الوفاء بالعهود وأثره في صلاح الفرد والمجتمع للدكتور خالد بدير
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: الوفاء بالعهد بين الجاهلية والإسلام
العنصر الثاني: أنواع الوفاء بالعهد وصوره
العنصر الثالث: الوفاء بالعهد في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: الوفاء بالعهد بين الجاهلية والإسلام
عباد الله: نقف اليوم مع خُلُق مِن أخلاق القرآن، هذا الخُلق ضاع بين المسلمين إلا مَن رَحِمَ الله؛ وهو خُلق الوفاء بالعهد.
والوفاء بالعهد هو قيام المسلم بما التزم به ؛ سواء كان قولاً أم كتابة ، فإذا أبرم المسلم عقداً فيجب أن يحترمه ، وإذا أعطى عهداً فيجب أن يلتزم به ؛ فالعهد لا بد من الوفاء به ، كما أن اليمين لا بد من البر بها ، ومناط الوفاء والبر أن يتعلق الأمر بالحق والخير ، وإلا فلا عهد في عصيان ، ولا يمين في مأثم ، فلا عهد إلا بمعروف .
والوفاء بالعهد من صفات الأنبياء والمرسلين؛ قال تعالى عن إسماعيل - عليه السلام -:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا } [مريم: 54]، وقال في إبراهيم - عليه السلام -: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [النجم: 37]. يقول الإمام الطبري : " وفَّى جميعَ شرائع الإسلام، وجميعَ ما أُمر به من الطاعة."أ.ه. نعم، وفَّى حين ابتلاه الله بكلمات من الأمر الإلهي فأتمهنَّ، وفَّى حين قدَّم ولده إسماعيل قربانًا تنفيذًا لأمر الله، وفَّى حينما ألقي في النار فصبر ابتغاء مرضاة الله .
وقد كان صلى الله عليه وسلم أوفى الأوفياء بالعهود؛ فها هو يأمر عليَّ بن أبي طالب أن يَبِيت في فراشه ليلةَ الهجرة ليرُدَّ الأمانات إلى أهلها، أوَلَيس هو القائل: " أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُن مَن خانك"؟!( أبو داود والترمذي وحسنه).
لقد ضربَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ في الوفاءِ من المثالِ أجملَه، ومن النصيبِ أكملَه، ومن ردِّ الجميلِ أحسنَه وأعدلَه؛ ودلائل وفاء محمد صلى الله عليه وسلم لا تنتهي عند المواقف والأحداث التي كان يفي فيها بما التزمه، فقد شهد له أعداؤه بأنه يفي بالعهود ولا يغدر، فحين لقي هرقل أبا سفيان، وكان أبو سفيان على عداوته لمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ سأل هرقل أبا سفيان عن محمد صلى الله عليه وسلم عدداً من الأسئلة، كان مما سأله فيه قوله: فهل يغدر؟. قال لا !!
وعلى خلق الوفاء سار الصحابة رضي الله عنهم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قُبِض قال أبو بكر للصحابة: "من كان له عِدَةٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دَينٌ فليأتِني". قال جابرٌ: فأتيتُه فقلتُ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: "لو قد جاء مالُ البحرَين أعطيتُك هكذا وهكذا وهكذا". فلم يجِئ مالُ البحرَيْن حتى قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فحثَا لي أبو بكر من مال البحرَيْن لما جاءه حثيةً فعدَدتُها، فإذا هي خمسمائة، فقال لي: "خُذ مثلَيْها" (متفق عليه).
