وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله الذي أحاط
ملكه بسياج القدرة والقهر، وتعددت أبسطة رحمته فكان منها البر والجو والبحر، وتسربلت
في مكنون غيبه أسرار إيجاده للحصى والدر، وتلونت أطياف رحمانيته بخلقه فكان النفع والضر،
توجهت قلوبنا إليه بالشكر واللسان بالحمد أقر، ورفعنا الأكف إليه ضراعة أن يرزقنا حين
البلاء الصبر.
وأشهد أن لا إله إلا
الله المنزه عن خواطر العقل وأوهام الفكر، أسبغ نعمائه على خلقه سواء ما خفي منها وما
ظهر، وامتن على عباده بالدلالة على سبيل الخير وسبل الضرر، وبسط كف رحمته للمستغفرين
بالسحر، وبشر المتقين بجنات ونهر، ومقعد صدق عند مليك مقتدر.
وأشهد أن سيدنا محمدا
عبده ورسوله خير البشر، تفضل الله عليه فأجرى على لسانه بيان ما نهى وما أمر، وجعله
رحمة للعالمين وطاعته سبيلا إلى جنات ونهر.
اللهم صل وسلم وبارك
عليه وعلى آله وصحبه ما تعاقب الليل والنهار وكلما أشرقت الشمس أو بزغ القمر.
العناصر
أولًا: النبي صلى الله عليه وسلم رحمة
للعالمين
ثانيًا: نماذج من مظاهر رحمة النبي r
ثالثًا: رحمة النبي r
بغير المسلمين
الموضوع
أولًا: النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين
أرسله الله رحمة للعالمين
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ (107)} الأنبياء
يقول الشيخ الشعراوي -رحمه الله- :وما دام صلى
الله عليه وسلم خاتَم الرسل، وبعثتُه للناس كافة، وللزمن كله إلى أنْ تقوم الساعة.
وقد جاء الرسل السابقون عليه لفترة زمنية محددة، ولقوم بعينهم، أما رسالة محمد صلى
الله عليه وسلم فجاءتْ رحمةً للعالمين جميعاً؛ لذلك لابد لها أنْ تتسعَ لك أقضية الحياة
التي تعاصرها أنت، والتي يعاصرها خَلَفُك، وإلى يوم القيامة.
ومعنى: العالمين، كُلُّ ما سوى الله عز وجل:
كعالم الجن، وعالم الإنس، وعالم الجماد، وعالم
الحيوان، وعالم النبات([1]).
الرحمةُ المهداةُ جاء مبشِّرا *** ولأفضلِ الأديان
قــــــام فأنذرا
ولأكرمِ الأخلاق جاء مُتمِّمًا *** يدعو لأحسنِها
ويمحو المنكرا
صلى عليه اللهُ في ملكوته *** ما قـــــام عبدٌ
في الصلاة وكبّرا
منَّ الله عليه بالرحمة: قال تعالى: ﴿ فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا
مِنْ حَوْلِكَ) آل عمران.
رسالته الإسلام رحمة للعالمين: قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا
يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)}
فالوحدانية هي أول رحمة بنا، أن نكون كلنا سواء، ليس لنا إلا إله واحد، هذه من أعظم
رحمات الله أن نعبده وحده لا شريكَ له، فعبادته تُغنينا عن عبادة غيره، ولو كانت آلهةً
متعددة لأصابتنا الحيرة بين إله يأمر، وإله ينهى.
لذلك؛ فالحق سبحانه وتعالى يطلب منا أنْ نعتزّ
وأنْ نفخَر بهذه الوحدانية، وبهذه الألوهية.
فسجودك لله وتعفير وجهك له سبحانه يحميك من السجود
لغيره، ولولا سجودك لله لَسجدت لكل مَنْ هو أقوى منك، فعليك- إذن- أن تعتز بعبوديتك
لله؛ لأنها تحميك من العبودية لغيرك من البشر، وحتى لا يقول لك شخص أنت عبد، نعم أنا
عبد لكن لستُ عبداً لك، فعبد غيرك حُرٌّ مثلك.
وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلاً في هذه المسألة
في قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً
سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [الزمر: 29] فهل يستوي عبد لعدة أسياد
يتجاذبونه في وقت واحد، وهم مع ذلك مختلفون بعضهم مع بعض، وعبد سَلَمَاً لسيد واحد؟
لذلك؛ فالعبودية تُكره حين تكون عبوديةً للبشر،
لأن عبودية البشر للبشر يأخذ السيد خير عبده، أما العبودية لله فيأخذ العبد خير سيده.
ولك أنْ تقارن بين مقابلة عظيم من عظماء الدنيا،
ومقابلة ربك عز وجل. فإنْ أردتَ الدخولَ على أحد هؤلاء لابد أن تطلب المقابلة، ويا
ترى تقبل أم ترفض، وإنْ قبلت فلا تملك من عناصرها شيئاً، فالزمان، والمكان، وموضوع
الكلام. كلها أمور يحددها غيرك.
أما إن أردتَ مقابلة ربك- عز وجل- فما عليك إلا
أنْ تتوضأ وترفع يديك قائلاً: الله أكبر بعدها ستكون
في معية
الله، وقد اخترتَ أنت الزمان، والمكان، وموضوع الحديث، وإنهاء اللقاء.
أَلاَ ترى كيف امتنَّ الله تعالى على رسوله في
رحلة (الإسراء والمعراج) بأنْ وصفه بالعبودية له سبحانه، فقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى
بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] إذن: جاء قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ
إلهكم إله وَاحِد ٌ...} [الأنبياء: 108] بعد قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ليدلنا: أن دعوة الله لنا إلى عبادة إله واحد ترحمنا
من عبوديتنا بعضنا لبعض.
ثم يُرغِّبنا الحق سبحانه في هذه العبودية، فيقول:
{فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [الأنبياء: 108] كما تحث ولدك المتكاسل أن يكون مثلَ
زميله الذي تفوَّق، وأخذ المركز الأول، فتقول له: ألا تذاكر وتجتهد حتى تكون مثله؟
، وهكذا في {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [الأنبياء: 108] أي: مسلمون لله؛ لأن مصلحتكم
في الإسلام وعزّكم في عبوديتكم لله ([2]).
شهادة الله لنبيه r :
قال الله تعالى : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ
مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } التوبة
{ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } أي: منكم وبلغتكم ، {
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي: يعز عليه الشيء الذي يَعْنَتُ أمته ويشق عليها،
{ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم ([3]).
أمر النبي r بالرحمة: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ الأَقْرَعَ
بْنَ حَابِسٍ أَبْصَرَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُ الْحَسَنَ فَقَالَ
إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ »([4])، وعن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي
صلى الله عليه وسلم ﴿الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء،
.... ﴾([5])
شفاعته لأمته يوم القيامة: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ
فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِىٍّ دَعْوَتَهُ وَإِنِّى اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأُمَّتِى
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِىَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِى
لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا » ([6]).
وعن أبي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم-. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- « مَثَلِى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا
جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِى فِى النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا وَجَعَلَ
يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا قَالَ فَذَلِكُمْ مَثَلِى وَمَثَلُكُمْ
أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ هَلُمَّ عَنِ النَّارِ هَلُمَّ عَنِ النَّارِ
فَتَغْلِبُونِى تَقَحَّمُونَ فِيهَا » ([7]).
والحجز : جمع حجزة وهى معقد الإزار والسراويل
تبشير المؤمنين بالجنة: عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا
مَعَ النَّبِيِّ فِي قُبَّةٍ، فَقَالَ: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ
الجَنَّةِ» قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ»
قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ» قُلْنَا:
نَعَمْ، قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا
نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الجَنَّةَ لاَ يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ
مُسْلِمَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ البَيْضَاءِ
فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ
الأَحْمَرِ» ([8])
رحمة للأمة من العذاب:
قال أهل
العلم في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ ﴾
[ الأنبياء : 107 ] ، أن الآيات الأخرى بينت المقصود من الرحمة بالنسبة للكافر ، وكذلك
سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فالأمم السابقة كان يحل بها العذاب بمجرد التكذيب
والآيات في ذلك كثيرة منها : قال تعالى في شأن نوح : ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ
وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ﴾ [ الأعراف : 64 ] ، وقال تعالى في شأن هو : ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ
وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأعراف : 72 ] . والآيات كثيرة .
وأما من السنة : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قِيلَ
: يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، قَالَ : إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ
لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً . ([9])
، وهذه الرحمة هي للمؤمن ، والمنافق ، والكافر .
قال القاضي عياض " للمؤمن رحمة بالهداية ، وللمنافق
رحمة بالأمان من القتل ، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب " ([10])
وقال أبو نعيم: فأمن أعداؤه من العذاب مدة حياته عليه السلام
فيهم ، وذلك قوله تعالى : " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
" [ الأنفال : 33 ] ، قلم يعذبهم مع استعجالهم إياه تحقيقا لما نعته به . ([11])
ومما يبين هذه الرحمة العامة بإرسال نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم ، قول الله تعالى : ( وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) الأنفال/32-33 .
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله : " وَمَا كَانَ
مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّتِهِ ، وَلَا مِنْ مُقْتَضَى رَحْمَتِهِ وَلَا حِكْمَتِهِ
، أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِيهِمْ ، وَهُوَ إِنَّمَا أَرْسَلَكَ
رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، وَنِعْمَةً لَا عَذَابًا وَنِقْمَةً ، بَلْ لَمْ يَكُنْ
مِنْ سُنَّتِهِ أَيْضًا أَنْ يُعَذِّبَ أَمْثَالَهُمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَهُمْ
فِيهِمْ ، بَلْ كَانَ
يُخْرِجُهُمْ مِنْهُمْ
أَوَّلًا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ " ([12]).
الخيبة والخسران لقاسي القلب: عن عمرو بن حبيب قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿خاب عبد وخسر لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر﴾
([13])
ثانيًا: نماذج من مظاهر رحمة
النبي r
رحمته وحرصه على انقاذ الناس
من النار: عَنْ أَنَسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ
وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ:
«الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ»([14])
رحمته بالمذنبين:
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى
النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى. فَقَالَ
« وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ ». قَالَ فَرَجَعَ غَيْرَ
بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- « وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ
». قَالَ فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى.
فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « فِيمَ أُطَهِّرُكَ ». فَقَالَ مِنَ
الزِّنَى. فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَبِهِ جُنُونٌ ». فَأُخْبِرَ
أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ. فَقَالَ « أَشَرِبَ خَمْرًا ». فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ
فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- « أَزَنَيْتَ ». فَقَالَ نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ
فِرْقَتَيْنِ قَائِلٌ يَقُولُ لَقَدْ هَلَكَ لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وَقَائِلٌ
يَقُولُ مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ
-صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَ يَدَهُ فِى يَدِهِ ثُمَّ قَالَ اقْتُلْنِى بِالْحِجَارَةِ
- قَالَ - فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- وَهُمْ جُلُوسٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ « اسْتَغْفِرُوا
لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ ». قَالَ فَقَالُوا غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ.
- قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ
قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ ». قَالَ ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ
مِنَ الأَزْدِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِى. فَقَالَ « وَيْحَكِ ارْجِعِى
فَاسْتَغْفِرِى اللَّهَ وَتُوبِى إِلَيْهِ ». فَقَالَتْ أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِى
كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ. قَالَ « وَمَا ذَاكِ ». قَالَتْ إِنَّهَا حُبْلَى
مِنَ الزِّنَا. فَقَالَ « آنْتِ ». قَالَتْ نَعَمْ. فَقَالَ لَهَا « حَتَّى تَضَعِى
مَا فِى بَطْنِكِ ». قَالَ فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ قَالَ
فَأَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ. فَقَالَ
« إِذًا لاَ نَرْجُمَهَا وَنَدَعَ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ
». فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ إِلَىَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِىَّ اللَّهِ.
قَالَ فَرَجَمَهَا﴾ ([15]).
رحمته بالجاهين وعفوه عنهم:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ أَمْشِى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -r-
وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نجران غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِىٌّ
فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ
رَسُولِ اللَّهِ -r-
وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ
يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِى مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ.فَالْتَفَتَ
إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -r-
فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ"([16])
وعن أَبى هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ
أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ
النَّبِيُّ r:
" دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ
مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ "([17])
رحمته r في التشريع لأمته: إن المتأمل في التشريعات التي جاءت
على لسان خيرِ الكائنات صلى الله عليه وسلم، لَيلمُسُ فيها الجانب الإنساني الذي يقدر
إنسانية المسلم، ويعرف قدرته وطاقته؛ لذا جاءت التشريعات تحمل المعنى الإنساني في اليسر
والسهولة، والرفق والرحمة قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ
الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]. قال ابن كثير: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ
أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ﴾؛ أي: في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم؛ ولهذا أباح
الإماءَ بشروط؛ كما قال مجاهد وغيره، ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ فناسبه التخفيف؛
لضعفه في نفسه، وضعف عزمه وهمته([18])،
وعندما رأى حبلًا ممدودًا أمر بحلِّه، وأمر أمَّته ألا تتكلف من العمل إلا ما تُطيق؛
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا
حبلٌ ممدود بين الساريتينِ، فقال: ((ما هذا الحبل؟))، قالوا: هذا حبلٌ لزينبَ، فإذا
فَتَرَتْ تعلَّقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا، حُلُّوه ليُصلِّ أحدكم نشاطه،
فإذا فتر فليقعُدْ))([19]).
رحمته بالأطفال: عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاةِ وَأَنَا أُرِيدُ
إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ
مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ﴾ ([20])
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ،
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ
فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، قَالَ أَبِي:
فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا
أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ، قَالَ: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ
يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ
حَاجَتَهُ»([21])
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ كُنَّا
عِنْدَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ
وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا - أَوِ ابْنًا لَهَا - فِى الْمَوْتِ فَقَالَ لِلرَّسُولِ
« ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ
شَىْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ » فَعَادَ
الرَّسُولُ فَقَالَ إِنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا. قَالَ فَقَامَ النَّبِىُّ
-صلى الله عليه وسلم- وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ
وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِىُّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا
فِى شَنَّةٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ « هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ
اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ » ([22]).
رحمته بالحيوان: أمر بالإحسان إليهم فعن أَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: بَيْنَا
رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا، فَشَرِبَ مِنْهَا،
ثُمَّ خَرَجَ؛ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَ:
لَقَدْ بَلَغَ هذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ،
ثُمَّ رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا قَالَ: فِي كلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ﴾
([23])
وحذرنا من الإساءة إليهم: فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِى هِرَّةٍ
سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لاَ هِىَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا
إِذْ حَبَسَتْهَا وَلاَ هِىَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ » ([24])
، الخشاش : هوام الأرض وحشراتها واحده خَشَاشَة.
وعن هِشَامَ بْنَ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ دَخَلْتُ مَعَ جَدِّى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ دَارَ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ فَإِذَا
قَوْمٌ قَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا قَالَ فَقَالَ أَنَسٌ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ([25]).
ومعنى تصبر : تحبس وترمى حتى تموت
عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ : كنَّا
مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ ، فانْطَلَقَ لحَاجَتِهِ ، فَرَأيْنَا
حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا ، فَجَاءتِ الحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ
تَعْرِشُ((1)) فَجَاءَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : (( مَنْ فَجَعَ
هذِهِ بِوَلَدِهَا ؟ ، رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْها )) . ورأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ
حَرَّقْنَاهَا ، فَقَالَ : (( مَنْ حَرَّقَ هذِهِ ؟ )) قُلْنَا : نَحْنُ قَالَ :
(( إنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يُعَذِّبَ بالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ )) ([26])
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال : أردفني
رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس
وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفا أو حَائِشُ نَخْلٍ
- فَدَخَلَ حَائِطاً لِرَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ ، فَإذا فِيهِ جَمَلٌ ، فَلَمَّا رَأى
رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جَرْجَرَ وذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ، فَأتَاهُ النَّبيُّ
- صلى الله عليه وسلم - فَمَسَحَ سَرَاتَهُ - أيْ : سِنَامَهُ - وَذِفْرَاهُ فَسَكَنَ
، فَقَالَ : " لِمَنْ هٰذا الْجَمَلِ ؟ " فجاء فتى من الأنصار ، فقال : هو
لي يا رسول الله ، فقال : " أَلا تَتقي الله في هٰذِهِ البَهيمَةِ الّتي مَلَّكَكَ
الله إِيّاها ، فَإِنَّهُ شَكا لي أَنَّكَ تُجيعُهُ وَتُتعبه " ([27])
عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ
عَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ
فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ
»([28]).
هذا غيض من فيض من رحمته صلى الله عليه وسلم
بالحيوان والطير ، فأين منظمات الرفق بالحيوان عما يحصل للحيوانات في دول الكفر ، من
تعذيب وقتل ، كمصارعة الثيران ، وضربها بالسيوف ، والتحريش بين بعض الطيور كمصارعة
الديوك ، واتخاذ بعض الحيوان والطير غرضاً للتنافس ، حيث توقف وترمى بالرصاص أو السهام
، أين منظمة الرفق بالحيوان ، عن الصعق الكهربائي للحيوانات ، وضربها بالهراوات ، حتى
الممات ، أم أن ذبح المسلمين للأضاحي ، وتقربهم إلى الله في الحج بالهدي ، هي الشغل
الشاغل لتلكم المنظمات ، هذه شعيرة من شعائر الله ، وسنة من سنن الأنبياء والمرسلين
، ولن يتخلى عنها المسلمون طال الزمن أم قصر ، لأنها تشريع إلهي ، وأمر رباني.
رحمته بالجماد: لأنه أمرنا بإماطة الأذى عن
الطريق فعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه
وسلم - : ( الإيمانُ بِضْعٌ وَسَبعُونَ أَوْ بِضعٌ وسِتُونَ
شُعْبَةً : فَأفْضَلُهَا قَولُ : لا إلهَ إلاَّ اللهُ ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الأذَى
عَنِ الطَّريقِ ، والحياءُ شُعبَةٌ مِنَ الإيمان ) ([29])
. ( البِضْعُ ) من ثلاثة إِلَى تسعة، وَ ( الشُّعْبَةُ ) : القطعة.
ورغبنا في إحياء الأرض: فعن جابرy قَالَ : قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ
يَغْرِسُ غَرْساً إلاَّ كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً ، وَمَا سُرِقَ مِنهُ
لَهُ صَدَقَةً ، وَلاَ يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةً ) ([30])
( يَرْزَؤُهُ ) أي ينقصه.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ،
فَإِنَّ لِي غُلاَمًا نَجَّارًا قَالَ: «إِنْ شِئْتِ»، قَالَ: فَعَمِلَتْ لَهُ المِنْبَرَ،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى المِنْبَرِ الَّذِي صُنِعَ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا،
حَتَّى كَادَتْ تَنْشَقُّ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
أَخَذَهَا، فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّتُ،
حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، قَالَ: «بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ» ([31])
ثالثًا: رحمة النبي r بغير المسلمين
الدعاء بالهداية للمكذبين به
r:
عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-
حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَا رَسُولَ
اللَّهِ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ فَقَالَ « لَقَدْ
لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ
عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ فَلَمْ يُجِبْنِى
إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى فَلَمْ أَسْتَفِقْ
إِلاَّ بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِى فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِى
فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِى فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ
الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ قَالَ فَنَادَانِى مَلَكُ الْجِبَالِ
وَسَلَّمَ عَلَىَّ. ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ
لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِى رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِى بِأَمْرِكَ
فَمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ ». فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ
مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا » ([32])،
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
قَالَ « إِنِّى لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً »([33])،
كان هذا في معركة أحد، التي أصيب فيها النبي (صلى الله عليه وسلم) بجراحات كثيرة، وقتل
بعض أعز أصحابه، ومع هذا كله، رفض الدعاء عليهم.
لم يعاملهم بالمثل: فقد عذبوه، وعذبوا أصحابه، ولم يعذبهم،
ومارسوا عليه، وعلى أصحابه، سياسة التجويع، ولم يمارسها، وأخرجوه، ولم يخرجهم، قتلوا
أسراه، وعفا عن أسراهم.
العفو عن من أساء إليه منهم: لقد حاول عبد الله بن سلول ، زعيم هؤلاء
المنافقين ، النيل من شرف بيت النبوة ، حتى أتهم زوج النبي r
السيدة عائشة وكانت أحب نسائه إليه، حين اتهمها
بالزنا، فأنزل الله تعالى قرآناً يكذب هذه الفرية، ويبرئ السيدة عائشة، فكان مما جاء
في هذا قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ
شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ
الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور
: 11 ).
ومع ذلك لم يسئ إليه النبي r
وإنما عفا عنه .
لم يقتل بيده إلا واحدا مع
انه r كان أشجع
الناس: ذكر غير واحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يقتل بيده إلا أبي بن خلف ، قتله يوم أحد .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " والنبي
صلى الله عليه وسلم كان أكمل الناس في هذه الشجاعة التي هي المقصودة في أئمة الحرب
، ولم يقتل بيده إلا أبي بن خلف ، قتله يوم أحد ، ولم يقتل بيده أحدا لا قبلها ولا
بعدها" ([34])،
ولعل الله تعالى أراد لهذا الشقي أشد العذاب ، فقدّر عليه أن يُقتل بيد النبي صلى الله
عليه وسلم ، فقد كان من أشد الناس عداوة له ولدينه ؛ فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله
عنه قَالَ : ( اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ ، وَاشْتَدَّ غَضَبُ
اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
) ([35]).
لا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
– وإن لم يقتل بيده الشريفة إلا هذا الشقي - هو الذي شرع الجهاد وأمر به وحرض المؤمنين
عليه ، ولا منافاة بين أن يشرع الجهاد ويأمر به ، ويقتل هذا الشقي أو غيره ، لا منافاة
بين ذلك كله ، وبين قوله تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ؛ فإن الله تعالى
إنما أرسله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إلى صراطه المستقيم ، وشرع
له الجهاد في سبيله وقتال أعدائه الذين يريدون إطفاء نور الله ويسعون في الأرض فساداً
ويبغونها عوجاً ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) التوبة
/ 73 . وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
الْقِتَالِ ) الأنفال/ 65 .
فكان الجهاد في سبيل الله وقتال أعداء
الله من أعظم أسباب نشر الدين وإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وهذه
أعظم رحمة نالت العباد : أن ينجيهم الله من الكفر إلى الإيمان ، ومن الظلمات إلى النور
.
ولأجل عظم قدر هذه الرحمة ، من حيث لا
يشعر العباد ولا يظنون ، فقد عجب منها رب العالمين :
عن أبي هُرَيْرَةَ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( عَجِبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ
مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ ) ([36])
ومعناه : يُؤْسَرُونَ وَيُقَيَّدُونَ ثُمَّ يُسْلِمُونَ فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ .
أقام العدل بين من كان يعيش منهم
بكنفه وقد أوصاه الله بهذا، فقال له: (فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم
بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً
وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(المائدة:42
).
الحفاظ على أرواحهم:
عن عبد الله بن عمرو t: عن النبي r قال " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ
الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا " ([37])
ومعنى
(معاهدا) ذميا من أهل العهد أي الأمان والميثاق. (لم يرح) لم يجد ريحها ولم يشمها.
(مسيرة) مسافة يستغرق سيرها هذه المدة "
وعن
عمرو بن الحمق t قال سمعت رسول الله r يقول " أَيُّمَا رَجُلٍ أَمِنَ رَجُلا عَلَى دَمِهِ ثُمَّ
قَتَلَهُ، فَأَنَا مِنَ الْقَاتِلِ بَرِيءٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا
"([38])
فاللهم
كما جعلت نبينا رحمة لكل شيء ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
01098095854