الوفاء بالعهود ومجالاته للشيخ السيد مراد سلامه






عناصر الخطبة:
العنصر الأولمعنى الوفاء بالعهد وفضله.
العنصر الثانيمجالات الوفاء بالعهود.
المجال الأولالوفاء بعهد الله.
المجال الثانيالوفاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المجال الثالثالوفاء مع الناس.
العنصر الثالثثمرات الوفاء.

الخطبة الأولى
الحمد لله الذي نور بجميل هدايته قلوب أهل السعادة، وطهر بكريم ولايته أفئدة الصادقين فأسكن فيها وداده، ودعاها إلى ما سبق لها من عنايته فأقبلت منقادة، الحميد المجيد الموصوف بالحياة والعلم والقدرة والإرادة، نحمده على ما أولى من فضل وأفاده، ونشكره معترفين بان الشكر منه نعمة مستفاده.

وأشهد إن لا اله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير شهادة أعدها من أكبر نعمه وعطائه، وأعدها وسيلة إلي يوم لقاءه:
 تعطف بفضل منك يا مالك الورى 
فأنت ملاذي سيدي ومعيني 
لئن أبعدتني عن حماك خطيئتي 
فأنت رجائي شافعي ويقيني 
ولست أرى لي حجة أبتغي بها 
رضاك إن العفو منك يقيني 
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، الذي أقام به منابر الإيمان ورفع عماده، وأزال به سنان البهتان ودفع عناده:
وشفع فيّ خير الخلائق طرا 
نبيا لم يزل أبدا حبيبا 
هو الهادي المشفع في البرايا 
وكان له رحيما مستجيبا 
عليه من المهيمن كل وقت 
صلاة تملأ الأكوان طيبا 

وعلى اله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلي يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
ثم أما بعد:
 وَفاءُ العَهدِ من شِيَمِ الكرامِ 
ونقضُ العَهدِ من شِيَمِ اللِّئَامِ 
وعندي لا يُعَدُّ من السَّجايا 
سِوَى حِفظِ المَوَدَّةِ والذِّمامِ 
وما حُسنُ البِداءَةِ شرطُ حُبٍّ 
ولكن شرطُهُ حسنُ الخِتامِ 
وليسَ العهدُ ما ترعاهُ يوماً 
ولكن ما رعَيتَ على الدَّوامِ 
نَقَضتمْ يا كرامَ الحيِّ عهداً 
حَسِبناهُ يدومُ لألفِ عامِ 
وكنَّا أمسِ نطمعُ في جِوارٍ 
فصرنا اليومَ نقنعُ بالسَّلامِ 
جَرَى عهدُ الثّقاتِ على فَعالٍ 
وعهدُ الغادرينَ على كلامِ 
أَنا الخِلُّ الوفيُّ وإنَّ نفسي 
تَفي حقَّ الصَّديقِ على التَّمامِ 
أُراعي حقَّهُ ما دامَ حيّاً 
وبعدَ وفاتِهِ حقَّ العِظامِ 
العنصر الأول: معنى الوفاء بالعهد وفضله:
اعلم علمني الله وإياك: أن العهد عبارة عن تعاقد بين طرفين أساسه وعد كل منهما أن يفي تجاه صاحبه بأمر من الأمور، ويقول ابن الجوزي رحمه الله: العهد الذي يجب الوفاء به هو الذي يحسن فعله فإذا عاهد العبد عليه وجب الوفاء به والوعد من العهد.

وقال أيضا: العهد وهو عام فيما بينك وبين الله وفيما بينك وبين الناس[1]
وقال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد[2]
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]، قال ابن عباس ومجاهد و وغير واحد يعنى العهود، وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك..

وقال على ابن طلحة عن عباس في قوله ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1] يعنى العهود، ما احل الله وما حرم، وما فرض وما حد في القران كله ولا تغدروا ولا تنكسوا ثم شدد في ذلك، فقال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ﴾ [الرعد: 25] إلى قوله ﴿ سُوءُ الدَّارِ [الرعد: 25].

وقال الضحاك ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1] قال: ما احل الله وحرم وما اخذ الله من الميثاق على من اقر بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما اخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام.

وقال زيد بن اسلم " ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1] قال هي سنة الله عهد الله وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع، وعقد النكاح وعقد اليمين "[3].

اعلم علمني الله وإياك: إن الوفاء خلق من أخلاق الأنبياء والأولياء والصالحين وهو كمال وافر وسلوك نبيل وهمه عالية وشجاعة نادرة، فالوفي عبد صادق مع ربه صادق مع نفسه صادق مع إخوانه لا يعرف الغدر والخيانة ولا نقض العهود.

والوفاء بالعهد صفة من صفات أولى الألباب الذين اختصهم الله بواسع رحمته واعد لهم جنته حيث يقول سبحانه ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد: 20].

فهؤلاء الأوفياء ومن سار على نهجهم اعد الله لهم جنات عدن يقول سبحانه ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 22 - 24].

ولقد أمر المولى سبحانه عباده بالوفاء ونهاهم عن الغدر ونقض العهود فقال سبحانه ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء: 34].
وقال سبحانه ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [النحل: 91].
وقال ﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام: 152].
وقال سبحانه ﴿ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 95]، ومن هنا وجب على كل مسلم ومسلمة الوفاء بالعهود التي أخذها الله علينا وأخذناها على أنفسنا.

العنصر الثالث: مجالات الوفاء العهود:
المجال الأول: الوفاء بعهد الله:
اعلم علمني الله وإياك... أن الله اخذ علينا العهود والمواثيق وامرنا بالوفاء بها ونهانا عن نقضها: و أول هذه العهود الإيمان به وإفراده بالعبودية ولا نشرك به أحد، فقد اخذ الله عليك العهد والميثاق في عالم الذر وقد أقررت بذلك يقول سبحانه ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف: 172].

يقول الشنقيطي - رحمه الله -:
فمعنى قوله: ﴿ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾ [الأعراف: 172] أن إشهادهم على أنفسهم إنما هو بما نصب لهم من الأدلة القاطعة بأنه ربهم المستحق منهم لأن يعبدوه، وحده، وعليه فمعنى قالوا بلى، أي قالوا ذلك: بلسان حالهم لظهور الأدلة عليه ونظيره من إطلاق الشهادة على شهادة لسان الحال قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ﴾ [التوبة: 17] أي بلسان حالهم على القول بذلك، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ﴾ [العاديات: 6، 7] أي بلسان حاله أيضاً على القول بأن ذلك هو المراد في الآية أيضاً.

وأما السنة: فإنه قد دلت أحاديث كثيرة على أن الله أخرج ذرية آدم في صورة الذر فأخذ عليهم الميثاق كما ذكر هنا، وبعضها صحيح قال القرطبي في تفسير هذه الآية: قال أبو عمر - يعني ابن عبد البر - لكن معنى هذا الحديث قد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم.،محل الحاجة منه بلفظه، وهذا الخلاف الذي ذكرنا هل يكتفي في الإلزام بالتوحيد بنصب الأدلة، أو لا بد من بعث الرسل لينذروا؟ هو مبنى الخلاف المشهور عند أهل الأصول في أهل الفترة. هل يدخلون النار بكفرهم؟ وحكى القرافي عليه الإجماع وجزم به النووي في (شرح مسلم)، أو يعذرون بالفترة وهو ظاهر الآيات التي ذكرناها، وإلى هذا الخلاف أشار في (مراقي السعود) بقوله:
ذو فترة بالفرع لا يراع ♦♦♦ وفي الأصول بينهم نزاع[4]

ولما كان من طبيعة الإنسان النسيان فقد بعث الله رسله مبشرين ومنذرين، وبهذا العهد مذكرين، فمن أطاعهم فقد وفي، ومن عصاهم فقد نقض عهد الله من بعد ميثاقه، والله تعالى ينكر على من لا يجيبه من بعد ميثاقه، والله تعالى ينكر على من لا يجيب رسوله ولا يفي بعهده فيقول ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الحديد: 8]، ويوم القيامة يوبخ الله تعالى الذين نقضوا الميثاق يوبخهم على رؤوس الأشهاد فيقول ﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [يس: 59 - 64].

وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى أهون أهل النار عذاباً لو كانت لك الدنيا كلها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أيسر من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً ولا أدخلك النار وأدخلك الجنة فأبيت إلا الشرك "[5]

فمن آمن بالله وعبده حق عبادته فعلم علم اليقين أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له،له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير فتوكل واستعان واستغاث ونذر وأحب وأبغض لله فقد أوفى بعهد الله تعالى، ومن أحب غيره أو اعتقده في غيره أنه ينفع ويضر فنذر وخاف واستعان به من الولي أو النبي فقد نقص عهد الله من بعد ميثاقه.

الواقع التطبيق لهذا المجال:
وهيا لنقف مع الأوفياء الذين أوفوا بما عاهدوا الله عليه:
أولاًإبراهيم - عليه السلام - فهو إمام الحنفاء وإمام الأوفياء يقول سبحانه وتعالى ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37].

يقول ابن كثير - رحمه الله - قال سعيد بن جبير - " وفي " أي بلغ جميع ما أمر به، وقال ابن عباس " وفي " لله بالبلاغ، وقال سعيد بن جبير " في " ما أمر به، وقال قتادة " وفي " طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه وهذا القول هو اختيار ابن جرير وهو يشمل الذي قلبه ويشهد له قوله تعالى ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة: 124].

فقام بجميع الأوامر وترك جميع النواهي وبلغ الرسالة على التمام والكمال فاستحق بهذا أن يكون للناس إماماً يقتدي به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله قال الله تعالى ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123][6]

ثانياً: وفاء أنس بن النضر - رضي الله عنه -:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ الجنة، ورب الكعبة إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما أصنع، قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف وطعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23][7]

وفاء أعرابيوهذا أعرابي آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبايعه على الجهاد في سبيل الله فعن شداد بن الهاد - رضي الله عنه - أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فلما كانت غزوة غنم النبي - صلى الله عليه وسلم - سبياً فقسم، وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذه فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما هذا؟ قال: " قسمته لك "، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكنني اتبعتك على أن أرمي ها هنا - وأشار إلى حلفه - بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال " إن تصدق الله يصدقك " فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه " ثم كفنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته " اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً فقتل شهيداً أنا شهيد على ذلك "[8]

المجال الثاني: الوفاء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
اعلم علمني الله وإياك: أن العبد إذا نطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وجب عليه أن يفي بمضمون تلك الشهادة لأن الشهادة إقرار وتعهد من العبد أن لا إله سوى الله تعالى الذي أخذه علينا في عالم الذر، والآن نقف مع الوفاء بعهد رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

فاعلم زادك الله علماً: أن الوفاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يكون بطاعته وإتباعه والتمسك بسنته والعض عليها بالنواجذ فإن طاعته من طاعة الله يقول سبحانه وتعالى ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80] بل إنه سبحانه جعل طاعته من موجبات الهداية فقال سبحانه ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: 54].

واعلم أنك لن تحقق الوفاء بعهد الله إلا إذا حققت الوفاء مع نبيه - صلى الله عليه وسلم - لذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل ومن يأبى يا رسول الله؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى "[9]

الواقع التطبيقي لهذا المجال:
الربيع - رضي الله عنه - وقد قضى نحبه في سبيل إعلاء كلمة الله فعن زيد بن ثابت قال بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد لطلب سعد بن الربيع وقال: إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له: كيف تجدك؟ قال فأتيته وهو في آخر رمق به سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف، ورميه بسهم، فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات؟ قال إني في الأموات فأبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عني السلام وقل إن سعد بن الربيع يقول جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وقل: إني أجد ريح الجنة وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله تعالى إن خلص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكروه وفيكم عين تطرف ثم لم يبرح أن مات ))[10]