أيها المسلمون: إن العرب في الجاهلية كانوا يتحلون بشرف الالتزام بالكلمة والوفاء بالعهد؛ حتى ولو فيه رقابهم!! وما أكثر القصص التي تدل على هذه المكرمة في نفوس الجاهليين، وفي لقاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع عمرو بن معدي كرب رضي الله عنهما عظة وعبرة، قال عمرو: سأحدثك يا أمير المؤمنين عن أحيل رجل لقيته، وعن أشجع رجل، وعن أجبن رجل." كنت - في الجاهلية - في الصحراء، أركض فرسي، علني أجد رجلاً أقتله، إذا أنا بسواد بعيد، فركضت فرسي إليه فرأيت فرساً مربوطاً، وصاحبه في الخلاء، فصحت فيه: خذ حذرك فإنني قاتلك، ثم نهض متقدماً نحوي، فقال: من أنت؟ قلت عمرو بن معدي كرب، قال: أبا ثور، ما أنصفتني؛ أنت راكب وأنا راجل، قال: أنت آمن حتى تركب، فلما وصل إلى فرسه جلس واحتبى، قلت: خذ حذرك فإنني قاتلك، قال: ألم تقل لي: إنك آمن حتى تركب؟ قال: بلى، قال: فلست براكب، فانصرفت عنه، فهذا أحيل رجل يا أمير المؤمنين."( أيام العرب في الجاهلية لأحمد جاد المولى ورفاقه.)؛ فانظر إلى حيلة الرجل علم أن عمرو بن معدي كرب أعطاه عهداً بأنه لن يقتله مادام راجلاً لم يركب؛ فاحتبى الرجل ورفض الركوب ؛ ووفَّى عمرو بعهده وتركه!!!
ولقد ضرب عوف بن النعمان الشيباني أروع الأمثلة في الوفاء بالوعد حيث قال في الجاهلية الجهلاء: " لأن أموت عطشًا، أحبُّ إليَّ من أكون مخلاف الموعدة " . (الأمثال لأبي عبيد بن سلام) .
ولذلك كانت العربُ إذا ضربتْ مثلاً بالوفاءِ قالوا: (أوفى من السَّمَوأل) .. فما هي قصَّتُه؟! " لما أرادَ امرؤ القَيسِ المضيَّ إلى قيصرَ ملكِ الرُّومِ، أودعَ عندَ السَّموأل دُروعاً وسلاحاً وأمتعةً تساوي من المالِ جملةً كثيرةً ؛ فلمَّا ماتَ امرؤُ القَيسِ أرسلَ ملكُ كندةَ يطلبُ الدُّروعَ والأسلحةَ المودعةَ عندَ السَّموألَ، فقالَ السَّموألُ: لا أدفعُها إلا لمستحقِّها وأبى أن يدفعَ إليه منها شيئاً، فعاودَه فأبى، وقالَ: لا أغدرُ بذمَّتي، ولا أخونُ أمانتي، ولا أتركُ الوفاءَ الواجبَ عليَّ، فقصدَه ذلك الملكُ من كندةَ بعسكرِه، فدخلَ السَّموألُ في حصنِه، وامتنعَ به، فحاصرَه ذلك الملكُ.
وكانَ ولدُ السَّموأل خارجَ الحصنِ فظفرَ به الملكُ فأخذَه أسيراً، ثمَّ طافَ حولَ الحصنِ، وصاحَ بالسَّموأل، فأشرفَ عليه من أعلى الحصنِ، فلمَّا رآهُ قالَ له: إنَّ ولدَك قد أسرتُه، وها هو معي، فإن سلَّمتَ إليَّ الدروعَ والسِّلاحَ التي لامرئ القَيسِ عندَك، رحلتُ عنك وسلَّمتُ إليك ولدَك، وإن امتنعتَ من ذلك، ذَبحتُ ولدَك وأنت تنظرُ، فاخترْ أيُّهما شئتَ؟!! فقالَ له السَّموألُ: ما كنتُ لأخفِرَ ذِمامي، وأبطلَ وفائي، فاصنعْ ما شئتَ، فذبحَ ولدَه وهو ينظرُ!! وصبرَ السَّموألُ على ذبحِ ولدِه، في سبيلِ محافظتِه على وفائِه، ثمَّ لمّا عجزَ عن الحصنِ رجعَ خائباً ، فلمَّا جاءَ الموسمُ وحضرَ ورثةُ امرئ القيسِ، سلَّمَ إليهم الدُّروعَ والسِّلاحَ .." فسارت الرُّكبانُ بعد ذلك بهذا المثلِ: (أوفى من السَّمَوأل).( المستطرف للأبشيهي) .
