بر الأب للشيخ أحمد أبو عيد

 




pdf


pdf خط كبير


word


 

الحمد لله الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء، وأشهد أن لا إلاه إلا الله على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين.

 العناصر

أولًا: فضل بر الأب                                                 ثانيًا: كيف يكون البر

ثالثًا: نماذج على بر الوالد                                       رابعًا: عقوبة العقوق

خامسًا: نماذج على العقوق

الموضوع

أولًا: فضل بر الأب

خلق الله الأب قبل أن يخلق الأم: قال تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)) سورة النساء

خلق الله الأب قيل أن يخلق الأم، ولما أراد الله أن يتحدث عن الأرحام بدأ بالأب ثم بالأم وجعلهما الأصل.

الرجل أصل للمرأة ومقدم قبل المرأة: قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) . سورة النساء

أمر الله بالإحسان للوالدين: قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) فيفهم منه الوصية بالوالدين معا، ثم جعل مزيدا من الاهتمام بالأم لضعفها واحتياجها أكثر من الأب.

رضا الله من رضا الوالدين: قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)) سورة مريم.

لماذا كان عند ربه مرضيا، لأن النبي ﷺ فيما روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ» ([1])

قدم الله البر على الجهاد في سبيله: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا» قَالَ: قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» ([2])

وصية رسول الله ﷺ بالبر: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ» ([3])

 (أحق ... . صحابتي) أولى الناس بمعروفي وبري ومصاحبتي المقرونة بلين الجانب وطيب الخلق وحسن المعاشرة.

فضل الله برهما على ذروة سنام الإسلام وهو الجهاد: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الجِهَادِ، فَقَالَ: «أَلَكَ وَالِدَانِ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» ([4])  

أوسط أبواب الجنة: عن أبي الدَّرْدَاءِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَاحْفَظْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ دَعْهُ» ([5])

يتأكد البر عن الكبر: قال تعالى في شأن البر: قال تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)).

ثانيًا: كيف يكون البر

الدعاء له: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» ([6])

وقال تعالى: (ربَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)

وقال تعالى: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ " ([7])

صلة أصدقاء والده: عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَأَتَانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فقَالَ أَتَدْرِي لِمَ أَتَيْتُكَ قَالَ قُلْتُ لَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ" وَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي عُمَرَ وَبَيْنَ أَبِيكَ إِخَاءٌ وَوُدٌّ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَصِلَ ذاك"([8])

شراءه وعتقه إن كان مملوكا: عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ»، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: «وَلَدٌ وَالِدَهُ» ([9])

(لا يجزي ولد والدا الخ) أي لا يقوم ولد بما لأبيه عليه من حق ولا يكافئه بإحسانه به إلا أن يصادفه مملوكا فيعتقه.

دوام شكرهما: قال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).

وبر الوالدين له وسائل كثيرة أذكر من بينها على سبيل الاختصار

1- متابعة صحتهما.

2- الصدقة عنهما .

3- أخذهما في رحلة برية .

4- ضيافتهما .

5- أخذهما في جولة داخلية ( التمشي بهما :).

6- تقبيل الرأس واليد .

7- مدحهما والثناء عليهما .

8- ذكر محاسنهما .

9- إظهار الاهتمام بهما وقضاء حوائجهما .

10- مشاورتهما .

11- حسن الاستماع لهما .

12- الاتصال عليهما .

13- الرد على اتصالاتهما مهما كانت الظروف .

14- إهدائهما.

15- إقامة المناسبات لهما.

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان: إنَّ برَّ الأبِ ليس قُبلة تضعُها على جبينه أو يده، أو دراهم تضعُها في جيبه، أو هدية تُدخل بها السرور عليه، وإنْ كان كلُّ ما سبق مِن البِرِّ، لكن بعض الأبناء يختزل البِرَّ في تلك الصوَر، إنَّ البرَّ هو رُوح وحياة تبعثُها في كل عمل تقدِّمه لوالدك، فإنْ أعطيتَه مالًا أظهرتَ أنك ما كنتَ لِتحصل عليه لولا الله ثم بسببه، وإنْ دفعتَ عنه أذًى أبَنْتَ أنه قد دفع عنك مِن الأذى أضعافه، وإنْ جلبتَ له خيرًا أقررتَ أنه قد سبقكَ وقدَّم لك أعلى منه وأعظمَ. وكأنَّ لسان حالك يقول: يا والدي وسيِّدي! قد قدَّمتَ أكثر مما عليك، وبقي ما هو لك، و﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].

ثالثًا: نماذج على بر الوالد

سيدنا إبراهيم عليه السلام مع والده: أيها المؤمنون! ليس ثمة صورة أَمْثَل على برِّ الابن بأبيه مِن صورة الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين خاطبَ والدَه الكافرَ المعاندَ الذي يريد أن يقتله، واستمِع للخليل حين يكلِّم أباه في صورة هي غاية الأدب مع الوالد؛ إذ يقول الله تعالى حاكيا ما وقع ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 41، 42]، لَقَدْ سَلَكَ عَلَيْهِ السَّلامُ في دَعْوَتِهِ أحْسَنَ مِنهاجٍ، وأقْوَمَ سَبِيلٍ. واحْتَجَّ عَلَيْهِ أبْدَعَ احْتِجاجٍ بِحُسْنِ أدَبٍ وخُلُقٍ جَمِيلٍ. لِئَلّا يَرْكَبَ مَتْنَ المُكابَرَةِ والعِنادِ. حَيْثُ طَلَبَ مِنهُ عِلَّةَ عِبادَتِهِ لِما يَسْتَخِفُّ بِهِ عَقْلُ كُلِّ عاقِلٍ، ثم يُعقب ذلك بقوله ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 43] وهنا ثنَّى عَلَيْهِ السَّلامُ بِدَعْوَة أبيه إلى الحَقِّ مُتَرَفِّقًا بِهِ مُتَلَطِّفًا. فَلَمْ يَصِف أباهُ بِالجَهْلِ المُفْرِطِ مع كونه كافرًا، ولا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالعِلْمِ الفائِقِ مع كونه نبيًّا. ولَكِنَّهُ قالَ: إنَّ مَعِي طائِفَةً مِنَ العِلْمِ وشَيْئًا مِنهُ لَيْسَ مَعَكَ. ثم يقول: ﴿ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 44، 45]، وهنا أَنذَره عَلَيْهِ السَّلامُ بِتَخْوِيفِهِ سُوءَ العاقِبَةِ، وبِما يَجُرُّهُ ما هو فِيهِ مِنَ التَّبِعَةِ والوَبالِ. ولَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِن حُسْنِ الأدَبِ، حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ بِأنَّ العَذابَ لاصِقٌ بِهِ، ولَكِنَّهُ قالَ: ﴿ أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ ﴾، فَذَكَرَ الخَوْفَ والمَسَّ ونَكَّرَ العَذابَ. وجَعَلَ وِلايَةَ الشَّيْطانِ ودُخُولَهُ في جُمْلَةِ أشْياعِهِ وأوْلِيائِهِ، أكْبَرَ مِنَ العَذابِ. وصَدَّرَ كُلَّ نَصِيحَةٍ مِنَ النَّصائِحِ الأرْبَعَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿ يَا أَبَتِ ﴾ تَوَسُّلًا إلَيْهِ واسْتِعْطافًا. ثم يأتي الرَّدُّ القاسي مِن أبيه الكافر إذ يقول ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [مريم: 46]، ومع هذا لا يزال الأدبُ جاريًا مِن الخليل نحو أبيه، فيقول: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم: 47، 48]، وفي جَوابِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكَ ﴾ مُقابَلَةُ السَّيِّئَةِ بِالحَسَنَةِ. ولسان حاله وقاله: لا أُصِيبُكَ بِمَكْرُوهٍ بَعْدُ. ولَكِنْ سَأدْعُو رَبِّي أنْ يَغْفِرَ لَكَ.

 

وبما أنَّ الجزاء مِن جنْس العَمل، انظُر لأدب إسماعيل مع أبيه الخليل عليهما الصلاة والسلام، حين أَخبَره أنه رأى في المنام أنه يذبحه، أجاب الابنُ مبادِرًا ومناديًا أباه، بما كان يتلطَّف به أبوه مع جدِّه، وبنفس الطريقة: ﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾ [الصافات: 102]، ويجازى الخليل عليه السلام بإيمانه وببرِّه بأبيه أن يكون أبناؤه أنبياء، وتكون النبوة مِن بعده منحصرةً في ذرِّيَّته ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ﴾ [العنكبوت: 27] بصلاح أبناءه ﴿ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27]، حين يرى مِن ذرِّيَّته سيِّد الرُّسل صلى الله عليه وسلم، وأكثر الأُمم تبعًا لحفيده.

قصة جابر بن عبد الله مع أبيه: تجسد قصة جابر بن عبد الله مع أبيه معنى البر بالآباء، إذ التزم جابر بوصية أبيه له قبل وفاته، بل لم تطب نفسه أن يتركه مع آخر في قبره، فيقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: "لما حضر قتال أُحُد، دعاني أبي من الليل، فقال: إني أراني إلا مقتولًا في أول مَنْ يُقتَل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني والله ما أدَعُ أحدًا؛ يعني: أعزَّ عليَّ منك بعد نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن عليَّ دَيْنًا، فاقْضِ عنِّي ديني، واستوصِ بأخواتك خيرًا، فأصبحنا، فكان أول قتيل، فدفنتُه مع آخر في قبر، ثم لم تَطِبْ نفسي أن أتركَه مع آخر في قبر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضَعَتْه غير أُذنه".

رابعًا: عقوبة العقوق

لا يدخل الجنة: عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ، أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ» ([10])

لله عليه وسلم: رغم أنف رجل بلغ والداه عنده الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

كبيرة من الكبائر: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» ([11])

(من الكبائر شتم الرجل والديه) فيه دليل على أن من تسبب في شيء جاز أن ينسب إليه ذلك الشيء وإنما جعل هذا عقوقا لكونه يحصل منه ما يتأذى منه الوالد تأذيا ليس بالهين]

أكبر الكبائر: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» ثَلاَثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ - أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ»، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ ([12])

سخط الله من سخط الوالدين: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ قَالَ: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) ([13])

فأمره النبي ﷺ أن يرجع إليهما فيضحكهما كما أبكاههما.

الخيبة والخسران: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ»، قِيلَ: مَنْ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» ([14])

(رغم) قال أهل اللغة معناه ذل وقيل كره وخزي وهو بفتح الغين وكسرها وأصله لصق أنفه بالرغام وهو تراب مختلط برمل وهو الرغم بضم الراء وفتحها وكسرها وقيل الرغم كل ما أصاب الأنف يؤذيه]

حق عليهم العذاب: قال تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ: أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ، وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فَيَقُولُ: مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) } [الأحقاف: 17]  

(والذي قال لوالديه) هو كل كافر عاق لوالديه يقع منه مثل هذا القول إذا دعاه أبواه إلى الدين الصحيح. (أف) كلمة كراهية يقصد بها إظهار السخط وقبح الرد. (أخرج) من قبري وأحيا بعد فنائي وبلائي. (خلت. .) مضت الأجيال ولم يبعث منها أحد. (يستغيثان الله) يستجيران به من قوله ويستصرخان عليه. (ويلك. .) قائلين له لك الهلاك إن لم تؤمن وهو تحريض له على الإيمان. (أساطير الأولين) ما كتبه الأوائل وخطوه بأيديهم من تخيلات وأوهام وأساطير جمع أسطار وهو جمع سطر والسطر الخط والكتابة. أو جمع أسطورة وإسطاره وهي الأحدوثة الباطلة.

أولئك الذين هذه صفتهم وجب عليهم عذاب الله، وحلَّت بهم عقوبته وسخطه في جملة أمم مضت مِن قبلهم مِنَ الجن والإنس على الكفر والتكذيب، إنهم كانوا خاسرين ببيعهم الهدى بالضلال، والنعيم بالعذاب.

خامسًا: نماذج على العقوق

افعل ما شئت كما تدين تدان: يروى أن ولدا عاقا أتى إليه أبوه يطلب منه معروفا فتطاول عليه هذا الولد بالسب والضرب حتى أمسك بقدميه وهو ملقى على ظهره وظل يزحف به الأرض حتى وصل به إلى عتبة باب الدار ليرمي به خارج الدار فوجد أحد الجيران فلم يكمل وعاد إلى الداخل.

وبعد هذه الإهانة خرج الأب وهو يبكي، وتمر الأيام ويكبر الابن ويكبر أبناؤه ويأتي ابن له يعاتبه في أمر من الأمور، وإذا بهذا الابن يتطاول عليه بالسب والضرب ثم يمسك بقدميه وهو مستلق على ظهره ليسحبه خارج البيت حتى وصل إلى عتبة الباب وهنا قال الأب لابنه :

كفى هذا يا بني لقد وصلت بأبي إلى هذا الحد ولو زدت أنت عن هذا فمعناه أن غضب الله عليّ شديد.

رجل تجاوز التسعين من عمره: هذا رجل عنده عما أصابه الكبر الشديد وتجاوز التسعين من العمر فأصبح في بعض الأحيان يفقد وعيه ويفقد الذاكرة حتى يصبح كالمجنون تذهب الذاكرة وتعود.. لقد قام بتزويج أبنائه الثلاثة وأسكنهم في نفس البيت ولكن كانت زوجات أبناءه قد تضايقوا من وجود هذا الأب.. فوضع البنات خطة لطرد هذا الأب وأقنعا الأزواج بالذهاب به إلى دار العجزة وفعلاً استجاب هؤلاء الأبناء، عليهم من الله ما يستحقون وذهبوا بوالدههم إلى دار العجزة. وقالوا للمسؤلين: إن هذا الرجل وجدناه في الطريق ونريد أن نكسب الأجر فوضعناه عندكم دار العجزة. رحبت دار العجزة بهذا الأمر على أنه فعلا رجلا في الطريق ليس له أحد إلا هؤلاء جائوا به إلى هذا المكان. قالوا للبواب المسئول: إذا مات هذا الرجل فهذا رقم البيت ورقم الجوال فاتصل علينا. ما هي إلا لحظات وتعود الذاكرة إلى هذا الأب وينادي أبنائه يا فلان يا فلانة احظروا لي ماء أريد أن أتوضأ. جاء المسئول والممرضين عند هذا الأب الكبير قالوا: أنت في دار العجزة. قال: متى أتيت إلى هنا؟ قالوا: أتيت في يوم كذا وكذا وذكروا أوصاف الأبناء الذين جاءوا به. قال هؤلاء أبنائي ورفع يديه ودعاء عليهم.. اللهم كما فعلو بي هذا الفعل اللهم فأرني وجوههم تلتهب ناراً يوم القيامة.   اللهم أحرمهم من الجنة يارب العالمين وينادي المدير المسئول ويكتب جميع عقاراته وأملاكه وقفاً لهذه الدار ولم يتحمل هذه الصدمة وتوفي مباشره. فرح الأبناء بعدما أتصل عليهم هذا البواب وأعطوه مبلغ من المال فجائوا فرحين ولكن تفاجؤا إذا برجال الأمن يوقفونهم عند المحكمة ليخبروهم أن هذه الأملاك كلها أصبحت ملك لدار العجزة ويجب عليهم أن يخرجوا من هذه الشقق التي كانوا يسكنون فيها هذا في الدنيا قبل الآخرة.

نوح عليه السلام مع ولده: ينادي ولده بأرق الألفاظ، والولد لم يرد يا أبت، وإنما يتجاهل عطف ولده عليه، فلما أبي كان من المغرقين، ومع ذلك طلب الوالد الحنون من الله أن ينجيه.

قال تعالى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) )

قال أمية بن أبي الصلت الثقفي في ابنه العاق:

غَذَوْتُكَ مولوداً وَعْلتُكَ يَافِعاً *   تُعَلُّ بِما أُدْنِي إِليكَ وتَنْهَلُ

إِذا لَيلةٌ نابَتْكَ بالشَّكْوِ لَم أَبِتْ  *   لِشَكْواكَ إِلا سَاهراً أَتَمَلْمَلُ

كَأَنِّي أَنَا المَطرُوقُ دَوَنكَ بِالذي  *  طُرِقْتَ به دُوني وعَينيَ تَهْمِلُ

تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَليكَ وإِنَّها  *  لتَعلَمُ أنَّ المَوتَ حَتمٌ مؤجّلُ

فَلمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ والغايةَ التي  * إِليهَا مَدَى مَا كُنْتَ فِيكَ أُؤَمِّلُ

جَعَلْتَ جَزائِي مِنكَ جَبْهاً وغِلْظةً  *  كأَنَّكَ أنتَ المُنعِمُ المُتفضِّلُ

فَليتَكَ إِذ لَم تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتي * فَعَلْتَ كمَا الجارُ المُجاوِرُ يَفعَلُ

وسَمَّيْتَني باسْمِ المُفَنَّدِ رأيُهُ * وفِي رَأْيِكَ التَّفْنيدُ لَو كُنْتَ تَعقِلُ

تَراهُ مُعِداً للخِلاَفِ كَأَنَّهُ * بِرَدٍّ علَى أَهْلِ الصَّوَابِ مُوَكَّلُ

 

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

جمع وترتيب: الشيخ أحمد أبو عيد

%%%%%%%%

 



[1])السلسلة الصحيحة

[2])متفق عليه

[3])متفق عليه

[4])سنن الترمذي (صحيح)

[5])سنن الترمذي (صحيح)

[6])سنن أبي داوود (صحيح)

[7])مسند أحمد (حسن)

[8])صحيح ابن حبان ( صحيح)

[9])صحيح مسلم

[10])) صحيح مسلم

[11])صحيح مسلم

[12])صحيح البخاري

[13])سسن ابن ماجة ( صحيح)

[14])صحيح مسلم

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات