وداعا شهر الصيام للشيخ أحمد أبو عيد









الحمد لله الذي يقلب الليل والنهار، ويُمضي الشهور والأعوام،﴿ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ [يونس5]، نحمده على ما منَّ به علينا من إدراك رمضان، والمعونة على الصيام والقيام، ونسأله أن يختم لنا شهرنا بالقبول والرضوان، والعتق من النار.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا يتعاظمه شيء أعطاه، فمنذ خلق الخلق وهو يغدق النعم عليهم، ويدفع النقم عنهم، وما نفدت خزائنه، سبحانه وبحمده، وتبارك اسمه وتعالى جده، ولا إله غيره.
وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، بعثه الله تعالى رسولا إلى الناس ليخرجهم من عبودية الخلق إلى عبودية الخالق، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فبلغ رسالة ربه، وأدى أمانته، ونصح لأمته، فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير ما جزى رسولا عن أمته، وصلى اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل البر والتقى، ودعاة الخير والهدى، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
العناصر
أولًا: وداع رمضان
ثانيًا: الواجب علينا في وداع رمضان
الموضوع
أولًا: وداع رمضان
بعد أيــام: ستنطفئ المصابيح، وتنقطع التراويح، ونرجع إلى العادة، ونفارق شهر العبادة، ويذهب أهل الاجتهاد بأجر اجتهادهم في رمضان.
بعد أيـــام سنفتقد هذا المنظر، يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تُدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق. .
"أســأل الله أن يختم لنا شهرنا هذا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل متقبل مبرور، وأن يجعلنا ووالدينا وأهلينا وأحبتنا من عتقائه من النار امين.
ها نَحن نُودِّع رمضانَ المبارك بنَهارِه الجميل ولياليه العطرة، ها نَحن نُودِّع شَهْرَ القرآن والتَّقْوى والصَّبْر والرحمة والمغفرة والعتق من النار... بعد أن كنا منذ أيام قليلة نقول: مرحبًا بك يا رمضان، مرحبًا بك يا شهر القرآن، وها نحن اليوم نقف لنودِّعَه، ونقول له: السلام عليك يا شهرنا الكريم، السلام عليك يا شهر رمضان، السلام عليك يا شهر الصيام، والقيام، وتلاوة القرآن... السلام عليك يا شهرَ التَّجاوز والغُفْران، السلام عليك يا شهر البركة والإحسان، السلام عليك يا شهرَ الأمان، كنت للعاصين حبسًا، وللمتقين أنسًا، السلام عليك يا شهر الصيام والتَّهَجُّد، السلام عليك يا شهر التراويح، السلام عليك يا شهر الأنوار والمصابيح، فيا ليت شعري، هل تعود أيامُك أو لا تعود؟ وهل إذا عادت أيامُك، فسنكون في الوجود، وننافس أهلَ الركوع والسجود، أو سنكون قد انطبقت علينا اللُّحود، ومَزَّقَنا البِلَى والدود؟
فيا أسفًا على رحيلك يا رمضان، فيا شهرَنا، غير مُودَّع ودَّعناك، وغير مقلي فارقناك، كان نَهارك صدقة وصيامًا، وليلك قِراءَةً وقيامًا، فعليك منا تَحيةً وسلامًا، أتراك تعود بعدها علينا، أم يدركنا المنون، فلا تؤول إلينا؟ مصابيحنا فيك مشهورة، ومساجدنا منك معمورة، فالآن تُطْفأ المصابيحُ، وتنقطع التراويح، ونرجع إلى العادة، ونفارق شهر العبادة.
والله، حقٌّ على كل واحد منا أن يبكيَ عليه، وكيف لا يَبكي المؤمنُ رمضانَ، وفيه تفتح أبوابُ الجنان؟ وكيف لا يبكي المذنب ذَهابه، وفيه تغلق أبواب النيران؟ كيف لا يبكي على وقتٍ تُسَلْسَل فيه الشياطين، فيا لوعةَ الخاشعين على فُقدانه، ويا حرقة المتقين على ذَهابه.
