مكانة الخليل وسماحته في دعوة قومه إلى الجليل للشيخ أحمد محمد أبو عيد
الحمد لله رب العالمين، سبحانك يا
ربنا، سبحانك
لا هادى لمن أضللت ، ولا معطى لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت، ولا باسط لما قبضت ،
ولا مقدم لما أخرت ، ولا مؤخر لما قدمت . اللهم أنت الحليم فلا تعجل ، وأنت الجواد
فلا تبخل ، وأنت العزيز فلا تذل وأنت المنيع فلا ترام ، وأنت المجير فلا تضام وأنت
على كل شئ قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، اللهم
إنا نسألك في صلاتنا ودعائنا بركة تطهر بها قلوبنا ، وتكشف بها كربنا ، وتغفر بها ذنبنا
، وتصلح بها أمرنا ، وتغنى بها فقيرنا ، وتكشف بها همنا وغمنا ، وتشفى بها سقمينا ،
وتقضى بها ديوننا ،وتجلو بها أحزاننا ، وتجمع بها شملنا ، وتبيض بها وجوهنا يا
كريم.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله
ورسوله
يا خير من دفنت
بالقاع أعظمه
|
**
|
فطاب من طيبهن
القاع والأكم
|
نفسي الفداء لقبر
أنت ساكنه
|
**
|
فيه العفاف وفيه
الجود والكرم
|
أنت النبي الذي
ترجى شفاعته
|
**
|
عند الصراط إذا
ما ذلت القدم
|
أنت البشير النذير
المستضاء به
|
**
|
أنت البشير النذير
المستضاء به
|
العناصر
أولًا: صفات الخليل ومكانته عند
الله
ثانيًا: نماذج من سماحته ودعوته
قومه إلى الله بالحسنى
الموضوع
أولًا: صفات الخليل
ومكانته عند الله
التعريف به: ولد إبراهيم عليه السلام في أرض بابل، وهي أرض الكلدانيين كما ذكر مؤرخو
الإسلام، واسم أبيه آزر، كما قال الله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ
) سورة الأنعام74، وقال الطبري -رحمه الله-: قال عامة السلف من أهل العلم
كان مولد إبراهيم عليه السلام في عهد نمرود، هذا الملك الطاغية الظالم الغشوم الذي
جعل نفسه إلهاً يعبد، وحمل الناس على ذلك، وفي هذه البيئة الفاسدة من عبادة الأوثان
والأصنام.
عاش إبراهيم عليه السلام، حيث لا يوجد
أثر للوحدانية، ولا للتوحيد؛ لأن البشرية كانت قد انحرفت في ذلك الوقت، فأراد الله
أن يعيدها إلى التوحيد فابتعث فيهم إبراهيم.
عاش إبراهيم عليه السلام في هذه البيئة،
ولما شب تزوج بسارة، وكانت عقيماً لا تلد، وكان منذ صغره صائب الرأي، ثاقب الفكر، راجح
العقل، قوي الحجة، كما قال الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن
قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ) [سورة الأنبياء].
ابتلاء الله
لإبراهيم: ابتلاه الله بكلمات، قيل: هي سنن الفطرة، خمس في الرأس، وخمس في الجسد،
فأتمهن فجازاه الله بالإمامة، قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) [سورة البقرة]،
وهكذا لا تكون المراتب العالية إلا بعد المجاهدة، فمن أراد أن يكون قدوة للناس، وأن
يكون إماماً يؤتم به، فلا بد أن يكون مجاهداً لنفسه حاملاً لها على طاعة الله، والتزام
أوامره، لما أدى الأمانة رزقه الإمامة، قال تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)
[ سورة النجم] بما أمره الله به، وكان من صبره وجلده أنه اختتن كبيراً،
فعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اخْتَتَنَ
إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ»
([1])، والقدوم هو اسم موضع بالشام.
اتخذه
الله خليلا: فعن جُنْدَب بنِ عَبْدِ
الله البَجَلي رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ : (إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ
يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا
، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي
خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا) ([2])
قال ابن القيم رحمه الله : مرتبة الخلة التي انفرد
بها الخليلان : إبراهيم ، ومحمد ، صلى الله عليهما وسلم ، كما صح عنه أنه قال : (إن
الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، وقال : (لو كنت متخذاً من أهل الأرض
خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن صاحبكم خليل الرحمن) ، والحديثان في الصحيح ، وهما
يبطلان قول من قال : "الخلة لإبراهيم ، والمحبة لمحمد ، فإبراهيم خليله ومحمد
حبيبه" ([3])
وإنما سمي خليل الله: لشدة محبة ربه عَزَّ وجَلَّ له ؛ لما قام
له من الطاعة التي يحبها ويرضاها ([4]).
وقد استحق كلا النبيين عليهما الصلاة والسلام هذه المنزلة لما لهما
من الصفات ، والأفعال العظيمة الجميلة .
آتاه
الله رشده مع حداثة سنه: قال تعال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا
إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) ) [سورة
الأنبياء] يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَنَّهُ آتَاهُ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ، أَيْ مِنْ صِغَرِهِ أَلْهَمَهُ الْحَقَّ وَالْحُجَّةَ
عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ
على قَوْمِهِ} ، والمقصود أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ آتَى إِبْرَاهِيمَ
رُشْدَهُ مِن قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}
أَيْ وَكَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ ([5])
.
تحقيقه للتوحيد ، وبراءته من الشرك والمشركين ، حتى نسب الدين والملَّة
إليه عليه السلام ، ولذا فلا عجب إِنْ عَلِمْنَا أن الله تعالى أمر نبيَّه محمَّداً
صلى الله عليه وسلم أن يتبع هذه الملَّة في قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة
النحل]
وأمر سبحانه عبادَه جميعهم بذلك الاتباع لتلك الملَّة إتباعه في
قوله: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ
مِنْ الْمُشْرِكِينَ) [آل عمران/ 95]
جعله الله أمة واجتباه وهداه : قال الله تعالى : (إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
* شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ
فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ) [سورة
النحل]
والأمّة هو الإمام الجامع لخصال الخير الذي يُقتدى به ، والقانت
هو الخاشع المطيع لربه دائماً .
والحنيف هو المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد ، ولهذا قال :
(وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) و (شَاكِراً لأَنْعُمِهِ) أي : قائماً بشكر نعمة
ربه عليه .
فكان نتيجة هذه الخصال الفاضلة أن (اجْتَبَاهُ) ربه واختصه بخلته
وجعله من صفوة خلقه ، وخيار عباده المقربين .
قام بجميع ما أمره الله به: قال الله تعالى : (وَإِبْرَاهِيمَ
الَّذِي وَفَّى) [النجم/37 ].
أي: قام بجميع ما أمره الله به.
صِدِّيقًا نَبِيًّا: قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا
نَبِيًّا (41) ) [سورة مريم].
واذكر - أيها الرسول - لقومك في هذا القرآن قصة إبراهيم - عليه
السلام - إنه كان عظيم الصدق، ومِن أرفع أنبياء الله تعالى منزلة ([7]).
جعل الله
في صالحي ذريته النبوة والكتاب: قال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا
لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ
وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
﴾ [العنكبوت: 27].
امتنَّ سبحانه عليه بأن جعل في صالحي ذريته النبوةَ والكتاب فكلُّ
كتابٍ أنزل من السماء على نبي من الأنبياء بعد إبراهيم الخليل، فمن ذريته وشيعته، وهذه
خِلْعَةٌ سنيَّة لا تضاهى، ومرتبة عليَّة لا تباهى؛ وذلك أنه ولد له لصلبه ولدان ذكَران
عظيمان: إسماعيل من هاجر، ثم إسحاق من سارة، وولد لهذا يعقوبُ، وهو إسرائيل، الذي ينتسب
إليه سائر أسباطهم، فكانت فيهم النبوة، وكثروا جدًّا، بحيث لا يعلم عددَهم إلا الذي
بعثهم واختصهم بالرسالة والنبوة، حتى ختموا بعيسى ابن مريم من بني إسرائيل، وأما إسماعيل
عليه السلام فكانت منه العرب على اختلاف قبائلها، ولم يوجد من سلالتِه من الأنبياء
سوى خاتمهم على الإطلاق، وسيدهم، وفخر بني آدم في الدنيا والآخرة، محمد بن عبدالله
بن عبدالمطلب بن هاشم القُرشي الهاشمي المكي، ثم المدني، صلوات الله وسلامه عليه، فلم
يوجد من هذا الفرع الشريف، والغُصن المُنيف، سوى هذه الجوهرة الباهرة، والدرة الزاهرة،
وواسطة العقد الفاخرة، وهو السيد الذي يفتخر به أهل الجَمْع، ويغبِطه الأولون والآخِرون
يوم القيامة ([8]).
كثير الحلم والتضرع والتوبة: قال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) ) [سورة
هود]
و(حَلِيمٌ) "أي : ذو رحمةٍ ، وصفحٍ عما يصدر منهم إليه من
الزلات ، لا يستفزه جهل الجاهلية ، ولا يقابل الجاني عليه بجرمه" ، و(أَوَّاهٌ)
أي : كثير التضرع والذكر والدعاء والاستغفار ، و(مُّنِيبٌ) "أي : راجع إلى الله
بمعرفته ومحبته والإقبال عليه والإعراض عما سواه" ([9]).
الكرم والسخاء: قال الله تعالى : (هَلْ
أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ . إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا
سَلامًاً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ . فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ
سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ) [سورة الذاريات]
أي فعَدَلَ ومال خفية إلى أهله، فعمد إلى عجل سمين فذبحه، وشواه
بالنار، ثم وضعه أمامهم، وتلَّطف في دعوتهم إلى الطعام قائلا ألا تأكلون؟ فلما رآهم
لا يأكلون أحسَّ في نفسه خوفًا منهم، قالوا له: لا تَخَفْ إنا رسل الله، وبشروه بأن
زوجته «سَارَةَ» ستلد له ولدًا، سيكون من أهل العلم بالله وبدينه، وهو إسحاق عليه السلام
([10]).
من أولي العزم من الرسل: قال تعالى : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ
مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف/ 35 ]، وإبراهيم عليه السلام من أولي العزم من
الرسل ، فهم المذكورون في قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ
نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى].
مطمئن ومتيقن من عبادته لربه: قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي
الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ
فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ
جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260].
وقال صاحب "الظلال": لقد كان ينشد اطمئنان الأُنس إلى
رؤية يد الله تعمل، واطمئنان التذوق للسر المحجب، وهو يُجَلَّى ويتكشف، ولقد كان الله
يعلم إيمانَ عبده وخليله، ولكِنَّه سؤال الكشف والبيان، والتعريف بهذا الشوق، وإعلانه،
والتلطف من السيد الكريم الودود الرحيم مع عبده الحليم الأوَّاه المنيب.
قال ابنُ كثير - رحمه الله - في هذه الآية: ذَكَرُوا لِسُؤَالِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أسباباً، منها أنه لما قال لنمرود: {رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ} أَحَبَّ أَنْ يَتَرَقَّى من (علم اليقين) بذلك إِلَى (عَيْنِ الْيَقِينِ)
وَأَنْ يَرَى ذَلِكَ مُشَاهِدَةً، فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى!
قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن! قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، لأزداد يقينًا
على يقيني.
وقوله تعالى: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ
إِلَيْكَ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ مَا هِيَ؟ وَإِنْ كَانَ
لَا طَائِلَ تَحْتَ تَعْيِينِهَا، إِذْ لو كان في ذلك مهم لَنَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ،
فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قال: أَخَذَ وَزًّا وَرَأْلًا وَهُوَ (فَرْخُ النَّعَامِ)
وَدِيكًا وطاووساً، وقال مجاهد: كانت حمامة وديكاً وطاووساً وغراباً، وقوله: {فَصُرْهُنَّ
إِلَيْكَ} أي وقطعهن. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} أَوْثِقْهُنَّ، فَلَمَّا
أَوْثَقَهُنَّ ذَبَحَهُنَّ ثُمَّ جَعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، فَذَكَرُوا
أَنَّهُ عَمَدَ إِلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الطَّيْرِ فَذَبَحَهُنَّ ثُمَّ قَطَّعَهُنَّ
وَنَتَفَ رِيشَهُنَّ وَمَزَّقَهُنَّ وخلط بعضهن ببعض، ثُمَّ جَزَّأَهُنَّ أَجْزَاءً
وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ منهن جزءاً ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ
يَدْعُوَهُنَّ فَدَعَاهُنَّ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ
إِلَى الرِّيشِ يَطِيرُ إِلَى الرِّيشِ، وَالدَّمِ إِلَى الدَّمِ، وَاللَّحْمِ إِلَى
اللَّحْمِ، وَالْأَجْزَاءِ مِنْ كُلِّ طَائِرٍ يَتَّصِلُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ حَتَّى
قَامَ كُلُّ طَائِرٍ عَلَى حِدَتِهِ وَأَتَيْنَهُ يَمْشِينَ، سَعْيًا لِيَكُونَ أَبْلَغَ
لَهُ فِي الرُّؤْيَةِ الَّتِي سألها.
وَلِهَذَا قَالَ: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أَيْ
عَزِيزٌ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ وَلَا يَمْتَنِعُ من شَيْءٌ، وَمَا شَاءَ كَانَ بِلَا
مُمَانِعٍ لِأَنَّهُ الْقَاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ
وشرعه وقدره ([11]).
وصيته لبنيه أن يتمسكوا بالإسلام: قال تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ
يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]
"أي: أحسنوا في هذه
الحياة، والْزموا هذا؛ ليرزقكم الله الوفاةَ عليه، فإنَّ المؤمنَ يَموت غالبًا على
ما كان عليه، وقد أجرى الله عادتَه بأَنَّ مَن قصد الخير، وُفِّقَ له، ويَسُرَ عليه،
ومن نوى صالِحًا، ثبت عليه ([12]).
أسوة
حسنة: قال تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ
لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ﴾ [الممتحنة:
4].
تخصيصه
بالثناء عليه في كل صلاة دون سائر الأنبياء: والسبب
أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام اختصه الله عز وجل بالفضائل العظيمة ، والمكارم
الجليلة ، فكان الإمام ، والأمة ، والحنيف ، القانت لله عز وجل ، الذي ينتسب إليه جميع
الأنبياء بعده ، ويؤمن به جميع أتباع الشرائع (المسلمون والنصارى واليهود) .
وإبراهيم عليه السلام هو أفضل الأنبياء والرسل بعد نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم ، ولهذا أخبرنا الله تعالى أنه اتخذه خليلا (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ
خَلِيلًا) [النساء/125] .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : لماذا خُص إبراهيم عليه السلام
بدعوة التوحيد ، مع أن جميع الأنبياء دعوا إلى التوحيد ؟
فأجاب : "كل الأنبياء جاءوا بالتوحيد
، قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الأنبياء/25، لكن إبراهيم
أبو العرب ، وأبو الإسرائيليين ، وهو يدعو إلى التوحيد الخالص ، واليهود والنصارى ادعوا
أنهم أتباعه ، والمسلمون هم أتباعه ، فكان هو عليه الصلاة والسلام قد خُصَّ بأنه أبو
الأنبياء ، وأنه صاحب الحنيفية ، وأمرنا باتباعه ؛ لأننا نحن أولى بإبراهيم ، كما قال
عز وجل : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا) آل عمران/68 ، وقال رداً على اليهود والنصارى : (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ
يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) آل عمران/67" انتهى ([14]).
