العَفْوُ عِنْدَ المَقْدِرَةِ الشيخ/ عبد الناصر بليح



الحمد لله رب العالمين ..يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ..
وأشهد ان لاإله إلا اله وحده لاشريك له في سلطانه أمر نبيه صلي الله عليه وسلم بالعفو فقال :" خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ "
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله قال وماينطق عن الهوي :"مَن كَظَمَ غَيظًا، وَهُو قادر على أن يُنفِذَه، دَعَاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخَلاَئِق يوم القيامة حتَّى يُخَيِّره من الحُور العَين مَا شَاء"(الترمذي). اللهم صلاة وسلاماً عليك ياسيدي يارسول الله وعلي آلك وصحبك الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً أما بعد فياجماعة الإسلام .
حديثنا إليكم اليوم عن العفو والصفح وقد وردت آيات كثيرة في ذكر العفو والصفح والترغيب فيهما:
#فتارة يأتي الأمر بالعفو مقترنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإعراض عن الجهلة :"خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ"(الأعراف/199).  وروي عند ابن مردويه قال لما نظر رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - إلى حمزة بن عبد المطلب قال والله لأمثلن بسبعين منهم فجاء جبريل بهذه الآية فقال يا جبريل ما هذا قال لا أدري ثم عاد فقال إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك"
#و يأتي الأمر بالعفو مقترناً بالاستغفاروالمشورة :" فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"(آلأ عمران/159).
#وتارة يأتي العفو مقترناً بالصفح -قوله تعالى: "وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" )النور/ 22).
قال ابن كثير :"هذه الآية نزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح ابن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال،... فلما أنزل الله براءةَ أمِّ المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على مَن كان تكلَّم من المؤمنين في ذلك، وأُقيم الحدُّ على مَن أُقيم عليه، شَرَع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يُعطِّفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه، وهو مِسْطَح بن أثاثة، فإنَّه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر، رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد تاب الله عليه منها، وضُرب الحدَّ عليها. وكان الصديق رضي الله عنه معروفًا بالمعروف له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنَّا نحبُّ -يا ربنا -أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته ..
#و يأتي العفو مقترناً بالصفح والمغفرة قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ "(التغابن: 14). فهذا تحذير من الله للمؤمنين، من الاغترار بالأزواج والأولاد، فإنَّ بعضهم عدو لكم، والعدو هو الذي يريد لك الشر، ووظيفتك الحذر ممن هذا وصفه والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي ورغبهم في امتثال أوامره، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإنَّ في ذلك من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن: 14] لأنَّ الجزاء من جنس العمل.فمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له، ومن عامل الله فيما يحب، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم، نال محبة الله ومحبة عباده، واستوثق له أمره.
#ويأتي من صفات عباد الله المتقين بأسلوب التشويق مسبوقاً بكظم الغيظ ومذيلاً بمحبة الله للمحسنين -قال تعالى: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين"(آل عمران  /13 ).,قوله تعالى:" وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ "يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كلِّ من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم؛ لأنَّ العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلَّى بالأخلاق الجميلة، وتخلَّى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانًا إليهم، وكراهة لحصول الشرِّ عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه" (الشورى/40).
قال ابن عباس رضي الله عنه: من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو "فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ"أي إن الله يأجره على ذلك. قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة..فمرتبة العدل: جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله.
ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال:" فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ"(الشورى/40).  يجزيه أجرًا عظيمًا، وثوابًا كثيرًا، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه؛ ليدلَّ ذلك على أنَّه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورًا به.
وفي جعل أجر العافي على الله ما يُهيِّج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل.
وكلُّ إنسان يتصل بالناس فلا بد أن يَجِدَ من الناس شيئًا من الإساءة، فموقفُه من هذه الإساءة أن يعفوَ ويصفَحَ، وليعلَمْ علمَ اليقين أنه بعفوه وصفحه ومجازاته بالحسنَى، سوف تنقلب العداوةُ بينَه وبين أخيه إلى ولايةٍ وصداقةٍ.
قال الله تعالى:"وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"(فصلت/ 34).
العفو في السنة المطهرة
وقد جاءت السنة النبوية المطهرة بالكثير من النصوص الصحيحة التي تبن فضائل العفو والحث عليه ..
#العفو صفة من صفات رب العالمين وهو من صفات الأنبياء والمرسلين و عباد الله الصالحين من الصحابة والتابعين والعلماء الربانيين ومن نهج نهجهم وسار على طريقهم إلى يوم الدين .. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال :قال النبي صلى الله عليه وسلم :"ما أحد اصبر على أذى سمعه من الله يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم  "(لبخاري و مسلم(. 
#العفو سبب للعز والرفعة في الدنيا والآخرة:
والعفْوُ من صفات العزة في الدنيا ويومَ القيامة؛ لأن العفوَ هو أن تترُكَ معاقبةَ كلِّ من يستحق العقوبة وأنت قادر على عقوبته، فعن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثٌ - والذي نفسي بيدِه - إن كنتُ لَحالفًا عليهِن: لا يَنقُصُ مالٌ من صدقةٍ؛ فتصدَّقوا، ولا يَعفو عبدٌ عن مَظلمةٍ، إلا زادَه اللهُ بِها عزًّا يومَ القيامةِ، ولا يفتَحُ عبدٌ بابَ مسألةٍ، إلا فتحَ اللهُ عليهِ بابَ فقرٍ"(مسلم). قال القاضي عياض (وقوله:  "ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا فيه وجهان:أحدهما: ظاهره أنَّ من عُرف بالصفح والعفو ساد وعظم في القلوب وزاد عزه.الثاني: أن يكون أجره على ذلك في الآخرة وعزته هناك..
- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :"ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لك "(أحمد) .
#عفو الرسول صلي الله عليه وسلم :"
وقد ضرب نبينا أروع الأمثلة في هذا الباب فيتجلى عفو الرسول صلى الله عليه وسلم حينما ذهب إلى الطائف ليدعو أهلها إلى الإسلام، ولكن أهلها رفضوا دعوته، وسلَّطوا عليه صبيانهم وعبيدهم وسفهاءهم يؤذونه صلى الله عليه وسلم هو ورفيقه زيد بن حارثة، ويقذفونهما بالحجارة حتى سال الدم من قدم النبي صلى الله عليه وسلم. فنزل جبريل -عليه السلام- ومعه ملك الجبال، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في هدم الجبال على هؤلاء المشركين، لكن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنهم، وقال لملك الجبال :"لا بل أرجو أن يُخْرِجُ الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئًا"(متفق عليه).- وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كم نعفو عن الخادم؟ فصمت! ثم أعاد عليه الكلام، فصمت! فلما كان في الثالثة، قال: اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة" (أبوداود). 
 وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يقول رب أغفر لقومي فأنهم لا يعلمون) البخاري و مسلم ).
ومن مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في العفو ما روي عن انس ابن مالك رضي الله عنه قال :" كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و عليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه من خلفه جبذة حتى رأيت صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أثرت به حاشية البرد من شدة جبذته فقال يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك فالتفت إليه النبي صلى الله عليه و سلم فضحك ثم أمر له بعطاء)"  مسلم).
والعفو خلق محبوب عند الله تعالى، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يكثر من طلب العفو من الله تعالى فقد ورد في الحديث الشريف أنه قال:"قولي" : اللهمَّ إنك عفوٌّ تحبُّ العفوَ ، فاعْفُ عنِّي" (الترمذي والنسائي).
وهو من الأخلاق التي أمر الله تعالى نبيّه بالتخلّق بها، حيث أمره بقبول أعذار المسيئين كما ذكرنا :"خذ العفو ".."وأصفح الصفح الجميل"
#حدود العفو والصفح:
أيها الناس:"ماهي حدود الصفح؟  يأتي الأمرمن الله لرسوله صلي الله عليه وسلم  بالصفح الجميل :" فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ "(الحجر/85). فالمظلوم مخير بين واحدة من ثلاث خصال: إما أن يستوفي حقه، وهو العدل، وهو فعل الصالحين. وإما أن يأخذ أكثر من حقه، و هو صفة الأرذال و الظلمة. و إما أن يعفو و يصفح، وهو اختيار الأنبياء و الصديقين. فإذا كان الصفح معه إحسان، فذلك الصفح الجميل.
أيها الناس :" والسؤالُ الذي يطرح نفسَه: هل العفْوُ دائمًا محمودٌ حتى إذا استَمرَّ شخصٌ في الإساءةِ إليك، وتمادى في إساءتِه؟ والجوابُ: لا.
فالهدفُ من العفوِ: هو الإصلاحُ، فإن لم يتحقَّقِ الإصلاحُ مع تَكْرارِ العفوِ، وتمادى المُسيءُ في إساءتِه، إلى درجةٍ تتسبَّبُ في الأذَى البالغِ للمُساء إليه، فهنا وجبَ الأخذُ بالحقِّ، والمطالبة بعقوبة المسيء؛ لذلك قال العلماء: الإصلاحُ واجب، والعفوُ مندوبٌ، فإذا كان في العفو فواتُ الإصلاحِ، فمعنى ذلك أننا قدَّمْنَا مندوبًا على واجبٍ، وهذا لا تأتي به الشريعةُ. وصدق رحمه الله"
وقد قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لا ينبغِي للمؤمنِ أن يُذلَّ نفسَه"، قالوا: وكيف يُذلُّ نفسَه؟ قال:"يتعرَّضُ من البلاءِ لمَا لا يطيقُ"(الترمذي).
أَيْ: إن الإنسانَ لا ينبغي له أن يترُكَ نفسَه تتعرضُ للإساءة والإهانة باستمرار، مُتَّسمًا بالعفو في موضعٍ لا يؤدِّي العفوُ لإصلاح، زاعمًا أن الشرعَ حثَّ على العفْوِ، بل ينبغي أن يكون المسلمُ عزيزًا بدينِه وتسامحِه، وإذا تحوَّلتِ العزةُ بالعفوِ إلى ذِلَّةٍ وإهانةٍ، فهنا وجَبَ عليه أن يقف وقفةً حازمة، فالله - عز وجل - عادلٌ لا يقبل الإهانةَ والذلَّ، وكما حث سبحانه على العفو، فقد حث أيضًا على القِصاص والأخذِ حينما يَستدْعي الأمر ذلك.
ولما سُئلَ صلى الله عليه وسلم عن امرأةٍ تصوم النهار، وتقوم الليل، وتؤذي جيرانَها؟ قال:"هي في النار"، قالوا: يا رسول الله، فلانة تصلي المكتوباتِ، وتَتصدقُ بالأثوارِ من الأقِطِ، ولا تؤذي جيرانَها؟ قال: "هي في الجنةِ"[الترغيب والترهيب].
وهنا وجَبَ التوضيحُ:أن الأخذَ والقِصاصَ لا يعني: عدمَ المسامحةِ في القلب، بل تتم المسامحة في القلب مع أخذِ الحقِّ بالجوارحِ؛ ردعًا وزجرًا للمسيء؛ ليتوقفَ عن إساءتِه، وليس انتقامًا منه.
وماذا بعد الأخذ؟ ما هو الواجبُ على المسلم بعد أخذِ الحقوق وردعِ المسيء؟
يعتمد الأمر هنا على مدى الإساءةِ، وهل كان الأخذ سببًا لردع المسيء أم لا؟
فإن تحقق الإصلاحُ، وتم ردع المسيء، فينبغي على المُسَاءِ إليه أن يعفوَ، ويصفحَ ويسامحَ.
أما إن لم يتحقَّقِ الإصلاح، واستمر المسيء في قناعاتِه بأنه غيرُ مُخطئٍ، واستمر في إساءتِه، فهنا وجَبَ تجنبُه؛ اتِّقاءً لشره وأذاه، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم من يتجنَّبه الناس اتِّقاءَ شرِّه وفُحْشِه من شِرارِ الناس منزلةً عندَ اللهِ يومَ القيامة، فقال:"إن شرَّ الناسِ عند اللهِ منزلةً يومَ القيامةِ: مَن تركَه الناسُ اتِّقاءَ شرِّه"(البخاري).
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين أما بعد فياجماعة الإسلام
:"كم هو مُحزنٌ أن يصلَ حالُ المسلمين إلى هذا الحالِ، ويطغَوْا على المظلومِ تحت شعار العفو والسماح، ويتمادَوْا في الإساءةِ، ناسين أن الإسلامَ دينُ وسطيَّة، راعى حقوق الجميعِ، وأن الله  عز وجل عادلٌ، ووضَعَ موازينَ وضوابطَ لكلِّ شيء.
أيها الناس :يقول الإمام الشافعي :" مِنْ أَسُتغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ حِمَارٌ وَ مَنْ اِسْتُرْضَى فَلَمْ يَرْضَى فَهُوَ شَيْطَانٌ "فإن لكل مقام مقال ، وإن للصبر حدود ، وإن لكل أمر دوافع ومؤسسات وحوافز .فيصف الشافعي رحمه الله الذي لم يغضب تحت تأثر دواعي أغضبته فهو حمار، وهذا صحيح ، فإن دواعي الغضب الحقيقة يجب أن يغضب لها الإنسان ،
وكما قال الشاعر " إذا لله للحرمات لم تغضب ، فأخبرني متى تغضب " .
فإن مواقف الغضب ومحفزاته تفرض على المرء أن يغضب لأجل ذلك ، فإن كان المرء لا يغضب لما يجب أن يغضب منه ، ولم تُغرِ محفزات الغضب المرء حتى يغضب ، فقال الشافعي رحمه الله فيه أنه حمار .
وأختار الشافعي رحمه الله وصف الحمار،لأن الحمار لا يحس ، فليس عنده إحساس ولا كرامة،ولا يغضب على خلاف كثير من الحيوانات ، فمعظم الحيوانات لها إحساس وكرامة ، وتغضب.. فالحمار ليس له كرامة ولا إحساس ، فلا تثيره مشاعر الغضب ولا محفزاته،فوصف الشافعي المرء المستغضب بمحفزات الغضب ومقوماته وما يدعوه لذلك ولم يغضب بالحمار .
أما من أسترضي ولم يرضى فهو شيطان .
فالخلاف قد يحصل بين أخوين وصديقين وحميمين،وزوجين وأبوين ، وأي كائنين إثنين ، فهذا العمل ليس بغريب،وهي ظاهرة طبيعية موجودة في كل زمان وفي كل مكان .لكن الغريب هوأن يسترضى المرء بمقومات الرضى،ومحفزاته،فلا يرضى.
ويتجاوز ويتمادي في خصومته  وفي ذلك يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم:" صفات المنافق ثلاث وفي رواية:"أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر. "(البخاري ومسلم). أي خرج عن المؤلوف في الخصام . حيث أن من النفاق أن تخرج عن المؤلوف في مخاصمتك أحد الناس ،فالخصام له عدة أوجه ،وفي كل وجه أو نوع هناك الوضع المعتاد للخصومة ، تنبني عليه تصرفاتك مع المتخاصم معه،فالقاتل له مخاصمة خاصة ، والسارق له مخاصمة مختلفة ، والشاتم له مخاصمة مختلفة ، والناظر بإستهزاء له مخاصمة مختلفة أيضا ، وهلم جرى ، وتتحدد بين أدنى حد لها وأعلى حد لها ، فإن زادت عن ذلك يكون نفاق .وزاد هذا الوصف الشافعي رحمه الله بقوله للذي أسترضي ولقى محفزات الرضى وما يكرمه للرضى ويحفظ ماء وجهه ولم يرضى فإنه شيطان.
ويكون القول الفصل ماقاله الرسول صلي الله عليه وسلم:"شر الناس وخير الناس فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رســول الله صـلـى الله عـلـيـه وسلم:"ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا:"بلى إن شئت يا رسول الله،قال:"إن شراركم الذي ينزل وحده،ويجـلـد عبده،ويمنع رفده, أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟ قالوا : بلى إن شئت يا رسول الله . قال :"من يبغض الناس و يبغضونه ، قال : أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟ قالوا : بـلـى إن شـئـت يا رسول الله . قال : الذين لا يقيلون عثرة ولا يقبلون معذرة ولا يغتفرون ذنباً، قال : أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟ قالوا : بلى يا رسول الله : قال : من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره"(صحيح).
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان..
وقوموا إلي صلاتكم يرحمكم الله..وأقم الصلاة. 
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات