إعمال العقل في فهم النص، الإمام أبو حنيفة أنموذجًا للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهدٌ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدٌ أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرًا، أما بعد:
العناصر
أولًا: ضرورة العقل للإنسان
ثانيًا: الإمام أبو حنيفة وإعماله للعقل في فهم النص
الموضوع
أولًا: ضرورة العقل للإنسان
بالعقل ميَّز الله الانسان على غيره: هذه الميزة إن تم َّ استغلالها الاستغلال الأمثل رفعت صاحبها إلى أعلى الدرجات كما قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء: 70].
وإن لم يحسن استغلالها كانت وبالًا عليه في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) (سورة الأعراف :179) هؤلاء فشبههم سبحانه وتعالى بالأنعام وجعلهم الغافلون، لأن لهم أعينٌ لكنهم لا ينظرون بها إِلا إلى الحرامِ، ولهم أذنٌ لكنهم لا يسمعون بها إلا الحرامَ، ولهم قلوبٌ لكنها امتلأتْ بالحقدِ والبغضاءِ والحسدِ والكراهيةِ، ولهم عقولٌ لكنها لا تفقُه شيئًا ولا تعرفُ شيئًا ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ
ولذلك قال بعضُ الحكماءِ: (خلقَ اللهُ الملائكةَ من عقلٍ بلا شهوةٍ وخلقَ البهائمَ من شهوةٍ بلا عقلٍ وخلقَ ابنَ آدمَ من كليهمَا فمَن غلبَ عقلُه على شهوتِه فهو خيرٌ من الملائكةِ ومن غلبتْ شهوتُه على عقلِه فهو شرٌ من البهائمِ).
دعا الإسلام العقل إلى اتباع البرهان: وأمر بنبذ الجهل والهوى والكبر والتعصب والتقليد الأعمى والجدل بالباطل والخرافات والأوهام والسحر والشعوذة والدجل؛ لأن هذه الآفات كلها تعطل العقل عن وظيفته؛ فيتمسك صاحبه بالخطأ ولو ظهر عواره، ويُعرض عن الصواب ولو استبانت أنواره، قال -تعالى-: (إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)[البقرة:170].
دعا الإسلام العقل إلى التفكر والتأمل: سواء كان التفكر في نصوص الشرع بحسن فهمها والعمل بها، أو التفكر في مجالات الكون الفسيح، وما أودع الله فيه من عجائب المصنوعات، الدالة على وحدانيته وعظمته وجلاله، والقرآن مليء بالآيات الداعية إلى النظر في سنن الكون وقوانين الحياة، قال -تعالى-: (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ)[يونس-101].
وعندما نزل على نبينا الكريم عليه السلام، قوله -سبحانه-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ)[آل عمران:190] كان في حال عجيبة من التأثر، حيث سئلت عائشة -رضي الله عنها-، أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي، قال: "يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي"، قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما سرَّك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي؛ فلم يزل يبكي حتى بل حِجْره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لم تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد نزلت عليّ الليلة آيةٌ، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها؛ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ)[آلعمران190] ([1]).
دعا إلى تنمية العقول بالحث على التعلم والاستزادة منه: لأن العلم زاد العقول، والنصوص الشرعية حافلة بالحث على طلب العلم، وبيان كثرة فضائله ومزاياه، قال الله -تعالى-: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آل عمران: 18]، وقال -سبحانه-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة: 11]، وقال -تعالى-: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)]طه:114].
العاقلون هم أهل التذكر والتدبر والهدى: قال الله تعالى: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) [البقرة:269]. وقال تعالى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الرعد:19]. وقال تعالى: (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [إبراهيم:52]. وقال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [صّ:29]. وقال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:18].
بالعقل نتفكر وننظر في خلق الله وقدرته: قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) [النساء: 82].
وقال تعالى: (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغاشية: 17-20].
ثم يتحدى العقل بحواسه أن يجد خللاً في شيء منها ليزداد بعد عجزه إيماناً وتسليماً (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك: 3-4].
وقال تعالى: (قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الأنعام: 11] وقال تعالى: (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ) [الأنعام: 6].
عاب الله على من يعطلون عقولهم عن وظائفها: ولا يسخرونها في التفكر؛ سواء في آياته الشرعية؛ كما في قوله، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد:24]، أو في آياته الكونية؛ كما في قوله، (وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)[يوسف:105].
ومن الدلائل -أيها المسلمون-: أن القرآن حافل بالحجج العقلية الدامغة على وجود الله وتوحيد وصدق رسله وإثبات المعاد وغير ذلك؛ فمن ذلك على سبيل المثال، قوله -تعالى-: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)[الطور:35]؛ فهذا برهان عقلي قاطع؛ فإما أن يكونوا خُلقوا من العدم، ومعلوم أن العدم لا يخلق شيئاً؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وإما أن يكونوا خَلقوا أنفسهم، وهم يعلمون أنهم لم يخلقوا أنفسهم؛ فلا يبقى إلا أن لهم خالقاً، هو الله -تعالى-.
حذر من كل ما يؤدي إلى اضرار العقل: فحرم شرب الخمر قال تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة: 90]
وحرم كل مسكر ((كل مسكر خمر وكل مسكر حرام)) ([2])
العقل له حدود: قال بعض أهل العلم: "إن العقل البشري مهما كان مبلغه من الذكاء وقوة الإدراك قاصر غاية القصور وعاجز غاية العجز عن معرفة حقائق الأشياء؛ فهو عاجز عن معرفة النفس الإنسانية ومعرفة النفس لا تزال من أعقد مسائل العلم والفلسفة، وهو عاجز عن معرفة حقيقة الضوء، والضوء من أظهر الأشياء وأوضحها، وعاجز عن معرفة حقيقة المادة، وحقيقة الذرات التي تتألف منها، والمادة ألصق شيء بالإنسان".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "لا ريب أن البصر يعرض له الغلط ورؤية بعض الأشياء بخلاف ما هي عليه ويتخيل ما لا وجود له في الخارج فإذا حكم عليه العقل تبين غلطه".
ثانيًا: الإمام أبو حنيفة وإعماله للعقل في فهم النص
أسسَ الإمامُ أبو حنيفةَ النعمان مدرستَهُ التي تهتمُّ بالاجتهادِ واستنباطِ الأحكامِ من النصوصِ، والنظرِ إلى دلالةِ النصِّ والغايةِ منه. وهذه المدرسةُ التي أسسَها الإمامُ- رحمه اللهُ - تؤكدُ على تجردِه من الاجتهادِ الفرديِّ، واعتمادِه على اختيارِ مجموعةٍ من العلماءِ أصحاب تخصصاتٍ علميةٍ مختلفةٍ ومتنوعةٍ؛ فيتمُّ طرحُ المسألةِ للنظرِ والمناظرةِ الساعة والساعات؛ فلربَّما اتفقوا مع أبيِ حنيفة، وربما استقلوا.
وكان للعقلِ الجماعيِّ دورٌ كبيرٌ في إثراءِ هذه المعارفِ والتوافقِ بل الإجماع في بعضِ الأحيانِ إدراكًا منهم بأن النظرَ والتفكيرَ الجماعيَّ أكثرُ عصمةً من أخطاءِ التفكيرِ الفرديِّ التي هي عرضةٌ للأخطاءِ والزللِ.
وقد استندَ الإمامُ– رحمه اللهُ - في تأسيسِ مدرستهِ إلى القرآنِ والسنةِ. فالقرآنُ بقولِه تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا }. (النساء: 82 , 83).
فهذا النصُّفيه دليلٌ ودعوةٌ صريحةٌ إلى إمعانِ النظرِ وإعمالِ الفكرِ من الأفرادِ أو الجماعةِ؛ في ظلِّ الأحكامِ العامةِ والقواعدِ الضابطةِ لاستخراجِ كنوز العلمِ؛ ولولوجِ بحار أنوارِ
المعارفِ للفهمِ الدقيقِ، واستنباطِ الجواهرِ والدررِ التي تعيدُ للأمةِ مجدَها وحضارَتها الزاهرة التي قامتْ على الاستنباطِ وفقَ قواعدِ الشرعِ، وبعقولٍ نيرةٍ مسترشدةٍ بما توصلَ إليها ممن سبقَها من معارف.
ومن السنةِ ما روي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: " كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ " . قَالَ أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ . قَالَ " فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ " . قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . قَالَ " فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ فِي كِتَابِ اللَّهِ " . قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو . فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ وَقَالَ "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ " . ([3])
وقد انفردَ الإمامُ– رحمه اللهُ– في مدرستِه ومذهبِه الحنفيِّ بمسائلَ كثيرةٍ في الفقهِ الإسلاميِّ عن الجمهورِ؛ وذلك وفقَ ما توصلَ إليه مِن خلالِ إدراكِه وفهمِه واستنباطِه الأحكام من نصوصِ القرآنِ والسنةِ .
وهذه بعض النماذج على إعماله للعقل في فهم النص
إحياءُ الأرضِ الموات: فقد قال صلى اللهُ عليه وسلم : " من أحيا أرضًا ميتةً فهيَ لهُ " . ([4]). فالكثيرُ من الفقهاءِ أخذَ بظاهرِ النصِّ دونَ تمعنٍ وتريثٍ وبدونِ إعمالِ العقلِ في فهمِ الحديثِ وما يرادُ منه، فقالوا تثبتُ ملكيةُ المحيي من الأرضِ لمن أحياهَا.
أما أبو حنيفة - رحمه اللهُ - نظرَ في الحديثِ نظرةّ ثاقبةً، وقام بإعمالِ عقلِه في إحياءِ المواتِ واشترطَ ثبوتَ الملكيةِ بإذنِ الإمامِ– الحاكمُ وليُ الأمرِ – فكان يقولُ " من أحيا أرضًا مواتًا فهي له إذا أجازَهُ الإمامُ، ومن أحيا أرضًا مواتًا بغير إذنِ الإمامِ، - الحاكم ولي الأمر - فليستْ له، وللإمامِ أنْ يخرجَهَا من يدِه، ويصنعُ فيها ما رأى من الإجارةِ والإقطاعِ وغيرِ ذلك.
وكان يقولُ رحمه اللهُ" أرأيتَ رجلين أرادَ كلُّ واحدِ منهما أن يختارَ موضعًا واحدًا وكلّ واحدٍ منهما منعَ صاحبَه، أيهما أحقُّ؟ أرأيتَ إن أرادَ رجلٌ أنْ يحيى أرضًا ميتةً بفناءِ رجلٍ، وهو مقرٌ أنه لا حقَّ له فيها، فقال لا تحييهَا ؛ لأنها بفنائي، وذلك يضرُّنِي" فالفصلُ في مثلِ هذه الخصوماتِ قولُ وإذنُ الإمامِ حتى لا يحدثَ النزاعُ والشقاقُ والتعدي على أملاكِ الغيرِ وأملاكِ الدولةِ بغيرِ حقٍّ وبرأي الإمامِ أخذتْ الدولةُ المصريةُ.
إخراجُ القيمةِ في زكاةِ الفطرِ: فقد ذهبَ الأئمةُ الثلاثةُ إلى وجوبِ زكاة الفطرِ من الحبوبِ التي وردتْ في النصَّ، وما يماثلهَا من غالبِ قوتِ البلدِ ؛ وذهبَ الإمامُ أبو حنيفة بجوازِ إخراجِ القيمةِ؛ استنادًا إلى عملِ بعضِ الصحابةِ والتابعين؛ وأنّ القيمةَ أنفعُ للفقيرِ وأيسرُ للمزكيِ ؛ وبالقيمةِ يحصلُ الإغناءُ كما يحصلُ بالطعامِ ؛ وقد أخذَ بجوازِ إخراجِ القيمةِ الأزهرُ الشريفُ؛ ودارُ الإفتاءِ المصرية؛ ومجمعُ البحوثِ الإسلامية .
ما تجبُ فيه زكاةُ الزروعِ: فقد ذهبَ الأئمةُ الثلاثة إلى أنّ زكاةَ الزروعِ تجبُ فيما يكالُ ويقتاتُ؛ كالبرِ والأرزِ والتمرِ والزبيبِ، واستدلوا على ذلك بقولهِ صلى اللهُ عليه وسلم: "ليسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ" ([5]). وقال: "ليسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أوْساقٍ مِن تَمْرٍ، ولا حَبٍّ صَدَقَةٌ". (مسلم ). وهذا يدلُّ على أنّ الزكاةَ إنما تجبُ فيما يكالُ ويقتاتُ، كما سبقَ. أما الفواكهُ والخضرواتُ والبقولُ فليستْ مما يكالُ فلا تجب فيها الزكاةُ.
وذهب الإمامُ أبو حنيفة إلى أنها تجبُ في القليلِ والكثيرِ مما أخرجتْهُ الأرضُ من الحبوبِ كلِّها؛ والثمارِ كلها؛ والفواكه كالموزِ والرمانِ والخوخِ ، وكذلك من الخضرواتِ والبقولِ والزهورِ، واستدلَ على ذلك بعمومِ قولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} ( البقرة: 267) . وعمومِ قولِه صلى الله عليه وسلم: " فِيما سَقَتِ السَّمَاءُ والعُيُونُ أَوْ كانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وما سُقِيَ بالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ" ([6]) .
ومذهبُ الإمامِ أنه يُراعي مصلحةَ الفقيرِ ؛ فتجبُ عنده الزكاةُ في كلِّ ما يزرعُ من أصنافٍ؛ دون النظرِ إلى كيلٍ أو وزنٍ أو اقتياتٍ أو نصابٍ أو غيرِه ؛ وهذا الرأيُ مرجوحٌ وليس راجحًا كما قال بذلك كثيرٌ من الفقهاءِ .
وكان ذا عقل رشيد يخاطب الناس بالعقل والحكمة ليعيدهم إلى الصواب، ويصرفهم عن الضلال الذي وقعوا فيه، مثل رجل يتهم سيدنا عثمان باليهودية: سمعَ الناسُ يومًا رجلًا يمشي في سوقِ الكوفةِ يقول : عثمانُ بن عفان كافرٌ عثمانُ كافرٌعثمانُ بن عفان كان يهوديًّا، فأتاه أبو حنيفة، وطرقَ بابَه وكان الرجلُ مازال يقولُ : عثمان كافرٌ غير مسلمٍ.. فوجدَ الرجل الإمامَ أبا حنيفة على بابهِ ففرحَ بشدةٍ . فقال له أبو حنيفة: جئتُك خاطبًا لابنتك، قال: لِمَن؟ قال : رجلٌ شريفٌ غنيٌ بالمالِ، حافظٌ لكتابِ الله، سخيٌّ يقوم الليلَ في ركعةٍ، كثيرٌ البكاءِ من خوفِ الله، عظيمُ النسبِ، كثيرُ الأدبِ، جميلُ المُحيّا، عظيمُ العبادةِ فقال الرجلُ : نعم يا إمام ! ويكفي أنّه من طرفِك يا إمام، فقال أبو حنيفة : إلا أنّ فيه خَصلةً، قال: وما هي قال: يهوديٌّ، قال: سبحانَ الله! تأمرُني أن أزوجَ ابنتي من يهوديٍ يا إمام، كيف هذا ؟ فقال : فكيف قَبِل عقلكَ أنّ رسولَ الله زوّجَ ابنتيه لرجلٍ غير مسلمٍ؟ وذلك لأنّ عثمانَ بن عفان قد تزوجَ من ابنتي النبيِّ رقية وأم كلثوم ..فقال الرجلُ : أستغفرُ اللهَ , تبتُ يا إمام إني تائبٌ إلى اللهِ عز وجل.. واللهِ لا أسبُّ عثمانَ بعدَ اليومِ.. ([7])
مناظرةٌ بين أبي حنيفة والملاحدة في إثباتِ الخالقِ -سبحانه وتعالى- : في يومٍ من الأيامِ، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماءِ؛ فوعدَهم أنْ يأتوا بعدَ يومٍ أو يومين؛ فجاءوا، قالوا: "ماذا قلتَ؟ قال: "أنا أفكرُ في سفينةٍ مملوءةٍ من البضائعِ والأرزاقِ جاءتْ تشقُّ عُبابَ الماءِ حتى أرستْ في الميناءِ وأنزلتْ الحمولةَ وذهبتْ، وليس فيها قائدٌ ولا حمالون.قالوا: تتفكرُ بهذا؟! قال: نعم قالوا: إذًا ليس لك عقلٌ! هل يعقلُ أنّ سفينةً تأتي بدونِ قائدٍ وتنزلُ وتنصرفُ؟! هذا ليس معقولا ! قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أنّ هذه السماواتِ والشمسَ والقمرَ والنجومَ والجبالَ والشجرَ والدوابَ والناسَ كلَّها بدونِ صانعٍ؟! فعرفوا أن الرجلَ خاطبَهم بعقولِهم، وعجزوا عن جوابِه.
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد
والحمد لله رب العالمين
جمع وترتيب الشيخ أحمد أبو عيد
01098095854
****************