كنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ للشيخ أحمد أبو عيد








الحمد لله رب العرش رب العوالم، يتولى الخلائق بلطفه فنعم الوكيل، ترى في الأناسيِّ كل مصحح وسالم، وقد ترى فيهم الكل العليل، وفيهم ذوات الفضل الكرائم، وكثرة من أرباب الجهل والرأي الهزيل، والإله من ورائهم محيط وعالم، قد يهدي ويصلح أو يرسل الطير الأبابيل، فدعِ الخلق لربهم وسلِّم وسالم فله الأمر من قبل ومن بعد كما جاء في التنزيل.
وأشهد أن لا إله إلا الله الحيُّ الدائم، يقول الحق وهو يهدي السبيل، ألهم الإنسان من الخلق المكارم، وحذره من الفعل والخلق الرذيل، أمره في السلم بأن يسالم، وبالنصر حربًا أو يكون هو القتيل، وأباح في الغنى التنوع في المطاعم، وحين الفقر عليه أن يقنع بالقليل.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله بالشرع قائم، مَن تبع سنته رشد، ومن تركها حُرم الدليل، فأنعم به مسكًا للنبين خاتم، وأكرم به مبعوثًا للشرور يزيل، فانظر إذا شئت واقرأ في التراجم، لن تجد في الناس عذبًا كهذا السلسبيل، لولاه ما استيقظ من غفلة الشرك نائم، ولأصبح إحياء القلوب من المستحيل، فيا رب، صلِّ على تاج أولي العزائم، من ليس لشريعته شرع بديل، وجازه عن كل قائم من أمته وصائم، وعن نوره الذي به انقشع الليل الطويل.
عناصر الخطبة
أولاً: الترغيب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره في الدنيا والآخرة
ثانياً: الترهيب من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره 
ثالثاً: من أحكام الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
الموضوع
المعروف في اللغة:  ضد المنكر، والعرف ضد النكر، والعارِفُ والعَروفُ الصبور، ويطلق المعروف على الوجه لأن الإنسان يعرف به، كما يطلق على الجود وقيل: هو اسم ما تبذله وتسديه.
المعروف في الاصطلاح:  اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، وقيل: هو كل ما يحسن في الشرع، وقيل: هو كل ما عرف في الشرع من خير وطاعة مندوباً كان أو واجباً، وسمي معروفاً لأن العقول السليمة تعرفه.
المنكر في اللغة:  هو واحد المَناَكِر، وهو النكر، قال تعالى﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرً ﴾[الكهف: 74]،
والنَكِير والإنْكارُ: تغيير المنكر، والإنكارُ: الجحود، والتناكرُ: التجاهل.
المنكر في الاصطلاح:  كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه، وقيل: ما عرف قبحه شرعاً وعقلاً.
وقيل: كل قول وفعل وقصد قبحه الشارع ونهى عنه.
أولاً: الترغيب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره في الدنيا والآخرة
أمر الله تعالى وسوله به: قال تعالى ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ﴿104﴾ آل عمران.
وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ قال: ﴿مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ﴾ ﴿[1].
قدمه الله عزّ وجلّ على الإيمان : قال تعالى: ﴿كنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ آل عمران.، ولا نعلم السر في هذا التقديم، إلا عظم شأن هذا الواجب، وما يترتب عليه من المصالح العظيمة، ولا سيما في هذا العصر؛ فإن حاجة المسلمين وضرورتهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شديدة؛ لظهور المعاصي وانتشار الفساد في غالب المعمورة.
قدمه الله عزّ وجلّ على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة : فقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿71﴾التوبة.
من مهام وأعمال الرسل عليهم السلام: قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾ النحل.
من صفات الرسول ﷺ : قال تعالى﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ الأعراف.
من صفات المؤمنين : قال تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ﴿112﴾ التوبة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: ومن لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله ورسوله من المنكر الذي حرّمه من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه، فإن لم يكن مبغضاً لشيء من المحرمات أصلاً لم يكن معه إيمان أصلاً.