أيها المقبولون، هنيئًا لكم، وأيُّها المردودون، جبر الله مُصيبَتكم، ماذا فات مَن فاته خيرُ رمضان؟ وأي شيء أدرك مَن أدركه فيه الحرمان؟ كم بين مَن حظُّه فيه القبول والغفران، ومَن حظُّه فيه الخيبة والخسران؟ متى يصلح من لم يصلح في رمضان؟ ومتى يَتَّعِظ ويعد ويَستفيد ويتغير ويغير من حياته مَن لَم يفعل ذلك في رمضان؟ إنَّه بحقٍّ مَدرسة للتغيير، نغير فيه من أعمالنا وسُلُوكِنا وعاداتنا وأخلاقنا المخالفة لشرع الله - جل وعلا - فلا يغير الله من حالنا إلا إن غيرنا من حال أنفسنا كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
رِبْحٌ وفرحٌ، خسارة وبكاء: ها هو شهر الخير قد قوضت خيامه، وتصرمت أيامه، فحق لنا أن نحزن على فراقه، وأن نذرف الدموع عند وداعه.
وكيف لا نحزن على فراقه ونحن لا ندري هل ندرك غيره أم لا؟ كيف لا تجري دموعنا على رحيله؟ ونحن لا ندري هل رفع لنا فيه عمل صالح أم لا؟ وهل ازددنا فيه قرباً من ربنا أم لا؟ كيف لا نحزن عليه وهو شهر الرحمات، وتكفير السيئات، وإقالة العثرات؟!
يمضي رمضان بعد أن أحسن فيه أقوام وأساء آخرون، يمضي وهو شاهد لنا أو علينا، شاهد للمشمر بصيامه وقيامه وبره وإحسانه، وشاهد على المقصر بغفلته وإعراضه ونسيانه.
رمضان سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، فلله كم سجد فيه من ساجد؟ وكم ذكر فيه من ذاكر؟ وكم شكر فيه من شاكر؟ وكم خشع فيه من خاشع؟ وكم فرّط فيه من مفرِّط؟ وكم عصى فيه من عاص؟
ارتحل شهر الصوم، فما أسعد نفوس الفائزين، وما ألذ عيش المقبولين، وما أذل نفوس العصاة المذنبين، وما أقبح حال المسيئين المفرطين.
قال تعالى: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) سورة فاطر .
قال السعدي: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} بالمعاصي، [التي] هي دون الكفر. {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} مقتصر على ما يجب عليه، تارك للمحرم. {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} أي: سارع فيها واجتهد، فسبق غيره، وهو المؤدي للفرائض، المكثر من النوافل، التارك للمحرم والمكروه.
فكلهم اصطفاه اللّه تعالى، لوراثة هذا الكتاب، وإن تفاوتت مراتبهم، وتميزت أحوالهم، فلكل منهم قسط من وراثته، حتى الظالم لنفسه، فإن ما معه من أصل الإيمان، وعلوم الإيمان، وأعمال الإيمان، من وراثة الكتاب، لأن المراد بوراثة الكتاب، وراثة علمه وعمله، ودراسة ألفاظه، واستخراج معانيه ([1])
لا أبكي رحيلك يا شهر الصيام وأنا أعلم أنك راحل مذ أتيت ** وهل يستديم الضيف عند المُضيف؟
لا أبكيك وأعلم أنك آت في موعدك الدقيق ** لكن أبكي نفسي وأنا أخشى أنك تمُرّ حيناً
ولا أكون من بين من ينتظر هلالك في الطريق ** فقد غادرتَ حيث انتهت ضيافتي في الدنيا
واستقبلتني إخفاقات الطريق ** أبكي لأني خشيتُ أني أضعت أيامك
في نزوة، في غيبة، في ضعف احترام ** أبكي على ليال غلب كسلي عزمي للمثول في حضرتك
غيبتني الملائكة من حرسك فقلت درجات اجتهادي ** أنا طين لولا أن الله أرادني عبداً
أنا رتيبة حياتي لولا أنك الصديق ** من أجل هذا أودعك ببكاء الحزن المرير
ويغلب حزني كل أفراحي معك ** لكن سأجعل من دموعي دموع فرح
علني بأمل لقياك أسمو أو إليه أصير
يقول الإمام ابن رجب -رحمه الله تعالى-: عباد الله، شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب نفسه فيه لله وانتصف. ؟، من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف؟!
من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني له غرفاً من فوقها غرف. ؟!
إلا إن شهركم قد أخذ في النقص. فزيدوا أنتم في العمل. فكأنكم به وقد انصرف.
وكل شهر فعسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف.
تنصّف الشهر والهفاه وانهدما ***** واختص بالفوز بالجنات من خدما
وأصبح الغافل المسكين منكسرا ***** مثلي فيا ويحه يا عُظم ما حرما
من فاته الزرع في وقت البذار فما **** تراه يحصد إلا الهمّ والندما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته **** في شهره وبحبل الله معتصما
سُرعةَ مُرور الأيام، وانقضاء الأعوام: تذكر وأنت تودع شهرك سُرعةَ مُرور الأيام، وانقضاء الأعوام، فإنَّ في مُرورها وسُرعتها عبرة للمعتبرين، وعِظَة للمتعظين، قال تعالى:﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44]، فيا مَن ستودع رمضان، تَذَكَّر أنَّك ستودع الدُّنيا، فمَاذا قَدَّمْتَ لله؟ هل أنت مُستَعِد للقائه؟ إنَّ مَن عزم على سَفر، تَزَوَّد لسفره، وأعدَّ العدة، فهل أعْدَدْت زادًا لسفر الآخرة؟ فعجبًا لمن أعد للسفر القريب، ولم يعد للسفر البعيد.
عمر بن عبد العزيز -رحمه الله -في يومٍ من الأيام صَلَّى بالناس العيد إمامًا، وبعد الصلاة مرَّ على مَقبرة، فنزل عن بغلته -هذا موكبه -وعنده بعضُ أصحابه، فقال لمن عنده: انتظروا، فذهب إلى المقبرة، وأخذ ينظر إلى القبور، وهو يقول: أيها الموت، ماذا فعلت بالأحبة؟ أيُّها الموت -يكلمهم -ماذا صنعت بهم؟ فلم يُجِبه أحد، ثم خرَّ على ركبتيه وهو يبكي ويردد شعرًا، فيقول:
أَتَيْتُ الْقُبُورَ فَنَادَيْتُهَا ** فَأَيْنَ الْمُعَظَّمُ وَالْمُحْتَقَرْ
وَأَيْنَ الْمُذِلُّ بِسُلْطَانِهِ ** وَأَيْنَ الْمُزَكِّي إِذَا مَا افْتَخَرْ
تَسَاوَوْا جَمِيعًا فَمَا مُخْبِرٌ ** وَمَاتُوا جَمِيعًا وَمَاتَ الْخَبَرْ
تَرُوحُ وَتَغْدُو بَنَاتُ الثَّرَى ** فَتَمْحُو مَحَاسِنَ تِلْكَ الصُّوَرْ
فَيَا سَائِلاً عَنْ أُنَاسٍ مَضَوْا ** أَمَا لَكَ فِيمَا مَضَى مُعْتَبَرْ
فإذا به يبكي بكاءً مرًّا، حتى اجتمع الناس حوله، حتى هدأ - رحمه الله.
 قال تعالى:﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 185]، القضية أكبرُ من هذا، لو كان موتًا، لكان هَيِّنًا، يقول الشاعر:
فَلَوْ أَنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا ** لَكَانَ الْمَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيِّ
وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا ** وَنُسْأَلُ بَعْدَهَا عَنْ كُلِّ شيء
قال عمر بن عبد العزيز: "إنَّ الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما"
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ما ندمت على شيء ندمي على يومٍ غَرَبت شمسُه، نَقَصَ فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي".
ثانيًا: الواجب علينا في وداع رمضان
إتمام العمل وسؤال الله ان يتقبله: قال ابن رجب: كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده وهؤلاء الذين: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] ، وروي عن علي رضي الله عنه قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
وعن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
وقال ابن دينار: الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل، وقال عطاء السلمي: الحذر الاتقاء على العمل ألا يكون لله وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا.
تذكر دائماً أن العبرة بالخواتيم، فاجعل ختام شهرك الاستغفار والتوبة، فإن الاستغفار ختام الأعمال الصالحة، وقد قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في آخر عمره: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً} (النصر:1-3)، وأمر سبحانه الحجيج بعد قضاء مناسكهم وانتهاء أعمال حجهم بالاستغفار، فقال جل وعلا: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} (البقرة:199).
قال بعض السلف كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم.
خرج عمر بن عبد العزيز رحمه الله في يوم عيد فطر فقال في خطبته: أيها الناس إنكم صمتم لله ثلاثين يوما وقمتم ثلاثين ليلة وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر فيقال له: إنه يوم فرح وسرور فيقول: صدقتم ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملا فلا أدري أيقبله مني أم لا؟.
رأى وهب بن الورد قوما يضحكون في يوم عيد فقال: إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين وإن كان لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين وعن الحسن قال: إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون.
إلهي وقَفْتُ دمُوعِي تَسِيل ... وقَلْبِي بِبَابِك باكيٍ ذلِيل
فَذنْبِي كَبِيْرٌ وزادي قَلِيل ....... فَمُن ّ عَلَي َّ بِعَفْوٍ جَمِيل
أتيت ُ أجرُّ خَطَايا السِّنين ........... أتيت ُ إلى أرحَم الرحمين
وكُلِّي اعتقادٌ وكُلِّي يَقِيْن ............بأن لَديْك شِفَاء العَلِيل
سألتُك مَغْفِرة للذنُوب ................... وسِتْراً لما مَسّنا مِن عُيوب
فَأنْت إلَهي طَبِيب القُلوب................ونُور هُداك يُضِيئ السّبِيْل
لئن فنيت أيامك الغر بغتة *** فما الحزن من قلبي عليك بفان
قال ابن الجوزي: عباد الله إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومنْ فَرط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملاً صالحاً يشهد لكم به عند الملك العلاّم، وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وسلام.
سلام من الرحمن كل أوان *** على خير شهر قد مضى وزمانِ
سلام على شهر الصيام فإنه *** أمان من الرحمن كل أمان
محاسبة النفس: إن من أعظم الجرم وإن من أكبر الخسران أن يعود المرء بعد الغنيمة خاسراً وأن يبدد المكاسب التي يسرها الله عز وجل في هذا الشهر الكريم، وأن يرتد بعد الإقبال مدبراً وبعد المسارعة إلى الخيرات مهاجراً وبعد عمران المساجد بالتلاوات والطاعات معرضاً، فإن هذه الأمور لتدل على أن القلوب لم تحيا حياة كاملة بالإيمان ولم تستنر نورها التام بالقرآن وأن النفوس لم تذق حلاوة الطاعة ولا المناجاة وأن الإيمان ما يزال في النفوس ضعيفاً وأن التعلق بالله عز وجل لا يزال واهناً.
غدا توفى النفوس ما كسبت ... ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم ... وإن أساءوا فبئس ما صنعوا
فلا بد من وقفة محاسبة جادة، ننظر فيها ماذا قدمنا في شهرنا من عمل؟ وما هي الفوائد التي استفدناها منه؟ وما هي الأمور التي قصرنا فيها؟ فمن كان محسناً، فليحمد الله، وليزداد إحساناً، وليسأل الله الثبات والقبول والغفران، ومن كان مقصراً فليتب إلى مولاه قبل حلول الأجل.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَى الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا رَقَى الدَّرَجَةَ الْأُولَى قَالَ: "آمِينَ". ثُمَّ رَقَى الثَّانِيَةَ، فَقَالَ: "آمِينَ".. ثُمَّ رَقَى الثَّالِثَةَ: فَقَالَ: "آمِينَ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! سَمِعْنَاكَ تَقُولُ: "آمِينَ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: "لَمَّا رَقِيتُ الدَّرَجَةَ الْأُولَى جَاءَنِي جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: شَقِيَ عَبْدٌ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ. فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: شَقِيَ عَبْدٌ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ. فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قال: شقي عبد ذكرتَ عنه وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ. فَقُلْتُ: آمِينَ" ([2])
لزوم التقوى والاعتماد على الله: قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2-3]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 4-5].
والتقوى لم يحدد لها وقت لتلازمه، وإنما ينبغي ملازمتها دائما في كل وقت وحين، فتكون من أول رمضان إلى آخره، بل من أول العمر إلى آخر لحظة فيه.
المداومة على العمل الصالح: فيجب المداومة على الطاعة دائما وعدم التفريط فيها أو النقص منها وألا ييأس المسلم ويكسل عن الطاعة، وخاصة في آخر أيام رمضان ، فمن العجيب أن ترى بعض المسلمين في نشاط وهمة عالية في أول أيام الشهر ثم تتناقص أعداهم في المساجد يوما فيوما حتى تعود المساجد إلى عمارها المحافظين على الصلاة في رمضان وغيره، وخاصة الثلث الأخير منه ففيه ليلة القدر ويكثر الله فيه من عتق العباد من النار، فلابد من الاستمرار في الطاعة حيث قال تعال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] فشكر من أنعم على عباده بتوفيقهم للصيام وإعانتهم عليه ومغفرته لهم وعتقهم من النار أن يذكروه ويشكروه ويتقوه حق تقاته ، فلابد من إكمال الشهر بالعبادة وشكر الله تعالى على منَّ به على المسلمين من المغفرة والرحمة والعفو والعتق من النيران.
المداومة على الطاعات: فيا مَن صام لسانُه في بداية رمضان عن الغِيبة والنَّميمة والكَذِب، واصلْ مَسيرتَكَ، وجدَّ في الطلب، ويا من صامت عينُه في بداية رمضان عن النظر المحرم، غضَّ طرفَك ما بقيت، يورثِ الله قلبَك حلاوةَ الإيمان ما حييت، ويا من صامت أذنه في أول رمضان عن سماع ما يحرم من القول، وما يُستقذر من سماع غيبة، أو نميمة، أو غناء، أو لهو، اتَّقِ اللهَ ولا تعد، اتَّقِ الله، ولا تعُد، ويا من صام بطنه في رمضان عن الطعام، وعن أكْلِ الحرام، اتَّقِ الله في صيامك، ولا تذهب أجرك بذنبك، وإياك ثم إياك من أكلِ الربا، فإن آكله مُحارِب لله ولرسوله، فهل تطيق ذلك؟ ولقد ذَمَّ السلفُ هذا الصنف من الناس، وهذا النوع من الأجناس.
قيل لِبِشْر رضى الله عنه: إنَّ قومًا يَجتهدون ويتعبدون في رمضان، فقال: "بئس القوم الذين لا يعرفون اللهَ إلاَّ في رمضان، إن الصالح يجتهد ويتعبد السَّنَةَ كلها".
فعَنْ عَلْقَمَةَ، قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَخْتَصُّ مِنَ الأَيَّامِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: " لاَ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيقُ) ([3])
(ديمة) دائما لا ينقطع. (يطيق) يستطيع ويقدر عليه]
 الصلاة: كما حافظتَ على الصلاةِ بركوعها وسجودها، وخشوعها وخضوعها، وذرفتَ الدمعَ بين يدي ربك، فهلاّ بَقِيْتَ على هذه الحالة بقيةَ عمرك وفي سائر عملك فالصلاةُ عمودُ الإسلام، ولا حظَّ في الإسلام لمن ضَيَّع الصلاة.
فلا تكن كمن قيل فيه: صلى وصام لأمر كان يطلبه * * * فلما قضي الأمر لا صلى ولا صاما
سُجن الإمام البويطي صاحب الشافعي ووُضع الغُلّ في عنقه، والقيد في رجليه، وكان يقول: لأموتن في حديدي هذا، حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديده.
وكان البويطي وهو في الحبس يغتسل كل جمعة، ويتطيب، ويغسل ثيابه، ثم يخرج إلى باب السجن إذا سمع النداء، فيردّه السجان، فيقول البويطي: اللهم! إني أجبت داعيك فمنعوني.
وكتب البويطي إلى الذهلي: أسألك أن تعرض حالي على إخواننا أهل الحديث، لعل الله يُخلِّصني بدعائهم، فإني في الحديد، وقد عجزتُ عن أداء الفرائض، من الطهارة والصلاة. فضجّ الناس بالبكاء والدعاء له.
الصيام: يا مَنْ ربَّيْتَ نفسك على الصيام في رمضان، لا تَحْرمْ نفسَك من الصيام تطوعا وتقربا إلى الله طوال العام، فبابُ التطوّعِ مَفتوح، واعلم أن الصيام وقاية لك من النار، فعَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ الله، بَعَّدَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» ([4]) أيْ مسافة سبعين عاما.
ولتكنْ بدايتك من شوال، فقد رَغّبَ النبي صلى الله عليه وسلم في صيام سِتةِ أيام مِنْ شوال، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» ([5])
قيام الليل: قمتَ رمضان إيماناً واحتساباً، وها قد انقضى شهرُ القيام. فلا تَقْصُر عنه سائرَ العام. فخذ بالجدِّ فيه، عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس» ([6])، فلا تحوز الشرف في شهر وتترك بقية الشهور، فكن حريصا على قيام الليل طوال العام.
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، صَلَاةُ اللَّيْلِ» ([7])
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟» ([8]).
قراءة القرآن: ختمتَ القرآنَ مرةً، أو بعض مرةٍ، وعزفتَ عن الشواغل حتى لا تهجُره في شهره، أيحسنُ بك أنْ تُقَدِّمَ الشواغلَ عليه وهو كلامُ الملك! هلاّ عزمتَ على صَرْفِها مرات، لتَحْظَى بِخَتَمَات
قال عمرو بن العاص كل آية في القرآن درجة في الجنة ومصباح في بيوتكم وقال أيضا من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه، وقال أبو هريرة إن البيت الذي يتلى فيه القرآن اتسع بأهله وكثر خيره وحضرته الملائكة وخرجت منه الشياطين وإن البيت الذي لا يتلى فيه كتاب الله عز وجل ضاق بأهله وقل خيره وخرجت منه الملائكة وحضرته الشياطين.
طوبى لمن حفظ الكتابَ بصدره * * فبدا وضيئاً كالنجوم تألَّقا
الله أكبر! يا لها من نعمة * * لما يقال " اقرأ! " فرتل وارتقا
وتمثلَ القرآنَ في أخلاقه * * وفعاله فبه الفؤادُ تعلقا
فيا من عِشتَ مع القرآن في رمضان، عِشْ مَع القرآن طُولَ حياتِك، فهو النورُ والهدى، الذي قال عنه ربُّ العالمين سبحانه: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16].
مقاومة الشيطان والنفس الأمارة بالسوء: كان الصومُ لك جُنَّةً ووقاية، وحِصْناً حَصِيْناً من شياطين الإنس والجن، فهل تَأْمنْ على نفسك بقيةَ العامِ بلا حصنٍ ولا عُدة. فالصومُ باقٍ بقاءَ العام، فَطِبْ نفساً بِمَوَاسِمِ الصِّيَام، وقاوم الشيطان ما تبقى من رمضان وكذلك طوال العام، فلو أخلصت النية في ذلك حفظك الله منه.
وقد حافظتَ قدْرَ وسعك على قلبِك من غَوائلِ الهوى، صُنْتَ سَمْعكَ، وبَصَركَ، وفؤادَكَ عما لا ينبغي في شهرِ الصيامِ رجاءَ كماله، ولكنْ لتعلمَ أنَّ صيامَ الجوارحِ لا يَنْقَضي بغروبِ شمسِ آخرِ ليلةٍ من رمضان، فشرْعُ الله دائمٌ على مَرِّ العام ذلك، فاحفظ قلبك طوال العمر من الحسد والكبر والحقد والغل.
حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: هذا يطول أرأيت إن مررت بغنم فنبحك كلبها أو منعك من العبور ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي، قال: هذا يطول عليك، ولكن استعن بصاحب الغنم يكفه عنك ([9])
فاستعن بالله ليجيرك من شر نفسك ومن شر الشيطان فهو سبحانه خير معين.
فالمداومة على العمل الصالح سبب في دخول الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)سورة القارعة، وقال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)سورة آل عمران
غدا توفى النفوس ما كسبت ... ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم ... وإن أساؤا فبئس ما صنعوا
وقال الشاعر في وصف الجنة ونعيمها
هي جنة طابت وطاب نعيمها فنعيمها باق وليس بفان
دار السلام وجنة المأوى ومنزل ثلة الإيمان والقرآن
فيها الذي والله لا عين رأت كلا ولا سمعت به الآذنان
أنهارها تجري لهم من تحتهم محفوفة بالنخل والرمان
غرفاتها من لؤلؤ وزبرجد وقصورها من خالص العقيان
سكانها أهل القيام مع الصيام وطيب الكلمات والإيمان
أكرم بجنات النعيم وأهلها إخوان صدق أيما إخوان
جيران رب العالمين وحزبه أكرم بهم في صفوة الجيران
وإذا بنور ساطع قد أشرقت منه الجنان قصيها والداني
وإذا بربهم تعالى فوقهم قد جاء للتسليم بالإحسان
قال السلام عليكم فيرونه جهرا تعالى الرب ذو السلطان
والله ما في هذه الدنيا ألذ من اشتياق العبد للرحمن
هم يسمعون كلامه وسلامه والمقلتان إليه ناظرتان
فاعمل لجنات النعيم وطيبها أنعم بدار الخلد والرضوان
إن كنت مشتاقاً لها كلف بها شوق الغريب لرؤية الأوطان
كن محسناً فيما بقي فربما تجزى عن الإحسان بالإحسان
تذكروا الأيتام والمحتاجين: إنَّ العيدَ على الأبواب، وأنتم تشترون لأولادِكم وبناتكم ملابسَ العيد، وحلويات العيد، تَذَكَّروا ذلكم الطفلَ اليتيم، الذي ما وجد والدًا يشتري له ملابسَ العيد، ويبارك له بالعيد، ويُقبِّله، ويَمسح على رأسه، قُتل أبوه في جُرْح من جِرَاح هذه الأمة، وتذكروا تلكم الطِّفلة الصغيرة، حينما ترى بنات جيرانها يرتدين الجديد، وهي يتيمة الأب، إنَّها تخاطب فيكم مشاعِرَكم، وأحاسيسكم، إنَّها تقول لكم: أنا طفلة صغيرة، ومن حقي أنْ أفرحَ بهذا العيد، نعم، مِن حقي أن أرتدي ثوبًا حسنًا لائقًا بيوم العيد، من حقي أنْ أجِدَ الحنان والعطف، أريد قُبلةً من والدي، ومَسْحَةً حانية على رأسي، أريد حلوى، ولكن السؤال المرَّ الذي لم أجد له جوابًا حتى الآن هو: أين والدي؟ أين والدي؟ أين والدي؟!! فيا أخي، ويا أختي، قَدِّموا لأنفسِكم، واجعلوا فرحةَ هذا العيد المبارك تعُمُّ أرجاءَ بلادنا وبيوتنا.
زكاة الفطر: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ» ([10])
(فرض) أوجب أو قدر. (الفطر) من صوم رمضان. (صاعا) هو مكيال معين، واختلف العلماء في تقديره لاختلاف أوزان الحبوب والأطعمة التي تُقدر به من 2 كيلو جرام إلى 3 كيلو جرام. (على العبد) أي تلزم فطرته ويخرجها عنه مالكه. (الصلاة) صلاة العيد]
وعن ابن عباس قال: (فرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زكاةَ الفِطْرِ: طُهْرةً للصائم من اللَغْوِ والرَفَثِ، وطُعْمَةً للمساكينِ، مَنْ أدَاها قبل الصلاة، فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومَنْ أدَّاها بعد الصلاة، فهي صَدَقَةٌ من الصدقات) ([11]).
وفي هذا الحديث حكمتان عظيمتان:
الأولى: تتعلق بالفرد وهو الصائم، فتطهره من اللغو والرفث، وما حصل منه من خلل وتقصير أثناءَ صيامه.
الثَّانية: تتعلق بالمجتمع، وهي إطعام للمساكين، ولا شك أن في هذا تعاطفا ومحبة بين المسلمين.
فمن معاني صدقة الفطر أنها تزرع المودة والرحمة في قلوب المسلمين وتربيهم على حب الخير للآخرين، والإحساس بإخوانهم من الفقراء والمساكين، فيتألمون لحالهم، ويقدموا لهم ما يستحقونه ويحتاجونه، ويسد حاجاتهم ويغنيهم عن السؤال يوم الفطر والفرح.
وفي هذا تدريبا للنفس وتربيةً لها على البذل والعطاء والإحساس بهموم الآخرين والعطف عليهم.
استثمار شهر رمضان: علينا - مَعاشرَ المسلمين - أن نستثمر الأيام الباقية من هذا الشهر بالاجتهاد في أنواع العبادة، من المُحافظة على الصلوات المفروضة في المساجد، وصلاة التطوُّع، كالقيام (التراويح)، وذِكْر الله تعالى، كالتسبيح والتحميد، والتكبير والتهليل، وتلاوة القرآن الكريم بالتدبُّر والتعقُّل، وطلب العلم النَّافع، والاجتهاد في بِرِّ الوالدين، وصلة الرَّحم (الأقارب)، وإكرام الجار والضيف، وعيادة المريض، والسَّخاء في الإنفاق على الفقراء والمساكين والمشاريع الخيريَّة، ودعاء الله تعالى، والصلاة على النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - والاعتكاف، وإخراج زكاة الفِطْر في موعدها قبل صلاة العيد، والتفكُّر في أحوال المسلمين، والتأمُّل في مستقبل الإسلام... إلخ.
أخيرًا: لِنَعِشْ في رحاب رمضان بقلوبٍ صافية، ونفوس مطمئنَّة، وأُخوَّة صادقة، وحبٍّ وتعاون وتراحم، مع جميع المسلمين الذين تربطنا بهم أواصر العقيدة الإسلامية السَّمحاء، مِن أجل بناء مستقبل جديد وأفضل لأمَّتنا الإسلامية.
تذَكّر واعتبر قبل فوات الأوان
يقول الشاعر مؤيد حجازي
يا خير من نزلَ النفوسَ أراحلُ ** بالأمسِ جئتَ فكيفَ كيفَ سترحلُ
بكتِ القلوبُ على وداعك حرقةً ** كيف العيونُ إذا رحلتَ ستفعلُ
من للقلوبِ يضمها في حزنها ** من للنفوس لجرحها سيعلِّلُ
ما بال شهر الصومِ يمضي مسرعاً ** وشهورُ باقي العام كم تتمهّلُ
عشنا انتظارك في الشهورِ بلوعةٍ ** فنزلتَ فينا زائراً يتعجّلُ
ها قد رحلت أيا حبيبُ، وعمرنا ** يمضي ومن يدري أَأَنتَ ستقبلُ
فعساكَ ربي قد قبلت صيامنا ** وعساكَ كُلَّ قيامنا تتقبَّلُ
يا ليلة القدر المعظَّمِ أجرها ** هل إسمنا في الفائزينَ مسجّلُ؟
كم قائمٍ كم راكعٍ كم ساجدٍ ** قد كانَ يدعو الله بل يتوسلُ
أعتقْ رقاباً قد أتتكَ يزيدُها ** شوقاً إليكَ فؤادُها المتوكِّلُ
فاضت دموعُ العين من أحداقها ** وجرت على كفِّ الدُّعاءِ تُبلِّلُ
يامن تحبُّ العفو جئتُكَ مذنباً ** هلا عفوتَ فما سواكَ سأسألُ
هلاّ غفرتَ ذنوبنا في سابقٍ ** وجعلتنا في لاحقٍ لا نفعلُ
يا سعدنا إن كانَ ذاكَ محقّقاً ** يا ويلنا إن لم نفزْ أو نُغسَلُ
بكت المساجدُ تشتكي عُمَّارها ** كم قَلَّ فيها قارئٌ ومُرتِّلُ
هذي صلاةُ الفجرِ تحزنُ حينما ** لم يبقَ فيها الصفُّ إلا الأولُ
هذا قيامُ اللِّيلِ يشكو صَحْبَهُ ** أضحى وحيداً دونهم يتململُ
كم من فقيرٍ قد بكى متعففاً ** مَنْ بعدَ شهر الخير عنهم يسألُ؟
يامن عبدتم ربكم في شهركم ** حتى العبادةَ بالقَبولِ تُكَلَّلُ
لا تهجروا فعلَ العبادةِ بعدَه ** فلعلَّ ربي ما عبدتم يقبلُ
يامن أتى رمضانُ فيكَ مطهِّراً ** للنَّفسِ حتى حالها يتبدَّلُ
يمحو الذُّنوبَ عن التقيِّ إذا دعا ** ويزيدُ أجرَ المحسنينَ ويُجزِلُ
هل كنتَ تغفلُ عن عظيمِ مرادِه ** معرضاً عن فضلِه تتغافلُ
إن كنتَ تغفلُ فانتبهْ واظفرْ به ** أما التغافلُ شأنُ من لا يعقِلُ
فالله يُمهلُ إنْ أرادَ لحكمةٍ ** لكنَّه، يا صاحبي، لا يُهمِلُ
إن كانَ هذا العامَ أعطى مهلةً ** هل يا تُرى في كُلِّ عامٍ يُمهِلُ؟
لا يستوي من كان يعملُ مخلصاً ** هوَ والذي في شهره لا يعملُ
رمضانُ لا تمضي وفينا غافلٌ ** ما كان يرجو الله أو يتذلَّلُ
حتى يعودَ لربه متضرِّعاً ** فهو الرحيمُ المنعمُ المُتفضّلُ
وهو العفوُّ لمن سيأتي نادماً ** عن ذنبهِ في كلِّ عفوٍ يأملُ
رمضانُ لا أدري أعمري ينقضي ** في قادم الأيامِ أم نتقابلُ!!
فالقلبُ غايةَ سعدِهِ سيعيشُها ** والعين في لقياكَ سوف أُكحِّلُ

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
01098095854





[1])) تفسير السعدي
[2])) صحيح الأدب المفرد للبخاري
[3])) متفق عليه
[4])) صحيح البخاري
[5])) صحيح مسلم
[6])) صحيح الجامع
[7])) صحيح مسلم
[8])) متفق عليه
[9])) تلبيس ابليس
[10])) صحيح البخاري
[11])) صحيح الجامع 

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات