حادثة الإفك من أبشع الشائعات للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله الذي تفرد بجلال ملكوته، وتوحد بجمال جبروته
وتعزز بعلو أحديته، وتقدس بسمو صمديته، وتكبر في ذاته عن مضارعة كل نظير، وتنزه في
صفائه عن كل تناه وقصور، له الصفات المختصة بحقه، والآيات الناطقة بأنه غير مشبه
بخلقه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك،
وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة موقن بتوحيده، مستجير بحسن تأييده
يا واحد في
ملكه أنت الأحد
|
**
|
ولقد علمت
بأنك الفرد الصمد
|
لا أنت مولود
ولست بوالد
|
**
|
كلا ولا لك في
الورى كفوا أحد
|
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله
وصفيه من خلقه وحبيبه
هذا النبي
محمد خير الورى
|
**
|
ونبيهم وبه
تشرف آدم
|
وله البها وله
الحياء بوجهه
|
**
|
كل الغنى من
نوره يتقسم
|
يا فوز من صلى
عليه فانه
|
**
|
في جنة المأوى
غدا يتنعم
|
صلى عليه الله
جل جلاله
|
**
|
ما راح حاد
باسمه يترنم
|
وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى
بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
العناصر
أولاً: قصة الإفك
كاملة على لسان الصادقة زوجة الصادق المصدوق وبنت الصدِّيق
ثانيًا: بعض الدروس المستفادة من حادثة الإفك
ثالثًا: واجب المسلم تجاه هذه القضية وأمثالها
رابعاً: عقوبة من يشيع الفاحشة
الموضوع
تعريف الشائعة: مصدر أشاع، وشاع الخبر في الناس
شيوعا، أي: انتشر وذاع وظهر.
وقيل: وهي الأخبار التي لا يُعلم من
أذاعها. فلو سألت من ينقل الشائعة عن مصدرها سيقول لك قالوا زعموا، وقيل: وهي نشر
الأخبار التي ينبغي سترها، لأن فيها إيذاء للناس.
تعريف الإفك: قال المبرّد: الإفك أسوأ الكذب، وهو
الّذي لا يثبت ويضطرب.
وقال النّيسابوريّ: الإفك أبلغ ما يكون
من الكذب والافتراء، وقيل هو: البهتان.
وقال ابن كثير: الإفك: الكذب والبهت
والافتراء على الضلال، وهي مجموعة أخبار مُلَفَّقة تعمل على نشر الفوضى بين الناس.
وقال تعالى: (أَلا
إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) ) الصافات
أولًا: قصة الإفك كاملة على لسان الصادقة زوجة الصادق المصدوق وبنت الصديق:
عن عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ حَدِيثِ
عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ
الْإِفْكِ مَا قَالُوا: فَبَرَّأَهَا اللهُ مِمَّا قَالُوا، وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي
طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا، وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ،
وَأَثْبَتَ اقْتِصَاصًا، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي
حَدَّثَنِي، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، ذَكَرُوا، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا، أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ،
فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَهُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ فِيهَا
سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ
بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُنْزَلُ فِيهِ
مَسِيرَنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
غَزْوِهِ، وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ
حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ
مِنْ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ، فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدِي مِنْ
جَزْعِ ظَفَارِ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ
وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ
عَلَى بَعِيرِيَ الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ، قَالَتْ:
وَكَانَتِ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا، لَمْ يُهَبَّلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ،
إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثِقَلَ
الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ وَرَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ،
فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ،
فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي
الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ،
فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ
صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ
وَرَاءِ الْجَيْشِ فَادَّلَجَ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ
نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ
يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَيَّ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ
وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَوَاللهِ مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ
كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا
فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ،
بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ،
فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ
اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ، حِينَ
قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ،
وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ
مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ، الَّذِي كُنْتُ أَرَى
مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ؟» فَذَاكَ يَرِيبُنِي ، وَلَا أَشْعُرُ
بِالشَّرِّ،
حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقَهْتُ وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ
الْمَنَاصِعِ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَلَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ
وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ
الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التَّنَزُّهِ، وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا
عِنْدَ بُيُوتِنَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ، وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ
بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ، خَالَةُ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ
الْمُطَّلِبِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَبِنْتُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي، حِينَ فَرَغْنَا
مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ
فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، قَالَتْ:
أَيْ هَنْتَاهْ أَوْ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي
بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي،
فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ تِيكُمْ؟» قُلْتُ: أَتَأْذَنُ
لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟ قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ
مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْتُ
أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهْ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ:
يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ
عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، وَلَهَا ضَرَائِرُ، إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا، قَالَتْ
قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ وَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ
اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ،
ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي،
وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ، يَسْتَشِيرُهُمَا فِي
فِرَاقِ أَهْلِهِ، قَالَتْ فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ،
وَبِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ مِنَ الْوُدِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ
هُمْ أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ،
فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلِ
الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَرِيرَةَ فَقَالَ: «أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟»
قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا
قَطُّ أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا، أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ،
تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ،
قَالَتْ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ،
فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ
مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي فَوَاللهِ مَا
عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ
إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي» فَقَامَ سَعْدُ
بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، يَا رَسُولَ اللهِ
إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ
أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ
سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَلَكِنِ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ،
فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ لَا تَقْتُلُهُ، وَلَا تَقْدِرُ
عَلَى قَتْلِهِ فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ - وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ
-، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ
مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ
حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ،
قَالَتْ: وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ
بِنَوْمٍ، ثُمَّ بَكَيْتُ لَيْلَتِي الْمُقْبِلَةَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ
بِنَوْمٍ وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي ، فَبَيْنَمَا هُمَا
جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ،
فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي، قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ
عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ،
قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا
لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ،
فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ
اللهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ،
فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ»
قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَقَالَتَهُ
قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ عَنِّي
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا قَالَ فَقَالَ: وَاللهِ مَا
أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لِأُمِّي:
أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: وَاللهِ
مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ
وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ إِنِّي
وَاللهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي
نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللهُ يَعْلَمُ
أَنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ
وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونَنِي وَإِنِّي، وَاللهِ مَا أَجِدُ
لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}
قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، قَالَتْ: وَأَنَا،
وَاللهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي،
وَلَكِنْ، وَاللهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي
كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ بِأَمْرٍ
يُتْلَى، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ بِهَا، قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا
رَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَهُ، وَلَا خَرَجَ مِنْ
أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ
الْوَحْيِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ،
فِي الْيَوْمِ الشَّاتِ، مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، قَالَتْ:
فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَضْحَكُ،
فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: «أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ أَمَّا
اللهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ» فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللهِ
لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللهَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي،
قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ}
مِنْكُمْ عَشْرَ آيَاتٍ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ بَرَاءَتِي،
قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ
وَفَقْرِهِ: وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ
فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ
أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ
اللهُ لَكُمْ} ، قَالَ حِبَّانُ بْنُ مُوسَى:
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ، فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ
النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا،
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ أَمْرِي «مَا عَلِمْتِ؟ أَوْ مَا رَأَيْتِ؟» فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَحْمِي
سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ
الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَعَصَمَهَا اللهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ تُحَارِبُ
لَهَا، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَهَذَا مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ
الرَّهْطِ وقَالَ فِي حَدِيثِ يُونُسَ: احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ ([1])
معاني بعض الكلمات الواردة في الحديث([2])
(وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت
اقتصاصا) أي أحفظ وأحسن إيرادا وسردا للحديث (عقدي من جزع ظفار) العقد نحو القلادة
والجزع خرز يماني وظفار هي قرية باليمن (الرهط) هم جماعة دون العشرة (يرحلون لي) أي
يجعلون الرحل على البعير وهو معنى قولها فرحلوه (هودجي) الهودج مركب من مراكب النساء
(لم يهبلن) أي يثقلن باللحم والشحم (العلقة) أي القليل ويقال لها أيضا البلغة (فتيممت
منزلي) أي قصدته (قد عرس) التعريس النزول آخر الليل في السفر لنوم أو استراحة (فادلج)
الادلاج هو السير آخر الليل (فرأى سواد إنسان) أي شخصه (فاستيقظت باسترجاعه) أي انتبهت
من نومي بقوله إنا لله وإنا إليه راجعون (فخمرت وجهي) أي غطيته (موغرين في نحر الظهيرة)
الموغر النازل في وقت الوغرة وهي شدة الحر ونحر الظهيرة وقت القائلة وشدة الحر (تولى
كبره) أي معظمه (يفيضون في قول أهل الإفك) أي يخوضون فيه (يريبني) بفتح أوله وضمه يقال
رابه وأرابه إذا أوهمه وشككه (اللطف) هو البر والرفق (كيف تيكم) هي إشارة إلى المؤنثة
كذلكم في المذكر (نقهت) هو الذي أفاق من المرض وبرأ منه وهو قريب عهد به لم يتراجع
إليه كمال صحته (المناصع) هي مواضع خارج المدينة كانوا يتبرزون فيها (الكنف) هي جمع
كنيف قال أهل اللغة الكنيف الساتر مطلقا (التنزه) هو طلب النزاهة بالخروج إلى الصحراء
(في مرطها) المرط كساء من صوف وقد يكون من غيره (تعس) عثر وقيل هلك وقيل لزمه الشر
وقيل بعد وقيل سقط بوجهه خاصة (أي هنناه) يا هذه وقيل يا امرأة وقيل يا بلهاء كأنها
نسبت إلى قلة المعرفة بمكايد الناس وشرورهم (وضيئة) هي الجميلة الحسنة والوضاءة الحسن
(ضرائر) جمع ضرة وزوجات الرجل ضرائر لأن كل واحدة تتضرر بالأخرى بالغيرة والقسم (كثرن
عليها) أي أكثرن القول في عيبها ونقصها (لا يرقأ) أي لا ينقطع (ولا أكتحل بنوم) أي
لا أنام (استلبث الوحي) أي أبطأ ولبث ولم ينزل (أغمصه) أي أعيبها به (الداجن) الشاة
التي تألف البيت ولا تخرج للمرعى ومعنى هذا الكلام أنه ليس فيها شيء مما تسألون عنه
أصلا ولا فيها شيء من غيره إلا نومها عن العجين (استعذر) من ينصرني والعذير الناصر
(اجتهلته الحمية) أي أخفته وأغضبته وحملته على الجهل (فثار الحيان الأوس والخزرج) أي
تناهضوا للنزاع والعصبية (وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله) معناه إن كنت فعلت ذنبا
وليس ذلك لك بعادة (قلص دمعي) أي ارتفع لاستعظام ما يعيبني من الكلام (ما رام) أي ما
فارق (البرحاء) هي الشدة (ليتحدر) أي ليتصبب (الجمان) الدر شبهت قطرات عرقه صلى الله
عليه وسلم بحبات اللؤلؤ في الصفاء والحسن (فلما سري) أي كشف وأزيل (ولا يأتل أولو الفضل)
أي لا يحلفوا والألية اليمين (أحمي سمعي وبصري) أي أصون سمعي وبصري من أن أقول سمعت
ولم أسمع وأبصرت ولم أبصر (وهي التي كانت تساميني) أي تفاخرني وتضاهيني بجمالها ومكانها
عند النبي صلى الله عليه وسلم وهي مفاعلة من السمو وهو الارتفاع (وطفقت أختها تحارب
لها) أي جعلت تتعصب لها فتحكي ما يقوله أهل الإفك (احتملته الحمية) معناه أغضبته.
قصيدة الواضحية لابن بهيج الاندلسي في مدح أم المؤمنين عائشة
والدفاع عنها ([3])
زَوْجي رَسولُ الله لَمْ أرَ غَيْرَهُ * اللــه زَوَّجَني بـه وحَبَاني
مَنْ ذَا يُفَاخِرُني وينْكِرُ صُحْبَتي * ومُحَمَّدٌ في حِجْرِه
رَبَّاني؟
مَرِضَ النَّبِيُّ وَمَاتَ بين تَرَائِبِي * فاليَوْمَ يَوْمي
والزَّمانُ زَماني
إِنِّي خُصِصْتُ على نِساءِ مُحَمَّدٍ * بِصِفاتِ بِرٍّ تَحْتَهُنَّ
مَعاني
وَسَبَقْتُهُن إلى الفَضَائِل كُلَّها * فالسَّبْقُ سَبقي والعِنَانُ
عِنَاني
مَرِضَ النَّبِيُّ وَمَاتَ بين تَرَائِبِي * فاليَوْمَ يَوْمي
والزَّمانُ زَماني
إِني لَطَيِّبَةٌ خُلِقْتُ لطيِّبٍ * ونِساءُ أَحْمَدَ أطيبُ
النِّسْوانِ
إِني لصادِقَةُ المقالِ كريمةٌ * إِيْ والَّذي ذَلَّتْ لَهُ
الثَّقَلانِ
إني لأَمُّ المؤمنينَ فَمَنْ أَبَى * حُبِّي فَسَوْف يَبُوءُ
بالخُسْرَانِ
إنّي لمُحْصَنَةُ الإزارِ بَرِيئَةٌ * ودليلُ حُسْنِ طَهَارتي إحْصاني
واللهُ أَحْصَنَنِي بخاتِمِ رُسْلِه * وَأَذَلَّ أَهْلَ الإِفْكِ
والبُهتانِ
واللهُ وَبَّخَ مَنْ أرَادَ تَنَقُّصي * إفْكاً وسَبَّحَ نَفسَهُ في شاني
وَتَكَلَّمَ اللهُ العظيمُ بِحُجَّتي * وَبَرَاءَتِي في مُحْكَمِ
القُرآنِ
واللهُ يُكْرِمُ مَنْ أَرَادَ كَرامتي * ويُهينُ رَبِّي من أرادَ هواني
اللهُ حَبَّبَني لِقَلْبِ نَبِيِّه * وإلى الصراطِ المستقيمِ هداني
زَوْجي رَسولُ الله لَمْ أرَ غَيْرَهُ * اللــه زَوَّجَني بـه وحَبَاني
وأنا ابْنَةُ الصِّدِّيقِ صَاحِبِ أَحْمَدٍ * وحَبِيبِهِ في السِّرِّ
والإِعلانِ
نَصَر النبيَّ بمالِهِ وفِعالِه * وخُرُوجِهِ مَعَهُ في الأوطانِ
سَبَقَ الصَّحَابَةَ والقَرَابَةَ لِلهُدى * هو شَيْخُهُمُ في الفضلِ
والإِحْسَانِ
صِلْ أُمَّهَاتِ المؤمنينَ ولا تَحُدْ * عَنَّا فَتُسْلَبْ حُلَّةَ
الإِيمانِ
يا مُبْغضي لا تَأْت قَبْرَ محمَّدٍ * فالبَيْتُ بيتي والمَكانُ مَكاني
صَلَّى الإلهُ على النبيِّ وآلِهِ * فَبِهمْ تُشَمُّ أزاهِرُ البُستانِ([4])
ثانيًا:
بعض الدروس المستفادة من حادثة الإفك
ابتلاء الله لك هو الخير كله فلا تعتقد
غير ذلك: فقوله تعالى:
{إِنَّ الذين جاؤوا بالإفك} أي الكذب وَالْبَهْتِ وَالِافْتِرَاءِ {عُصْبَةٌ} أَيْ
جَمَاعَةٌ مِنْكُمْ {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ} أَيْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ
{بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِسَانُ صِدْقٍ فِي
الدُّنْيَا وَرِفْعَةُ مَنَازِلَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِظْهَارُ شَرَفٍ لَهُمْ
بِاعْتِنَاءِ الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حيث أنزل الله براءتها
في القرآن العظيم، وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله
عنه وعنها وَهِيَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، قَالَ لَهَا أَبْشِرِي فَإِنَّكِ
زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يُحِبُّكِ
وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَكِ، ونزلت براءتك من السماء([5])
فهذه قاعدة أساسية في
العقيدة، ما دام الشيء وقع فهو خير، يوجد حكمة، فقد يكون الخير فيما نكرهه {بل هو خير لكم} ، والخيرية هنا تتبدى في عشرة جوانب
:
براءة عائشة رضي الله عنه تتلى في القرآن إلى يوم القيامة، وما أورثته الحادثة
من تعلق قلبها بالله ومن امتلاء قلبها بعبودية الصبر، ومن تثقيل لميزان حسناتها، ومن
حصولها على حسنات غيرها ممن تكلم فيها، ومن تكفير لسيئاتها، وبيان لعظيم مكانتها، وقد
عُرف المؤمنون من المنافقين، وعرف قوي الإيمان من غيره، واشتملت آيات الحادثة على مهمات
الآداب للجماعة المؤمنة .
الصبر على البلاء: مع أن هذه الحادثة تكون صعبة على النفس لأنها عن
العرض والشرف ، ومع أنها استمرت لأكثر من شهر تقريبا وأهل النفاق يخوضون في عرضها
إلا أنها صبرت ، (وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ).
الإستعانة بالله: استعانت السيدة عائشة بالله فهو سبحانه نعم
المعين قالت:(وَاللهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ
{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} .
قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، قَالَتْ: وَأَنَا،
وَاللهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي،
وَلَكِنْ، وَاللهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي
كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ بِأَمْرٍ
يُتْلَى، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ بِهَا.
حمد الله وشكره: قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا
أَنْ قَالَ: «أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ» فَقَالَتْ لِي
أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ
إِلَّا اللهَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي.
فلقد برأها الله تعالى هي وصفوان بن المعطل الصحابي الجليل الذي فعل الخير
وقدمه
وجوب الظن الحسن بإخوانك المؤمنين: فقال تعالى: {لولا} يعني هلا {إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ} أي ذلك الكلام الذي رميت به أم المؤمنين رضي الله عنها {ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} أَيْ قَاسُوا ذَلِكَ
الْكَلَامَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لَا يَلِيقُ بِهِمْ فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
أَوْلَى بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ بطريق الأولى والأحرى، روي أن أبا أيوب (خالد بن
زيد الأنصاري) قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ أَيُّوبَ: يَا أَبَا أيوب أتسمع مَا
يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ
الْكَذِبُ، أَكُنْتِ فَاعِلَةً ذَلِكَ يَا أُمَّ أَيُّوبَ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ
مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَهُ، قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ، فَلَمَّا
نَزَلَ الْقُرْآنُ وَذَكَرَ أَهْلَ الْإِفْكِ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {لَوْلَا
إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا
وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} يَعْنِي أَبَا أَيُّوبَ حِينَ قَالَ لأم أيوب ما
قال (ذكره محمد بن إسحاق بن يسار ومحمد بن عمر الواقدي). وقوله تعالى: {ظَنَّ
المؤمنون} الخ: أَيْ هَلَّا ظَنُّوا الْخَيْرَ، فَإِنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ
أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَاطِنِ، وقوله:
{وَقَالُواْ}: أَيْ بِأَلْسِنَتِهِمْ {هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} أَيْ كذب ظاهر على
أم المؤمنين رضي الله عنها، فَإِنَّ الَّذِي وَقَعَ لَمْ يَكُنْ رِيبَةً، وَذَلِكَ
أَنَّ مَجِيءَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَاكِبَةً جَهْرَةً عَلَى رَاحِلَةِ
(صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ) فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ وَالْجَيْشُ بِكَمَالِهِ
يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ
أَظْهُرِهُمْ، ولو كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِيهِ رِيبَةٌ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا
جَهْرَةً، وَلَا كَانَا يُقَدِمَانِ عَلَى مِثْلِ ذلك على رؤوس الأشهاد، بل كان
هذا يكون لَوْ قُدِّرَ خُفْيَةً مَسْتُورًا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ
أَهْلُ الْإِفْكِ مِمَّا رَمَوْا بِهِ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْكَذِبُ
الْبَحْتُ، وَالْقَوْلُ الزُّورُ والرعونة الفاحشة الفاجرة قال الله تعالى
{لَّوْلاَ} أي هلا {جاؤوا عَلَيْهِ} أَيْ عَلَى مَا قَالُوهُ {بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَآءَ} يَشْهَدُونَ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءُوا بِهِ {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ
بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عند اللهم الكاذبون} أي في حكم الله كاذبون فاجرون.
ويقول اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ
لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا} أَيْ مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَفَوَّهَ بِهَذَا
الْكَلَامِ وَلَا نَذْكُرَهُ لِأَحَدٍ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أَيْ
سُبْحَانَ اللَّهِ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى زوجة رسوله، وجليلة خَلِيلِهِ. ([6])
وقد شهد لها أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب وبريرة رضى الله عنهم لما سألهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السيدة عائشة رضى الله عنها.
رحمة الله سبقت غضبه: قال تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أَيُّهَا الْخَائِضُونَ فِي شَأْنِ
عَائِشَةَ، بِأَنْ قَبِلَ تَوْبَتَكُمْ وَإِنَابَتَكُمْ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا،
وَعَفَا عَنْكُمْ لِإِيمَانِكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ
{لَمَسَّكُمْ فيما أَفَضْتُمْ فِيهِ} مِنْ قَضِيَّةِ الْإِفْكِ {عَذَابٌ عَظِيمٌ}
وهذا فيمن عند إيمان يقبل الله بسببه التوبة، كمسطح و (حسان) و (حمة بِنْتِ
جَحْشٍ) فَأَمَّا مَنْ خَاضَ فِيهِ مِنَ المنافقين كعبد الله بن أبي ابن سَلُولٍ
وَأَضْرَابِهِ، فَلَيْسَ أُولَئِكَ مُرَادِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ
لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الإيمانُ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا يُعَادِلُ هَذَا
وَلَا مَا يُعَارِضُهُ، وقد تكرر بيان فضل الله ورحمته في بيان الحادثة ثلاث مرات.
الحديث عن عرض المسلمين وخاصة بالسوء
ذنب عظيم: قَالَ تَعَالَى:
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} قَالَ مجاهد: أي يروي بَعْضُكُمْ عَنْ
بَعْضٍ، يَقُولُ: هَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ، وَقَالَ فَلَانٌ كَذَا، وَذَكَرَ
بَعْضُهُمْ كَذَا، وقوله تعالى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَيْسَ لَكُمْ
بِهِ عِلْمٌ} أَيْ تَقُولُونَ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} أَيْ تَقُولُونَ مَا
تَقُولُونَ فِي شَأْنِ أُمَّ المؤمنين وتحسبون ذلك يسيراً وسهلاً، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ
زَوْجَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا كَانَ هيناً، فكيف
وهي زوجة خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، فَعَظِيمٌ عِندَ
اللَّهِ أَن يقال في زوجة نبيه ورسوله ما قيل، فإن الله سبحانه وتعالى يغار لهذا.
من يخوض في عرض اخوانه بعد نزول هذه
الآية لا يكن من المؤمنين: قَالَ تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً}
أَيْ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ مُتَوَعِّدًا أَنْ يَقَعَ مِنْكُمْ مَا يُشْبِهُ هَذَا
أَبَدًا، أي فيما يستقبل، ولهذا قال: {إِنْ كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي إن كنت
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَشَرْعِهِ وَتُعَظِّمُونَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فمن يفعل بعد ذلك فلا يكن منهم.
وجوب اتباع أوامر الله: قَالَ تَعَالَى: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الْآيَاتِ} أَيْ يُوَضِّحُ لَكُمُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْحِكَمَ
الْقَدَرِيَّةَ، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُ
عِبَادَهُ، حَكِيمٌ فِي شرعه وقدره.
العذاب الأليم قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ
الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ يَخْتَارُونَ ظُهُورَ الْكَلَامِ
عَنْهُمْ بِالْقَبِيحِ {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} أَيْ بِالْحَدِّ،
وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أَيْ
فَرُدُّوا الأمر إليه ترشدوا.
عدم اتباع خطوات الشيطان: قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ
تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يَعْنِي طَرَائِقَهُ وَمَسَالِكَهُ وَمَا
يَأْمُرُ بِهِ، {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، هَذَا تَنْفِيرٌ وَتَحْذِيرٌ مِنْ ذلك بأفصح عبارة
وأبلغها وأوجزها وأحسنها. قال ابْنِ عَبَّاسٍ {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}: عَمَلَهُ،
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَغَاتِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ فَهِيَ
مِنْ خطوات الشيطان، وسأل رَجُلٌ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنِّي حَرَّمْتُ أَنْ
آكل طعاماً وسماه، فقال: هذا من نزغات الشَّيْطَانِ، كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ
وَكُلْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِي رَجُلٍ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ: هَذَا مِنْ
نزغات الشيطان وأفتاه أن يذبح كبشاً. وعن أَبِي رَافِعٍ قَالَ: غَضِبْتُ عَلَى
امْرَأَتِي فَقَالَتْ: هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ
وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ إِنْ لَمْ تُطْلِّقِ امْرَأَتَكَ، فَأَتَيْتُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ من نزغات الشيطان.
رد الإساءة بالإحسان لا العكس: يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتَلِ} مِنَ الألية
وهي الحلف أي لا يحلف {أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ} أَيِ الطَّوْلِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْإِحْسَانِ. {وَالسَّعَةِ} أَيِ الْجِدَةِ {أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى
وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ لَا تَحْلِفُوا أن
لا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين، وهذا فِي غَايَةِ التَّرَفُّقِ
وَالْعَطْفِ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ، ولهذا قال تعالى: {وَلْيَعْفُواْ
وَلْيَصْفَحُوا} أَيْ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْهُمْ مِنَ الْإِسَاءَةِ وَالْأَذَى،
وَهَذَا مِنْ حِلْمِهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم، وهذه
الآيات نزلت في (الصدّيق) رضي الله عنه، حين حلف أن لا ينفع (مسطح بن أثاثة)
بنافعة أبداً، بَعْدَمَا قَالَ فِي عَائِشَةَ مَا قَالَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي
الْحَدِيثِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ،
وَطَابَتِ النُّفُوسُ الْمُؤْمِنَةُ وَاسْتَقَرَّتْ، وتاب الله عليّ من تَكَلَّمَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ، وَأُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ،
شَرَعَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَلَهُ الْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ - يُعْطِّفُ
الصِّدِّيقَ عَلَى قَرِيبِهِ وَنَسِيبِهِ، وَهُوَ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ،
فَإِنَّهُ كَانَ ابْنَ خَالَةِ الصَّدِيقِ، وَكَانَ مِسْكِينًا لَا مَالَ لَهُ
إِلَّا مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ فِي سبيل الله وقد زلق زلقة تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَضُرِبَ
الْحَدَّ عَلَيْهَا، وَكَانَ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْرُوفًا
بِالْمَعْرُوفِ، لَهُ الْفَضْلُ وَالْأَيَادِي عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ،
فَلَمَّا نزلت هذه الآية، قال الصديق: بلى والله إنا نحب ان تغفر لنا يا ربنا،
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ مَا كَانَ يَصِلُهُ مِنَ النَّفَقَةِ وَقَالَ:
وَاللَّهِ لَا أَنْزَعُهَا مِنْهُ أَبَدًا، فَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ هُوَ
الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ بِنْتِهِ.
ثالثًا:
واجب المسلم تجاه هذه القضية وأمثالها
البعد عن الوقيعة في الأعراض والكذب والبهتان والنميمة بين الناس وغيرها...
عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -r-قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ. قَالَ ﴿ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ﴾. قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ
كَانَ فِى أَخِى مَا أَقُولُ قَالَ ﴿إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ
اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ﴾ ﴿[7]﴾. وقال تعالى:﴿ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ﴾[سورة
الحجرات: الآية 12]
ستر المعايب، وإظهار المحاسن: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ
اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ([8]) ، أي ستر ذنبه ولم يظهره، أو ستر عورته بأن أعطاه ثوبا، قال ابن القيم رحمه الله: «ومِنَ النَّاس مَن
طبعُه طبع خنزير، يَمرُّ بالطيِّبات، فلا يقف عليها، وهكذا كثير من الناس يسمع
منك، ويرى من المحاسن أضعاف المساوئ، فلا يحفظها ولا ينقلها، إذا رأى سقطةً، أو
كلمةً عوراء، وجد بُغيته، وجعلها فاكهته ونَقلها.
عدم التعجَّل في نقل الأخبار إلا بعد الرجوع إلى المصادر الموثوقة ومشاورة المختصين؛ فمن الخطر
الجسيم إعادة نشر أي خبر قبل التثبت من مصدره ومن مضمونه ومن الهدف منه وما قد يترتب
عليه، ولذا فإن الله سبحانه وتعالى ذم المنافقين بإذاعة الأخبار الكاذبة؛ قال الله
تعالى:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم} النساء قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:{وَإِذَا
جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} إنكار على من يبادر
إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة.
ضرورة
التثبت من الأخبار: قال الله عز وجل:﴿ يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن
تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾سورة
الحجرات ومعنى تبينوا: تثبتوا.
فقال:﴿ أَن تُصِيبُوا ﴾أي: لئلا تصيبوا. فالتساهل في
نقل خبر سببًا لإصابة الآخرين، ويكون فيه ضرر لهم، سواء شعرت أم لم تشعر،
أ-سيدنا سليمان u: قال تعالي ( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ
فَقَالَ مَا
لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ *لَأُعَذِّبَنَّهُ
عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
*فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن
سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾سورة النمل
ب-عمر بن الخطاب t : كان عمر يقول لمن قال له كلاماً من باب المزيد من التثبت:
والله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا؛ فعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ
فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسى كَأَنَّهُ
مَذْعُورٌ فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلاَثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي،
فَرَجَعْتُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ
لِي، فَرَجَعْتُ وَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: إِذَا اسْتَأْذَنَ
أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ فَقَالَ: وَاللهِ
لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ r فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ
كَعْبٍ: وَاللهِ لاَ يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَكُنْت أَصْغَرَ
الْقَوْمِ؛ فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ ذَلِكَ﴾ ﴿[9]﴾
أن يقدم المسلم حسن الظن بأخيه المسلم: قال الله تعالى:
﴿لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُواْ هَـٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ [سورة النور:12].
والشائعات مبنية على سوء الظن بالمسلمين، وقال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ﴾ [الحجرات:12]
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -r-قَالَ ﴿إِيَّاكُمْ
وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ
تَجَسَّسُوا وَلاَ تَنَافَسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ
تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا﴾ ﴿[10]﴾.
البعد عن الذين يخوضون فيما حرم الله:
قال
تعالى:﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ
تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ سورة الأنعام﴾
رابعاً: عقوبة من يشيع الفاحشة
لا يهديه الله فقال تبارك وتعالى:﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ
اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة الجاثية: الآية 23]
وقال جل
وعلا:﴿ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾سورة ص، والمقصود
بالهوى هوى النفس الأَمَّارة بالسوء إلا ما رحم ربي، فصاحب الهوى يعمل على نشر ما
يوافق هَوَى نفسِه، ولو كان على حساب إلحاق الضرر بغيره، فهو لا يهمه إلا مصلحة
نفسه فقط، وإشباع غريزته السيئة، ولا يهمه ما يحصل بعد ذلك من خطر على البشر،
ولهذا أنكر الله جل وعلا على من هذا صنيعه.
وعيد الله لهم: إن النفاق سبب من أسباب الإرجاف، قال جل وعلا في
الآية:﴿ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا
يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلًا ﴾ الأحزاب.
﴿هُمُ العَدُوُّ
فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾[سورة المنافقون:
الآية 4] فهم أهل إرجاف وكذب وبهتان، يُخْفُون ما لا يُبْدُون، والحقيقة أن
هذه الشائعات المغرضة إنما تصدر ممن لا خلاق له.
لهم عذاب أليم: قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ ﴾ النور
وقال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ
مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾
وقال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾البروج.
لهم عذاب
عظيم: قال تعالى:
{لِكُلٍّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} أَيْ لِكُلِّ مَنْ
تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَرَمَى أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْفَاحِشَةِ نَصِيبٌ عَظِيمٌ مِنَ
الْعَذَابِ، {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} قِيلَ: ابْتَدَأَ بِهِ، وَقِيلَ:
الَّذِي كَانَ يَجْمَعُهُ وَيُذِيعُهُ وَيُشِيعُهُ {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أَيْ
عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ إِنَّمَا
هُوَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي بْنِ سلول) قبحه الله تعالى وَلَعْنَهُ.
{وَالَّذِي
تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، قَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ
أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى، وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ
يَجْعَلَ ذَلِكَ هُوَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ.
وتوعد الله
من يقذفون المؤمنات باللعنة والعذاب العظيم قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
لعنة الله لمن
يشيع الفاحشة: قال جل وعلا مُتوَعِّدًا هؤلاء:﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا
﴿60﴾ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ﴿61﴾
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴿62﴾ ﴾ الأحزاب﴾
من الكبائر المهلكات: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟
قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ،
وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ
الغَافِلاَتِ»([11])
، (اجتنبوا) ابتعدوا. (الموبقات)
المهلكات. (السحر) هو ما يفعله المشعوذون من تخييلات وتمويه تأخذ أبصار المشاهدين
وتوهمهم الإتيان بحقيقة أو تغييرها. (بالحق) كالقتل قصاصا. (التولي يوم الزحف)
الفرار عن القتال يوم ملاقاة الكفار والزحف في الأصل الجماعة الذين يزحفون إلى
العدو أي يمشون إليهم بمشقة مأخوذ من زحف الصبي إذا مشى على مقعدته. (قذف) هو
الاتهام والرمي بالزنا. (المحصنات) جمع محصنة وهي العفيفة التي حفظت فرجها وصانها
الله من الزنا. (الغافلات) البريئات اللواتي لا يفطن إلى ما رمين به من الفجور.
إهلاك الله
لمن يعادي أولياءه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ
اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا
تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ،
وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ،
فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي
يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي
بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ،
وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ
المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ " ([12])
، ومعنى: (وليا) هو العالم بدين الله تعالى المواظب على طاعته المخلص في عبادته.
(آذنته بالحرب) أعلمته بالهلاك والنكال. (مما افترضت عليه) من الفروض العينية
وفروض الكفاية. (كنت سمعه. .) أحفظه كما يحفظ العبد جوارحه من التلف والهلاك
وأوفقه لما فيه خيره وصلاحه وأعينه في المواقف وأنصره في الشدائد. (استعاذني)
استجار بي مما يخاف (ما ترددت) كناية عن اللطف والشفقة وعدم الإسراع بقبض روحه (مساءته)
إساءته بفعل ما يكره.
الإنسان مسئول أمام الله عز وجل
ومحاسب عن كل صغير وجليل: قال تعالى
﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18] ، وقال
تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ
بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ النور، وقوله
تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى
ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا
أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا
ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾[المجادلة: 7]
وقوله
تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى
عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾آل عمران
عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -r ﴿كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا
أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ﴾ ﴿[13]﴾.
ويصف النبي r في رؤيته حال
المُعَذَّبين من أهل الكذب فيقول: عن سمرة بن
جندب t قال قال النبي r ﴿ رأيت الليلة رجلين أتياني قالا لي الذي رأيته
﴾الَّذِي رَأيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ، يُحَدِّثُ بِالكِذْبَةِ
فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى
يَومِ القِيَامَةِ ﴾ ﴿[14]﴾
وعن بهز بن
حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال سمعت رسول الله r يقول ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له ويل له ﴾﴿[15]﴾
الفضيحة في الدنيا والآخرة: عَن ابنِ عمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ
فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ
إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا
تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ
يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ
وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» ([16])
بالنميمة) ينقل الكلام لغيره بقصد الإضرار. (بجريدة) غصن النخل الذي ليس
عليه ورق]
ضياع الحسنات وزيادة السيئات: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ
فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ
قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ» ([17])
وقال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا
تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا
وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
نسأل الله تعالى أن يحفظنا من بين
أيدينا ومن خلفنا، إنه على كل شيء قدير
وصلِّ
اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
01098095854
[1])) صحيح مسلم
[2])) شرح محمد فؤاد عبدالباقي
[3])) مع التعديل في ترتيب بعض الأبيات
[4])) قصيدة الواضحية لابن بهيج الاندلسي في مدح أم المؤمنين
عائشة
[5])) تفسير ابن كثير
[6])) تفسير ابن كثير
[8])) صحيح سنن ابن ماجة
[11])) متفق عليه
[12])) صحيح البخاري
[16])) صحيح سنن الترمذي