المجال الثالث: الوفاء مع الناس:
اعلم زادك الله علماً أن الوفاء بعهد الله ورسوله يقتضي الوفاء مع عباد الله ولقد أمرنا سبحانه بذلك في كتابه فقال سبحانه ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ [النحل: 91، 92]

فالله سبحانه أمرنا بالوفاء سواء كانت هذه العهود بين المسلم وربه أو كانت بينه وبين رسوله - صلى الله عليه وسلم - كالتي كانت بين النبي والأنصار، أو كانت بينه وبين أخيه المسلم، أو كانت بينه وبين الكافرين فالآية عامة تشمل جميع تلك العهود والمواثيق.
وعهد الله: هو العهد الذي يوثق باسمه ويقام تحت سلطانه ونقض العهد ونكثه وعدم الوفاء به، والذي يعاهد قد جعل الله هو الضامن لما كفل من عهد...
والوفاء بالعهود هو الضمان لبقاء عنصر الثقة في التعامل بين الناس وبدون هذه الثقة لا تستقر الحياة ولا يعم الرخاء ولا يسود الأمن والسلام.
وإنه لجرم عظيم أن يعطي الإنسان عهداً باسم الله ويتخذ من هذا الاسم الكريم مدخلاً إلى ثقة الناس به واطمئنانهم إليه، ثم يكون منه غدر وخيانة.
وتأمل أخي المسلم إلى ذلك المثل الذي ضربه الله للعهود ولمن نقضها، حيث أنه سبحانه شبه الذي ينقض العهود بامرأة خراق إلا عقل لها ولا رأى لها فهي تغزل حتى إذا أتمت غزلها نقضته مرة أخرى فهل يرضى المسلم العاقل أن يكون مثل تلك المرأة الحمقاء؟!

ثم أوضح سبحانه أنه يختبرنا بتلك العهود فقال ﴿ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ﴾ [النحل: 92] قال ابن جرير أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ﴿ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [النحل: 92] فيجازى كل عامل بعمله من خير وشر.

واسمع إلى تلك الوصية الربانية التي يوصيك الله فيها بالوفاء بالعهد وينهاك أن تنقض العهد من أجل عرض من الدنيا قليل فيقول سبحانه ﴿ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 95، 96]

يقول ابن كثير - رحمه الله - أي لا تعتاضوا عن الإيمان بالله عرض الحياة الدنيا وزينتها فإنها قليلة ولو حيزت لابن آدم بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له، أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به وطلبه وحفظ عهده رجاء موعودة، ولهذا قال " إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد" أي يفرغ وينقضي فإنه إلى أجل معدود ومحصور مقدر متناه " وما عند الله باق " أي وثوابه لكم في الجنة باق " انقطاع ولا نفاد له فإنه دائم لا يحول ولا يزول ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96] قسم من الرب تعالى مؤكد باللام أنه يجازى أحسن أعمالهم أي ويتجاوز عن سيئها "[11]

فيا أولي الألباب هذا جزاء من أوفى بالعهد وطلب موعود الله له فهل يليق بمسلم بعد ذلك أن ينقض العهد؟ واسمع إلى وصف المؤمنين الذين يرثون الفردوس وهم فيها خالدون لقد ذكر الله من خلالهم وصفاتهم أنهم يوفون بعهود هم ويحافظون عليها فقال جل جلاله ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 8 - 11].

