وسلم وصحبه الكرام، وكثير من السلف، فإن هذا مما يهذب النفس، ويجعلها تقلع عن
غيها، وتعود إلى رشدها.
5- التفكر في النفس،
وفي الكون، بل وفي كلِّ النعم التي تحيط به، من أعلاه إلى أدناه، مَن مصدر ذلك كله؟
ومَن ممسكه؟ وبأيِّ شيء استحقه العباد؟ وكيف تكون حاله لو سلبت منه نعمة واحدة، فضلًا
عن باقي النعم؟ فإن ذلك التفكر لو كانت معه جدِّية، يحرك النفس ويجعلها تشعر بخطر ما
هي فيه، إن لم تبادر بالتوبة والرجوع إلى ربها.
6- النظر في سير
وأخبار المتكبرين، كيف كانوا؟ وإلى أي شيء صاروا؟ من إبليس والنمرود إلى فرعون، إلى
هامان، إلى قارون، إلى أبي جهل، إلى أبي بن خلف، إلى سائر الطغاة والجبارين والمجرمين،
في كلِّ العصور والبيئات، فإنَّ ذلك مما يخوِّف النفس، ويحملها على التوبة والإقلاع،
خشية أن تصير إلى نفس المصير، وكتاب الله عزَّ وجلَّ، وسنة النَّبي صلى الله عليه وسلم،
وكتب التراجم، والتاريخ، خير ما يُعين على ذلك.
7- حضور مجالس العلم
التي يقوم عليها علماء ثقات نابهون، لاسيما مجالس التذكير والتزكية، فإنَّ هذه المجالس
لا تزال بالقلوب حتى ترقَّ، وتلين، وتعود إليها الحياة من جديد.
8- حمل النفس على
ممارسة بعض الأعمال التي يتأفف منها كثير من الناس ممارسة ذاتية، ما دامت مشروعة، كأن
يقوم هذا المتكبر بشراء طعامه، وشرابه، وسائر ما يلزمه بنفسه، ويحرص على حمله، والمشي
به بين الناس، حتى لو كان له خادم، على نحو ما كان يصنع النَّبي صلى الله عليه وسلم،
وصحبه، والسلف، فإن هذا يساعد كثيرًا في تهذيب النفس، وتأديبها، والرجوع بها إلى سيرتها
الأولى الفطرية، بعيدًا عن أي التواء، أو اعوجاج.
9- الاعتذار لمن
تعالى وتطاول عليهم بسخرية أو استهزاء، بل ووضع الخدِّ على التراب وإلصاقه به، وتمكينه
من القصاص على نحو ما صنع أبو ذر مع بلال، لما عاب عليه النَّبي صلى الله عليه وسلم
تعييره بسواد أمه.
10- إظهار الآخرين
بنعمة الله عليهم، وتحدثهم بها- لاسيما أمام المستكبرين- علهم يثوبون إلى رشدهم وصوابهم،
ويتوبون ويرجعون إلى ربهم، قبل أن يأتيهم أمر الله.
11- التذكير دومًا
بمعايير التفاضل، والتقدم في الإسلام: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)
[الحجرات].
12- المواظبة على
الطاعات والدعوات: فإنها إذا واظب عليها، وكانت متقنة لا يراد بها إلا وجه الله، طهرت
النفس من كل الرذائل، بل زكتها.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتواضعين، ويعلى قدرنا في الدنيا
والآخرة أجمعين، ويجمعنا بحبيبنا المصطفى في جنات النعيم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ أحمد أبو عيد
0109 809 58 54
نسألكم الدعاء
[1])) تهذيب
الأخلاق
[2]))
احياء علوم الدين
[3])) منهاج
القاصدين
[4])) تفسير
ابن كثير
[5])) صحيح
الترمذي
[6])) صحيح
مسلم
[7])) احياء
علوم الدين
[8])) التفسير
الميسر
[10])) التفسير
الميسر
[11])) سنن
ابن ماجه (صحيح)
[12])) صحيح
مسلم
[13])) إحياء
علوم الدين بتصرف
[14])) متفق
عليه
[15])) تفسير
ابن كثير
[16])) صحيح
البخاري
[17])) التفسير
الميسر
[18])) احياء
علوم الدين
[19])) أدب
الدنيا والدين
[20])) صحيح
مسلم
[21])) الدرر
السنية