الإسلام والعلم للشيخ فوزي محمد أبوزيد
الحمد
لله ربَّ العالمين، خلق الإنسان وعلمه القرآن وأنطق لسانه بالبيان.
سبحانه
.. سبحانه، جعل لكل قومٍ عبادة يتقربون بها إلى حضرة الرحمن، فأعلى المخلوقات شأناً
هم الملائكة الكرام، عباداتهم طاعة الله في كل وقتٍ وآن، من ركوعٍ وسجودٍ وقيام، وتسبيح
وتحميد لحضرة الرحمن.
وجعل
من هو أعلى شأناً من الملائكة الكرام؛ هم الأنبياء والرسل عليهم جميعاً أفضل الصلاة
وأتم السلام، وجعل عبادتهم التي يتقربون بها إلى الله هي التي يقرِّبون بها الخلق إلى
الله؛ وهي العلم الذي يستزيدونه من حضرة الله، ولذا قال الله تعالى لحبيبه ومصطفاه
عندما أراد أن يستزيد من الله ما يزيد به قرباً من الله قال له في كتاب الله
(وَقُلْ
رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه 114)
مع
أنه علَّمه مالم يكن يعلم، وآتاه من فضله العظيم الكثير.
وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعلى شأن العلم والعلماء، وجعل أعلى درجات معرفة
الله عزَّ وجلَّ للعلماء
(شَهِدَ
الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ
لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
(18آل
عمران)
وأشهد
أن سيدنا محمداً عَبْدُ الله ورسولُه، وصفيُّه من خلقه وخليلُه، جعل للمؤمن النوافل
يتزود بها نحو الله بعد أداء الطاعات، والطاعات فرائض مفترضات، وجعل من جملة هذه الفرائض
المكُلف بها كل مؤمنٍ - قبل القيام بأي طاعةٍ من الطاعات - فقال صلى الله عليه وسلَّم:
طلب
العلم فريضة على كل مسلم (رواه بن ماجة عن أنس رضي الله عنه)
اللهم
صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد، عالم الأنبياء والمرسلين، وإمام الأتقياء والسعداء
أجمعين، والشفيع الأعظم لجميع الخلائق يوم الدين.
صلَّى
الله عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته المباركين، وكل من اهتدى بهديه ومشى على نهجه
إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين،
آمين
.. آمين، يا رب العالمين
أيها
الأحبة جماعة المؤمنين :
كان
من إعجاز كلام الله عزَّ وجلَّ أن أمين الوحي جبريل عندما نزل أول مرةٍ على الحبيب
محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، كان أول أمرٍ من الله له ولنا وللمؤمنين أجمعين
(اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (1العلق).
أول
أمر:
إقرأ،
قال: ما أنا بقارئ - وكان لا يعرف القراءة ولا الكتابة،
قال:
إقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال
(اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)
كان
هذا الأمر الإلهي توجيهاً ربَّانياً لحضرة النبيِّ ولأمة النبيّ - أن النبي صلَّى الله
عليه وسلَّم يجب أن يبدأ لكل من آمن به وصدَّق بربِّه بتعليمه العلم الذي به يطيع الله،
والذي به يستطيع أن يقوم بالفرائض التي كلَّفه بها مولاه،
وإلا
فهل تجوز العبادة مع الجهل؟
كلا
والله
لابد
أن يعلم الإله الذي يعبده وأوصافه وأخلاقه وصفاته عزَّ وجلَّ؛ وهذا هو علم التوحيد
الذي لا غنى عنه لأي مبتدئ في طريق الحميد المجيد عزَّ وجلَّ. وبعد أن يزيد إيمانه
بمولاه يحتاج بعد ذلك إلى أن ينفِّذ التكليفات التي كلَّفه بها الله، والتي هي
تمام
بنيان الإسلام.
قال
صلى الله عليه وسلم:
"
بني الإسلم على خمس :شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء
الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع اليه سبيلا" (البخاري ومسلم عن عبد الله
بن عمر رضي الله عنهما)
فرضٌ
على كل مؤمن أن يتعلم هؤلاء الخمس، وإلا عَبَدَ الله على جهلٍ، وكانت عبادته مردودة
غير مقبولة،
ولذا
أول ما يبدأ به الحبيب صلَّى الله عليه وسلَّم مع المؤمنين الجُدد، أن يجلس معهم، أو
يأمر أحد أصحابه المباركين السابقين المعلَّمين أن يجلس معهم، ويقول لهم فقِّهوا أخاكم
فإن
كانوا مجموعة يقول لهم
(فقهوا
إخوانكم في دين الله(١)
فكان
إما أن يفقِّهه بنفسه، وإما أن يأمر من حوله أن يفقهوا الجدد في دين الله، ليعلمنا
أن هذا دينٌ أُقيم على العلم، ولا صلاح لأهله في الدنيا إلا بالعلم، ولا نجاة لهم في
الآخرة إلا بالعلم، ولا نجاح لهم في أي غرضٍ من أغراضهم إلا بالعلم، فالعلم هو الأساس
الأول الذي أُقيم عليه دين الإسلام لله عزَّ وجلَّ
وإذا
كان المسلم لا يستطيع القراءة والكتابة، يطالبه الله كما طالب حبيبه ومصطفاه أن يتعلم،
يتعلم
القراءة والكتابة، حتى وإن كان - كما يظن في نفسه - فاته سن التعليم، فإن النبي صلى
الله عليه وسلَّم علَّم أصحابه القراءة والكتابة بعد أن تجاوزوا سن الأربعين والخمسين!!،
وجعل لأسرى الكفار في غزوة بدر أن يُفرج عن الأسير منهم إذا علَّم عشرة من رجال المسلمين
القراءة والكتابة، حتى يُنشئ أمةً متعلمةً هي الأمة الإسلامية
وجاء
بمعلماتٍ من النساء يعلمن زوجاته المباركات القراءة والكتابة، فجاء بإحداهن إلى زوجته
السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنها وعنه، وقال لها
(علمي
حفصة القراءة والكتابة)
(روى
أبو داود عن الشفاء بنت عبد الله )
ولذا
عندما جمع سيدنا أبو بكر كتاب الله - وكان متناثراً بين أصحاب رسول الله، منهم من عنده
أكثر من سورة مخطوطة في جلد أو في عظم أو في قطعة من الحجارة - ولم يكن هناك ورق، ومنهم
من عنده آية واحدة - فجمع المصحف،
فأين
وضعه؟
وضعه
عند المرأة التي تجيد القراءة والكتابة - وهي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما –
لأنها
تستطيع أن تحفظ ذلك، وتحافظ على ترتيب السور والآيات كما نزلت على سيد السادات صلَّى
الله عليه وسلَّم
هذا
أيها الأحبة دينكم؛ دين الإسلام، دين العلم في كل شأنٍ من شئون الحياة، حتى أن النبي
صلى الله عليه وسلَّم كان يجلس مع أصحابه ويحدِّثهم عن الكائنات المحيطة بهم؛ كالطيور
والنباتات والحيوانات والأسماك، وكل شيءٍ يلمسونه أو يرونه أو يدركونه،
قال
في ذلك سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
"تركنا
رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وما من طائر يطير في السماء إلا وذكر عنه علما"ً(رواه
احمد عن ابي ذر رضي الله عنه)
بل
إنه صلَّى الله عليه وسلَّم علَّمهم أمورهم الحياتية التي تطابق أحدث ما وصلت إليه
الوسائل التكنولوجية في عصرنا، ولذلك يعجب العلم الحديث مما وصلت إليه الحضارة الإسلامية
في الرقي والازدهار على يد نبيِّنا صلوات ربي وتسليماته عليه
بالأمس
القريب ومن فترة قريبة أسلمت طبيبة أمريكية، وكان لقصة إسلامها عجباً، دخلت إمرأةٌ
مسلمة إلى المشفى لتضع حملها، وكانت نبطشيتها فلما حان ميعاد إنصرافها وأرادت أن تُبدِّل
وقالت سأترككِ ويأتي طبيب زميلي مكاني، وإذا بالمرأة تبكي وتقول لا أريد طبيباً،
ويقول
زوجها: ما اطلع عليها طوال حياتها أحدٌ إلا إمرأة، فلما رأت إصرارهم إستجابت لهم
وبعد
ولادتها قالت الطبيبة لها:
ينبغي
أن تبقي أربعين يوماً لا يمسَّكِ زوجك بكذا وكذا. قالت لها: الإسلام أمرنا بذلك،
قالت
الطبيبة: ويجب أن ترضعي ابنك لأن الرضاعة الأولى فيها كذا وكذا،
قالت:
والإسلام أمرنا بذلك.
قالت:
ويجب أن تستريحي من عناء العمل وتقللي من النشاط، قالت: الإسلام أمرنا بذلك، ومنعنا
حتى من الصلاة والصيام طاعة لله عزَّ وجلَّ
فتعجبت
المرأة وقالت: كيف علِم الإسلام بذلك منذ ألفٍ وأربعمائة سنة، وهذا لم يكتشفه العلم
إلا حديثاً؟!!
ثم
ذهبت إلى المركز الإسلامي ودفعها الشوق إلى دراسة الإسلام، فوجدت أن الإسلام أتى بأحدث
ما وصل إليه العلم الحديث في كل المجالات، وفي كل المصالح والمهمات، فأسلمت لله رب
العالمين
دينكم
يا أيها الأحبة، ما ترك شيئاً إلا وأسَّسه العلم الحديث،
وكان
من جملة ما قالت لها:
اجعلي
الطفل ينام على جنبه الأيمن، فقالت:
قد
فعلنا ذلك، ونبينا أمرنا بذلك.
علَّمك
كيف تنام، وكيف تأكل، وكيف تشرب، وكيف تمشي، وكيف تتكلم، وكيف تجالس غيرك، وكيف تتعامل
مع الخلق، وكيف تتقرب إلى الحق، وكل شيء على منهج قويمٍ وهديٍ مستقيم، جاء به سيدنا
رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، حتى نعلم أنه لا حياة للإنسان يكون فيها في الدنيا
في حياةٍ طيبة وفي الآخرة في فوزٍ وفلاح ونجاح إلا إذا أسَّسها على العلم الصحيح من
كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
قال
صلى الله عليه وسلَّم
"يوزن
يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء، فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء" (ابن
عبد البر عن أبي الدرداء رضي الله عنه))
وقد
ورد فى الأثر
مجلس
علمٍ وإن قل خيرٌ من عبادة سبعين سنة ليلها قيام ونهارها صيام)،
أو
كما قال
(ادعوا
الله وانتم موقنون بلإجابة)
الخطبة
الثانية:
الحمد
لله رب العالمين الذي كرَّمنا بهذا الدين، وأكرمنا بالعلم الإلهي النازل في قرآنه الكريم
وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل لعباده المؤمنين - حتى لا يتوقف طموحاتهم
ولا تنتهي آمالهم
(وَفَوْقَ
كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (76يوسف)
وأشهد
أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، وصفيُّه من خلقه وخليلُه الذي قال له ربه
(وَعَلَّمَكَ
مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)(113النساء)
اللهم
صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد ووفقنا لإتباع هديه وشريعته وسنته، واجعلنا في الدنيا
من أهل الفقه في الدين، واجعلنا في الآخرة من أهل شفاعته، وفي الجنة من أهل جواره أجمعين،
آمين
.. آمين، يا رب العالمين:
أيها
الأحبة جماعة المؤمنين
لو
نظرنا إلى أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المباركين وكانوا أفزازاً في كل
تخصُّصاتهم منذ عصرهم إلى يوم الدين، لم يتخرجوا من جامعات، ولم يدخلوا مدارس حكومية
أو خاصة، إلا أنهم تعلَّموا من رسول الله أو من أصحابه الذين تعلموا من حضرته دين الله
جلَّ في علاه
وهكذا
ينبغي أن يكون أمر المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،
عندما
تخلَّى المسلمون عن العلم، وحتى إن أقبلوا عليه في هذا الزمان جعلوه للإمتحان، أو لشغل
الوظائف والدرجات العلمية والدنيوية، حدث ما نراه الآن، تخلَّف المسلمون عن العصر،
وأصبحنا نمد أيدينا إلى كل الكافرين والمشركين، لنغطي حاجاتنا وضرورياتنا من مخترعاتهم
ومكتشفاتهم - التي وصلوا إليها بالعلم
واعلموا
علم اليقين أنه لن يكون للمسلمين دولة لها عزِّةٌ ومهابةٌ في العالم أجمع، إلا إذا
كان بيننا العلماء الذين يكفوننا ويجعلونا لا نمدُّ أيدينا إلى الأعداء
يغطون
حاجات الأمة الإسلامية في كل النواحي؛ في النواحي الطبية، وفي النواحي التسليحية، وفي
النواحي الزراعية والصناعية،
وعندنا
الأفزاز من العلماء، وعندنا العقول التي ليس لها مثيلٌ في الوجود - إذا اكتفينا بهؤلاء
كان لنا العزة والنصر على الدوام على الأعداء في كل الأنحاء، ولذا فإن الإسلام يدعو
أهله دائماً على الدوام إلى العناية بالعلم، أيُّ علم
علم
الدين أولاً لتصحيح العبادات، وتصحيح العقائد والأخلاق والمعاملات، ثم علم الدنيا لقضاء
الحاجات التي تحتاج إليها الأمة في كل الأوقات، نحتاج إلى هذا وذاك، اسمع إلى ما جاء
في الأثر
ساعةٌ
من عالم
والساعة
يعني اللحظة
ساعة
من عالم متكئ على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاماً).
(الديلمي
عن جابر رضي الله عنه)
لأن
بالعلم تحيا الأمم، وبالعلم تحيا القلوب، وبالعلم تنتعش الشعوب، وبالعلم يتقرب الإنسان
إلى حضرة علام الغيوب عزَّ وجلَّ.
حتى
جعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم منزلة العلماء تضاهي ما قاله الله في كتابه في حق
الرسل والأنبياء، يقول الله في حقِّ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم:
(إِنَّ
اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) (56الأحزاب)،
ويقول
صلى الله عليه وسلَّم
("إن
الله وملائكته والنملة في جُحرها والحيتان في بحارها ليصلون على معلم الناس الخير"(
الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه)
منزلةٌ
تضاهي منزلة الأنبياء، لأن الله عز وجل جعل هذه الأمة كلها علماء، لا ينبغي أن يكون
في الأمة جاهلين، بل كلهم كما قال سيد الأولين والآخرين
(حكماء
علماء فقهاء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)
أمة
الفقهاء، وأمة العلماء، وأمة الحكماء، ولا يكون ذلك إلا بالإقبال على العلم آناء الليل
وأطراف النهار. وكان صلَّى الله عليه وسلَّم مع ما أفاء عليه مولاه، يقول
"كلُّ
يومٍ لم أزدد فيه علمٌ بربي فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم"( الطبراني عن
عائشة رضي الله عنها)
لابد
أن يكون له مزيد من العلم من حضرة العليم عزَّ وجلَّ في كل يومٍ من أيام عُمره، والعلم
هو عبادة المرسلين، وعبادة العلماء الوارثين لإمام الأنبياء وسيد المرسلين صلى الله
عليه وسلَّم، الذين ينبغي أن نذهب إليهم، ونبحث عنهم ونجالسهم، ونحرص على صحبتهم، ولذلك
قال الله عزَّ وجلَّ لموسى نبيِّه وكليمه طالباً منه أن يذهب إلى عبدٍ من عباده واصفاً
هذا العبد
(آَتَيْنَاهُ
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) (65الكهف)
عنده
الرحمة، وعنده العلم الذي علمَّه له حضرة العليم عزَّ وجلَّ
فاستبقوا
الخيرات، وسارعوا إلى هذه المبرَّات، واعلموا أن خير ما تلقون به ربكم وتتقربون به
إليه هو السعي في تحصيل العلم في مرضاة الله، وطلباً للعمل به، لأن الله عزَّ جلَّ
يحبُّ من خلقه العالم العامل الذي يخشى الله ويتَّقيه عزَّ وجلَّ
نسأل
الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما لم نكن نعلم، وأن يجعل علومنا التي
نتعلمها هادية بنا إليه، وموصلةً إلى أحب الأعمال التي نتقرب بها إليه، وأن يرزقنا
الخشية في قلوبنا، والإخلاص في صدورنا، والسكينة في قلوبنا، ومراقبة الله عزَّ وجلَّ
في كل أحوالنا ... ثم الدعاء
****************************
(1)
روى الطبراني والبيهقي وأبو نعيم وابن سعد عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:
{جَلَسَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بَعْدَ مُصَابِ
أَهْلِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُوَ فِي الْحِجْرِ بِيَسِيرٍ، وَكَانَ عُمَيْرُ بْنُ
وَهْبٍ شَيْطَانًا مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَكَانَ مِمَّنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَيَلْقَوْنَ مِنْهُ عَنَاءً وَهُمْ
بِمَكَّةَ، وَكَانَ ابْنُهُ وُهَيْبُ بْنُ عُمَيْرٍ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، فَذَكَرَ
أَصْحَابَ الْقَلِيبِ وَمُصَابَهُمْ، فَقَالَ صَفْوَانُ: وَاللَّهِ إِنْ فِي الْعَيْشِ
خَيْرٌ بَعْدَهُمْ!، فَقَالَ لَهُ عُمَيْرٌ: صَدَقْتَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا دَيْنٌ
عَلَيَّ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي قَضَاءٌ، وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ بَعْدِي،
لَرَكِبْتُ إِلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَإِنَّ لِي قِبَلَهُ عِلَّةً، ابْنِي
أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ. فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ مِنْهُ فَقَالَ: فَعَلَيَّ دَيْنُكَ،
أَنَا أَقْضِيهِ عَنْكَ، وَعِيَالُكَ مَعَ عِيَالِي أُسْوَتُهُمْ مَا بَقُوا، لا يَسَعُهُمْ
شَيْءٌ وَيَعْجِزُ عَنْهُمْ، قَالَ عُمَيْرٌ: فَاكْتُمْ عَلَيَّ شَأْنِي وَشَأْنَكَ،
قَالَ: أَفْعَلُ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عُمَيْرًا أَمَرَ بِسَيْفِهِ فَشُحِذَ لَهُ وَسُمَّ،
ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَبَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي
نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسْجِدِ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ، وَيَذْكُرُونَ
مَا أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَمَا أَرَاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، إِذْ نَظَرَ عُمَرُ
إِلَى عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ حِينَ أَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ مُتَوَشِّحًا
السَّيْفَ، فَقَالَ: هَذَا الْكَلْبُ عَدُوُّ اللَّهِ قَدْ جَاءَ مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ!
فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ
خَبَرَهُ، قَالَ: (فَأَدْخِلْهُ عَلَيَّ)، قَالَ: فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى أَخَذَ
بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ فَلَبَّبَهُ بِهَا، وَقَالَ لِرِجَالٍ مِمَّنْ كَانَ
مَعَهُ مِنَ الأَنْصَارِ: ادْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا هَذَا الْخَبِيثَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ
غَيْرُ مَأْمُونٍ، ثُمَّ دُخِلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمَرُ
آخِذٌ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ قَالَ: (أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، ادْنُ يَا
عُمَيْرُ)، فَدَنَا ثُمَّ قَالَ: انْعَمُوا صَبَاحًا، وَكَانَتْ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ
بَيْنَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَدْ أَكْرَمَنَا
اللَّهُ بِتَحِيَّةٍ خَيْرٍ مِنْ تَحِيَّتِكَ يَا عُمَيْرُ، بِالسَّلامِ تَحِيَّةِ
أَهْلِ الْجَنَّةِ)، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ يَا مُحَمَّدُ لِحَدِيثَ عَهْدٍ
بِهَا، قَالَ: (مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْرُ؟) قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الأَسِيرِ الَّذِي
فِي أَيْدِيكُمْ، فَأَحْسِنُوا فِيهِ، قَالَ: (فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي عُنُقِكَ؟)،
قَالَ: قَبَّحَهَا اللَّهُ مِنْ سُيُوفٍ، وَهَلْ أَغْنَتْ شَيْئًا ؟ قَالَ: (اصْدُقْنِي،
مَا الَّذِي جِئْتَ لَهُ؟)، قَالَ: مَا جِئْتُ إِلا لِذَلِكَ، فَقَالَ: (بَلَى، قَعَدْتَ
أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ
مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ قُلْتَ: لَوْلا دَيْنٌ عَلَيَّ وَعِيَالِي لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ
مُحَمَّدًا، فَتَحَمَّلَ لَكَ صَفْوَانُ بِدَيْنِكَ وَعِيَالِكَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي
لَهُ، وَاللَّهُ حَائِلٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ)، فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنَّكَ
رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ كُنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُكَذِّبُكَ بِمَا كُنْتَ تَأْتِينَا
بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَهَذَا أَمْرٌ
لَمْ يَحْضُرْهُ إِلا أَنَا وَصَفْوَانُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ مَا أَتَاكَ
بِهِ إِلا اللَّهُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانِي لِلإِسْلامِ، وَسَاقَنِي
هَذَا الْمَسَاقَ، ثُمَّ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَأَقْرِئُوهُ، وَعَلِّمُوهُ
الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ). قَالَ: فَفَعَلُوا ، ثُمَّ قَالَ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي كُنْتُ جَاهِدًا فِي إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ ، شَدِيدَ الأَذَى
لِمَنْ كَانَ عَلَى دِينِ اللَّهِ ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْذَنَ لِي فَأَقْدَمَ
مَكَّةَ ، فَأَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ ، وَإِلَى الإِسْلامِ ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ
يَهْدِيَهُمُ ، وَإِلا آذَيْتُهُمْ فِي دِينِهِمْ كَمَا كُنْتُ أُوذِي أَصْحَابَكَ
فِي دِينِهِمْ ، قَالَ : فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، فَلَحِقَ بِمَكَّةَ ، وَكَانَ صَفْوَانُ حِينَ خَرَجَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ يَقُولُ
لِقُرَيْشٍ : أَبْشِرُوا بِوَقْعَةٍ تَأْتِيكُمُ الآنَ فِي أَيَّامٍ , تُنْسِيكُمْ
وَقْعَةَ بَدْرٍ ، وَكَانَ صَفْوَانُ يَسْأَلُ عَنْهُ الرُّكْبَانَ حَتَّى قَدِمَ رَاكِبٌ
فَأَخْبَرَهُ بِإِسْلامِهِ ، فَحَلَفَ أَلا يُكَلِّمَهُ أَبَدًا ، وَلا يَنْفَعَهُ
بِنَفْعٍ أَبَدًا ، فَلَمَّا قَدِمَ عُمَيْرٌ مَكَّةَ أَقَامَ بِهَا يَدْعُو إِلَى
الإِسْلامِ ، وَيُؤْذِي مَنْ خَالَفَهُ أَذًى شَدِيدًا ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ
أُنَاسٌ كَثِيرٌ