من خصال الصالحين : قال تعالى: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴿113﴾ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿114﴾ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ آل عمران.
من خيرية هذه الأمة : قال تعالى: ﴿كنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
 الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
يقول الإمام القرطبي -رحمه الله -: هذه الآية مدح لأمة محمد ﷺ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ويظل هذا معها ما أقاموا ذلك، فإذا تركوا ذلك التغيير زال عنهم اسم المدح، ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو شرط الخيرية ﴿[2].
من أسباب النصر والتمكين في الأرض: قال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿40﴾ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) ﴿41﴾ الحج.
من أسباب تكفير الذنوب : عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ -في الْفِتْنَةِ كَمَا قَالَ قَالَ فَقُلْتُ أَنَا. قَالَ إِنَّكَ لَجَرِىءٌ وَكَيْفَ قَالَ قَالَ قُلْتُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -ﷺ -يَقُولُ ﴿فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِى أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ وَالصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ ﴿[3].
من علامات البطانة الصالحة: عن أبي سعيد الخدري: عن النبي ﷺ قال ﴿ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصم الله تعالى﴾ ﴿[4]
من أعظم الجهاد: عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال ﴿إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند
 سلطان جائر﴾﴿[5]
عظم فضل القيام به : قال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿114﴾النساء.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -ﷺ -قَالَ ﴿مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ
ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا﴾ ﴿[6]
الدين النصيحة: عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ -ﷺ-قَالَ ﴿الدِّينُ النَّصِيحَةُ﴾ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ ﴿لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ﴾ ﴿[7].
عدم الخوف من قول الحق: وعن أبي سعيد الخدري t قال قال رسول الله ﷺ لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه ﴿أو شهده أو سمعه﴾ ﴿[8]
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس تدخلاً في شؤون الغير: شاع في بعض أوساط الناس الغفلة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبروا ذلك تدخلاً في شؤون الغير؛ وهذا من قلة الفهم ونقص الإيمان، فعن أبي بكر t قال: يا أيها الناس! إنكم لتقرؤون هذه الآية: ﴿يا أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم﴾ وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: ﴿إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه﴾ ﴿[9]
أعظم المعروف: الدعوة إلى التوحيد الخالص: إن أعظم معروف ذكره الله تعالى في كتابه العزيز هو الدعوة إلى توحيده سبحانه وتعالى، وإخلاص العمل له وحده، والتوحيد هو الرسالة التي أرسل الله بها رسله إلى الناس كاف، قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾النحل.
 سبب للنجاة في الدنيا والآخرة: قال تعالى﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾الأعراف.
وعن النعمان بن بشير t، عن النَّبيّ ﷺ، قَالَ: مَثَلُ القَائِمِ في حُدُودِ اللهِ وَالوَاقعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَصَارَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، وَكَانَ الَّذِينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أنَّا خَرَقْنَا في نَصِيبِنَا خَرْقاً وَلَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أرَادُوا هَلَكُوا جَميعاً، وَإنْ أخَذُوا عَلَى أيدِيهِمْ نَجَوا وَنَجَوْا جَميعا﴾﴿[10]       
من كره المنكر برئ ومن أنكر سلم: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -ﷺ-عَنِ النَّبِىِّ -ﷺ-أَنَّهُ قَالَ ﴿إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِىَ وَتَابَعَ﴾. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُقَاتِلُهُمْ قَالَ ﴿لاَ مَا صَلَّوْا﴾. أَيْ مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ ﴿[11].
الأمر بالمعروف وانكار المنكر فرض كفاية : والدليل قوله تعالى﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى  الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ﴿104﴾ آل عمران.
وقوله تعالى﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ﴿122﴾التوبة. ، وهكذا، فإن هذه الفرقة التي تفقهت في الدين، هي التي تستطيع أن تقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -ﷺ- قَالَ ﴿ مَا مِنْ نَبِىّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِى أُمَّةٍ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ ﴾﴿[12].
وسمع ابن مسعود t رجلا يقول: ﴿ هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، فقال ابن مسعود: هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر ﴾ يشير ابن مسعود إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد، فمن لم يعرفه هلك، وأما الإنكار باللسان واليد فإنما يجب بحسب الطاقة، ويقول أبي حامد الغزالي –رحمه الله -في الإحياء: أما فرض الكفاية فهو علم لا يستغني عنه في قوام أمور الدنيا كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين ﴿[13].
وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله -: ﴿ فمن شهد الخطيئة فكرهها بقلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها؛ لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب وهو فرض على كل مسلم لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال ﴾.
يدلّ كلام ابن رجب أن قولهم إنكار المنكر فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين بأن مرادهم الإنكار باليد واللسان اللذين يحصل تغيير المنكر بهما أو بأحدهما، وأما الإنكار بالقلب ففرض عين على كل مسلم، وهذا أمر ينبغي التفطن له
ثانياً: الترهيب من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره 
من صفات المنافقين: على عكس أهل الشر والفساد ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ  يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) ﴿67﴾ ﴾ التوبة.
وقوع الهلاك والعذاب: قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿25﴾الأنفال.
وعن زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّ النَّبِىَّ -ﷺ-اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ يَقُولُ ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ﴾. وَعَقَدَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ عَشَرَةً. قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ ﴿نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ﴾ ﴿[14].
عدم إجابة الدعاء: عن حذيفة t عن النبي ﷺ قال﴿ والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم﴾﴿[15]﴾.
اللعنة والطرد من رحمة الله: قال تعالى ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿78﴾ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾المائدة.
توبيخ الله لهم : قال تعالى ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿62﴾ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴿63﴾المائدة ، وقال ابن جرير الطبري: ﴿كان العلماء يقولون ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها﴾ ﴿[16]﴾.
أعظم المنكر: الشرك بالله تعالى: ينبغي أن يكون من المعلوم أن أعظم المنكر، هو الشرك بالله تعالى، لأنه محبط للأعمال، ولا يغفره الله تعالى، يقول الله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾النساء.
حال من خالف قوله فعله: قال تعالى﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿44﴾ البقرة.، وقال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿3﴾﴾ الصف، وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أن النبي ﷺ قال ﴿يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِى النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلاَنُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ ﴿[17]، ومعنى ﴿فتندلق﴾ تخرج وتنصب بسرعة. ﴿أقتابه﴾ جمع قتب وهي الأمعاء والأحشاء. ﴿برجاه﴾ حجر الطاحون التي يديرها.
هذه حال من خالف قوله فعله -نعوذ بالله من ذلك -تسعر به النار، ويفضح على رؤوس الأشهاد، ينظر إليه أهل النار، ويتعجبون !! كيف يلقى في النار ؟!! ويدور في النار كما يدور الحمار بالرحى، وتندلق أقتاب بطنه، يسحبها، لماذا ؟!! لأنه كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه فعُلِمَ بذلك أن المقصود الأمر بالمعروف مع فعله، والنهي عن المنكر مع تركه.
تسلُّط الفساق والفجار: وتزيين المعاصي، وشيوع المنكر واستمراره، ظهور الجهل، واندثار العلم، وتخبط الأمة في ظلمة حالكة لا فجر لها. ويكفي عذاب الله عزّ وجلّ لمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسلط الأعداء والمنافقين عليه، وضعف شوكته وقلة هيبته.
ثالثاً: من أحكام الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
           الحكم الأول: آداب من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر:
لقد ذكر أهل العلم آداباً ينبغي أن يتحلى بها كل من يريد أن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نوجزها فيما يلي:
إخلاص العمل لله وحده: إن أساس قبول الأعمال، وحصول ثواب الله تعالى هو إخلاص الأعمال لله تعالى؛ فإن من احتسب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقه الله تعالى للقيام بهذه المهمة السامية، قال الله تعالى في محكم التنـزيل:﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾البينة.
 العلم: لا بد لمن يقوم بالأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون على علم بموقع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون على علم بحال من يأمره وينهاه، حتى يقتصر في تصرفه على حدود الشرع الحنيف، لأنه إذا كان جاهلاً بهذه الأمور، فإنه سوف يفسد أكثر مما يصلح، ولذا قال بعض العلماء: ﴿إن على من يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عالماً بما يأمر به وعالماً بما ينهى عنه﴾ ﴿[18].
 الرفق وحسن الخلق: يعتبر الرفق وحسن الخلق من صفات من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فالعنف والغضب المفرط في الدعوة قد يؤديان إلى مفسدة عظيمة لا يحمد عقباها، وهذا الخلق المبارك من الرفق ولين الجانب، هو الذي تربى عليه الأنبياء والمرسلون، وساروا عليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحكام وعامة الناس.
قال تعالى عند الحديث عن موسى وهارون:﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى *فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾طه.، وقال الله تعالى أيضاً مخاطباً النبي ﷺ ومخاطباً كل من يدعو إلى الله تعالى:﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾النحل.
وقال سبحانه:﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾[آل عمران] ، وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -ﷺ-أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -ﷺ-قَالَ ﴿يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاهُ﴾ ﴿[19].
وقال سفيان الثوري رحمه الله: ﴿لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى﴾ ﴿[20].
وقال الشيخ سيد قطب -رحمه الله -: ﴿إن الرفق في الموعظة كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ﴾ ﴿[21].
 الصبر وتحمل الأذى: يعتبر الصبر على الأذى من الدعائم التي يجب أن يستند عليها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وطالما كان هناك أمر بمعروف ونهي عن منكر، فالغالب أن يصاحبهما أذى من الناس، ويظهر هذا جلياً في وصية لقمان لابنه: قال تعالى ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ لقمان. ، ولذا أوصى الله تبارك وتعالى الرسل بالصبر، فقال سبحانه مخاطباً نبيه ﷺ: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ الأحقاف، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ﴿لا بد من العلم والرفق والصبر، فالعلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده﴾ ﴿[22].
           الحكم الثاني: شروط الفعل المطلوب إنكاره:
لقد اشترط أهل العلم للفعل المطلوب إنكاره شروطاً يمكن أن نوجزها فيما يلي ﴿[23]:
أن يكون الفعل منكراً: لا بد للفعل المطلوب إنكاره أن يكون قبيحاً شرعاً، ولا يختص وجوب الإنكار على الكبائر دون الصغائر، ولا يشترط أن يكون معصية، فمن رأى صبياً أو مجنوناً يشرب
 الخمر، فعليه أن يمنعه، وإن كان هذا لا يسمى منكراً في حق الصبي والمجنون.
أن يكون المنكر موجوداً: ويشترط في الفعل المنكر المطلوب منعه أن يكون مستمراً، فإن من فرغ من شرب الخمر مثلاً، لم يكن لأحد من الناس الإنكار عليه إلا بالوعظ والتعريف، إذا أفاق من سكره، ومن الأفضل الستر عليه مع ذلك، حتى لا يقام عليه الحد إذا وصل أمره إلى الإمام، وذلك بدليل ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: ﴿ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة﴾ ﴿[24].
 أن يكون المنكر ظاهراً بغير تجسس: لا يجوز للمحتسب التجسس من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الله حرم التجسس على عورات الناس، فقال سبحانه:﴿ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾الحجرات.
 أن يكون المنكر معلوماً بغير اجتهاد: قال الإمام النووي: ﴿إن العلماء إنما ينكرون على ما أجمع على إنكاره، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم﴾ ﴿[25].
          الحكم الثالث: كيف تنهى عن المنكر؟
ذكر الإمام ابن قدامة في كتابه مختصر منهاج القاصدين درجات لنسير عليها، عند تغيير المنكر وهي بالترتيب كما يلي:
التعريف بالمنكر: قد يقدم العبد على فعل المنكر، وهو لا يدري أنه منكر، ومثل هذا الشخص ربما إذا علم أن ذلك منكر، أقلع عنه في الحال، فيجب تعريفه باللطف والرفق، ويقال له مثلاً: إن الإنسان لا يولد عالماً، وإننا كنا كذلك فسخر الله لنا من علمنا، وليس من العيب أن نخطئ، ولكن من العيب أن نعلم الخطأ ونستمر في عمله.
 النهي عن المنكر بالوعظ، والنصح، والتخويف بالله: إذا أقدم إنسان على فعل منكر مع علمه بأن ذلك حرام، مثل: الغيبة والنميمة والرشوة، والتعامل بالربا، وأكل أموال اليتامى ظلماً، فإن مثل هذا ينبغي أن ينصح بالحكمة والموعظة الحسنة وأن يذكر بآيات القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة التي تحتوي على التهديد والوعيد من رب العالمين، وينبغي للمحتسب أن ينظر إلى فاعل المنكر بعين الرحمة، وأن يتخيل نفسه مكانه، فكيف يجب أن يعامله الآخرون في مثل هذا الموقف؟
وليتذكر المحتسب أيضاً قول النبي ﷺ: ﴿لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴾ ﴿[26].
 النهي عن المنكر بالتغليظ في القول: إذا رأى من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن صاحب المنكر لم يرجع عنه بالتعريف، ولا بالوعظ، ولا التخويف بآيات الله، وعلم أنه مصر على الاستمرار في عمل المنكر وأظهر الاستهزاء، فإن الناهي ينتقل إلى التغليظ في القول، مثل أن يقول له: يا من لا يخاف الله، يا ........ مع الحذر من استرسال الناهي في تغليظ القول حتى لا يقول ما لا يجوز شرعاً، وقد جاء بيان هذه الدرجة من النهي عن المنكر في كلام إبراهيم لقومه حيث يقول الله تعالى:﴿ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾الأنبياء.
 النهي عن المنكر عن طريق التهديد بالأذى: إذا رأى الناهي عن المنكر أن التغليظ في القول لا تأثير له على صاحب المنكر، فإنه ينتقل إلى التهديد بإيقاع الأذى كأن يقول لصاحب المنكر: إن لم تتوقف عن فعل هذا الأمر، لأفعلن بك كذا وكذا، فلعل هذا التهديد يجعله يترك هذا المنكر، ويراعى أن يكون التهديد بشيء يقدر عليه الناهي كطرد صاحب المنكر من العمل، أو السكن، أو بإبلاغ ولاة الأمر عنه.
 النهي عن المنكر عن طريق التغيير باليد: إذا رأى الناهي عن المنكر أن هذا الفعل المنكر الذي هو بصدده لم يتوقف باستخدام التعريف، أو الوعظ، أو التغليظ في القول، أو التهديد بالأذى فإنه يلجأ إلى تغيير هذا المنكر باليد، وذلك بشرطين كما يلي:
أ-أن تكون لديه القدرة على هذا التغيير، كأن يكون ولي أمر، أو محتسباً من قبل الإمام.
ب-ألا يؤدي هذا التغيير إلى منكر أكبر، فإذا ترتب على ذلك مفسدة عظيمة، أصبح عدم التغيير واجباً، وقال بعض العلماء: إن التغيير باليد يكون لولاة الأمور فقط، حتى لا تحدث مفسدة بين الناس، وأن يُعطى الإذن للمحتسب للتغيير باليد.
ومن أمثلة التغيير باليد إراقة الخمر، وكسر آلات اللهو، وغير ذلك، وقد فعل ذلك رسول الله ﷺ، كما يلي: عن عمر بن الخطاب أنه قال: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لاَ أَرَاهُمَا إِلاَّ خَبِيثَتَيْنِ هَذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -ﷺ-إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ في الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا﴾ ﴿[27]،  وقال الإمام القرطبي -رحمه الله -: قال العلماء: ﴿الأمر بالمعروف باليد على الأمراء وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء يعني عوام الناس﴾ ﴿[28].
التغيير بضرب صاحب المنكر: إذا لم ينته صاحب المنكر عنه بعد التخلص من الآلات التي يستخدمها في عمل هذا المنكر، فإن للناهي عن المنكر أن يضربه باليد، أو العصا، أو غير ذلك مع عدم الاسترسال في الضرب حتى لا يؤدي إلى منكر أكبر، مع مراعاة أن هذه الطريقة تكون من ولي الأمر، أو من فوضه ولي الأمر.
 النهي عن المنكر عن طريق الاستعانة بالناس: إذا وجد الناهي عن المنكر أنه لا يستطيع التغيير بنفسه، ورأى أنه يحتاج إلى الاستعانة بالناس، فله ذلك بشرط الحصول على إذن من ولاة الأمور، لأن صاحب المنكر ربما يستعين بأعوانه، ويؤدي ذلك إلى قتال بين الناس ويترتب على ذلك فساد كبير.
             الحكم الرابع: أحوال تغيير المنكر
قسم الإمام ابن قدامة أحوال تغيير المنكر إلى أربعة أحوال هي:
الحالة الأولى: أن يعلم المسلم أن المنكر يزول بقوله، أو فعله من غير مكروه يلحقه، فهذا يجب عليه الإنكار؟
الحالة الثانية: أن يعلم الناهي أن كلامه لا ينفع، وأنه إن تكلم ضرب، فهذا يرتفع عنه الوجوب.
الحالة الثالثة: أن يعلم المسلم أن إنكاره لا يفيد، ولكنه لا يخاف مكروهاً، فلا يجب عليه الأمر بالمعروف لعدم الفائدة، ولكن يستحب الإنكار لإظهار شعائر الإسلام والتذكير بالدين.
الحالة الرابعة: أن يعلم الناهي عن المنكر أنه يصاب بمكروه وحده، ولكن يبطل المنكر بفعله، فإنه يسقط عنه الوجوب ويبقى الاستحباب.
ويجب أن تعرف أن المقصود بالعلم في هذه الأحوال الأربعة هو غلبة الظن.
نسأل الله تعالى ان يجعلنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر الله آمين
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
%%%%%%%%




([1]) صحيح مسلم
([2]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج4 ص173.
([3]) متفق عليه
([4]) صحيح البخاري
([5]) صحيح سنن الترمذي
([6]) متفق عليه
([7]) صحيح مسلم
([8]) السلسلة الصحيحة
([9]) صحيح سنن الترمذي
([10]) صحيح البخاري
([11]) صحيح مسلم
([12]) صحيح مسلم
 ([13]) إحياء علوم الدين ج1 ص16.
([14]) متفق عليه
([15]) صحيح الترغيب والترهيب
([16]) جامع البيان للطبري ج6 ص298.
([17]) متفق عليه
([18]) مختصر منهاج القاصدين ص164.
([19]) متفق عليه 
([20]) جامع العلوم والحكم ج3 ص963.
([21])  في ظلال القرآن للشيخ سيد قطب ج4 ص2302.
([22])  مجموع فتاوى ابن تيمية ج28 من ص134 إلى ص 137.
([23]) الموازين ص18 إلى ص 21.
([24]) متفق عليه
([25])  مسلم بشرح النووي ج2 ص23، 24.
([26]) متفق عليه
([27]) صحيح مسلم
 ([28]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج4 ص49.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات