العفو للشيخ فوزي محمد ابوزيد
الحمد لله رب العالمين العفو الغفور، الرؤوف الرحيم، الشفوق العطوف، الحنان المنان الذى لايؤاخذنا بأعمالنا، ولا يحاسبنا على افعالنا بل يقابلها بمحض جوده وكرمه وغفرانه وهو أرحم الراحمين ..
سبحانه سبحانه .. نعصاه فيسترنا، وإذا رجعنا إليه تائبين أقال لنا عثرتنا وغفر لنا ذلاتنا لأنه سبحانه وتعالى عفو كريم يحب العفو عن عباده .
وأشهدأن لا إله إلا الله وحده لاشريك، يحب من خلقه من كان على خلقه،
وأشهد ان سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، الذى أدّبه مولاه بما يحبه ويرضاه فكان نعم العبد الذى يتخلقّ بأخلاق مولاه ويسير على نهجه وهُداه حتى قال لنا فى شأنه صلى الله عليه وسلمّ :
"وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (القلم:4)
اللهم صلى وسلمّ وبارك على سيدنا محمد صاحب الخُلق العظيم وآله وأصحابه الذين ساروا على نهجه القويم وانظمنا معهم فى عقد معيتهم بفضلك ومنّك وجودك يا حنان يا كريم ..
أما بعد فيا إخوانى ويا أحبابى :
يظن كثيرٌ من الناس أن العبادات الإسلامية التى عليها المكافأت الإلهية وبها دخول الجنان الرضوانية هى الصلاة والصيام والزكاة والحج وفقط ونقصد بذلك السنن من هذة العبادات .. ، لكن هناك عبادات أعظم فى الأجر والثواب من مواطن هذه العبادات، ومن سنن تلك المعاملات، وعليها حرص رسولكم الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وبها أدّب أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وهى عبادة النبيين وعبادة المرسلين
وهو خلق العفو والصفح ــ
وهل العفو عبادة ؟
نعم ــ بل أكبر عبادة يُثاب عليها المرء يوم لقاء الله عزوجلّ،
حتى أن اول فوجٍ يدخل جنة الله يقول فيهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلمّ : ( إذا كان يوم القيامة يُنادى منادى الله عزوجلّ على أهل الفضل، قالوا : يا رسول الله ومن أهل الفضل ؟ قال : العافين عن الناس، ويكونون وجوههم تتلألأ كالقمر فى ليلة التمام)رواه أبو يعلى مرفوعا)) فيكون أول فوجٍ يفرّ من الزحام ويدخلون الجنة بسلام كما أنبأ النبى الكريم صلوات الله وسلامه عليه
لماذا كان اهل العفو أوّل فوجٍ يدخل الجنة بعد النبيين والمرسلين ؟
لأن أول خُلقٍ تخلقّ به الأنبياء والمرسلين وأمرهم الله عزوجلّ أن يتخلقوّا به فى كل وقتٍ وحين هو العفو :
"فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الامْرِ" ( آل عمران: 159)
أمر الله حبيبه ومصطفاه بالعفو فتخلقّ بهذا الخلق الكريم فى كل أحواله وفى كل أحيانه،
عندما كان صلى الله عليه وسلم فى إحدى الغزوات ونزل المطر من السماء وإبتلتّ ثيابه بالماء، فذهب خلف شجرة وخلع ثيابه ووضعها فوق هذه الشجرة لتجّف واستلقى على ظهره تحتها فنام، والأعداء يتربصون بالمسلمين من فوق رؤوس الجبال، فقال أحدهم ــ وكان قوى البأس ـ قال هذه فرصة لن تلوح لكم مثلها أبداً، فمحمد نائمٌ بمفرده تحت الشجرة وأصحابه قد إنفصلوا عنه ونزل إليه الرجلٌ ــ وكان صلى الله عليه وسلمّ نائماً ــ والعرب مع أنهم كانوا أهل جاهلية إلا انهم كانوا لايغدرون، ويعتبرون الغدر خُلقاً رديئاً سيئاً لايجب على الشجعان ولا الوجهاء ولا الأكفاء أن يفعلوه فلا يعتدى رجلٌ منهم على غيره إلا إذا كان فى مواجهته ــ
فلما وجده نائماً جذب سيف رسول الله صلى الله عليه وسلمّ من على الشجرة ثم أيقظه لأنهم لايقتلون غيلة، وكان يستطيع ان يقضى عليه وهو نائم، لكنهم مع أنهم لم يدخل الإيمان إلى قلوبهم ولم تنطق بالتوحيد ألسنتهم ــ إلا أنهم كانوا لايغدرون ويعتبرون من يغدر قد إرتكب ظلماً عظيماً وجرماً كبيراً ويشيع أمره بين الناس أجمعين .
فأيقظه من نومه وقال له : يا محمد من يمنعك منى الآن ؟
قال : الله ــ فشُلتّ يده وسقط السيف من يده فى الحال، فأمسك صلى الله عليه وسلمّ بالسيف وقال له : ومن يمنعك منى الآن ؟
قال عفوك وحلمك وكرمك، قال : عفوت عنك ــ ( البيهقي في دلائل النبوة)
جاء ليقتله ومكنّه الله عزوجلّ منه لأنه هو العفو الذى جمّله الله بالعفو وتخلقّ بخلق العفو عفا عنه ــ وكذلك من جملهم الله بالإيمان ، وتابعوه فإن لهم المزيد ..
.
وأنتم تعلمون جميعاً ماذا فعل فيه قومه ومن حولهم من أصناف الإيذاء، ومن أنواع العذاب، وعندما دخل عليهم بأمر الله فاتحاً، هرب كل واحدٍ منهم حتى أن منهم من وصل إلى شاطئ بلاد اليمن هارباً وهم يظنون أنه سيفعل بهم الأفاعيل لأن الله عزوجلّ مكنّه منهم .
فوقف على باب الكعبة وقال : يا معشر قريش ماتظنون أنى فاعلٌ بكم ؟ قالوا : خيراً أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال : فاذهبوا فانتم الطلقاء، لا أقول لكم كما قال أخى يوسف لإخوته : لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين، فجاءه نفرٌ وقالوا : يا رسول الله إن إبن عمك صفوان بن أمية خرج ووصل إلى شاطئ اليمن خائفاً منك، قال :
أمّنوه وقولوا له إرجع فلن ترى إلا خيراً، فذهبوا إليه وقالوا : لاتخف فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خائفاً ــ وكان رسول الله قد رجع من غزوة الطائف ومعه الغنائم الكثيرة ــ فقال : ياصفوان ماذا يرضيك ؟
قال : أن تعفوا عنى يا رسول الله، قال :
قد عفوت عنك ولك كل هذه الأغنام ــ وهى غنم بين جبلين تزيد على الخمسة آلاف رأس ــ فقال صفوان : لاتطيب بهذا إلا نفس نبى، والله يا رسول الله لقد جئتك وانت أبغض الخلق إلىّ، والآن صرت أحبّ الخلق إلىّ .
خلقٌ كريمٌ صنعه النبى العظيم صلى الله عليه وسلم، واسس شريعته على هذا الخلق، وعندما حجّ حجة الوداع وخطب خطبته العصماء على جبل عرفة ــ أنهى كل عادات الجاهلية، وأعلن بدء وجود العادات والأخلاق الإسلامية وقال : ( إن ربا الجاهلية موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وقضى الله أنه لا ربا، وإن أول ربا أبدأ به عمي العباس بن عبد المطلب.
وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية – ألا هل بلغت اللهم فاشهد) ( . مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه)
وفى رواية : ( وإن دماء الجاهلية قد إنتهت فلا تطالبوا بدمٍ منهم لأنه جاء دين العفو واول دمٍ دم ابن عمى سفيان بن الحارث ــ وكان قد قتل أباه ويطالب بدمه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمهم العفو وبدأ بنفسه صلى الله عليه وسلم ليعلمنا أن ديننا هذا هو دين :
"وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " (آل عمران:134)
والأمثلة كثيرة في هذا المجال، ولا أريد ان أطيل عليكم ولكن لنا مثلٌ واحدٌ عند الأصحاب، فقد يقول البعض :
هذا نبى الله وله حالٌ خاصٌ مع الله، لكن أنظروا إلى اصحابه، فهذا أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه وأرضاه يتوّلى إبن خالته مُسطح بن أثاثة، يُطعمه ويُنفق عليه ويكسوه ويُعطيه كل ما يحتاج إليه ويُروّج المنافقون سوء الفتنة للحبيبة زوجة الرسول السيدة عائشة، ويتلقفّ مسطح بن اثاثة الخبر وينشره فى كل أرجاء المدينة ، فتراود نفس أبو بكرٍ ان يقطع عنه المعونة ولا يكفيه بالنفقة ــ لايفكر أن يقتله أو ان يؤدبه، لأن هذا لم يكن يدور فى تفكيرهم لإخوانهم المؤمنين والمؤمنات، لكن كل الذى فكر فيه هو ان يقطع عنه النفقة التى كان يعطيها له .
وإذا بالله عزوجلّ ينزل قرآناً خاصّاً له ويقول له :
"وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ" (النور:22)
فعندما قرأها رسول الله قال : بلى يا رب أحب أن تعفو عنى، عفوت عنه ــ رغم ما فعل وما قال،
لأن الله عزوجل يعفو عمن يعفو عن إخوانه
يحاسب بشدّة من يحاسب إخوانه بشدّة ــ الله عزوجلّ يعاملنا بما نعامل به إخواننا،
لقد روى نبيكم الكريم : أن رجلاً أمر الله عزوجل به فى النار، فقالت الملائكة : أليس لك عملاً صالحاً تذكره لله عزوجلّ ليعفو عنك ؟ قال : لا ــ ثم تذكّر وقال :
إنى كنت أعمل تاجراً وكنت آمر صبيانى أن يتجاوزوا عن المُعسر وينتظروا حتى يُوسر، فقال الله عزوجلّ : تجاوزت عن عبادى وأنا أحق بالتجاوز والعفو وانا أرحم الراحمين (متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه) ــ
عفونا عنك بعفوك عن الناس أدخلوه الجنة لأنه كان يعفو عن الناس ويتجاوز عن الناس ولا يشكوهم لجهات حكومية مطالباً بالشيكات والكمبيالات التى يستدينون له فيها، بل ينذرهم ويُمهلهم حتى يُوسروا، ويعفو عن الذى ليس فى إستطاعته السداد .
عباد الله يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ معلماً داعياً مولاه :
اللهم إنك عفو كريمٌ تُحب العفو فا عفو عنا (للترمذي والنسائي وأحمد عن عائشة رضي الله عنها).
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من جاءه أخاه متنصلاً ــ أى معتذراً ــ فليقبل منه مُحقّاً كان أو مبطلاً فإن لم يقبل منه لم يرد علىّ الحوض)(الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنه(
او كما قال أدعوا الله وانتم موقنون بالإجابة .
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، نحمدك اللهم سبحانك على أن هديتنا إلى هذا الدين، وعَمرت قلوبنا بالهدى واليقينن وحببت إلينا الإيمان وزينته فى قلوبنا، وكرّهت إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وجعلتنا من الراشدين ونسألك سبحانك أن تديم علينا هذا الحال حتى تتوفانا مسلمين وتلحقنا بالصالحين .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له بالجود معروف وبالخير موصوف،
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله،
اللهم صلى وسلمّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد واعطنا الخير وادفع عنه الشر ونجنا واشفنا يا رب العالمين .
اما بعد ..
عباد الله جماعة المؤمنين
السلاح الذي ينبغي أن أتسلح به في هذا الزمان وكل زمان،
وهذا هو السلاح الأساسي الذي استخدمه النبي العدنان في فتح القلوب، وهو سلاح العفو والصفح،
أين المؤمنين الآن من خُلُق العفو والصفح؟!
نحن نسمع من يقول في أخيه المؤمن مع أن الآية نزلت في الكافرين وغير المؤمنين:
"فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ "(194البقرة)
وهل هناك مؤمن يعتدي على مؤمن؟! ا
{ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ } (سنن ابن ماجة وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه)
! لكن المؤمن معه دوماً العفو، اسمعوا إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد جَاءَه رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ أَعْفُوا عَنِ الْخَادِمِ؟
فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ أَعْفُوا عَنِ الْخَادِمِ؟ فَقَالَ:"كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً "
(سنن الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه)
إذا كنت سأعفوا عن الخادم في اليوم سبعين مرة، فكم أعفوا عن الأخ وعن الجار وعن الزوجة وعن الولد وعن الإبنة وعن الرفيق وعن الزميل؟!!
فالعفو مداه واسع ليس له نهاية، لأن خُلُق المؤمن الأول الذي عليه المعوَّل
، قد يقول قائل ويظن أن هذا الكلام لا ينطبق على الحالة الحاضرة، ويقول:
إن العفو يجعل الناس تطمع فيَّ ويزيدون في إيذائي، لا والله ما قال ذلك الذي لا ينطق عن الهوى
قال صلى الله عليه وسلم ليمحو عنا هذه الشبهة الخبيثة:
"ماذاد الله عبدا بعفو إلا عزاً" ( رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله )
إخوانى وأحبابى : إن أعزّ شيءٍ يخرج به الإنسان وهو خارج من هذه الحياة للقاء الله عزوجلّ أن يحرص على الإيمان، ويحرص على التمسك بأخلاق النبى
العدنان حتى يكرمنا الله عزوجلّ ..... ثم الدعاء