فانظر كيف ضحى بولده وذُبِحَ أمامه في سبيل وفائه بعهده؟!! مع أنهم في زمن الجاهلية فكيف بكم يا مسلمون ؟!!!
أحبتي في الله: الوفاءُ .. كلمةُ حبٍّ وصفاءِ .. في حروفِها الإخلاصُ والنَّقاءُ .. أجمعَ على تقديرِها العُقلاءُ .. وإذا كانَ قد وُجدَ مثلَ هذا الوفاءِ في الجاهليِّةِ الظَّلماءِ .. فكيفَ إذاً الحالُ بعدَ نزولِ شَريعةِ السَّماءِ .. ولذلكَ لن تجدَ بعدَ ذلك من يقولُ أوفى من محمدٍ سيِّدِ الأنبياءِ .. عليه الصَّلاةُ والسلامُ عددَ نجومِ السَّماءِ .. وعددَ قطرِ الماءِ .. خاتمِ المرسلينَ وإمامِ الأتقياءِ .
عباد الله: الزموا الوفاء بالعهود والعقود؛ وإياكم ونقض العهد وخلف الوعد؛ فقد جعل الله ناقض العهد بمنزلة الحيوانات فقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} [الأنفال: 55 ؛ 56]. قال الشيخ السعدي :" إن هؤلاء الذين جمعوا هذه الخصال الثلاث: الكفر، وعدم الإيمان، والخيانة، بحيث لا يثبتون على عهد عاهدوه ولا قول قالوه هم شر الدواب عند الله؛ فهم شر من الحمير والكلاب وغيرها " .
العنصر الثاني: أنواع الوفاء بالعهد وصوره
عباد الله: هناك أنواع وصور وأشكال للوفاء بالعهود بين العبد وربه؛ وبين العبد ورسوله؛ وبين المسلم وغير المسلم؛ وبين المسلمين بعضهم البعض؛ وهاك البيان مع الدليل والقصص والآثار؛ والله المستعان وعليه التكلان:
أولاً: الوفاء بالعهد مع الله: وهو يتمثَّل في توحيدهِ وعِبادتِه وشُكره بالأقوال والأفعال، وحُسنِ معاملةِ عيالِه والصِّدق معهم.
فبين الإنسان وبين الله –سبحانه وتعالى - عهد عظيم مقدس وهو أن يعبده وحده لا يشرك به شيئًا، قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (يس: 60 ؛ 61) .
فانظر في نفسك .. أين أنت من هذا الوفاء ؟ ماذا قدمت له ؟ هل عبدت الله حق العبادة وحافظت على عقيدتك وإيمانك وما افترضه عليك من صلاة وصيام وزكاة وحج وسائر العبادات والطاعات ؟! أم تركت نفسك للشبهات والشهوات وغرتك دنياك بما فيها من أموال وبنين وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ؛ فجعلتها إلهاً من دون الله ؟! ..
إن الوفاء مع الله يتمثل في امتثال المأمورات واجتناب المنهيات كما جاء في نداءات المؤمنين من خلال القرآن الكريم .
رَوى ابنُ أبي حاتم أنَّ رجلاً أتى عبدالله بن مسعود فقال: اعْهَدْ إليَّ، فقال له: إذا سمعْتَ الله يقول:"يا أيها الذين آمنوا" فأَرْعِها سَمْعك؛ فإنه خيرٌ يَأمر به، أو شَرٌّ يَنهى عنه.
وحينما نقرأ سير الصحابة - رضي الله عنهم – نجدهم قد عاهدوا الله ورسوله ببذل الأموال والأنفس من أجل إعلاء كلمة الله؛ وقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه!! ومن تلك الأمثلة ما روي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:" غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي أَصْحَابَهُ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ قَالَ سَعْدٌ فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } إِلَى آخِرِ الْآيَةِ." (البخاري ومسلم) .
يقول الإمام ابن حجر:" وفي قصة أنس بن النضر من الفوائد: جواز بذل النفس في الجهاد ، وفضل الوفاء بالعهد ولو شق على النفس حتى يصل إلى إهلاكها ، وأن طلب الشهادة في الجهاد لا يتناوله النهي عن الإلقاء إلى التهلكة . وفيه فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر وما كان عليه من صحة الإيمان وكثرة التوقي والتورع وقوة اليقين ." أ.ه (فتح الباري).
ثانياً: الوفاء بالعهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد بايع وعاهد الصحابةُ الكرام رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – على نصرة الإسلام في اليسر والعسر والمنشط والمكره؛ فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ:" بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ؛ وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ؛ وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ."(البخاري)؛ وعن عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً ، فَقَالَ : " أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ؟ " ، وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ ، فَقُلْنَا : قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ : " أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ؟ " ، فَقُلْنَا : قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ : " أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ؟ " ، قَالَ : فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا ، وَقُلْنَا : قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ : " عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَتُطِيعُوا ، وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً ، وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ ، يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ ."(مسلم) .
قال النووي: " فيه : التمسك بالعموم ، لأنهم نهوا عن السؤال فحملوه على عمومه ، وفيه : الحث على التنزيه عن جميع ما يسمى سؤالا وإن كان حقيراً ." (شرح النووي) .
قلت: من شدة التزامهم بالعهد الذي بينهم وبين رسول الله يسقط سوط أحدهم من يده على الأرض؛ فما يسأل أحداً يناوله إياه حتى لا ينقض عهد رسول الله!! ونحن عاهدناه على الإسلام وإقامة الشعائر ونصرة دينه والدفاع عنه فهل أوفينا بعهدنا ووعدنا؟!
ثالثاً: الوفاء لدين الله - عز وجل-: إن من أجل صور الوفاء للدين الثبات على تعاليمه والتمسك بأوامره ونواهيه مهما حصل؛ والبذل في سبيله، والأمثلة على هذا كثيرة: فهذا إبراهيم عليه السلام توقد له النار العظيمة ويلقى فيها فلا يزحزحه ذلك عن دينه!! وهذا موسى عليه السلام يقف له فرعون ببطشه وظلمه فلا يرده ذلك عن الوفاء لدينه!! وهذا خير الورى صلوات ربي وسلامه عليه يوم أن ظن أن عمه أبو طالب قد اضطرب في أمره وضعف عن نصرته قال تلك الكلمات التي ملؤها الوفاء لهذا الدين: يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته!! وهذا بلال رضي الله عنه يوضع على رمال مكة الحارة في عز الصيف وتوضع الصخرة العظيمة على صدره ويعذب على أن يتزحزح عن هذا الدين فيرفض ويظل وفياً لهذا الدين!! وهذا خباب بن الأرت يوقد له الفحم المستعر ثم يلقوه عليه ويضع رجل منهم قدمه على صدره لتثبيته فما يطفئ ذلك الجمر إلا ما خرج من دهن جلده فلا يتزحزح ويظل وفياً لهذا الدين!! وغير ذلك من الأمثلة التي لا يتسع المقام لذكرها!!
قارن بين ذلك وبين حالنا في وفائنا لديننا!! فعجباً لقوم من بني الإسلام جعلوا الوفاء لهذا الدين أمراً مزاجياً ؛ فهم إن كان أحدهم في راحة وطمأنينة وسعة رزق قام وصلى وحرص على الوفاء لهذا الدين؛ أما إن كان والعياذ بالله مريضاً أو به بلاء أو محنة ترك الوفاء للدين فتجده نسي الوفاء للدين فيترك الصلاة ويرتكب المنكرات !!
وأمثال هذا الصنف من الناس وصفهم الله بقوله:{ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(الحج: 11).
رابعاً: الوفاء للوالدين: فالوالدان قد تحملا المشقة في الإنجاب والرعاية والتربية والتعليم؛ وإن من باب الوفاء رد لهما الجميل الذي قدماه لنا صغاراً ؛ فهما في حاجةٍ إليه كباراً ؛ فهذا حبيبكم صلى الله عليه وسلم يحن شوقاً ووفاءً إلى أمه وعيناه تزرفان!! فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ. فَقَالَ:" اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي؛ وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي؛ فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ."(مسلم)؛ ولم يقتصر وفاؤه – صلى الله عليه وسلم – على أمه الحقيقية فقط بل عمَّ أمَّه من الرضاعة؛ ففي يوم من الأيام كان النبي عليه الصلاة السلام في الجعرانة يقسم الغنائم التي وضعت أمامه، وبينما هو منشغل بتقسيم الغنائم إذا به يلمح أمه من الرضاعة؛ فيخلع رداءه ويضعه أرضاً ويجلسها عليه، ويقول إنها أمي التي أرضعتني!!!
فالوفاء يعظُم مع الوالدَيْن؛ فقد تعِبا لراحتك، وسهِرَا لنومك، وكدَحَ الوالدُ لعيشك، وحمَلَتك أمك كرهًا ووضعَتْك كرهًا، وأول واجبٍ فرَضَه الله من حقوق الخلق البرُّ بالوالدين والوفاء لهما، قال -تعالى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، ومن الوفاء لهما: الدعاء لهما: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]، وطاعتهما في غير معصيةٍ، وفعل الجميل معهما، وإدخال السرور على نفوسهما .
خامساً: الوفاء بين الأزواج: ففي الحديث :" أَحَقُّ مَا أَوْفَيْتُمْ مِنْ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ" (متفق عليه) .
فالوفاء بين الزوجين، يجعل الأسر مستقرة، والبيوت مطمئنة، فيكون رابط الوفاء بينهما في حال الشدة والرخاء، والعسر واليسر.
وما أجمل وفاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – لزوجه خديجة؛ فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غِرْتُ على أحدٍ من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غِرْتُ على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِر ذِكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً ثم يبعثها في صدائقِ خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة، فيقول: " إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولدٌ." (البخاري) . وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ, فَارْتَاعَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَالَةَ». قَالَتْ: فَغِرْتُ فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ، أَبْدَلَكَ الله خَيْرًا مِنْهَا ."(متفق عليه) .
وعن عائشة ، قالت : جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي ، فقال : لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أنت ؟ » قالت : أنا جثامة المزنية ، فقال : « بل أنت حسانة المزنية ، كيف أنتم ؟ كيف حالكم ؟ كيف كنتم بعدنا ؟ » قالت : بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فلما خرجت قلت : يا رسول الله ، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال ؟ فقال : « إنها كانت تأتينا زمن خديجة ، وإن حسن العهد من الإيمان » .(الحاكم وصححه ووافقه الذهبي) قال ابن حجر -رحمه الله-: "كانت حريصةً على رضاه بكل ممكن، ولم يصدُر منها ما يُغضبُه قط". فقابَل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفاءَها بوفاءٍ أعظم منه، فكان في إحسانها يشكُرُها، وظلَّ بعد موتها يُكثِر ذكرها ويقول عنها: "إني رُزِقتُ حبَّها".( مسلم). قال النووي "في هذا كله دليلٌ لحُسن العهد وحفظ الوُدّ، ورعاية حُرمة الصاحب والعشير في حياته وبعد وفاته، وإكرام أهل ذلك الصاحب".
سادساً: الوفاء بالعهد مع غير المسلمين: فقد أوصانا الإسلام برعاية حقوق غير المسلمين المقيمين في ديار الإسلام، مع حفظ حقوقهم كاملة، وفي مقدمتها الأمان لهم، وحرم الإسلامُ الاعتداء على أعراضهم وممتلكاتهم، وأماكن عبادتهم. قال تعالى: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الممتحنة: 8]. وعن عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" مَن قتَل معاهَدًا، لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإن ريحَها توجد من مسيرة أربعين عامًا."(البخاري). قال ابن حجر:" قوله: ( مَن قتَل معاهَدًا ) المراد به مَن له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزيةٍ، أو هدنةٍ من سلطانٍ، أو أمانٍ من مسلمٍ " . (فتح الباري).
سابعاً: الوفاء في سداد الدين: وهو من أهم صور الوفاء المفتقدة في هذا الزمان؛ لهذا حثنا الشرع الحكيم على الوفاء بالدين؛ فعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَن أخذ أموال الناس يريد أداءَها، أدَّى الله عنه، ومَن أخَذ يريد إتلافَها، أتلَفه الله." (البخاري). ومعنى أدَّى الله عنه: يسَّر الله تعالى له ما يؤدِّي منه من فضله، وأرضَى صاحبَ الدَّين في الآخرة، إن لم يستطعِ المَدينُ الوفاءَ بدَينه في الدنيا. ومعنى أتلَفه الله: أذهب الله تعالى مالَه في الدنيا، وعاقَبه على الدَّين يوم القيامة.
وما أجمل قصة وفاء الرجل من بني إسرائيل الذي أوفى عهده ووعده في قضاء الدين؛ لما طلب الدائن منه كفيلاً ووكيلاً فوكل الله؛ فسدد الله عنه؛ بعد ما بعث الدين في خشبة مع البحر؛ والقصة بطولها في صحيح البخاري !!
ثامناً: الوفاءُ بالنَّذرِ: وهو من صفات الأبرار في قوله تعالى:{يُوفُونَ بالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوماً كانَ شَرُّهُ مُستَطِيرا}[الإنسان: 7].
وهذه لمسةٌ بيانيَّةٌ قرآنيَّة رائعة تدلُّ على مكانة الكلمةِ عند المسلم وأهميَّتها.. قال صلى الله عليه وسلم: " النَّذرُ نَذرانِ فَما كانَ مِن نَذرٍ في طاعَةِ اللهِ فذَلِكَ للهِ وفيهِ الوَفاء، وما كانَ مِن نَذرٍ في مَعصِيةِ الله فذَلِكَ للشَّيطان، ولا وَفاءَ فيهِ، ويُكَفِّرُه ما يُكفِّرُ اليَمين" [البخاري]. وقال أيضاً:" مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ؛ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ."(متفق عليه) .
تاسعاً: الوفاء مع الأولاد: وذلك إذا عاهدت ولدك إن تفوق في الدراسة وحفظ القرآن أن تعطيه كذا وكذا ؛ فعليك أن توفي بعهدك ووعدك حتى تنشئه عمليا على هذه القيم النبيلة؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِنَا وَأَنَا صَبِىٌّ - قَالَ – فَذَهَبْتُ أَخْرُجُ لأَلْعَبَ. فَقَالَتْ أُمِّي: يَا عَبْدَ اللَّهِ تَعَالَ أُعْطِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ ». قَالَتْ أُعْطِيهِ تَمْراً. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تَفْعَلِي كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذْبَةٌ » ( أحمد وأبو داود والبيهقي ).
عاشراً: الوفاء للوطن الذي نعيش فيه: وذلك بالحفاظ على معالمه وآثاره ومنشآته العامة والخاصة؛ والحفاظ على مياه نيله التي تربينا عليه وروينا منها أكبادنا !! وعدم الإفساد في أرضه؛ أو تخريبه وتدميره؛ وعدم قتل جنوده وحراسه الذين يسهرون ليلهم في حراستنا وحراسة أراضينا!! والذين تمتد إليهم يد الغدر والخيانة بين الحين والحين!! فعن الأصمعي قال: " إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوُّقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه." ( الآداب الشرعية لابن مفلح)؛ ولنا الأسوة في نبينا صلى الله عليه وسلم ووفائه لوطنه مكة ؛ فقال وهو يودعها وفاءً لها: " وَالله إِنَّك لَخَيْرُ أَرضِ اللهِ وَأحَبُّ أرْضِ اللهِ إِلًى اللهِ، وَلَوْلاَ أنِّي أخْرِجْتُ مِنْكِ مَاَ خَرَجْتُ"(الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح ) .
حادي عشر : الوفاء بإعطاء الأجير أجره : فكثير من الناس يبخس حق الأجير؛ ويماطله فيه؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجيرَ أجْره قبل أن يجفَّ عَرَقُه» (ابن ماجه).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ"(البخاري) .
ثاني عشر: وفاء العامل بعمله : وذلك بأن يعمل العامل، ويعطي العمل حقه باستيفائه خاليًا من الغش والتدليس، ففي دفن أحد الصحابة جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « سووا لحد هذا » حتى ظن الناس أنه سنة ، فالتفت إليهم ، فقال : « أما إن هذا لا ينفع الميت ولا يضره ، ولكن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن ». ( رواه البيهقي ).
أحبتي في الله: الوفاء يتَّخذُ أشكالاً وألواناً عديدةً وكثيرةً ، وكلُّها أخَّاذة فتَّانة، فهو أشبهُ بأنواع الزُّهور، فعبيرُ كلِّ واحدةٍ منها يختلفُ عن عَبير الأُخرَيات؛ ويكفي القلادة ما أحاط بالعنق!! فعلينا أن نكون أوفياء في كل صور الوفاء ومجالاته .
العنصر الثالث: الوفاء بالعهد في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول
عباد الله: تعالوا بنا إلى عنصرنا العملي التطبيقي لخلق الوفاء بالعهد في حياتنا المعاصرة بين الواقع الذي نعيش فيه ؛ والمأمول الذي نرجوه؛ وإنك لو نظرت إلى واقع الأمة اليوم، ستجد كم من الناس مَن يتكلَّم، وكم من الناس مَن يَعِد، وكم من عهودٍ مسموعة ومرئيَّة ومنقولة! ولكن أين صدق الوعود؟! وأين الوفاء بالعهود؟! فقد كثرت في زماننا هذا الوعود، وأكثر منها عدم الوفاء بها، فإذا أراد أحدُنا التهرُّب مِن أخيه، وعده بشيءٍ وهو يعلم أنه لن ينفِّذ ما وعد به، وينسى قول الله - تبارك وتعالى -: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34].
أحبتي في الله: أسوق لكم قصة عن الوفاء حدثت مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد استأجر عمر رضي الله عنه فرساً من يهودي ليذهب به إلى بلاد الشام؛ فخرج عمر ومعه غلامه وصرة فيها طعامه وشرابه وزاده؛ وأثناء عودته وقعت منهما الصرة؛ فأخبرهما رجل بأن الصرة وقعت في مكان كذا ؛ فنزل عمر وقال لغلامه: أمسك بلجام الفرس وقف هنا حتى أرجع ماشياً لأحضر الصرة؛ فلما رجع عمر ماشياً عجب الناس وقالوا لم لم ترجع بالفرس؟! فقال عمر: لأنني لم أتفق مع صاحب الفرس في العقد أنه إذا وقعت مني صرة أرجع لها بالفرس!!! قلت : أي عقدٍ هذا؟!! هل سُجِّلَ في الشهر العقاري؟!! هل أخذ صحة توقيع في المحكمة ؟!! هل شهد عليه جمع من الناس؟!! كلا إنها الكلمة كالسيف!!
إذا قلتَ في شيءٍ نَعمْ فأتمَّه ........ فإنَّ نعم دينٌ على الحرِّ واجبُ
وإلَّا فقلْ لا تسترحْ وتُرِحْ بها........ لئلا يقولَ النَّاسُ إنَّك كاذبُ
قارن بين ذلك وبين ما يحدث في الواقع المعاصر؛ كم من المسلمين في دنيا اليوم من يحدِّث وهو كاذب! وكم من المسلمين من يَعِد وهو خائن! وكم أعطى من الوعود والعهود وبعدها غدر بأصحابها! فأين الوفاء بالعهد؟!
قال الحريري: " تعامل القرن الأول فيما بينهم بالدين زمانًا طويلًا حتى رقَّ الدين، ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء، ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة."( آداب الصحبة للسلمي).
قلت: هذا حتى القرن الرابع؛ فكيف لو رأى قرننا وزماننا هذا ؟؟؟؟؟!!!!! ورحم الله إمامنا الشافعي حين قال:
نعيب زماننا والعيب فينا...........وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمانَ بغير ذنبٍ........ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ........ويأكلُ بعضنا بعضاً عيانا
ولقلّة وجود خلق الوفاء بالعهد في النّاس قال تعالى: {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ}(الأعراف: 103) ؛ وقد ضُرب به المثل في العزّة والندرة فقالت العرب: «هو أعزّ من الوفاء» .
أحبتي في الله: لقد كان أسيادنا الصحابة - رضي الله عنهم - المثَلَ الأعلى في الالتزام بالأخلاق العالية، والوفاء في بَيْعِهم وشرائهم، بل فَتَحوا بلادًا بأكملها بحُسْن خُلُقهم؛ فمِن المعلوم لِمَن - قرؤُوا التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية العطرة - أنَّ أخلاق الصحابة كانت تَجذِب الناس للدُّخول في الإسلام، كما جرى وحدث بالفعل في بلاد السند وبعض دول جنوب أفريقيا وغيرها، حيث فتحت هذه البلاد دُونَما أن يُرَاق دَمٌ، بل فتحت بأخلاق الصحابة؛ من وفاء وأمانة وصدق!! إذ كان الناس يرونهم، فيعجبون بأخلاقهم، فيسألون عنهم: مَن هؤلاء؟ فيقال لهم: هؤلاء أصحاب محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ فيَسألون: ومَن محمد هذا؟ فيقال لهم: هذا نبي جاء بدعوة الإسلام، فيُقبلون على دين الله أفواجًا.
فأين المسلمون اليوم من سادتنا الصحابة - رضي الله عنهم؟ ما أحوجنا إلى تاجر وَفِيٍّ، وصانع وفِيّ، ومعلم وفِيّ، ومسؤول وفِيّ؛ كي ترجع لنا مكانتُنا بين الأمم، وكي يعود لنا عزُّنا وشرفُنا.
أيها المسلمون: هذه رسالة أوجهها إلى كل من غدر بصاحبه أو قريبه أو جاره أو ... أو... أنه سيفضح على رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ فعن عبدالله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الغادرَ يُنصَب له لواءٌ يوم القيامة، فيقال: هذه غَدْرَةُ فلانِ بن فلانٍ." ( متفق عليه )؛ قال النووي: " معناه لكل غادر علامة يشهر بها في الناس؛ لأنَّ موضوع اللواء الشهرة مكان الرئيس علامة له، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر؛ لتشهيره بذلك." وقال القرطبي:" هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل ، لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء ، وللغدر راية سوداء ، ليلوموا الغادر ويذموه ، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته في القيامة فيذمه أهل الموقف."أ.ه
فيا أهلَ الإسلامِ .. دينُّكم دينُ الوفاءِ .. ونبيُّكم أوفى الأتقياءِ .. فتمسكوا بدينِكم واقتدوا بنبيِّكم .. وكونوا مضربَ مثلٍ لسائرِ الأممِ والأديانِ في الوفاءِ .. فإن كثيراً منهم قد فَقَدَ الوفاءَ في الأحبابِ .. ولم يجده إلا عندَ الكلابِ.
أحبتي في الله: إن الوفاء خُلق الكرام، به يسعد الفرد في الدنيا والآخرة؛ وبه يعيش المجتمع في أمن وأمان؛ فالحقوق محفوظة؛ والأعراض مصونة؛ والحب والتراحم يسود بين أفراد المجتمع؛ وبه ينال المسلم رضا ربه ويهنأ بدخول جنته ..
نسأل الله أن يجعلنا من الأوفياء الأتقياء ؛ وأن يحفظ مصرنا وبلادنا من كل مكروه وسوء ؛؛؛
الدعاء،،،،، وأقم الصلاة،،،،،