الصدق في حياة الصحابة للشيخ محمد عبد التواب سويدان



الصدق في حياة الصحابه
للشيخ
محمد عبد التواب سويدان
عناصر الخطبة
العنصر الأول : حقيقة الصدق
العنصر الثاني : الصدق في حياة الصحابه
العنصر الثالث : حاجتنا الي الصادقين
نص الخطبة:

الحمد لله الذي جعل في سِيَر الصالحين عبرة للمعتبرين، وذكرى للذاكرين، وجعل في الصادقين منهم أسوة وقدوة للمقتدين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أجمعين. وبعد

أيها الكرماء الأجلاء عباد الله:
يقول الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة ].
وَقالَ تَعَالَى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد ].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((إنَّ الصِّدقَ يَهْدِي إِلَى البرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهدِي إِلَى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا. وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ الله كَذَّابًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وعن أبي سفيانَ صَخرِ بنِ حربٍ رضي الله عنه في حديثه الطويلِ في قصةِ هِرَقْلَ، قَالَ هِرقلُ: فَمَاذَا يَأَمُرُكُمْ؟- يعني: النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أبو سفيانَ: قُلْتُ: يقولُ: ((اعْبُدُوا اللهَ وَحدَهُ لا تُشْرِكوُا بِهِ شَيئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، ويَأْمُرُنَا بالصَلاةِ، وَالصِّدْقِ، والعَفَافِ، وَالصِّلَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الصدق من أشرف مكارم الأخلاق، وهو منـزل القوم الأعظم الذي منه تنشأ المنازل كلها، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، به تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وأهل الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته ، هو روح الأعمال ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، وهو الباب الذي يدخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية على النبوة التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكن النبيين تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين.
ولم يقتصر الصدق علي صدق اللسان فحسب بل ان الصدق أعم وأشمل فالصدق كما قال عبد الواحد بن زيد: "الصدق الوفاء لله بالعمل"
وقيل: هو موافقة السر النطق.وقيل: استواء السر والعلانية
ويقول القشيري رحمه الله معرِّفًا الصدق:
"ألا يكون في أحوالك شوب[ هو ما اختلط بغيره من الأشياء. ]، ولا في اعتقادك ريب، ولا في أعمالك عيب".

• ويقول ابن القيم رحمه الله كما في "مدارج السالكين"
"والصدق ثلاثة: قول، وعمل، وحال:
فالصدق في الأقوال: إستواء اللسان على الأقوال، كاستواء السنبلة على ساقها.
والصدق في الأعمال: إستواء الأفعال على الأمر والمتابعة، كاستواء الرأس على الجسد.
والصدق في الأحوال: إستواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع وبذل الطاقة، فبذلك يكون العبد من الذين جاؤوا بالصدق، وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به تكون صدِّيقيَّتُه، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه )
وقال القرطبي:
حق على كل من فهم عن الله أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال والصفاء في الأحوال. فمن كان كذلك لحق بالأبرار، ووصل إلى رضاء الغفار. وقد أرشد تعالى إلى ذلك كله بقوله عند ذكر أحوال الثلاثة التائبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}
أيها المؤمنون: إن لكل مجتمع رموزاً وقادة يمثلون قِيَمَهُ، ويوجهون الأمة، ويُقَوون الهِمَّة؛ ليصعدوا بالناس إلى القمة. ورموز المجتمع الإسلامي هم صحابة رسول الله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأفضلهم أهل السابقة؛ مَنْ محَّصتهم الفتنُ، ونقَّتهم المحن، من امتُحنوا بالنفس والنفيس، فاسترخَصُوا كل شئ من أجل رفع راية التوحيد؛ رضي الله عنهم، ورحمهم، وأخرج في الأمة من أمثالهم.
وإن المتأمل لواقع أمتنا اليوم يجدها تكاد تفتقر إلى القدوات، وينقصها المثال؛ ولذلك فتحت باب إستيراد القدوات من خارج الحدود، فتنَكرتْ لتاريخِها، وتَعَاظَمَ سُخْفُهَا وجهلها بسلفها وقدواتها، وتناقص عنصر الخير فيها بمرور الأيام، وخفتت قوةُ الضوء فيها؛ لأنها ابتعدت عن مصدر الضوء، وعن مركز الإشعاع فيها.

إذا تمَثلَ ماضِينا لحَاضِرنا تكادُ أكبادُنا بالغَيْظِ تنفَطِرُ
ولذا كان لابد للأمة أن ترجع لتاريخها، لا للتسلية، ولا لقتل الفراغ، ولا لاجترار الماضي، ولا للافتخار بالآباء فحسب، بل لنتعظ ونعتبر ونتشبه، ونعرف ذلك الجدول الفياض الذي نَهَل منه أسلافنا؛ لنعُبَّ منه كما عبُّوا، لنعلم ماذا فعلوا، لنقتدي بهم فيما فعلوا، لنعلم كيف وصلوا، لنصل كما وصلوا.
ما أحوجنا إلى أن نترسَّم خطاهم، ونتلمَّس العزَّة في طريقهم، ونسير على هداهم غابت شخوصهم، فلنسمع ولْنَعِ أخبارهم؛ فلعل ذاك يقوم مقام رؤيتهم
وهذه صُوَر مُشرِقة مِن حَيَاةِ الصَّحابَةِ في الصِّدقِ؛ نوجه الجميع للنظر فيها: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام ]
فقدْ جَاءوا للهِ ولرسولِهِ صَادقينَ،
لَمْ يَعرِفِ التَّاريخُ لِصِدقِهِم مَثيلاً، كانوا أصدق الناس إيمانًا أصدقهم يقينًا ظهر الصدق عليهم في أحوالهم كلها

♦صدقهم مع كتاب الله♦

صدقوا في تلقيهم للقرآن، فتلألأت كلمات القرآن على شفاههم كما تتلألئ الكواكب في صفحات السماء، ملئوا الجوانح بكلام الله؛ فظهر أثر ذلك على الجوارح.
رتَّلوا القرآن ترتيلاً ينمُّ عن التأثر بما يَتْلُونَ، وعلى وعي وحسن فَهْمٍ لما يقرءون، تلذذوا بقراءة القرآن، تعلموه وعلموه، وجعلوه خلقهم، فما من آية تنزل إلا ويرون أنهم المعنيون بها دون غيرهم، ما سمعوا: (يا أيها الذين آمنوا) إلا أصغوا بآذانهم يتلقون ما يؤمرون به؛ ليعملوا به، وما ينهون عنه لينتهوا عنه، فشرح الله صدورهم للإيمان بالقرآن، وأعلى قدرهم، ورفع ذكرهم ودرجتهم،
فلما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع ونزل المسلمون شعباً من الشعاب ليقضوا ليلتهم، فلما أناخوا رواحلهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يحرسنا الليلة؟ فقام عباد بن بشر ، وعمار بن ياسر -وقد آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقالا: نحن يا رسول الله! ثم خرجا إلى فم الشعب، فقال عباد لـعمار : أتنام أول الليل أم آخره؟ فقال عمار : بل أنام أوله، اضطجع عمار غير بعيد.
بقي عباد يحرس جند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، هدأت العيون، وسكنت الجفون، ولم يبقَ إلا الحي القيوم، عندها تاقت نفس عباد للعبادة، واشتاق قلبه للقرآن، فقام يصلي؛ ليجمع متعة الصلاة إلى متعة التلاوة، وطفق يقرأ سورة الكهف، يسبح مع آيات الله البينات. ويراه رجل من المشركين يصلي على فم الشعب، فعرف أنه حارس جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لئن ظفرت به لأظفرن بجيش محمد فوتر قوسه، وتناول سهماً من كنانته، ورماه به فوضعه فيه، فانتزعه عباد من جسده ورمى به،ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالآخر فانتزعه، ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالثالث فانتزعه، وإذا الدماء تنزف منه، فزحف إلى عمار وأيقظه قائلاً: لقد أثخنتني الجراح، عليك بثغر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولَّى المشرك هارباً، وأمَّا عمار فنظر -ويا للهول! أثخنته الجراح، فقال: رحمك الله هلا أيقظتني من عند أول سهم رماك به؟ فقال عباد -واسمعوا إلى ما يقول-: [[ كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أفرغ منها، وايم الله؛ لولا خوفي أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه؛ لكان قطع نفسي أحب إلي من قطعها ]].

■أيها الكرماء الأجلاء عباد الله: إن الصحابة لم يتلذذوا بالقرآن فحسب، بل عملوا بمقتضاه، وطبقوه واقعاً عملياً لا نظير له في تاريخ الأمة،
فإذا بك ترى أبا طلحة الأنصاري وهو يسمع قول الله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران ] فيبادر فيجعل أفضل بساتينه في سبيل الله صدقة؛ يرجو برها وذخرها عند الله.
ليس هذا فحسب، بل يفتح كتاب الله فيقرأ قول الله: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة ] فيقول لأبنائه: جهزوني جهزوني. شيخ كبير قارب على الثمانين لم يعذر نفسه، فيقول أبناؤه: رحمك الله، جاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وصرت شيخاً كبيراً، فدعنا نغزو عنك، قال: والله! ما أرى هذه الآية إلا استنفرت الشيوخ، ثم أبى إلا الخروج لمواصلة الجهاد في سبيل الله، والضرب في فجاج الأرض؛ إعلاء لكلمة الله، وإعزازاً لدين الله.
فيشاء الله يوم علم صدقه أن يكون في الغزو في البحر لا في البر ليكون له الأجر مضاعفاً، وعلى ظهر السفينة في وسط أمواج البحار المتلاطمة يمرض مرضاً شديداً يفارق على إثره الحياة، فأين يدفن وهو في وسط البحر؟! ذهبوا ليبحثوا له عن جزيرة ليدفنوه فيها فلم يعثروا على جزيرة إلا بعد سبعة أيام من موته، وهو مسجى بينهم، لم يتغير فيه شيء كالنائم تماماً.
وفي وسط البحر بعيداً عن الأهل والوطن نائياً عن العشيرة والسكن دفن أبو طلحة ، وما يضره أن يدفن بعيداً عن الناس ما دام قريباً من الله عز وجل، ماذا يضره أن يدفن في وسط جزيرة لا أعلمها ولا تعلمها، يوم يجبر الله -بإذن الله- له كل مصاب بالجنة.
■ويأتي أحدهم رسول الله ذات يوم هلعاً، فزعاً، جزعاً، ترتعد فرائصه، فيقال له: ما بك؟ قال: أخشى أن أكون هلكت يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: ولِمَ ؟ قال: لقد نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد، ونهانا عن الخيلاء، وأراني أحب الزهو. فمازال صلى الله عليه وسلم يهدئ من روعه حتى قال: {يا ثابت بن قيس ! ألا ترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة، فتبرق أسارير وجهه ويقول: بلى. يا رسول الله! فيقول صلى الله عليه وسلم: إن لك ذلك فلا تسل عن حالك}.
ثم تتنزل آية الحجرات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات ] وكان رجلاً جهوري الصوت، يلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفارقه، عندها يلزم بيته ولا يكاد يخرج إلا لأداء المكتوبة، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: { من يأتيني بخبر ثابت }، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله! فانطلق هذا الأنصاري فجاء إليه فإذا هو في بيته منكَّس الرأس، فقال: ما بك يا أبا محمد ؟ قال: شر والله! قال: وما ذاك؟
قال: تعلم أني رجل جهوري الصوت، وكثيراً ما يعلو صوتي صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علمت ما نزل في كتاب الله، والله! ما أحسبني إلا حبط عملي، وأني من أهل النار. فيرجع الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! كان من أمره كذا وكذا، ويقول: كذا وكذا. قال: ارجع إليه فقل له: {لست من أهل النار، أنت من أهل الجنة يا ثابت} فيأتي إليه ليخبره، فلا تسل عن المبشِّر، ولا تسل عن المبشَّر، ولا تسل عن الحال، حال وأي حال. وإذا به ينتظر تلك البشارة طوال حياته، يجاهد لله، ويجالد لله، وينطلق من معركة إلى معركة، إلى أن يصاب بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أصيب المسلمون؛ ويرتد العرب؛ فيكون في من يردون المرتدين إلى الواحد القهار. جاء في المعركة، ورأى انخذال المسلمين، ورأى جرأة العدو، تحنط وتكفَّن ووقف على رءوس المسلمين يقول: [[ يا معشر المسلمين! والله ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بئس ما عوَّدتم عدوكم من الجرأة عليكم، وبئس ما عودتم أنفسكم من الانخذال لعدوكم. اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ]].ثم هبَّ هبَّة الأسد الضاري، فانطلق معه البراء وزيد وسالم ، فنشروا الرعب في قلوب المشركين، وثارت الحمية في قلوب المسلمين، فنصر الله المسلمين، وإذا به يخر صريعاً على تلك الأرض، ينتظر بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا صدقهم مع كتاب الله

♦صدقوا في المحبة ♦

فهَذا أَبُو بكرٍ الصديقُ رضي اللهُ عنه لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، أَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ أَنْتَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ: "أَسْلِمْ". فَأَسْلَمَ. رواه أَحمدُ. نعَم.. أتى بأَبيهِ مَع كِبَرِ سِنِّهِ؛ لأنَّ محبَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وتعظِيمِهِ أَكبرُ مِن مَحبَّتِه وتعظِيمِهِ لأَبيهِ؛ وهذِه لا تَدلُّ على شَيء كَدَلالَتِهَا على صِدقِ المحَبَّةِ وقُوةِ الاتِّباعِ.

 أما خبر سعد بن الربيع - رضي الله عنه - فعجيب ، حيث سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - :(أفي الأحياء سعد أم في الأموات ؟)) فخرج أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه - يستطلع الخبر ، فوجده في الرمق الأخير ، فقال سعد : " بل أنا في الأموات ، فأبلِغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عني السلام ، وقل له : إن سعد بن الربيع يقول لك : جزاك الله عنَّا خيرًا ، ما جزى نبيـًا عن أمته " ، ثم قال لأبي : " وأبلغ قومك عني السلام ، وقل لهم : إن سعد بن الربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وفيكم عين تطرف " ، ثم لم يبرح أن مات ، فجاء أبي بن كعب - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((رحمه الله ، نصح لله والرسول حيـًا وميتـًا)) .

♦صدقوا في التمني♦

إن هؤلاء الكرام صدقوا حتي في أمنياتهم فإذا بأحدهم؛ وهو عبادة -رضي الله عنه- يقول للمقوقس : [[ وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساءً أن يرزقه الشهادة، وألا يرَّده إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده وماله، وليس لأحد منا هَمٌّ فيما خلَّفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وماله، وإنما همُّنا ما أمامنا ]].

وفي صحيح السيرة أنَّ عُمير بن أبي وقّاص رُدَّ يومَ بَدر لصغره، فبكى فأجازه النبيّ ، قال سعد أخوه: رأيتُ أخي عُميرًا قبل أن يعرِضَنا رسول الله يومَ بَدر يتوارَى حتى لا يراه رسول الله ، فقلت: ما لك يا أخي؟! قال: إني أخافُ أن يراني رسولُ الله فيستصغِرَني ويردَّني، وأنا أُحِبّ الخروجَ لعلَّ الله أن يرزقني الشهادةَ. صدق في أمنيته فصدقه الله وأعلَى درجاته بالشهادة في سبيله.

ويذكر ابنُ حجر رحمه الله في كتابِه الإصابة أن سعد بن خيثمَة استهَم هو وأبوه يومَ بدر، فخرج سهم سعد، فقال له أبوه: يا بنيّ آثرني اليومَ، فقال سعد: يا أبتِ، لو كان غير الجنّة فعلتُ، فخرجَ سَعد إلى بدر وبَقي أبوه، فقُتِل بها سَعد، وقُتِل أبوه خَيثمة بعدَ ذلك يومَ أحُد؛ فنالوا الشهادةَ التي هي أعظمُ مَطلوب.

وهذا عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ وكَانَ أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ بَنُونَ شَبَابٌ يَغْزُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا غَزَا فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ أن يَتَوَجَّهُ إِلَى أُحُدٍ قَالَ لَهُ بَنُوهُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لَكَ رُخْصَةً فَلَو قَعَدْتَ فَنَحْنُ نَكْفِيكَ فَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ عَنْكَ الْجِهَادَ فَأَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَنِىَّ هَؤُلاَءِ يَمْنَعُونِي أَنْ أَخْرُجَ مَعَكَ وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أُسَتَشْهَدَ فَأَطَأَ بِعُرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم « أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ عَنْكَ الْجِهَادَ»وَقَالَ لِبَنِيهِ:
« وَمَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَدْعُوهُ لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَرْزُقُهُ الشَّهَادَةَ؟»فَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا.

وهذا عمير بن الحمام شاب كريم مبارك، يسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر يقول: كما في صحيح مسلم
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ ». قَالَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ بَخٍ بَخٍ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ ».
قَالَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا.
قَالَ « فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا» فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ – قَالَ – فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ. ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.).

وعَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ثُمَّ قَالَ أُهَاجِرُ مَعَكَ. فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ مَا هَذَا قَالَ « قَسَمْتُهُ لَكَ ».قَالَ مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ وَلَكِنِّى اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَا هُنَا – وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ – فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ. فَقَالَ « إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ ». فَلَبِثُوا قَلِيلاً ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ فَأُتِىَ بِهِ يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَار َفَقَالَ النَّبِيُّ « أَهُوَ هُوَ ». قَالُوا نَعَمْ. قَالَ « صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ » ثُمَّ كَفَّنَه ُالنَّبِيُّ ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلاَتِهِ « اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ ». نعم فهذا الأعرابي قد صدق مع الله فَصدقَه،

واجتمعوا يوماً من الأيام فقال قائلهم: تمنوا. فقال رجل: أتمنى لو أن لي مثل هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله عز وجل.
وقال آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجواهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به.
وأما علي -رضي الله عنه- فيتمنى الضرب بالسيف، والصوم بالصيف، وإكرام الضيف.
وأما خالد فيتمنى ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، يصبِّح فيها العدو؛ ليجاهد في سبيل الله.
وأما عمر -رضي الله عنه- فيقول: [[أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة برجال مثل أبي عبيدة ؛ أستعملهم في طاعة الله]] رجال أمناء كأمين الأمة، يستعملهم في طاعة الله.
يا أيها الأحبة: يتمنى عمر هذه الأمنية في أي وقت، في وقت امتلأت فيه الساحة الإسلامية برجال عز نظيرهم، وقل مثيلهم، وجل شبيههم؛ فما أعظم حاجتنا اليوم إلى مثل هذه الأمنية، وقد افتقرت البلاد وأجدبت، وعجزت النساء أن يلدن أمثال أولئك الرجال!
كم هي حاجة الأمة ماسة إلى أمين كـأبي عبيدة بعد أن استشرت الخيانة.
كم هي حاجتنا ماسة إلى رجل كـأبي عبيدة يرفع لواء الجهاد بعد أن استنوق الجمل، وعاثت في الأرض الغربان، واستنسر في سماء الأمة بغاث الطير.
كم هي حاجة الأمة لأمين كـأبي عبيدة في غيبة الأمناء، حتى صارت الأمة أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام
هكذا كانت مطالب الصحابة رضوان الله عليهم وأمانيهم، استحقوا أن يخلِّد الله ذكرهم في كتابه بما وصفهم به من عاطر الثناء، وحفظ لهم قدرهم في الأمة على مدى الزمان

♦صدقوا في التضحية♦
صدقوا فضَحوا بالنَّفس والنفيس في سبيل الله.

فهذا حبيب يكلف بمهمة شاقة؛ ليكون رسولاً لرسول الله إلى مسيلمة الكذاب .
يأخذ الرسالة غير وَانٍ ولا متريث ولا متردد، ترفعه النِّجاد، وتحطه الوهاد حتى يبلغ أعالي نجد، ويسلم الرسالة إلى مسيلمة ، فلما قرأها انتفخت أوداجه، وبدا شره، ولو علم الله فيه خيراً لأسمعه.أمر بـحبيب أن يقيد، وأن يعرض عليه من الغد، وما ضر حبيب وقد بلغ رسالة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
فلما كان الغد أذن للعامة بالدخول عليه، وأمر بـحبيب فجيء به يرسف في قيوده وسط جموع الشرك الحاقدة، مشدود القامة، مرفوع الهامة، شامخ الأنف بإيمانه، التفت مسيلمة إليه وقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتميز من الغيظ وقال: أتشهد أني رسول الله -وخسئ-؟ فقال حبيب في سخرية: إن في أذني صمماً عن سماع ما تقول. فيتغير لون وجهه، وترتجف شفتاه غيظاً وحنقاً ليقول لجلاده: اقطع قطعة من جسده، فبتر الجلاد قطعة من جسده لتتدحرج على الأرض. ثم أعاد مسيلمة السؤال، أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، صلى الله عليه وسلم.
قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إن في أذني صمماً عن سماع ما تقول. فأمر بقطع قطعة أخرى من جسده لتتدحرج على الأرض، فشخص الناس بأبصارهم مدهوشة مشدوهة من تصميم هذا الرجل وثباته؛ إنه الثبات من الله. مضى مسيلمة يسأل والجلاد يقطع وحبيب يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، حتى صار قطعاً منثورة على الأرض، ثم فاضت روحه وهو يردد: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد رسول الله، محمد رسول الله.
ثم يأتي الخبر لأمه، ويا لهول الخبر! يوم جاءها خبر ابنها الذي قطع إرباً إرباً وهو يقول: محمد رسول الله، فما زادت على أن قالت: [[ من أجل هذا الموقف أعددته، وعند الله احتسبته، لقد بايع الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة صغيراً، ووفَّى له اليوم كبيراً، فحمدت الله سبحانه وتعالى كثيراً ]].
ولكن هل وقفت عاجزة تبكي ابنها وتندب حظها؟
لا. بل في يوم اليمامة كانت تشق الصفوف ثائرة تنادي: أين عدو الله مسيلمة ؟ فوجدته مجندلاً على الأرض، سيوف المسلمين قد ارتوت من دمه، فطابت نفساً، وقرَّت عيناً ومضى حبيب ومسيلمة إلى ربهما، وشتَّان ما بينهما، فريق في الجنة، وفريق في السعير.
♦وهذا صهيب قد تجهز للهجرة للحاق برسول الله فجهز له كفار قريش فرقة مراقبة تتابعه؛ لئلا يذهب بماله، وفي ذات ليلة أكثر من خروجه للخلاء للتعمية والتغطية عليهم، فما يلبث أن يعود من الخلاء حتى يخرج مرة أخرى، وهم يراقبونه حتى قال قائلهم: لقد شغلته اللات والعزى ببطنه، فقروا عيناً الليلة.
أسلموا أعينهم للكَرَى مطمئنين، فتسلل صهيب من بينهم، ولم يمضِ غير قليل حتى فطن له أولئك، فهبوا مذعورين قلقين فزعين خائفين، وامتطوا الخيل، وأطلقوا أعنتها خلفه حتى أدركوه، ولما أحس بهم -رضي الله عنه وأرضاه- وقف على مكان عال وأخرج سهامه من كنانته، وهم يعرفون صهيباً وبرى قوسه. وقال: يا معشر قريش! تعلمون أني من أرمى الناس، والله! لا تصلون إليَّ حتى أقتل بكل سهم منكم رجلاً، ثم أضربكم بسيفي ما بقي منه بيدي شيء، فقال قائلهم: والله! لا ندعك تفوز بنفسك ومالك؛ لقد أتيتنا صعلوكاً فقيراً، فاغتنيت وبلغت ما بلغت ،ثم تذهب به كلا واللات، قال: أرأيتم إن تركت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. فدلَّهم على موضع ماله، وأطلقوا سراحه، فانطلق فاراً بدينه غير آسف على مالٍ أنفق زهرة العمر في تحصيله، يستفزُّه ويحدوه الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بلغ قباء رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهشَّ له وبشَّ وقال: {ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى }.
والله! إن الدنيا وشهواتها وزخارفها ولذائذها ومتعها لا تساوي: {ربح البيع أبا يحيى}.
علت الفرحة وجه صهيب، وحقاً -والله- ربح البيع: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ]
♦وهذا حكيم وقد آلت إليه دار الندوة التي كانت تعقد قريش مؤتمراتها فيها في الجاهلية، ويجتمع ساداتها وكبراؤها فيها ليأتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، تخيله وهو يتخلص من تلك الدار مسدلاً الستار على ماض بغيض أليم، ويبيعها بمائة ألف درهم، فيقول فتى من قريش: بعت مكرمة قريش يا حكيم ! فقال: [[ يا بني! ذهبت المكارم كلها ولم يبقَ إلا التقوى، أو ما يسرك يا بني! أن أشتري بها داراً في الجنة؟ إني أشهدكم أني جعلت ثمنها في سبيل الله؛ أرجو ذخرها وبرها عند الله ]] وربح البيع.
ثم انظر إليه أخرى يوم يحج بعد ذلك فيسوق أمامه مائة ناقة مجللة بالأثواب الزاهية، ثم ينحرها جميعها؛ تقرباً إلى الله تعالى.
ولا تعجب يوم يحج ثانية فيقف في عرفات ، ومعه مائة من عبيده، قد جعل في عنق كل واحد منهم طوقاً من فضة، نقش عليه عتقاء لله عز وجل ثم يعتقهم جميعاً على عرفات ؛ ويسأل الله عز وجل أن يعتق رقبته من النار.
ثم يحج ثالثة فيسوق أمامه ألف شاة، ثم يريق دماءها كلها في منى ، ويطعم بلحومها فقراء المسلمين؛ تقرُّباً لله -عزَّ وجلَّ- فلا تنساه البطون الجائعة، ولا الأكباد الظامئة، ما دام على الأرض بطن جائع أو كبد ظمأى.
كان المال في يده لا يدور عليه الحول حتى ينفقه في سبيل الله.
كبر حكيم بعد أن قدم ما قدم، وذهب بصره فاحتسبه لله، ونزل به الموت، واشتد وجعه، وإذ به يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ويقول: [[أخشاك ربي وأحبك، أخشاك ربي وأحبك]]؛ ليلقى الله. رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعلى علِّيين مثواه،

♦صدقوا فاتهموا أنفسهم♦

اتهموا أنفسهم وهضموها وروضوها على مقابلة الجهل بالحلم، والحمق بالعقل، والإساءة بالإحسان والعفو؛ ركلوا العُجْب والكبر والغرور، فعاشوا سعداء، وماتوا شهداء في حبور.
فعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو
بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، َفأنْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ الله :(( وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ، سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ )) [رواه مسلم].
وعمر بن الخطاب يذهب إلي حذيفة فيسأله أسماني رسول الله في المنافقين ؟
فيقول حذيفة لا يا عمر ،
ويقال لأحدهم: يا مراءٍ!
فيقول: متى عرفت اسمي؟

وآخر في الحج وقد ازدحم الحُجَّاج، وبلغت القلوب الحناجر يقول أحد الذين بجواره: والله ما أظنك إلا رجل سوء.
فيقول: ما عرفني إلا أنت.
ويؤتى بالثالث ويقف يوم عرفة آخر النهار متذللاً خاضعاً خاشعاً، قلوب الخلق وألسنتهم تجأر إلى الله أن يعتق الرقاب من النار، فإذا به تصفو نفسه، ويرق قلبه، فيتذكر ذنوبه وخطاياه -وهي من ذنوب وخطايا صغار- فيقول: لا إله إلا الله! ما أشرفه من موقف وما أرجاه! لولا أني فيهم لقلت: قد غفر الله لهم، اللهم لا تردهم من أجلي ،
للهِ دَرُّهُمْ على هذا الصِدْقِ... هَذا هُوَ الصِدْقُ صَدقُوا اللهَ فصدَقَهُم ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب ].
هكذا صدق هؤلاء الأطهار في كل أحوالهم فاستحقوا ان يمتدحهم الله عز وجل ويرضي عنهم رضي الله عنهم ورضوا عنه وامتدحهم رسوله ورضي عنهم فقال خير القرون قرني ثم الذين يلونهم
اقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم

♦الخطبة الثانيه ♦

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَهُ الْحَمْدُ الْحَسَنُ وَالثَّناءُ الْجَمِيلُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا... أمَّا بَعْدُ:
أيها الكرماء :إنَّ الصدق هو الذي يبعَث على الإفتداء بكلِّ غالٍ ورخيص في سبيل رضوان الله جلّ وعلا ومحبّته ونُصرة دينه مهما كانت التضحيةُ ومهما كان الثمن غاليًا. فالصدق هو الذي دفع بطلحةَ أن يقيَ رسول الله بأحد حتى شُلَّت يده رضي الله عنه، والصدق هو الذي دفع بسعدِ بنِ أبي وقّاص رضي الله عنه أن يقاتلَ بين يدَي رسول الله في أُحُد، وكان يناوله النبل ويقول: ((ارمِ يا سعد، فداك أبي وأمي)). والصدقُ هو الذي حدا بأبي طلحة أن يستبسِل في الدّفاع عن رسول الله والمشركون محيطون به وأبو طلحةَ يقول: يا نبيَّ الله، بأبي أنت لا تشرِف إلى القوم أن لا يصيبك منهم سهم، نحري دون نحرك، أي: جعل الله نحري دون نحرك. وهذا الشأنُ هو الذي دَفع بنسيبةَ بنتِ كعب رضي الله عنها بأُحُد أن تذُبَّ عن رسولِ الله بالسيفِ وتُرمَى بالقوس وتُصاب بجراح كثيرة. وهذا الأمر -أي: الصدق هو الذي جعل أبا دُجانةَ يُترِّس بنفسِه دون رسول الله حتى يقَع النبلُ في ظهرِه، وهو منحنٍ على رسول الله حتى كثُر فيه النَّبل.
فأينَ المسلمونَ مِن هَذِه المَواقفِ.
أيها الكرماء :الصدق ملازم للمؤمن في كل أحواله في كل تصرفاته كثيرها وقليلها، ما أحوجنا إلى الصدق في تعاملنا، ما أحوجنا إلى الصدق في مناهج حياتنا بأن تكون أعمالنا ومنهج حياتنا مسبوغة بتعاليم هذا الدين فننطلق منه لأمورنا كلها على وفق ما شرع الله لنا ورسوله، ما أحوجنا إلى الصدق في توبتنا إذا تبنا إلي الله
ما أحوجنا إلى الصدق في توكلنا على الله واعتمادنا عليه، ما أحوجنا إلى الصدق في إستقامتنا ومراقبة أحوالنا، ما أحوجنا إلى الصدق في تطهير بيوتنا عما يخالف شرع الله، ما أحوجنا إلى الصدق في مجالسنا بأن تكون مجالسنا مجالس خير وهدى لا غيبة ولا نميمة ولا بهتنا ولا قيل وقال مما يخرج عن الشرع والدين، ما أحوجنا إلى الصدق في أقوالنا بأن تكون أقوالنا أقوال صادقة بعيدا عن الكذب والإفتراء، ما أحوجنا إلى الصدق في تعاملنا مع أبوينا لاسيما عند كبرهما فلنصدق في برهما والإحسان إليهما



ما أحوجنا إلى الصدق في التعامل مع زوجاتنا مع أبناءنا وبناتنا التعامل الصحيح الذي نؤدي به الواجب ونغرس في الفضائل، ما أحوجنا إلى الصدق في حب أوطاننا والدفاع عنها ومنع كل المفسدين والمجرمين والأخذ على أيدي المفسدين والمتربصين بالأمة الدوائر، ما أحوجنا إلى خطيب ذا فهم يبصر الأمة وينشر الخير ويتحدث عن مشاكلها بعيدا عن الغلو والتطرف، ما أحوجنا إلى واعظ وداعي إلى الله يدعوا على علم وبصيرة في دين الله فينشر الخير ويدعوا إلى الخير ، فإذا كان هناك رجال صادقين ينظرون للواقع ويدرسون المشاكل ويقيمون التقييم الصحيح فالأمة إن شاء الله بخير وصلاح، أسأل الله أن يوفقنا جميعًا لكن من الصادقين في أقوالنا وأعمالنا إنه على كل شيء قدير.
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات