الحج في زمن الأوبئة للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إلاه إلا الله ولى الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدا إمام النبيين
وبعد
العناصر
أولًا: الشوق إلى حج بيت الله ثانيًا: قصص المشتاقين
ثالثًا: إن الدين يسر رابعًا: بشرى لمن عجز عن الحج خامسًا: آثار الذنوب والمعاصي وكيف نمحو آثارها
الموضوع
أولًا: الشوق إلى حج بيت الله
دعوة الخليل عليه السلام: قال تعالى: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)) سورة إبراهيم، حينها تنزل الدموع وتسكب العبرات، وتتقطع النفوس شوقا إلى مغفرة رب البريات.
قال أحمد شوقي:
إِلى عَرَفاتِ اللَهِ يا خَيرَ زائِرٍ * * * عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ في عَرَفاتِ
وَيَومَ تُوَلّى وُجهَةَ البَيتِ ناضِراً * * * وَسيمَ مَجالي البِشرِ وَالقَسَماتِ
عَلى كُلِّ أُفقٍ بِالحِجازِ مَلائِكٌ * * * تَزُفُّ تَحايا اللَهِ وَالبَرَكاتِ
لَكَ الدينُ يا رَبَّ الحَجيجِ جَمَعتَهُم * * * لِبَيتٍ طَهورِ الساحِ وَالعَرَصاتِ
أَرى الناسَ أَصنافاً وَمِن كُلِّ بُقعَةٍ * * * إِلَيكَ اِنتَهَوا مِن غُربَةٍ وَشَتاتِ
تَساوَوا فَلا الأَنسابُ فيها تَفاوُتٌ * * * لَدَيكَ وَلا الأَقدارُ مُختَلِفاتِ
وَيا رَبِّ هَل تُغني عَنِ العَبدِ حَجَّةٌ * * * وَفي العُمرِ ما فيهِ مِنَ الهَفَواتِ
أذن إبراهيم –عليه السلام- في الناس بالحج فأجابوا، ودعاهم فلبوا؛ جاءوا إليه رجالاً على أرجلهم، وركبانا على كل ضامر, جاءوا للحج من كل فجّ، الشوق يحدوهم، والرغبة تسوقهم.. فهل مرَّ بك ركب أشرف من ركب الطائفيين، وهل شممت عبيراً أزكى من غبار المحرمين، وهل هزَّك نغم أروع من تلبية الملبيين، لقد كان شوق السلف الصالح للبيت -مع بعد الشقة، وصعوبة الترحال، وقلة الظهر، وشدة الحال – شيئاً لا يوصف يصدق عليهم قول القائل:
هتف المنادي فانطلق يا حادي *** وارفق بنا إن القلوب صوادي
تتجاذب الأشواق وجد نفوسنا *** ما بين خافٍ في الضلوع وباد
وتسافر الأحلام في أرواحنا *** سفراً يجوب مفاوز الآماد
ونطوف آفاق البلاد فأين في *** تطوافنا تبقى حروف بلاد
هتف المنادي فاستجب لندائه *** وامنحه وجدان المحب وناد
لبيك .. فاح الكون من نفحاتها *** وتعطَّرت منها ربوع الوادي
لبيك .. فاض الوجد في قسماتها *** وتناثرت فيها طيوف وداد
لبيك ..فاتحة الرحيل وصحبه *** هلا سمعت هناك شدو الشادي
هذا الرحيل إلى ربوع لم تزل *** تهدي إلى الدنيا براعة هاد
هذا المسير إلى مشاعر لم تزل *** تذكي المشاعر روعة الإنشاد
كان الشوق المكنون في قلوب المسلمين للوصول إلى الحرمين الشريفين يحدو المسلمين من أقاصي الأرض في كل أحوالهم، ويخفف عنهم آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره، فمنهم من مات في طريقه إلى الحج، ومنهم من أصابته شدائد في سفره، فما ضرهم ما أصابهم، بل تحملوا الشدائد راضين سعداء، راجين رضوان الله، ومنهم من ظل لسنوات يجمع نفقة الحج وينتظر الفوز برحلة قدسية تقرِّب نفسه لباريها، وتملأ قلبه طمأنينة ورضا، وتسكب في روحة رياحين الرضا، ويرجو بذلك الوصول في الدنيا الفوز بلذة النظر إلى وجه الله الكريم.
إنه الشوق إلى أرض الرحمات، إنه الشوق إلى أرض العطايا والهبات، فحُقّ للنفوس أن تتوق، وحُقّ للأرواح أن تحلّق أملاً في الوصال، فخذ من خبرهم ما يبعث فيك الرغبة، ويحرك في قلبك الشوق، تعال معي نستعرض بعض حديث الأشواق:
تلبية كل خلق الله: َعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبِّي إِلَّا لَبَّى مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ: مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ حَتَّى تنقطِعَ الأرضُ منْ ههُنا وههُنا ". ([1])
أضاف الله البيت إلى نفسه لتشريفه وتكريمه: قال تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)[البقرة: 125].
قال ابن القيم -رحمه الله- معلقاً على هذه الآية: "ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله: (وطهر بيتي) لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفًا، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسهم حبًّا له وشوقًا إلى رؤيته، فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه، ولا يقضون منه وطرا أبدًا، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل:
أطوف به والنفس بعد مشوقة *** إليه وهل بعد الطواف تداني؟!
وألثم منه الركن أطلب برد ما *** بقلبي من شوق ومن هيمان
فو الله ما أزداد إلا صبابة *** ولا القلب إلا كثرة الخفقان
فيا جنة المأوى ويا غاية المنى *** ويا منيتي من دون كل أمان
أبت غلبات الشوق إلا تقرباً *** إليك فما لي بالبعاد يدان
وما كان صدّي عنك صد ملالة *** ولي شاهد من مقلتي ولساني
دعوت اصطباري عند بعدك والبكا *** فلبّى البكا والصبر عنك عصاني
وهذا مُحِبّ قاده الشوق والهوى *** بغير زمام قائد وعنان
أتاك على بعد المزار ولو ونت *** مطيته جاءت به القدمان ([2])
الأجر العظيم: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام، فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك، يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة. وأما وقوفك بعرفة، فإن الله -عز وجل- ينزل إلى السماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاءوني شعثًا غبرًا من كل فجّ عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج –أي: متراكم- أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوبًا غسلها الله عنك. وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك. وأما حلقك رأسك، فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة. فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك" ([3])
جمال الحجاج في لباسهم واجتماعهم وتلبيتهم ومناجاتهم لخالقهم: هل شممت عبيراً أزكى من غبار لمحرمين؟. هل رأيت لباساً قط أجْملُ وأجَلُّ من لباس الحُجَاجِ والمعتمرين؟ هل رأيت رؤوساً أعزُّ وأكرمُ من رؤوس المحلقين والمقصرين؟ هل مرّ بك رَكْبٌ أشرف من رَكْبِ الطائفين؟ هل هزَّك نَغَمٌ أروع من تلبية الملبين وأنين التائبين , وتأوه الخاشعين ومناجاة المنكسرين؟.
قال الإمام ابن القيم:
أما والذي حج المحبون بيته *** ولبُّوا له عند المهلَّ وأحرموا
وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعاً *** لِعِزَّةِ من تعنو الوجوه وتُسلمُ
يُهلُّون بالبيداء لبيك ربَّنا *** لك الملك والحمد الذي أنت تعلمُ
دعاهم فلبَّوه رضاً ومحبةً *** فلما دَعَوه كان أقرب منهم
تراهم على الأنضاد شُعثاً رؤوسهم *** وغُبراً وهم فيها أسرُّ وأنعم
وقد فارقوا الأوطان والأهل رغبة *** ولم يُثْنهم لذَّاتهم والتنعُّم
يسيرون من أقطارها وفجاجِها *** رجالاً وركباناً ولله أسلموا
ولما رأتْ أبصارُهم بيته الذي *** قلوبُ الورى شوقاً إليه تضرَّمُ
كأنهم لم يَنْصَبوا قطُّ قبله *** لأنّ شقاهم قد تَرَحَّلَ عنهمُ
فلله كم من عبرةٍ مهراقةٍ *** وأخرى على آثارها لا تقدمُ
وقد شَرقَتْ عينُ المحبَّ بدمعِها *** فينظرُ من بين الدموع ويُسجمُ
وراحوا إلى التعريف يرجونَ رحمة *** ومغفرةً ممن يجودَ ويكرمُ
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي *** كموقف يوم العرض بل ذاك أعظمُ
ويدنو به الجبار جلَّ جلاله *** يُباهي بهم أملاكه فهو أكرمُ
يقولُ عبادي قد أتوني محبةً *** وإني بهم برُّ أجود وأكرمُ
فأشهدُكم أني غفرتُ ذنوبهم *** وأعطيتهم ما أمَّلوه وأنعمُ
فبُشراكُم يا أهل ذا الموقف الذي *** به يغفرُ الله الذنوبَ ويرحمُ
فكم من عتيق فيه كُمَّل عتقُه *** وآخر يستسعى وربُّكَ أكرمُ
ثانيًا: قصص المشتاقين
حدثنا عبد المجيد بن أبي رواد، عن أبيه، أنه قال: «خرجنا من خراسان ومعنا امرأة، فلما دخلت الحرم جعلت تقول: أين بيت ربي؟ أين بيت ربي؟ فقيل لها: الآن تأتين بيت ربك، فلما دخلت المسجد قيل لها: هذا بيت ربك، قال: فاستندت إلى البيت فوضعت خدها على البيت، فما زالت تبكي حتى ماتت» ([4])
عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: دخل قوم حجاج ومعهم امرأة تقول: أين بيت ربي؟ فيقولون: الساعة ترينه؛ فلما رأوه قالوا: هذا بيت ربك أما ترينه؟ فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي!! بيت ربي!! حتى وضعت جبهتها على البيت؛ فوالله ما رفعت إلا ميتة. ([5])
قال وهيب بن الورد: «بينما امرأة في الطواف ذات يوم وهي تقول: يا رب ذهبت اللذات وبقيت التبعات يا رب سبحانك وعزتك إنك لأرحم الراحمين يا رب ما لك عقوبة إلا النار، فقالت صاحبة لها كانت معها: يا أخية دخلت بيت ربك اليوم قالت: والله ما أرى هاتين القدمين وأشارت إلى قدميها أهلا للطواف حول بيت ربي فكيف أراهما أهلا أطأ بهما بيت ربي؟ وقد علمت حيث مشتا وإلى أين مشتا؟ »([6]).
ذكروا في التاريخ العربي أن البرعي في حجه الأخير أُخذ محمولا على جمل فلما قطع الصحراء مع الحج الشامي، وأصبح على بعد خمسين ميلاً من المدينة هب النسيم رطباً عليلاً معطرا برائحة الأماكن المقدسة فازداد شوقه للوصول لكن المرض أعاقه عن المأمول فأنشأ قصيدة لفظ مع آخر بيت منها نفسه الأخير .. يقول فيها:
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي *** هَيَّجْتُمُو يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي *** الشَّوْقُ أَقْلَقَنِي وَصَوْتُ الْحَادِي
وَحَرَمْتُمُو جَفْنِي الْمَنَامَ بِبُعْدِكُمْ *** يَا سَاكِنِينَ الْمُنْحَنَى وَالْوَادِي
وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا *** عِنْدَ الْمَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِ
وَيَقُولُ لِي يَا نَائِمًا جِدَّ السُّرَى *** عَرَفَاتُ تَجْلُو كُلَّ قَلْبٍ صَادِ
مَنْ نَالَ مِنْ عَرَفَاتِ نَظْرَةَ سَاعَةٍ *** نَالَ السُّرُورَ وَنَالَ كُلَّ مُرَادِ
تَاللَّهِ مَا أَحْلَى الْمَبِيتَ عَلَى مِنًى *** فِي لَيْلِ عِيدٍ أَبْرَكِ الأَعْيَادِ
ضَحَّوْا ضَحَايَا ثُمَّ سَالَ دِمَاؤُهَا *** وَأَنَا الْمُتَيَّمُ قَدْ نَحَرْتُ فُؤَادِي
لَبِسُوا ثِيَابَ الْبِيضِ شَارَاتِ اللِّقَاءِ *** وَأَنَا الْمُلَوَّعُ قَدْ لَبِسْتُ سَوَادِي
يَا رَبِّ أَنْتَ وَصَلْتَهُمْ صِلْنِي بِهِمْ *** فَبِحَقِّهِمْ يَا رَبِّ فُكَّ قِيَادِي
فَإِذَا وَصَلْتُمْ سَالِمِينَ فَبَلِّغُوا مِنِّي *** السَّلامَ أُهَيْلَ ذَاكَ الْوَادِي
قُولُوا لَهُمْ عَبْدُالرَّحِيمِ مُتَيَّمٌ *** وَمُفَارِقُ الأَحْبَابِ وَالأَوْلادِ
صَلَّى عَلَيْكَ اللَّهُ يَا عَلَمَ الْهُدَى *** مَا سَارَ رَكْبٌ أَوْ تَرَنَّمَ حَادِ
كان السلطان أبو الفتح ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان صاحب لهو وصيد وغفلة .. صاد يوماً من الأيام صيداً كثيراً فبنى من حوافر الوحش وقرونها منارة ووقف يتأمل الحجاج وهم يقطعون أرض العراق يريدون البيت الحرام فرّق قلبه فنزل وسجد وعفر وجهه وبكى.
قال الشاعر:
تذكرت أيام الحجـيج فأَسْـبَلَتْ * * * جُـفُوني دماءً واستـجد بِيَ الوجدُ
وأيامنا بالـمَشْـعَرَيْنِ التي مضـتْ * * * وبالخَيْفِ إذ حادي الرِّكابِ بنا يحدو
ويذكر عن بعض الصالحين حين ركب دابَّته في سفر الحجِّ أخذه البكاء فقيل: لعلَّه ذكر عياله ومفارقته إياهم، فسمعهم فقال: يا أخي، والله ما هو ذاك، وما هو إلاَّ لأنِّي ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة، وعلا صوته بالنحيب والبكاء، وهيَّج من حوله بالبكاء.
ثالثًا: إن الدين يسر
السماحة والتيسير ورفع الحرج: قالَ تَعَالَى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة 185)، وقال سبحانه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج 78)،
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم)، قَالَ: "يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا" (رواه البخاري)
جعله الله مرة واحدة في العمر: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَحُجُّوا فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلُّ عَامٍ يَا رَسُولَ الله فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ثُمَّ قَالَ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ) ([7])
جواز النيابة عن الغير: فعن ابن عباسٍ (رضي اللهُ عنهما) قال: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَت: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَل يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ:" نَعَم) ([8])
فرضه الله على المستطيع: قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران 97) وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا " (رواه مسلم). ومما لا شك فيه أن الاستطاعة تقتضي الأمن والأمان سواء أكان من عدو، أم من الأوبئة وبخاصة التي تتفاقم وتنتشر بالاختلاط والتزاحم، وحفظ النفس من مقاصد الشريعة الاسلامية، وقد قال تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة195)
الحفاظ على النفس: المتدبر لسنة النبي (صلى الله عليه وسلم) يجد مدى دعوته إلى الحفاظ على النفس والأخذ بالأسباب الوقائية، والإجراءات الاحترازية وقت الأوبئة؛ فعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) "إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ" ([9])
ومن ينظر التاريخ يجد أن الأمة الإسلامية مرت بسنوات عُطِّل فيها الحج جزئيا أو كليا بسبب انتشار الأوبئة، ومن ثم فمن كان قد نوى حج الفريضة فحبسته الظروف الراهنة هذا العام فهو معذور ولا حرج عليه إن أخر الأداء.
رابعًا: بشرى لمن عجز عن الحج
توجد عدة أمور لو فعلها المسلم لكان له أجراً كبيرا كأجر الحاج والمعتمر نذكر بعضا منها
الجلوس لذكر الله من الفجر حتى طلوع الشمس: قال رسول الله r : "من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة، تامة ، تامة"([10])
الخروج لصلاة مكتوبة أو لصلاة الضحى: عن أبي أمامة t أن رسول الله r قال " من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين "([11])
حضور مجالس العلم: عن أبي أمامة عن النبي r قال " من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجته "([12])
العمرة في رمضان: عن ابن عباس قال: قال رسول الله : " إن عمرة في رمضان تعدل حجة "([13])
النية الصادقة للحج: فعن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: "مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ " ([14])
أيها الأحباب: من فاته التجرد من الملابس بالإحرام.. فليزهد في الدنيا وليترك الحرام، ومن فاته أن يلبي بلسانه... فليلزم وليلبِّ بجنانه، ومن فاته أن يطوف ببيت الرحمن.. فليطف بقلبه في رياض القرآن، ومن فاته السعي والمبيت بمنى.. فليسعَ في الخير وليبت طائعًا ها هنا، ومن فاته الوقوف بعرفة.. فليقم لله بحقه الذي عرفه، ومن فاته الذبح بمنى... فليذبح هواه ها هنا وقد نال المنى ، ومن فاته رمي الجمار.. فليعصِ شيطانَه وليُزل عن كاهله الأوزار، ومن فاته أن يحلق شعره بالأمواس.. فليُزل ما في قلبه من أدناس، ومن فاته الذكر والدعاء بالمشعر الحرام.. فعليه بهما بالسحر والناس نيام.
إليك إلهي قد أتيتُ ملبياً | ** | فبارك إلهي حجتي ودعائيا |
قصدتك مضطراً وجئتك باكياً | ** | وحاشاك ربي أن ترد بكائيا
|
كفاني فخراً أنني لك عابد | ** | فيا فرحتي إن صرتُ عبداً مواليا |
أتيتُ بلا زاد وجودك مطمعي | ** | وما خاب من يهفو لجودك ساعيا كا |
إليك إلهي قد حضرتُ مُؤمّلاً | ** | خلاصَ فؤادي من ذنوبي ملبياً |
اللهم هيئ لنا حج بيتك الكريم وتقبل منا ومن سائر المسلمين وارفع عنا الآثام والذنوب وتقبل منا واقبلنا يا رب العالمين إنك على كل شيء قدير
خامسًا: آثار الذنوب والمعاصي
المعصية سبب كل مصيبة: فالذنوب شؤم علينا في الدنيا والآخرة، وشؤم على الشعوب في الدنيا والآخرة، وشؤم على الأمم في الدنيا والآخرة، أقسم لكم بالله على منبر رسول الله لا تقع مصيبة في الأرض -مهما كان حجمها على المستوى الفردي أو الجماعي أو الأممي- إلا بسبب الذنوب والمعاصي ، حتى ما يحدث ويسموه المتخصصون "بغضب الطبيعة"، حاشا وكلا، يقولون لك "غضب الطبيعة"، زلزال هنا وثلوج هنالك وبرد قارص هنا وحرارة شديدة هنالك، ويسمي بعض المتخصصون في الوسائل الإعلامية هذه الظواهر الطبيعية بقولهم "غضب الطبيعة"، حاشا وكلا، بل أُصدق وقل غضب الله جل جلاله، وربي الكعبة لو يؤاخذ الله الخلق على الأرض بذنوبهم ما ترك على ظهر الأرض من دابة.
قال تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"الروم:41، وقال تعالى: "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ"الشورى:30، وقال جل وعلا "ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ"الأنعام:146
فلا تسقط حبة مطر بل لا تسقط ورقة في نخلة أو شجرة، بل ولا تتزلزل الأرض هنا بل ولا تخسف الأرض هنالك، ولا يسقط جليد أو ثلج ولا ينزل صقيع بارد ولا تنتشر في الأرض حرارة محرقة، ولا تغلو الأسعار ولا تكثر الفتن والمحن إلى آخر هذه الصور إلا بتقديره جل جلاله بسبب ذنوب الخلق ومعاصيهم.
كان الصالحون إذا نزل البلاء بهم يقول قائلهم: لابد أني قد أذنبت ذنبا، لا بد أني فرطت في جنب الله تعالى، قصرت في حق الله ظلمت عبدا، ضيعت فريضة، انتهكت حرمة فيرجع تائبا مستغفرا متندما كما قال أبوه آدم وأمه حواء﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾
[الأعراف: 23]، وبعضهم يقول: (إني لأرى شؤم معصيتي في سوء خلق امرأتي ودابتي)، وشأن المؤمن أن يرد الخير إلى الله وأن أساء يقول فمني ومن الشيطان.
الضنك والضيق: فما تعيش فيه البشرية الآن من ضنك، وما يحياه الأفراد الآن من هم وحزن ونكد وغم وضيق رزق وأمراض وأوبئةٍ وبلاء إلى غير ذلك، لو سألتموني عن كلمة واحدة كسبب رئيس لكل هذه المحن والفتن لأجبتكم بهذه الكلمة إنها الذنوب والمعاصي.
أيها المسلمون: ما الذي طرد إبليس من رحمة الله ولعنه؟، ما الذي أهلك فرعون وقومه؟ ما الذي أهلك قوم ثمود؟ ما الذي أهلك قوم صالح؟ ما الذي أهلك قارون وخسف به الأرض؟ ما هو السبب الرئيسي لما تحيياه البشرية الآن من قلق واضطراب وأزمات نفسية واقتصادية مروعة؟ وأظن أن الفضائيات الآن قد حولت العالم كله إلى قرية صغيرة، فما يحدث هنا تراه هنالك، وما يحدث هنالك تراه هنا في التو واللحظة، البشرية الآن تعيش معنى الضنك، قال تعالى: "فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾ (طه)
إنه الضنك، الضنك في الصدور، الضنك في الأموال والأسواق، الضنك في البيوت، الضنك في القلوب، الضنك في المعاملات، كل نعيم بين يدي المبتعد والمعرض عن الله جل وعلا سيتحول إلى شقاء وضنك، وإن رأيته في الظاهر يتقلب في ألوان النعيم، المعصية شؤم على أصحابها من الأفراد والأمم والشعوب، شؤم عليهم في الدنيا والآخرة.
لعن الله تعالى لفاعلها: حينما ينزل شؤم المعصية على الناس يصيب الجميع الصالح والطالح،
الطالح لظلمه والصالح لسكوته على المنكر﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾[المائدة: 78، 79]
الإهانة في الدنيا والآخرة: قال جل وعلا: "وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ"الحج:18
يعني من أهانه الله بسبب ذنوبه ومعاصيه لن يكرمه الخلق ولو أجمعوا على إكرامه، بل سيهينك الله على يد طفلك وعلى يد امرأتك، وسيهينك الله على يد قوتك أنت، تخونك قوتك أحوج ما تكون إليها، تدبر مني كل لفظة اليوم ورب الكعبة تخونك قوتك في لحظة تكون أحوج ما تكون إلى قوتك تخونك، لأن القلب فسد وضعفت إرادته وانقطع سيره عن ربه جل جلاله، فهذه القوة قوة البدن إنما هي ثمرة حتمية لقوة القلب ولطاعة الرب.
حِرْمانُ الطاعة: يقول ابن القيم: حُبُّ الكتابِ وحبُّ ألحانِ الغناء في قلبِ عبدٍ ليس يجتمعـان. وذلك أن الطاعة قُربةٌ إلى الملك الديان، فلا يجد عبدٌ لذة الطاعة إلا بابتعاده عن المعصية، ولذا قال سبحانه في المنافقين:﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾(التوبة:46).
قال الفضيل: إذا لم تقدر على قيام الليل، وصيام النهار، فاعلم أنك محروم مكبل كبلتك خطيئتك.
وقال شابٌ للحسن البصري: أعياني قيام الليل، فقال: قيدتك خطاياك.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الأخرة.
حرمان العلم : فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تُطفئ ذلك النور.
ولما جلس الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه الموطأ كاملا وكان قد حفظه في ثلاثة أيام فقط وما زال صغيرا، فرأى فيه قوة الحفظ وتوقُّد ذكائه، وكمال فهمه، فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تُطفئه بظلمة المعصية.
فقال الإمام الشافعي:
شَكَوْتُ إلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي | ** ** | فَأرْشَدَنِي إلَى تَرْكِ المعَاصي |
ضياع الحسنات: وعن ثوبان y عن النبي r أنه قال لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا، قال ثوبان يا رسول الله صفهم لنا حلهم لنا لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون
ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها" ([15])
عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ: كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى، إِلاَّ الْمُجَاهِرينَ وَإِنَّ مِنَ الْمَجَاهرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحُ، وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ، فَيَقُولُ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ "([16])
تفسد القلوب وتقطع سير القلب للرب: والله لو تدبرت هذا لفزع قلبك، فأنت تسير إلى الله بالقلب لا بالبدن، قال ابن القيم رحمه الله: اعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله تعالى بقلبه وهمته لا ببدنه فالتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح، قال تعالى: "ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب"الحج ، وقال تعالى: "لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ "الحج ، وأشار الحبيب r يوماً إلى صدره الشريف وقال: "التقوى ها هنا، ثلاثاً"([17])،
فالعبد إذا انقطع قلبه عن ربه أقبلت سحائب البلاء والشرور عليه من كل ناحية، فيصبح كالأعمى الذي يتخبط في حنادس الظلام، والقلب إن أشرق بنور الإيمان أقبلت وفود الخيرات والبركات والرحمات إليه من كل ناحية فينتقل صاحب هذا القلب المشرق بنور الإيمان من طاعة إلى طاعة ومن حسنة إلى حسنة ومن فضل إلى فضل، حتى يسعد بالنظر إلى من تفضل عليه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
قلة الرزق ومحق البركة: عن أنس y قال قال رسول الله r من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له" ([18])
فيا من تعيش في ضنك وضيق من الرزق فتش عن ذنوبك، ويسأل سائل فيقول: لا يوجد مكان أفتحه إلا وأجد الدنيا مغلقه في وجهي، أقول لك أبحث عن ذنوبك، لا يوجد عمل أذهب إليه إلا ويتوقف، أقول لك أبحث عن ذنوبك، لي زمن لا أستطيع أجمع في يدي عشرة آلاف جنيه، أقول لك أبحث عن ذنوبك، أسئلة كثيرة... أقول لك أبحث عن ذنوبك، قال الله تعالى "ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "الأنفال
أنت الذي غيرت، أنت الذي تركت طريق الطاعة، أنت الذي سلكت سبيل المعصية، أنت الذي شككت في وعد ربك وتسرعت وتعجلت لأخذ رزق قدره لك الله لكنك صممت أن تأخذه بالمعصية ولو صبرت لأخذته بطاعة، وعن أبي أمامة قال قال رسول الله r " إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته "([19])
فهو رزقك لا يأخذه أحد أبداً لكنك تسرعت وحصلت عليه بالحرام، لم تحرص على الحلال قال تعالى:﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾[النحل: 112].
إذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم ** وصـنها بطاعة الله فإن الإلــه ســريع الــنقم
وقال آخر
رأيت الذنوب تميت القلوب** وقد يورث الذل إدمـانها
وترك الذنوب حياة القلوب** وخير لنفسك عـصيانها
كثرة الأمراض وقلة الأمطار وتسلط العدو عليهم: عن عبد الله بن عمر قال أقبل علينا رسول الله r فقال يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" ([20])
فهو يدل على التوعد بالابتلاء بخمس عقوبات إذا حصل بعض المعاصي:
أولاها: الابتلاء بالطاعون والأمراض التي لم تعرف سابقاً إذا انتشرت الفواحش وظهرت ومن ذلك: السيدا -الإيدز -الذي ظهر مؤخراً.
والله أعلن عن الفاحشة وخصص لها فضائيات كاملة، وجند لها جنود، وخصصت لها أكثر من 3 مليون موقع إباحي على الشبكة العنكبوتية تصور أفلام الزنى، والحليم لا يعجل وهو يغار.
والثانية: الابتلاء بالقحط والجفاف والغلاء وظلم السلاطين، إذا حصل نقص المكيال والميزان.
والثالثة: انقطاع الأمطار إذا تركت الزكاة.
والرابعة: تسليط العدو علينا بأخذ بعض أموالنا أو أراضيناً إذا حصل نقض عهد الله ورسوله.
والخامسة: وقوع الحروب بين المسلمين، وتسلط بعضهم على بعض إذا ترك الولاة الحكم بكتاب الله.
حب الدنيا وكراهية الموت: عن ثوبان قال قال رسول الله r يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت " ([21]).
سوء الخاتمة: عن جابر t قال قال رسول r " من مات على شيء بعثه الله عليه" ([22])
كيف نمحو آثار الذنوب والمعاصي: قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: عشرة أسباب لمغفرة الذنوب ومحو آثار السيئات، فالمؤمن إذا فعل سيئة فإنّ عقوبته تندفع بعشرة أسباب:
الأول: أن يتوب فيتوب الله عليه، فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له
الثاني: أو يستغفر فيغفر الله له
الثالث: أو يعمل حسنات تمحوها فإنّ الحسنات يُذهبن السيئات
الرابع: أو يدعو له إخوانه المؤمنون، ويشفعون له حيّا وميتا
الخامس: أو يهدون له من ثواب أعمالهم لينفعه الله به
السادس: أو يشفع فيه نبيّه محمد r يوم القيامة
السابع: أو يبتليه الله في الدنيا بمصائب تُكفّر عنه
الثامن: أو يبتليه في البرزخ والصعقة، فيُكفّر بها عنه
التاسع: أو يبتليه في عرصات يوم القيامة من أهوالها بما يُكفّر عنه
العاشر: أو يرحمه أرحم الراحمين
فمن أخطأته هذه العشرة فلا يلومنّ إلاّ نفسه كما قال تعالى كما يرويه عنه رسوله محمّد r (يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فَلاَ يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ) ([23])
فاللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
جمع وترتيب: الشيخ أحمد أبو عيد
0109 809 58 54
نسألكم الدعاء