منافع الحج وثمراته للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله العظيم الكريم، هيَّأ لعبادة أسباب التوفيق، ويسَّر لمن شاء من عباده السير لحج بيته العتيق، فجعل أفئدةً من الناس تهوي إليه فيأتونه ﴿ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27]
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل الحج لعباده حجاباً وجُنَّة، ولم يجعل للحج المبرور جزاءً إلا الجنة.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً، عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبع سنته إلى يوم الدين.
العناصــر
أولًا: منافع دينية وأخروية
ثانيًا: منافع اجتماعية وأخلاقية
الموضوع
أولًا: منافع دينية وأخروية
الاكثار من ذكر الله: قال تعالى: {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ، قَالَ ابن عباس: الأيام المعلومات أيام العشر، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَنِ أَحْمَدَ بْنِ حنبل. ([1])
الحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ» ([2])
(العمرة) هي في اللغة الزيارة وفي الشرع زيارة البيت الحرام بشروط مخصوصة. (كفارة) ماحية مشتقة من الكفر وهو التغطية والستر. (لما بينهما) لما وقع بينهما من الذنوب الصغيرة. (المبرور) المقبول وهو الذي لا يخالطه إثم مشتق من البر وهو الإحسان.
الحج المبرور سبب لغفران الذنوب: عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» ([3]) (يرفث) من الرفث وهو الجماع والتعريض به وذكر ما يفحش من القول. (يفسق) يرتكب محرما من المحرمات ويخرج عن طاعة الله عز وجل. (كيوم ولدته أمه) من حيث براءته من الذنوب.
وعَن عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ: لَمَّا جعل اللهُ الإسلامَ في قلبي أتيْتُ النَّبيَّ r فقلتُ: يا رسولَ اللهِ ابسُطْ يمينَك لأبايعَك؛ فبسط يدَه فقبضْتُ يدي. فقال: مالك يا عَمرو؟ ! . قال: أردتُ أن أشترطَ . قال : تشترطُ ماذا ؟ قال: أن يُغفَرَ لي . قال : أما علمتَ يا عَمرو ! أنَّ الإسلامَ يهدِمُ ما كان قبلَه ، وأنَّ الهجرةَ تهدِمُ ما كان قبلَها ، وأنَّ الحجّ يهدِمُ ما كان قبلَه ؟ ! ([4])
العتق من النار: عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ " ([5])
إكرام الله لهم: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ، وَفْدُ اللَّهِ، دَعَاهُمْ، فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ» "([6])
التذكير بالفراق الأكبر والحشر الأكبر: من منافع أداء فريضة الحج التذكير ببعض الأمور المرحلية التي سيمر بها المرء لا محالة ، كالموت والبعث والجزاء فيعد لها العدة اللازمة من زاد ومركب ينجيه من مهالك الطريق ويجنبه عثراته ، وفي الحج صور مصغرة لبعض تلك الأمور المرحلية؛ فأنت بخروجك – أخي الحاج – من بلدك لابسا ثوب الإحرام ، وقد سكب الأهل العبرات عند توديعك تتذكر خروجك من بينهم من دار الدنيا إلى الدار الآخرة خروجا لا لقاء بعده في هذه الحياة فيهون عليك هذا الخروج الذي ترجو بعده اللقاء والوصال وتعد العدة لذلك السفر كما تعدها لهذا السفر ، وأنت بعد في مهلة من أمرك ؛ وبوقوفك بصعيد عرفة في هذا الجم الغفير تتذكر موقفك في الحشر حين يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي ،وتدنو الشمس ويلجم الناس العرق ويشتد الكرب والخطب فتعد العدة لذلك الموقف أنت ما زلت في مهلة من أمرك.
قال تعالى"﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً ﴾ [سورة الكهف]
وبانصرافك من عرفة عشية دنو الرب ومغفرته لعباده في هذا اليوم العظيم تتذكر الوقوف بين يدي الله عز وجل وانصرافك من ذلك الموقف إما إلى جنة وإما إلى نار فتنشط لإعداد العدة وأنت بعد في مهلة لإدراك الخلل قبل أن تتمنى الرجوع فلا تمكن من ذلك ، قال تعالى : ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) (سورة المؤمنون)، وقال سبحانه : (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير) (سورة فاطر).
إزالة الأذى: قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أي: يقضوا نسكهم، ويزيلوا الوسخ والأذى، الذي لحقهم في حال الإحرام.
الوفاء بالنذر: قال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} التي أوجبوها على أنفسهم، من الحج، والعمرة والهدايا.
إعلان التوحيد الذي بعث الله به رسله وإظهاره في الأقوال والأفعال: ففي التلبية يقول الحاج: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ؛ وقد كان أهل الجاهلية يلبون بالشرك فيقولون: إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك.
وفي سائر المواقف والمشاعر يتجرد العبد في توحيده وطاعته لله عز وجل ومبايعته للنبي r، فيسير ويقف حيث أمره الله، ويحلق شعره، وينحر أو يذبح هديه حيث أمره الله وشرع له ، ويتابع في ذلك كله رسول الله r .
التيسير ورفع الحرج: فالهدى النبوي العملي في يوم النحر على الترتيب التالي:
1-أن يرمى الجمرات.
2-أن ينحر الهدى.
3-أن يحلق أو يقصر.
4-الطواف بالبيت.
5-السعي بين الصفا والمروة.
فعبد الله بن عمرو بن العاص t من أن رسول الله r وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَطَفِقَ نَاسٌ يَسْأَلُونَهُ فَيَقُولُ الْقَائِلُ: مِنْهُمْ يَا رسول الله r, إِنِّي لَمْ أَكُنْ أَشْعُرُ أَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ النَّحْرِ فَنَحَرْتُ قَبْلَ الرَّمْيِ فَقَالَ رسول الله r : "فَارْمِ وَلا حَرَجَ" قَالَ: وَطَفِقَ آخَرُ يَقُولُ: إِنِّي لَمْ أَشْعُرْ أَنَّ النَّحْرَ قَبْلَ الْحَلْقِ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ فَيَقُولُ: "انْحَرْ وَلا حَرَجَ" قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يُسْأَلُ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَمْرٍ مِمَّا يَنْسَى الْمَرْءُ وَيَجْهَلُ مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الأُمُورِ قَبْلَ بَعْضٍ وَأَشْبَاهِهَا إِلا قَالَ رسول الله r "افْعَلُوا ذَلِكَ وَلا حَرَجَ"([7])
الإخلاص: قال -تعالى -: " قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)" ، وقال تعالى "وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ"
وقال تعالى " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ " [سورة البينة]
التوكل على الله والأخذ بالأسباب: فمن يخرج من بيته إلى الحج يخرج معتمدا على ربه متوكلا عليه مفوضا أمره إليه، طالبا منه وحده العون والتوفيق والهداية لعلمه بأن الأمور كلها بقضائه وقدره، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ r، قَالَ : " لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصًا ، وَتَرُوحُ بِطَانًا " ([8])
والتوكل على الله من صفات المؤمنين قال تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) [سورة الأنفال]
ومن التوكل على الله الأخذ بالأسباب فهو ملازم للتوكل ومن تمامه ليس بينهما فارق أو تنافر، وقال أبو مسعود كان أهل اليمن أو ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فأنزل الله سبحانه ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) ([9])
وها هو عمر بن الخطاب - حين لَقِيَ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ،جاءوا بغير زاد فَقَالَ : " مَنْ أَنْتُمْ ؟ " . قَالُوا : نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ ، قَالَ : " بَلْ أَنْتُمُ الْمُتَّكِلُونَ ، إِنَّمَا الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي يُلْقِي حَبَّهُ فِي الأَرْضِ ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ " ([10]).
التواضع: فالحاج حينما يخلع ملابسه ويلبس إزاراً ورداءً؛ فإنه يعلن بذلك عن تواضعه وانكساره لله رب العالمين. والتواضع صفة محمودة تدل على طهارة النفس وتدعو إلى المودة والمحبة ونشر الترابط بين الناس ونبذ الحسد والبغض والكراهية من قلوبهم وفوق هذا كله فإن التواضع دليل على محبة الله؛ دل عليه قوله - تعالى (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [سورة لقمان]
وعَنْ أبي هريرة t أَن رسول اللَّه r قال" ما نَقَصَتْ صَدقَةٌ من مالٍ، وما زاد اللَّه عَبداً بِعَفوٍ إِلاَّ عِزّاً، ومَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ "([11])
الصبر: الناظر في فريضة الحج يرى أنها تجمع بين جميع مجالات الصبر ،ومن ذلك:
أ- الصبر علي طاعة الله وذلك بأداء مناسك الحج من إحرام ومبيت في مني والمزدلفة ووقوف بعرفة ورمي جمرات وذبح أضحية وحلق وطواف وسعي وتحلل وغيره من الأمور التي يتطلبها أداء الفريضة علي الوجه الأكمل والمشروع طمعا في تحقيق الجزاء الأوفى في قوله r " ، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّة([12])
ب- الصبر علي المعاصي وذلك بإجتناب الرفث والفسوق والجدال بالباطل وغيرها من السلوكيات السيئة والأخلاقيات غير الكريمة تطبيقا لقول الله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) [سورة البقرة]
ج- الصبر علي مفارقة الأهل والأوطان وتحمل التكاليف والنفقات طمعا فيما عند الله من الثواب والخيرات فقد قال تعالى ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) [سبأ]
د- الصبر علي المتاعب والمشاق البدنية في الحل والترحال والانتقال من بلد إلي بلد ومن مشعر إلي آخر ومن مكان إلى مكان .
التقوى: فالتقوى خير زاد: ﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ [سورة البقرة].
وهي خير لباس: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [سورة الأعراف].
وهي خير ميراث: ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ﴾ [سورة مريم]
وهي خير تركة لمن بعدك: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً ﴾ [سورة النساء].
تذكيره بأنه يتجرد من كل متاع الدنيا: إن خروجه متجرداً من زينته وثيابه، ولباسه الإحرام تذكير له بما يحمله معه من متاع الدنيا عند مفارقته لها للقاء ربه.
امتثال العبد لأوامر سيده وإن لم يفهم المقصود منها: إن أفعال الحج من الإحرام والطواف والسعي ورمى الجمار والوقوف بعرفة ومزدلفة من الأفعال ما ينبئ عن امتثال العبد لأوامر سيده وإن لم يفهم المقصود من هذه الأوامر إنما يتعين عليه الامتثال ويلزمه الانقياد من غير سؤال عن المقصود ولا طلب الفائدة والمعنى من هذه الأفعال لذا كان من تلبيته r ( لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً لبيك إله الحق)
ويقول تعالى : " الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ" [سورة البقرة].
يقول السعدي في تفسيره : يجب أن تعظموا الإحرام بالحج وخصوصاً الواقع في أشهره وتصونوه من كل ما يفسده أو ينقصه من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية خصوصاً عند النساء وبحضرتهن ، والفسوق وهو : جميع المعاصي ومنها محظورات الإحرام والجدال وهو المماراة والمنازعة والمخاصمة لكونها تثير الشر وتوقع العداوة . والمقصود من الحج الذل والانكسار لله والتقرب إليه بما أمكن من القربات والتنزه عن مقارفة السيئات فإنه بذلك يكون مبروراً . والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة ، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان فإنه يتغلظ المنع عنها في الحج .
ثانيًا: منافع اجتماعية وأخلاقية
تدريب للمسلم على النظام: إن الالتزام بأداء المناسك في موسم الحج في أوقات محددة من اليوم والليلة، تدريب للمسلم على النظام، لكيلا يكون أسير حياة يومية روتينية لا يتحمل تغييرها، ففي ذلك خروج على الإلف والعادة لإخضاع نفسه للنظام وأحكام الشريعة.
التجارة والكسب: ففي الحج أبواب رزق كثرة تفتح وتجارة تروج، ووظائف تطلب، مما يعود بالنفع على المسلمين سواء من حجاج بيت الله الحرام أو من غير الحجاج، وقد أباح الشرع الشريف للحجاج أن يبتغوا فضلًا من ربهم، ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: " كَانَ ذُو المَجَازِ، وَعُكَاظٌ مَتْجَرَ النَّاسِ فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ، حَتَّى نَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فِي مَوَاسِمِ الحَجِّ " ([13])
(ذو المجاز) اسم سوق للعرب في الجاهلية كان إلى جانب عرفة وقيل في منى. (عكاظ) اسم سوق كان بناحية مكة. (متجر) مكان تجارتهم. (جناح) إثم. (تبتغوا) تطلبوا. (فضلا) رزقا منه وعطاء وربحا في التجارة. (في مواسم الحج) هذه الجملة ليست من القراءة المتواترة بل هي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما وهي تفسير منه للآية على ما يبدو.
نفي الفقر والذنوب: ربما يخاف العبد ألا يرزقه الله بمال يعلم به ولده أو يزوج به ابنته أو يقيم به بعض شأنه إن هو أنفق هذا المال في الحج مع أن الأصل هو العكس
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الجَنَّةُ» ([14]) (تابعوا بين الحج والعمرة) أي أوقعوا المتابعة بينهما بأن تجعلوا كلا منهما تابعا للآخر. أي إذا حججتم فاعتمروا. وإذا اعتمرتم لحجوا. (الكير) هو كير الحداد المبنى من الطين. وقيل زق ينفخ به النار والمبنى من لطين كور. الظاهر أن المراد ههنا نفس النار على الأول ونفخها على الثاني (والخبث) بفتحتين ويروي بضم فسكون. والمراد الوسخ والردىء الخبيث.
ولا شك أن هذا الفهم متابعة للشيطان في وسوسته ومجانبة للحكمة في التصرف في المال وظن سيئ بالله سبحانه فتدبر قوله سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ " [سورة البقرة]
فأى باب أطيب من الإنفاق في أداء فريضة الله في الحج فهل يتعظ أولو الألباب ولا يتابعوا الشيطان يخوفهم الفقر، ألا يجدوا ما ينفقون في تعلم أو زواج إذا أنفق في الحج ، فالعجب لمن يؤمن بالله رازقاً ثم يخاف إن أنفق ماله في فرائض الله أن يبخل عليه الله بالمال ينفقه فيما أحل الله .
التكافل الاجتماعي عند ذبح الأضاحي والبُدن والنذور وغيرها، فيكون في هذا فرحة للفقراء والمساكين والمحتاجين، يقول تعالى: (لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [سورة الحج].
تحقيق الألفة والوحدة: يجتمع المسلمون على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأوطانهم في صعيد واحد، يدعون ربًا واحدًا، ويتوجهون لبيت واحد، فتتوحد الأهداف والغايات، وتصبح الأمة على قلب رجل واحد؛ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) ([15]) ، (تداعى له سائر الجسد) أي دعا بعضه بعضا إلى المشاركة في ذلك ومنه قوله تداعت الحيطان أي تساقطت أو قربت من التساقط.
وعن علي t عن النبي r قال : " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُرَدُّ عَلَى أَقْصَاهُمْ "([16])
(تتكافأ) أي تتساوى في القصاص والديات. لا يفضل شريف على وضيع. (وهم يد) أي اللأئق بحالهم أن يكونوا كيد واحدة في التعاون والتعاضد على الأعداء. فكما أن اليد الواحدة لا يمكن أن يميل بعضها إلى جانب وبعضها إلى جانب آخر فكذلك اللائق بشأن المؤمنين. (يسعى بذمتهم أدناهم) أي أقلهم عددا وهو الواحد. وأقلهم رتبة وهو العبد. يمشى به بعقده لمن يرى من الكفرة. فإذا عقد حصل له الذمة من الكل. (ويرد على أقصاهم) أي يرد الأقرب منهم الغنيمة على الأبعد.
فالحج يعرض لمظاهر قوة المسلمين وشوكتهم واجتماع جندهم وإظهار شريعتهم وأنهم في عز وأمن، قال تعالى: ( وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) [البقرة: 126] ، (مثابة) مرجعا يأتون إليه من كل جانب. (أمنا) مأمنا لهم من الظلم والإغارة الواقعة في غيره.
الأخلاق الطيبة: قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) [البقرة 197]
وقال تعالى (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج 30]
فحث على حفظ القلب والجوارح في قوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) كما شدد على حفظ اللسان فقال (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)
الحج يبث القيم الأخلاقية الأصيلة في النفوس البشرية، وكيف أن له التأثير في تربية النفس الإنسانية وتكوين شخصية إسلامية تقوم على أسس إيمانية متمتعة بسلوك طيبة ، إذ أن الحج مدرسة أخلاقية مباركة لتهذيب النفوس وتزكية القلوب وتقوية الإيمان، يتخرج فيها المؤمنون المتقون، وينهل من معينها المبارك عباد الله الموفقون ؛ فالمتدبر في القران الكريم يرى أن الله تعالى ربط بين الحج والأخلاق والسلوكيات.
فقد يظن الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة رحلة مجردة عن المعاني الخلقية، بل أنت مأمور بضبط الأخلاق أثناء الزحام، كما يجب عليك اجتناب الرفث والفسوق والجدال والخصام في الحج، فضلاً عن غرس قيم الصبر وتحمل المشاق والمساواة بين الغني والفقير والتجرد من الأمراض الخلقية.
إن العبادات لا يمكن أن تؤتى ثمرتها المرجُوّة إلا إذا ظهر أثرها في سلوك المرء وأخلاقه وتعامله مع الآخرين، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، ومن لم ينهه حجه وصومه عن اللغو والرفث والفسوق فما انتفع بحج ولا بصيام .....وهكذا
تحويل العادات السيئة إلى عادات حسنة: إن تغير حاله أثناء سفر الحاج وابتهاله لربه، وتقديمه القرابين لربه، وتمسكه بآداب الحج وأحكامه واجتنابه لمحظورات الإحرام والنسك فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ} [البقرة: 197] كل ذلك يؤثر على نفسه وسلوكه، وربما تحولت إلى عادات حسنة وأخلاق حميدة تلازمه طيلة حياته بعد أن تذوقها ووجد حلاوتها خلال موسم الحج.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا حج بيته الحرام ويتقبله منا ويجعله مبرورا إنه على كل شيء قدير
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ أحمد أبو عيد
0109 809 58 54
نسألكم الدعاء