وللعلامة بدر الدين العيني الحنفي رحمه الله ملحظ آخر في توجيه
سبب ذلك ، فيقول : "فإن قيل : لم خص إبراهيم عليه
السلام من بين سائر الأنبياء عليهم السلام بذكرنا إياه في الصلاة ؟
قلت : لأن النبي عليه السلام رأى ليلة المعراج جميع الأنبياء والمرسلين
، وسلم على كل نبي ، ولم يسلم أحد منهم على أمته غير إبراهيم عليه السلام ، فأمرنا
النبي عليه السلام أن نصلي عليه في آخر كل صلاة إلى يوم القيامة ، مجازاة على إحسانه
.
ويقال : إن إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا لأمة
محمد عليه السلام وقال : اللهم من حج هذا البيت من أمة محمد فهَبْه مني السلام ، وكذلك
دعا أهله وأولاده بهذه الدعوة ، فأُمرنا بذكرهم في الصلاة مُجازاة على حُسْن صنيعهم"
انتهى ([15]). والله أعلم .
ثانيًا: نماذج من سماحته
ودعوته قومه إلى الله بالحسنى
السماحة
والحسنى في اقناع قومه بالحجة بخطأ عبادتهم للكواكب: قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ
مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ
قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا
قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ
مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ
هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) ) [سورة
الأنعام]
وَقَف إبراهيمُ عليه السلام مع قومه وهوَ يَنظُر إلى السماءِ يَبحَثُ
عن الحقيقةِ، يَبحَثُ عن الإلهِ الحقّ، وفي الأثناءِ بَزَغَ القمرُ، ظَهَر في السماء.
كانَ يتألّقُ بنورِه الفِضيّ، وسيّدُنا إبراهيم كانَ فتىً عاقلاً،
أرادَ أن يُنَبِّهَ الناسَ إلى ضَلالِهم، أراد أن يَقولَ لَهُم: إن اللهَ أكبرُ من
ذلك، من أجلِ هذا قال لهم: ـ هذا رَبِّي، الناسُ الذيَن كانوا
يَعبدُونَ كوكبَ الزُّهرةِ التَفَتوا إليه، قالوا: ـ كيف ؟!
قال إبراهيم: ـ لأنّه في مكانٍ عالٍ،
ويضيء، وبعد قليل غابَ كوكبُ الزُّهرة، فقال لهم إبراهيم:
كوكب الزُّهرة
ليس ربّي.
تعجّبوا وقالوا له: لماذا؟ ، فقال
إبراهيم: لقد اختَفى كوكبُ الزهرة
الذي تعبدونه، والإله الحق لا يختفي ولا يغيب، مَرّ الوقتُ والقمرُ يسيرُ
في السماء حتّى اختَفى.
بعد ساعةٍ اشرَقَت الشمسُ، هتَفَ إبراهيم: هذا
ربّي!، هذا أكبر، بعضُ الناسِ صَدّقوا ما يَقولُه الفَتى،
ربّما كانَ على حقّ، الشمسُ هي التي تَهَبهُم النورَ والدِّفء.
ولكنّ الشمسَ غابَت أيضاً وعادَ الظلامُ مرّةً أخرى! نَظَر إبراهيمُ
إلى السماء وهَتَف: أنا أتبرّأُ من عبادةِ الشمس، إنّها
ليست الربَّ المَعبود، إنني أعبُد الله الذي خَلَق الزُّهرةَ والقمرَ والشمسَ وخلَق
الأرضَ والسماءَ وخَلَقنا جميعاً.
شاعَت كلماتُ إبراهيمَ الفَتَى الذي لا يَهاب الآلهةَ ولا يخافُ
مِن النَّمرود، سَمِعَ الناسُ إبراهيمَ يَسخَرُ من
الآلهةِ المُزيَّفةِ التي لا تَضُرُّ ولا تَنفَع.
سماحته ولطفه في دعوته لأبيه آزر: قال تعالى: ( وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ
قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي
عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا
لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ
لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ
وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ
لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ
عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) )
[سورة مريم]
كَبُرَ إبراهيمُ، أصبَحَ عمرُه ستَّ عَشرةَ سنةً، جميعُ أهلِ بابلَ
عرَفوا أن إبراهيمَ لا يَعبُد الآلهة، كثيرٌ منهم رأوه يَسخَرُ منها.
فرأى الكواكب والنجوم،
واستنكر أن تكون هي ربه الذي يبحث عنه، لأنها مخلوقة مثله تعبد خالقها، فتظهر بإذنه
وتغيب بإذنه، وظل سيدنا إبراهيم {عليه السلام} في الصحراء ينظر إلى السماء يفكر ويتدبر
عسى أن يهتدي إلى ربه وخالقه، فهداه الله -سبحانه- إلى معرفته، وجعله نبيًّا مرسلاً
إلى قومه، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الله رب العالمين.
وأنزل الله -سبحانه- على إبراهيم {عليه السلام } صحفًا فيها آداب
ومواعظ وأحكام لهداية قومه، وتعليمهم أصول دينهم، وتوصيتهم بوجوب طاعة الله، وإخلاص
العبادة له وحده، والبعد عن كل ما يتنافى مع مكارم الأخلاق، وعاد سيدنا إبراهيم عليه
السلام إلى بيته، وقلبه مطمئن.
ولما دخل البيت وجد أباه، فتقدم منه سيدنا إبراهيم {عليه السلام
} وأخذ ينصحه ويقول له: {يا أبت لما تعبد ما لا يسمع ولا
يبصر ولا يغني عنك شيئا، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطًا
سويًّا ، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيًّا . يا أبت إني أخاف أن
يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليًّا} [مريم:42-45] فردَّ عليه أبوه
غاضبًا، وقال: {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليًا}
[مريم:46].
لكن إبراهيم {عليه السلام } لم يقابل تلك القسوة بمثلها، بل صبر
على جفاء أبيه، وقابله بالبر والإحسان.
استنكاره لعبادة قومه للأصنام، وإقامة الحجة عليهم،
واحراق قومه له: قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ
وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ
التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا
آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ
فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ
اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ
لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) جَعَلَهُمْ
جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا
سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا
بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ
فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا
إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ
نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ
أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ
(66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
(67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ
(68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ
وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
) [سورة الأنبياء]
خرج إبراهيم من عند أبيه متوجهًا إلى المعبد، حتى يدعو قومه إلى
عبادة الله، ولما دخل عليهم وجدهم عاكفين على أصنام كثيرة، يعبدونها ويتضرعون إليها،
ويطلبون منها قضاء حوائجهم، فتقدم منهم إبراهيم، وقال لهم: {ما هذه التماثيل التي أنتم
لها عاكفون} فرد عليه القوم وقالوا: {وجدنا آباءنا لها عابدين}.
فوضح لهم سيدنا إبراهيم {عليه السلام} أن عبادة هذه الأصنام ضلال
وكفر، وأن الله -سبحانه- الذي خلق السماوات والأرض هو المستحق للعبادة وحده
فغضب قومه منه، واستكبروا وأصروا على كفرهم وعنادهم، فلمَّا وجد إبراهيم
إصرارهم على عبادة الأصنام، خرج وهو يفكر في نفسه أن يحطم هذه الأصنام، وكان اليوم
التالي يوم عيد، فأقام القوم احتفالا كبيرًا خارج المدينة، وذهب إليه جميع
الناس، وخرج إبراهيم {عليه السلام }وحده إلى شوارع المدينة فلم يجد فيها أحدًا، فانتهز
هذه الفرصة وأحضر فأسًا، ثم ذهب إلى المعبد الذي فيه الأصنام دون أن يراه أحد، فوجد
أصنامًا كثيرة، ورأى أمامها طعامًا كثيرًا وضعه قومه قربانًا لها وتقربًا إليها، لكنها
لم تأكل.
فأقبل إليها إبراهيم {عليه السلام}، وتقدم منها، ثم قال لها مستهزئًا:
ألا تأكلون؟! وانتظر قليلا لعلهم يردون عليه، لكن دون جدوى، فعاد يسأل ويقول: ما لكم
لا تنطقون؟! ثم أخذ يكسر الأصنام واحدًا تلو الآخر، حتى صارت كلها حطامًا إلا صنمًا
كبيرًا تركه إبراهيم ولم يحطمه، وعلق في رقبته الفأس، ثم خرج من المعبد، ولما عاد القوم
من الاحتفال مرُّوا على المعبد، ودخلوا فيه ليشكروا الآلهة على عيدهم وفوجئوا بأصنامهم
محطمة ما عدا صنمًا واحدًا في رأسه فأس معلق، فتساءل القوم: من فعل هذا بآلهتنا؟ فقال
بعض القوم: سمعنا فتى بالأمس اسمه إبراهيم كان يسخر منها، ويتوعدها بالكيد والتحطيم،
وأجمعوا أمرهم على أن يحضروا سيدنا إبراهيم عليه السلام ويسألوه، ويحققوا معه فيما
حدث.
وفي لحظات ذهب بعض القوم وأتوا بإبراهيم إلى المعبد، ولما وقف أمامهم سألوه:
أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟! فرد سيدنا إبراهيم عليه السلام: بل فعله كبيرهم هذا،
ثم أشار بإصبعه إلى الصنم الكبير المعلق في رقبته الفأس، ثم قال {عليه السلام}: فسألوهم
إن كانوا ينطقون، فرد عليه بعض الناس وقالوا له: يا إبراهيم أنت تعلم أن هذه الأصنام
لا تنطق ولا تسمع، فكيف تأمرنا بسؤالها؟
فانتهز إبراهيم عليه السلام هذه الفرصة وقال لهم: {أفتعبدون من
دون الله ما لا ينفعكم شيئًا ولا يضركم ، أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون}
[الأنبياء: 66-67]
فسكتوا جميعًا ولم يتكلموا، ونكسوا رءوسهم من الخجل والخزي، ومع
ذلك أرادوا الانتقام منه، لأنه حطم أصنامهم، وأهان آلهتهم.
فقال نفر من الناس: ما جزاء إبراهيم، وما عقابه الذي يستحقه؟ فقالوا:
{حرِّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين} [الأنبياء:68].
ثم ذهب جنود المعبد بإبراهيم عليه السلام إلى الصحراء، وجمعوا الحطب
والخشب من كل مكان، وأشعلوا نارًا عظيمة، وجاءوا بآلة اسمها المنجنيق، ليقذفوا إبراهيم
منها في النار، ولما جاء موعد تنفيذ الحكم على إبراهيم عليه السلام، اجتمع الناس من
كل مكان ليشهدوا تعذيبه، وتصاعد من النار لهب شديد، فوقف الناس بعيدًا يشاهدون النار،
ومع ذلك لم يستطيعوا تحمل حرارته، وجاءوا بإبراهيم عليه السلام مقيدًا بالحبال ووضعوه
في المنجنيق، ثم قذفوه في النار، فوقع في وسطها، فقال إبراهيم: حسبي اللَّه ونعم الوكيل.
فأمر الله النار ألا تحرق إبراهيم ولا تؤذيه، قال تعالى: {قلنا
يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم} [الأنبياء:69] فأصبحت النار بردًا
وسلامًا عليه، ولم تحرق منه شيئًا سوي القيود التي قيدوه بها، وظلت النار مشتعلة عدة
أيام، وبعد أن انطفأت خرج منها سيدنا إبراهيم {عليه السلام} سالـمًا، لم تؤذه، وتحدث
الناس عن تلك المعجزة وعن نجاة إبراهيم {عليه السلام} من النار.
وكان من الممكن أن يدعوا عليهم ، ولكن حلمه بهم وصبره على
أذاهم، وسماحته في الدعوة منعه من هذا.
مناظرة إبراهيم الخليل مع من أراد أن ينازع الله العظيم الجليل في العظمة ورداء
الكبرياء فادعى الربوبية، وهوَ أحدُ العبيد الضعفاء.
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي
رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)) [سورة
البقرة]
يذكر الله تعالى مناظرة
خليله إبراهيم مع هذا الملك الجبار المتمرد الذي ادعى لنفسه الربوبية، فأبطل الخليل
عليه دليله، وبين كثرة جهله، وقلة عقله. وقيل هذا الملك هو ملك بابل، واسمه النمرود
بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح وكان أحد ملوك الدنيا، فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا
أربعة: مؤمنان وكافران. فالمؤمنان: ذو القرنين وسليمان. والكافران: النمرود وبختنصّر.
وذكروا أن النمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة، وكان طاغية وظالما، وآثر الحياة
الدنيا. ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له حمله الجهل والضلال
وطول الآمال على إنكار الصانع، فحاجّ إبراهيم الخليل في ذلك وادعى لنفسه الربوبية.
فلما قال إبراهيم: (ربي الذي يحي ويميت) ( قال: أنا أحي وأميت) أي النمرود ومعنى قول
النمرود أنه يحيي ويميت أنه إذا أتى بالرجلين وقد وجب قتلهما لأمر ما، فإذا أمر بقتل
أحدهما، وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا وأمات الآخر. وهذا ليس بمعارضة لإبراهيم،
بل هو كلام خارجي عن مقام المناظرة. ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفى على
كثير من الناس ممن حضره وغيرهم، ذكر إبراهيم دليلاً آخر بين به وجود الصانع وبطلان
ما ادّعاه النمرود وانقطاعه جهرة: قَال ابراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ
مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ} أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من
المشرق كما سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها. وهو الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء، فإن
كنت كما زعمت من أنك الذي تحي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب فإنّ الذي يحي ويميت
هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، فإن كنت
كما تزعم فافعل هذا، فإن لم تفعله فلست كما زعمت، وأنت تعلم ، أنك لا تقدر على شيء
من هذا بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة أو تنتصر منها.
فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه، وأبطل ما سلكه وتبجح به عند
جهلة قومه، ولم يبق له كلام يجيب الخليل به بل انقطع وسكت. ولهذا قال: {فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
وقد بعث الله بعد ذلك إلى ذلك النمرود ملكاً يأمره بالإيمان بالله
فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى عليه، ثم دعاه الثالثة فأبى عليه، وقال: اجمع جموعك
وأجمع جموعي، فجمع النمرود جيشه وجنوده، وقت طلوع الشمس فأرسل الله عليه ذباباً من
البعوض، بحيث لم يروا عين الشمس وسلّطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودمائهم وتركتهم
عظاماً ، ودخلت واحدةٌ منها في منْخَر الملكِ فمكثت في منخره زمنا طويلاً، عذبه الله
تعالى بها في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله عز وجل بها ([16]).
وحياة سيدنا إبراهيم عليه السلام مليئة
بالنماذج الطيبة والتسامح والعفو والصبر والحلم مما جعلته يستحق أن يتخذه الله
تعالى خليلا، وحسبي ما ذكرت وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا
إبراهيم إنك حميد مجيد.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
جمع وترتيب: الشيخ أحمد محمد أبو
عيد
0109 809 58 54
نسألكم الدعاء