الوفاء للزوجة:
واعلم علمني الله وإياك: أن العهود التي ينبغي لك الوفاء بها مع عباد الله كثيرة منها: الوفاء بعقد الزواج والوفاء بشروطه والوفاء للزوجة وكذا الزوج فإنه من أسمى العقود والعهود وقد سماه سبحانه وتعالى ميثاقاً غليظاً وحث على الوفاء به فقال سبحانه ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء: 20، 21] فليكن الزوج وفيّا لزوجته يحسن صحبتها ويعرف حقها فهي وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لجميع الأزواج فقال استوصوا بالنساء خيراً " فكم خدمتك زوجتك وكم سهرت من أجلك، وكم شقيت معك، وكافحت لتبني حياتك ومستقبلك، فاعرف لها فضلها واحفظ لها جميلها، وكن وفيا لها، لا تغدر بها ولا تخنها ولا تضيعها.

الواقع التطبيق لهذا المجال:
وفاء النبي - صلى الله عليه وسلم لزوجته - خديجة - رضي الله عنها:
واقتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلقد كان المثل الأعلى في الوفاء لأزواجه تزوج خديجة - رضي الله عنها - فأقام معها خمساً وعشرين سنة لم يتزوج عليها حتى ماتت، وكان بعد موتها يذكرها بالجميل ويثنى عليها ويبر أهلها وخلائلها وفاء لها، حتى غارت عائشة - رضي الله عنها " ما غرت على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - - ما غرت على خديجة - رضي الله عنها، وما رأيتها قط، ولكن كان يكثر ذكرها ربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد[12]

ودخلت عليه امرأة فهش لها، وأحسن السؤال عنها فلما خرجت قال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة وإن حسن العهد من الإيمان "[13]

وفاء الزوجة لزوجها:
ولتكن المرأة وفيه لزوجها، فإن فضله عليها عظيم، وحقه عليها كبير، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر ولو صلح أن يسجد بشر لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها والذي نفسي بيده لو أنه من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد ثم أقبلت تلحسه ما أدت حقه "[14]

فحسب المرأة أن تحاول أن تقترب من الكمال وإن لم تبلغه حسبها أن تجتهد في الوفاء لزوجها وإن لم تف بحقه ولتحفظ المرأة زوجها في نفسها وماله ولتجتهد في تجميل صورتها وتحسين هيئتها لذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها، قيل لها أدخلي الجنة من أي أبواب -الجنة إن شئت )[15]

الواقع التطبيقي لهذا المجال:
ومن أروع أمثلة الوفاء من الزوجة ما حفظه التاريخ لفاطمة بنت عبد الملك بن مروان - رحمها الله - حيث أن زوجها عمر بن عبد العزيز خليفة المسلمين رغبها بالتبر بحليها إلى بيت مال المسلمين فتبرعت به، ثم لم يلبث عمر أن مات، ولم يترك لها ولا لأولادها شيئاً، فجاء مسئول بيت المال، فقال لها: إن حليك ومجوهراتك كلها موجودة احتفظت بهالك لمثل هذا اليوم،ولم أودعها بيت المال وقد جئت استأذنك لآتيك بها فقالت: لقد تبرعت بها لبيت المال طاعة لأمير المؤمنين في حياته، وما كنت لأطيعه حياً واعصيه ميتاً "[16]

الوفاء بالدين والوفاء بموعده:
فالمسلم يجب عليه أن يتصف بصفة الوفاء مع إخوانه ويحذر من مخالفة الوعد ونقض العهد. لأن الله نهانا عن إخلاف الموعد وعدم الوفاء بما نقول بل جعل ذلك من أعظم الذنوب وأكبر الآثام فقال سبحانه ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3] فالذي يخلف الوعد فيه صفة من صفات المنافين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر "[17] وفي رواية " وإذا وعد أخلف ".

الواقع التطبيقي لهذا المجال:
عن أبى هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه ذكر أن رجلا من بنى إسرائيل سأل بعض بنى إسرائيل أن يسلفه ألف دينار قال ائتني بالشهود أشهدهم عليك قال: كفى بالله شهيدا قال: فأتني بكفيل قال: كفى بالله كفيلا قال: فدفعها إليه إلى أجل مسمى: فخرج في البحر وقضى حاجته ثم التمس مركبا يقدم عليه للأجل الذى أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها الدنانير وصحيفة منه إلى صاحبها ثم سد موضعها ثم أتى بها البحر فقال: اللهم إنك تعلم أنى تسلفت من فلان ألف دينار وسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا فرضى بك وسألني شهودا فقلت: كفى بالله شهيدا فرضى بك وقد جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذى له فلم أجد مركبا وإني أستودعكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركبا يخرج إلى بلده فخرج الرجل الذى كان سلفه رجاء أن يكون مركبا قد جاء بماله فإذا هو بالخشبة فأخذها لأهله حطبا فلما كسرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الرجل فأتاه بألف دينار فقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذى أتيت فيه فقال: هل كنت بعثت إلى بشيء قال: نعم قال: فإن الله عز وجل قد أدى عنك فانصرف بالألف دينار راشدا. أخرجه البخاري[18]

الوفاء بالعهود للأعداء:
ومن صور الوفاء التي حث عليها الله وأمر بها الوفاء مع العدو وعد الغدر والخيانة، يقول المولى سبحانه وتعالى ﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 4].

ويقول صاحب المنار " والآية تدل على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دام العهد معقوداً، وعلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته، وأن شرط وجوب الوفاء به علينا محافظة العدو المعاهد لنا عليه بحذافيرها من نص القول وفحواه و الحنه المعبر عنها في هذا العصر بروحه فإن نقض شيئاً ما من شروط العهد أو أدخل بغرض ما من أغراضه عدَّ ناقضاً له إذ قال ﴿ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا ﴾ [التوبة: 4] ولفظ شيء أعم الألفاظ وهو نكرة في سياق النفي فيصدق بأدنى إخلال بالعهد "[19]

وهيا لنرى جزاء من غدر وخان ونقض العهد:
عن عمرو بن الحمق - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا اطمأن الرجل إلى الرجل ثم قتله بعد ما اطمأن إليه نُصب له يوم القيامة لواء غدر "[20]

وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الغادر ينصب له يوم القيامة فيقال: ألا هذه غدرة فلان بن فلان "[21]

قال المناوي - رحمه الله - ينصب له يوم القيامة لواء غدر أي بعلم يعرف به في ذلك الموقف العظيم تشهيراً له بالغدر على رؤوس الأشهاد، فلما كان إنما يقع مكتوماً أو مستوراً اشتهر صاحبه بكشف ستره لتتم فضيحته وتشيع عقوبته، وذكر في رواية أخرى أن ذلك اللواء ينصب عند إسته مبالغة في غرابة شهرته وقبيح فعلته وعلى هذا فاللواء حقيقي "[22]

وبوب الإمام البخاري " باباً " إثم من قتل معاهداً بغير جرم وساق حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً "[23]

وعند أبي داود النسائي من حديث أبي بكر بلفظ " من قتل نفساً معاهده بغير حلها حرم الله عليه الجنة "، لأنه عاهده بذمة الله فيحرم عليه أن يخرف ذمة الله تعالى، فعن جويرية بن قدامة التميمي قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قلنا: أوصنا يا أمير المؤمنين، قال أوصيكم بذمة الله، فإنه ذمة نبيكم ورزق عيالكم "[24]

الواقع التطبيقي لهذا المجال:
ومن صور وفائه - صلى الله عليه وسلم - تلك الصورة المشرقة، لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية، وكان ممن حبس بمكة، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب فيه أزهر بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعث رجلاً من بني عمرو بن لؤي ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتاب الأزهر والأخنس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بصير أنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق إلى قومك، قال يا رسول الله: أتردني إلى المشركين يفتونني في ديني؟ قال: يا أبا بصير: أنطلق فإن الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً "[25]

وهكذا تجلى وفاء سيد الأوفياء مع أعداء الإسلام فأتم وأوفى ولم لا وهو أمرنا بالوفاء بالعهود وحثنا عليها وحذرنا من نقضها فهو - صلى الله عليه وسلم - الأسوة الحسنة ومن صور الوفاء مع العدو أيضاً أن معاوية - رضي الله عنه - كان بينه وبين الروم أمد، فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول:" الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم، عهدهم على سواء " فبلغ ذلك معاوية فإذا الشيخ عمرو بن عبسه "[26]

ومن عجائب ما يؤثر إبان فتح الأندلس أن امرءًا أسبانياً اعتدى على فتى من العرب وقتله، ثم فر هاربا حتى رأى بستاناً فلجأ إليه فدخله فوجد فيه شيخاً جليلاً فاستجار به ليجيره من شر أعدائه فخبأه الرجل في مكان منفرد، ثم ارتفع الصياح بفناء البستان ودخل نفر من الناس يحملون القتيل فنظره الشيخ فوجده ابنه، واعتقد أن ذلك الشاب الذي التجأ إليه هو الذي قتل ابنه، فأخذ منه الحزن مأخذه، ولكن الشيخ قد أخفى حزنه وانتظر حتى أقبل الليل وهدأت الأصوات ثم قام ودخل على الفتى وأنبأه بنبئه الحادث المؤلم فهلع فؤاد الفتى لهول المصاب، وكاد يموت من الخوف ولكن الرجل رأى من الوفاء أن يؤمن ويهدئ روعه حتى سرى عنه، ثم قال: ما كنت لأخفر ذمتي وأنقض عهدي معك، ولكن لا آمن عليك من قومي أن يقتلوك فخذ مؤونة سفرة وارحل عني والله ولي أمري".
وصدق الله العظيم وهو أصدق القائلين ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ[الرعد: 19، 20].
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد:
العنصر الرابع ثمرات الوفاء:
أحباب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن قلتم ما هي الآثار المترتبة على الالتزام بالعهد والميثاق؟
اعلموا زادكم الله علما: أن أثار الوفاء بالعهود متنوعة ومتعددة، فهناك الآثار التي تخص الفرد وأخرى تعم الجماعة، بعضها في الحياة الدنيا، وأخرى يوم القيامة، فمن هذه الآثار:
1 - الإيمان:
وردت آيات كثيرة تنفي الإيمان عن الناقضين لعهدهم، وتصفهم بالكفر... وفي المقابل وصف الله سبحانه وتعالى الموفين لعهدهم ومواثيقهم بالإيمان، قال تعالى: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الحديد: 8].

2 - التقوى:
التقوى أثر من آثار الوفاء بعهد الله، وثمرة من ثمرات الالتزام بميثاقه، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 63].

3 - محبة الله:
أثبت الله محبته للمتقين الموفين بعهدهم، المستقيمين على عهودهم ومواثيقهم حتى مع أعدائهم ما استقاموا هم على تلك العهود، قال تعالى: ﴿ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 7].

4 - حصول الأمن في الدنيا، وصيانة الدماء:
لم تقتصر آثار الوفاء بالعهد والميثاق على المسلمين وحدهم، وإنما شمل عدل الله، الكفار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام، ولهم عهود مع المسلمين، فجاءت الآيات صريحة بوجوب الوفاء لهم وصيانة دمائهم.

5 - حصول الأجر العظيم:
فقد وعد الله الموفين بعهدهم بجزاء عظيم، قال تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الأحزاب: 23، 24].
وقال: ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 10].

6 - دخول الجنات:
فقد ورد في أكثر من آية جزاء من وفَّى بعهده، والتزم بميثاقه، وهو الوعد بدخول الجنة، قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ [البقرة: 40] قال ابن جرير: وعهده إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة.

واختم هذه الخطبة بهذه القصة فكم وكم فيها من عظات و عبر في عهد عمر بن الخطاب جاء ثلاثة أشخاص ممسكين بشاب وقالوا يا أمير المؤمنين نريد منك أن تقتص لنا من هذا الرجل فقد قتل والدنا.

قال عمر بن الخطاب: لماذا قتلته؟
قال الرجل: إني راعى ابل وماعز.. واحد جمالي أكل شجره من أرض أبوهم فضربه أبوهم بحجر فمات فأمسكت نفس الحجر وضربت ابوهم به فمات.
قال عمر بن الخطاب: إذا سأقيم عليك الحد.
قال الرجل: أمهلني ثلاثة أيام فقد مات أبي وترك لي كنزاً أنا وأخي الصغير فإذا قتلتني ضاع الكنز وضاع أخي من بعدي.
فقال عمر بن الخطاب: ومن يضمنك.
فنظر الرجل في وجوه الناس فقال هذا الرجل.
فقال عمر بن الخطاب: يا أبا ذر هل تضمن هذا الرجل.
فقال أبو ذر: نعم يا أمير المؤمنين.
فقال عمر بن الخطاب: إنك لا تعرفه وأن هرب أقمت عليك الحد.
فقال أبو ذر أنا أضمنه يا أمير المؤمنين.
ورحل الرجل ومر اليوم الأول والثاني والثالث وكل الناس كانت قلقة على أبي ذر حتى لا يقام عليه الحد وقبل صلاة المغرب بقليل جاء الرجل وهو يلهث وقد أشتد عليه التعب والإرهاق و وقف بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
قال الرجل: لقد سلمت الكنز وأخي لأخواله وأنا تحت يدك لتقيم علي الحد.
فاستغرب عمر بن الخطاب وقال: ما الذي أرجعك كان ممكن أن تهرب؟؟
فقال الرجل: خشيت أن يقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس.
فسأل عمر بن الخطاب أبو ذر لماذا ضمنته؟؟؟
فقال أبو ذر: خشيت أن يقال لقد ذهب الخير من الناس.
فتأثر أولاد القتيل.
فقالوا لقد عفونا عنه.
فقال عمر بن الخطاب: لماذا؟
فقالوا نخشى أن يقال لقد ذهب العفو من الناس.



[1] زاد المسير ج 4 ص 484.
[2] زاد المسير ج 5 ص 34.
[3] تفسير ابن كثير ج 2 ص 3.
[4] أضواء البيان ج 2 ص 143 - 144.
[5] أخرجه البخاري ومسلم
[6] تفسير ابن كثير ج 4 ص 257 - 258.
[7] أخرجه البخاري ح 2651 ومسلم ح 1903.
[8] أخرجه النسائي (4/ 60) صححه الألباني في (س) 1953، وصحيح الترغيب والترهيب: 1336.
[9] أخرجه البخاري (6/ 2655، رقم 6851).
[10] دلائل النبوة للبيهقي (3/ 269، بترقيم الشاملة آليا).
[11] تفسير ابن كثير ج 2 ص 585.
[12] أخرجه البخاري ح 3607.
[13] أخرجه الطبراني في الكبير ح 23.
[14] أخرجه أحمد ح 12635 وقال الشيخ الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم: 7725 في صحيح الجامع.
[15] أخرجه أحمد ح 1661 وابن حبان ح 4163 والطبراني في الأوسط ح 4598 وصححه الألباني في المشكاة ح 3254.
[16] من جوامع الكلم في القرآن ص 242 - 243.
[17] أخرجه البخاري ح 34 ومسلم ح 58.
[18] أخرجه أحمد (2/ 348، رقم 8571)،والبخاري (2/ 801 رقم 2169).
[19] تفسير المنار ج 1 ص 148.
[20] أخرجه الحاكم ح 8040.
[21] أخرجه البخاري ح 5824 ومسلم ح 1735.
[22] فيض القدير ج 1 ص 289.
[23] أخرجه البخاري ح 3166 و6914.
[24] أخرجه البخاري ح 3162.
[25] سيرة ابن هشام (2/ 322).
[26] أخرجه أبو داود 2759و الترمذي ح 1580 وأحمد ح 17056 وصححه الألباني في الصحيحة ح 2357.


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات