النظام الاقتصادي في الإسلام للشيخ : محمد جودة عيد
أولاً : السنن الإلهية في الاقتصاد ثانياً : إِذَا عَارَضَتْ الْقَوَانِينُ الْبَشَرِيَّةُ سُنَنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ فَاشِلَةٌ
ثالثاً : موقف المسلم من الأزمات المالية رابعاً : تنظيم الشريعة للأموال كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ
خامساً : البركة والمحق في الرزق من أفعال الله
سادساً : من أسباب البركة في الرزق
1- السعي لكسب الرزق وتحصيل المعاش 2- تحري الحلال المشروع في الكسب واجتناب الحرام
3- الصدق في التجارة 4- إقامة العدل في المعاملات التي يحتاج إليها الناس لمعاشهم
5- إخراج الزكاة لمستحقيها 6- التَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ
سابعاً : من أسباب محق البركة من الرزق
1- إضاعة المال بالإسراف والتبذير 2- بيع الطعام قبل حيازته
3- أكل أموال الناس بالباطل 4- أكل الربا، والوعيد الشديد فيه
الموضـــــــــــــــــــــــــــــــــــوع
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَاسِطِ الرِّزْقِ وَقَابِضِهِ ؛ أَغْنَى وَأَقْنَى ، وَمَنَعَ وَأَعْطَى ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى ؛ (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الْعَنْكَبُوتِ : 62]، نَحْمَدُهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْمَدَ، وَنَشْكُرُهُ فَهُوَ أَحَقُّ مَنْ يُشْكَرُ .
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ; لَا يَقَعُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِأَمْرِهِ ، وَلَا يُقْضَى شَأْنٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ ؛ (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) الرَّحْمَنِ: 29 .
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ؛ بَعَثَهُ ربهُ بِالدِّينِ الْمُبَارَكِ الَّذِي عَمَّتْ بَرَكَتُهُ الْأَرْضَ جَمِيعا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابا مُبَارَكا يَهْدِي الْعِبَادَ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا ، (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الْأَنْعَامِ : 155] .
صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
أما بعــــــــــــــــــــد:
أولاً : السنن الإلهية في الاقتصاد
مِنَ الْمُتَقَرَّرِ عِنْدَ الْمُسْلِمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَهَبَ النَّاسَ حَيَاتَهُمْ، وَكَتَبَ أَرْزَاقَهُمْ، وَسَخَّرَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا لَهُمْ ؛ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) [الْبَقَرَةِ: 29] .
وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، الْجَاثِيَةِ: 13
وَهَذِهِ الْهِبَاتُ الرَّبَّانِيَّةُ، وَالتَّسْخِيرُ الْإِلَهِيُّ لَهُ سُنَنٌ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ فِي الْأَرْضِ; فَمَنْ عَقَلَهَا وَأَخَذَ بِهَا نَالَ بُحْبُوحَةَ الْعَيْشِ، وَأَمِنَ مِنَ الْجُوعِ وَزَوَالِ الرِّزْقِ
وهذه السُّنَنُ الرَّبَّانِيَّةُ هِيَ طَرِيقَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَانُونُهُ فِي مُعَامَلَةِ الْبَشَرِ، وَهِيَ سُنَنٌ مُضْطَرِدَةٌ لَا تَتَخَلَّفُ وَلَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، وَلَوِ اخْتَلَفَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ; وَلِذَلِكَ أَحَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ؛ (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) [الْإِسْرَاءِ: 77] .
وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الْأَحْزَابِ: 62] .
وَفِي آيَةٍ ثَالِثَةٍ: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) ، فَاطِرٍ: 43
وإِنَّ مِنْ تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الرِّزْقِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ وَأَسْكَنَهَا الْبَشَرَ قَدَّرَ فِيهَا مَا يَحْتَاجُونَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: مِنْ هَوَاءٍ وَمَاءٍ وَطَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَنَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) [الرَّعْدِ: 8] .
وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) الْفُرْقَانِ: 2
وَأما بِخُصُوصِ الرِّزْقِ فِي الْأَرْضِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: (وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) [فُصِّلَتْ: 10] ، فَقَدَّرَ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ مِنَ الرِّزْقِ مَا يَسْتَوْعِبُ الْبَشَرَ كُلَّهُمْ مَهْمَا بَلَغَتْ كَثْرَتُهُمْ، وَعَظُمَ اسْتِهْلَاكُهُمْ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ
وَهَذِهِ السُّنَنُ الرَّبَّانِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ وَمَسْؤُولِيَّتِهِ، وَأَنَّ الْعَذَابَ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا بِمَا اقْتَرَفَتْ يَدُهُ، وَأَنَّ نَجَاتَهُ تَكُونُ بِتَعَلُّمِ هَذِهِ السُّنَنِ وَفِقْهِهَا وَمُوَافَقَتِهَا، وَالْبُعْدِ عَنْ مُعَارَضَتِهَا، وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِنَا أَنَّهُ مَا أَخْفَاهَا عَنَّا، بَلْ كَشَفَهَا لَنَا فِي وَحْيِهِ الْمُنَزَّلِ لِنَقْرَأَهَا وَنَفْقَهَهَا وَنَعْمَلَ عَلَى وَفْقِهَا.
إِنَّهَا سُنَنٌ تَسْتَجِيبُ لِمَنْ يُوَافِقُهَا وَلَوْ كَانَ ضَعِيفًا، وَتَسْتَعْصِي عَلَى مَنْ يُعَارِضُهَا وَلَوْ كَانَ قَوِيًّا جَبَّارًا
وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ انْقِيَادَ السُّنَنِ لِمَنْ يَأْخُذُ بِهَا وَيُوَافِقُهَا هُوَ أَيْضًا سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ، كَمَا أَنَّ اسْتِعْصَاءَ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ يُعَارِضُهَا وَيُخَالِفُهَا سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِهِ عَزَّ وَجَلَّ
ثانياً : إِذَا عَارَضَتْ الْقَوَانِينُ الْبَشَرِيَّةُ سُنَنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ فَاشِلَةٌ
وَلقَدْ دَعَانَا رَبُّنَا جَلَّ جَلَالُهُ لِلنَّظَرِ فِي هَذِهِ السُّنَنِ وَفَهْمِهَا، وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا; لِيَكْتَمِلَ لَنَا عَيْشُنَا، وَلِئَلَّا يُصِيبَنَا مَا يُكَدِّرُهُ أَوْ يَقْلِبُهُ إِلَى خَوْفٍ وَجُوعٍ وَقِلَّةٍ؛ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ، الْأَنْعَامِ: 11
وَالْمُكَذِّبُونَ لَمْ يَعْقِلُوا سُنَنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ ، وحَادُوا عَنْهَا ، كَانَ الْهَلَاكُ عَاقِبَتَهُمْ، وَقَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ عَذَابِهِمْ حَيْدَتُهُمْ عَنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاقْتِصَادِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَغِشُّهُمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ
وَمَا قَرَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِنْ أَنَّ أَرْزَاقَ الْأَرْضِ مُقَدَّرَةٌ عَلَى عَدَدِ الْبَشَرِ، وَأَنَّ خَيْرَاتِهِ سُبْحَانَهُ تَكْفِيهِمْ مَهْمَا بَلَغَتْ كَثْرَتُهُمْ; يُبْطِلُ نَظَرِيَّةَ مَالْتُسْ وَأَتْبَاعِهِ الَّتِي كَانَ لَهَا أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي الْفِكْرِ الرَّأْسِمَالِيِّ الْمُتَسَلِّطِ، وَمُلَخَّصُهَا : أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ مَوَارِدَ لَنْ يَكْفِيَ الْبَشَرَ، وَلَا بُدَّ مِنَ التَّخَلُّصِ مِنْ بَعْضِهِمْ لِيَعِيشَ الْبَعْضُ الْآخَرُ، فَكَانَتِ الْحُرُوبُ تُفْتَعَلُ فِي دُوَلِ الْعَالَمِ الثَّالِثِ; لِأَجْلِ ذَلِكَ; فَتُنْهَبُ ثَرَوَاتُهُمْ، وَتُسْتَعْمَرُ بُلْدَانُهُمْ، وَيُقْتَلُ بَشَرُهُمْ، وَتَجُوعُ أُسَرُهُمْ; لِضَمَانِ رَفَاهِيَةِ الدُّوَلِ الرَّأْسِمَالِيَّةِ وَشُعُوبِهَا، وَهَذَا الظُّلْمُ الْعَظِيمُ كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ الْبَاطِلَةِ، وَكَانَ فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّابِتَةِ فِي أَخْذِ الظَّالِمِينَ
وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ هَذَا الْفِكْرَ الْمُنْحَرِفَ، وَتِلْكَ النَّظَرِيَّةَ الْخَبِيثَةَ عَارَضَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سُنَنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَغَرَّتْهُمْ قُوَّةُ الرَّأْسِمَالِيِّينَ، وَبَنُو اقْتِصَادَهُمْ عَلَى وَفْقِ مَنْهَجِهِ الْفَاسِدِ، وَظَهَرَتْ نَتَائِجُ ذَلِكَ لِلْعِيَانِ، وَيُخْشَى مِنْ أَزْمَةٍ جَارِفَةٍ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ، وَصَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى، وَصَدَقَ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَبَ الرَّأْسِمَالِيُّونَ وَنَظَرِيَّاتُهُمْ؛ (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) ، النِّسَاءِ: 126
وإِذَا عَارَضَتْ الْقَوَانِينُ الْبَشَرِيَّةُ سُنَنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ فَاشِلَةٌ ; لِأَنَّ الْقَطْعِيَّ أَقْوَى مِنَ الِاحْتِمَالِيّ
وَهَذَا هُوَ أَهَمُّ سَبَبٍ لِإِخْفَاقِ النَّظَرِيَّتَيْنِ الِاقْتِصَادِيَّتَيْنِ الِاشْتِرَاكِيَّةِ وَالرَّأْسِمَالِيَّةِ، وَنَجَاحِ النِّظَامِ الْإِسْلَامِيِّ الِاقْتِصَادِيِّ، حَتَّى صَارَ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْغَرْبِيِّينَ يُنَادُونَ بِتَطْبِيقِهِ فِي هَذَا الظَّرْفِ الِاقْتِصَادِيِّ الْحَرِجِ، وَلَمْ يُنَادُوا بِالنِّظَامِ الِاشْتِرَاكِيِّ; لِثُبُوتِ فَشَلِهِ أَيْضًا، وَلَا يُعْرَفُ فِي التَّارِيخِ فَشَلٌ لِلنِّظَامِ الِاقْتِصَادِيِّ الْإِسْلَامِيِّ مَعَ أَنَّهُ أَقْدَمُ مِنَ النِّظَامَيْنِ الرَّأْسِمَالِيِّ وَالِاشْتِرَاكِيِّ بِقُرُونٍ كَثِيرَة .
إِنَّ الْأَرْضَ فِي الْقَرْنِ الْأَخِيرِ قَدْ فَاضَتْ بِالْخَيْرَاتِ، وَتَحَرَّرَتْ فِيهَا التِّجَارَاتُ عَقِبَ الثَّوْرَةِ التِّجَارِيَّةِ، ثُمَّ اتَّسَعَتِ الْأَرْزَاقُ أَكْثَرَ بَعْدَ الثَّوْرَةِ الصِّنَاعِيَّةِ، وَزَادَتْ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ بَعْدَ ثَوْرَتَيِ الِاتِّصَالِ وَالْمُوَاصَلَاتِ، وَلَكِنَّ الْفَقْرَ ازْدَادَ فِي الْأَرْضِ، وَكَثُرَ الْجُوعُ، وَتَبِعَ ذَلِكَ اخْتِلَالُ الْأَمْنِ، وَاضْطِرَابُ الْأَحْوَالِ .
بَلْ بَلَغَ مِنْ بَطَرِ النَّاسِ، وَإِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ عَقِبَ السِّيَادَةِ الرَّأْسِمَالِيَّةِ أَنَّ مَوَارِدَ الْأَرْضِ، وَأَرْزَاقَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؛ قَدِ اسْتُنْزِفَ مِنْهَا خِلَالَ مِائَةِ سَنَةٍ فَقَطْ أَكْثَرُ مِمَّا اسْتُنْزِفَ خِلَالَ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ مُنْذُ خُلِقَتِ الْأَرْضُ إِلَى مَا قَبْلَ مِائَةِ سَنَةٍ
وَالْمَصَانِعُ الْعِمْلَاقَةُ الْمُتَعَدِّدَةُ تَدُورُ آلَاتُهَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ لِتُنْتِجَ مَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى ، وَآلَاتُ الزِّرَاعَةِ تَسْتَخْرِجُ الْمِيَاهَ مِنْ أَعْمَاقِ الْأَرْضِ، وَيُزْرَعُ بِهَا مِنْ مِسَاحَاتِ الْأَرْضِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ، فَتُمْلَأُ الْمَخَازِنُ بِمَلَايِينِ الْأَطْنَانِ مِنَ الْغِذَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مِلْيَارَيْ إِنْسَانٍ تَحْتَ خَطِّ الْفَقْرِ، أَيْ : مَا يُقَارِبُ ثُلُثَ الْبَشَرِ؛ فَأَيْنَ هَذَا الْإِنْتَاجُ الْعَظِيمُ مِنَ الطَّعَامِ وَالْكِسَاءِ عَنْ أَفْوَاهِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ؟
إِنَّ فَهْمَ هَذِهِ السُّنَنِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي الِاقْتِصَادِ وَالْمَالِ هُوَ أَهَمُّ مَا يُعِينُ عَلَى مَعْرِفَةِ أَسْبَابِ الِانْتِكَاسَةِ الْمَالِيَّةِ الْعَالَمِيَّةِ فِي الْفِكْرِ الرَّأْسِمَالِيِّ; وَإِلَّا فَإِنَّ التَّحْلِيلَاتِ الْمَادِّيَّةَ، وَالْحُلُولَ الْبَشَرِيَّةَ لَنْ تُجْدِيَ شَيْئًا أَمَامَ سُنَّةٍ رَبَّانِيَّةٍ عَارَضُوهَا، وَمَهْمَا بَلَغَتِ الْحُلُولُ الْعَاجِلَةُ وَالْإِسْعَافَاتُ الطَّارِئَةُ فَلَنْ تَكُونَ إِلَّا مُجَرَّدَ حِبَالٍ بَالِيَةٍ قَدْ مُدَّتْ لِغَرِيقٍ يُصَارِعُ الْمَوْتَ فِي لُجَّةِ مُحِيطٍ مُضْطَرِبٍ لَا تَلْبَثُ إِلَّا يَسِيرًا فَتَنْقَطِعُ وَيَغْرَقُ .
ثالثاً : موقف المسلم من الأزمات المالية
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْأَمْنُ وَالشِّبَعُ نِعْمَتَانِ يَطْلُبُهُمَا كُلُّ النَّاسِ، وَالْخَوْفُ وَالْجُوعُ عُقُوبَتَانِ يَفِرُّونَ مِنْهُمَا، وَالْهِجْرَاتُ الْجَمَاعِيَّةُ مِنَ الدُّوَلِ الْمُضْطَرِبَةِ، وَتَرْكُ النَّاسِ بُيُوتَهُمُ الَّتِي عَمَرُوهَا، وَمُفَارَقَةُ دِيَارِهِمُ الَّتِي نَشَؤُوا فِيهَا، وَالْبَحْثُ عَنْ غُرَبَاءَ يُؤْوُونَهُمْ، وَيَتَجَرَّعُونَ عِنْدَهُمْ كَأْسَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ ، إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ الْفِرَارِ مِنَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، وَطَلَبِ الْأَمْنِ وَالرِّزْقِ .
وَوَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ إِنْ أَرَادَ مَوْقِفًا صَحِيحًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْكَوَارِثِ الْمُتَوَقَّعَةِ أَنْ يَصْدُرَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ; فَفِيهِمَا الرَّشَادُ لِلْمُسْتَرْشِدِينَ ، وَدَلَالَةُ التَّائِهِينَ ، وَمَنْ أَخَذَ بِهِمَا فَلَنْ يَضِلَّ أَبَدا
إِنَّهُ لَنْ يَحْصُلَ شَيْءٌ كَبُرَ أَوْ صَغُرَ إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ; فَحَقٌّ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَلْجَؤُوا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ مَا يُحَاذِرُونَهُ مِنْ كَوَارِثَ وَمُشْكِلَاتٍ؛ (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) , الْأَنْعَامِ: 63-64
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “ كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ “؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: “ جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَتْ: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : لِنُوقِنْ تَمَامَ الْيَقِينِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا ضَيَّعَ الْبَشَرَ حِينَ خَلَقَهُمْ، وَأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - قَدْ كَفَلَ أَرْزَاقَهُمْ، وَمَا مِنْ مَوْلُودٍ يَفِدُ إِلَى الدُّنْيَا إِلَّا وَرِزْقُهُ مَعَهُ، وَلَكِنَّ الْبَشَرَ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، حَتَّى ضَاقَتِ الْأَرْزَاقُ، وَنُزِعَتِ الْبَرَكَاتُ .
أَيُّهَا النَّاسُ : لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ وَمَا عَلَيْهَا، وَأَسْكَنَهَا آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْمَنَافِعِ مَا تَصْلُحُ بِهِ أَحْوَالُهُمْ، وَيَسْتَقِرُّ مَعَاشُهُمْ، وَيَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَمْنَهُمْ؛ (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [الْبَقَرَةِ : 36]، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) , الْمُلْكِ : 15
وَنَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَنَّ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ بِيَدِهِ، وَهُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ وَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ; فَلْنُؤْمِنْ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَلْنُعَلِّقْ قُلُوبَنَا بِهِ سُبْحَانَهُ، وَلْنَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَلْنُسَلِّمْ أَمْرَنَا إِلَيْهِ; فَهُوَ أَرْحَمُ بِنَا مِنَ النَّاسِ
رابعاً : تنظيم الشريعة للأموال كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ :
مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَدَرِيَّةِ فِي عِبَادِهِ : أَنْ جَعَلَهُمْ مُتَفَاوِتِينَ فِي الرِّزْقِ وَالْمَالِ، مُتَبَايِنِينَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ؛ (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) [النَّحْلِ : 71] ، وَحِكْمَةُ هَذَا التَّفَاوُتِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَرْزَاقِ تَسْخِيرُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ؛ (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) الزُّخْرُفِ : 32
وَمِمَّا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَنَظَّمَتْهُ ، وَلَمْ يُتْرَكْ لِلْبَشَرِ يَخُوضُونَ فِيهِ بِأَهْوَائِهِمْ : مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ وَتَبَادُلِهَا، وَكَسْبِهَا وَإِنْفَاقِهَا؛ إِذْ إِنَّ الْأَمْوَالَ قِيَامُ الْبَشَرِ، وَأَسَاسُ حَضَارَتِهِمْ وَعُمْرَانِهِمْ، فَحُسْنُ تَعَامُلِهِمْ بِهَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالْأَمْنِ وَالرَّخَاءِ وَالِاسْتِقْرَارِوالبركة ، وإن أساؤا اسْتِخْدَامِهِمْ لَهَا ، وعارَضُوهَا لِأَجْلِ حُظُوظِ أَنْفُسِهِمْ تَكَدَّرَتْ حَيَاتُهُمْ، وَاضْطَرَبَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَنُزِعَتْ بَرَكَةُ أَمْوَالِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ، فَلَا تَكْفِيهِمْ مَهْمَا كَانَتْ كَثْرَتُهَا ويَكُونُ ذلك سَبَبًا لِلْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَالِاضْطِرَابِ
وَمِنْ سُنَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى- الشَّرْعِيَّةِ فِي الْأَمْوَالِ : أَنَّهُ أَرَادَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ تَصِلَ إِلَى كُلِّ الْبَشَرِ، وَلَا يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا فِئَةٌ مِنَ النَّاسِ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَيَسْتَأْثِرُونَ بِهَا عَنْهُمْ، وَيُدِيرُونَهَا بَيْنَهُمْ، وَيَحْرِمُونَ مِنْهَا غَيْرَهُمْ (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الْحَشْرِ : 7] ؛ أَيْ : كَيْلَا يَكُونَ الْفَيْءُ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ دُونَ الْفُقَرَاءِ
وَالدُّولَةُ : اسْمٌ لِلشَّيْءِ يَتَدَاوَلُهُ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ، يَكُونُ لِهَذَا مَرَّةً وَلِهَذَا مَرَّةً، وَالْمَعْنَى : أَنَّهُ يَغْلِبُ الْأَغْنِيَاءُ الْفُقَرَاءَ عَلَيْهِ فَيَقْسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ
وَلِأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ تَعَالَى الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا قَاضِيَةٌ بِأَلَّا يَكُونَ الْمَالُ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ - فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- شَرَعَ ضَوَابِطَ وَقُيُودًا عَلَى الْبُيُوعِ وَالتِّجَارَاتِ وَالشَّرِكَاتِ، وَتَبَادُلِ الْأَمْوَالِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ؛ لِئَلَّا تُطْلَقَ فِيهِ أَيْدِي الْأَغْنِيَاءِ وَالْوَاجِدِينَ، فَيَسْحَقُوا الْفُقَرَاءَ وَالْمُعْدِمِينَ، فَمَنَعَتِ الشَّرِيعَةُ الرِّبَا وَالْقِمَارَ، وَالْغِشَّ وَالِاحْتِكَارَ، وَالنَّجشَ وَتَلَقِّيَ الرُّكْبَانِ، وَفَرَضَتْ شُرُوطًا لِلْبَيْعِ تَمْنَعُ الْغَرَرَ، وَتَرْفَعُ الضَّرَرَ، وَتَدُورُ بِهَا السِّلَعُ وَالْأَمْوَالُ فِي الْأَسْوَاقِ بِالْعَدْلِ وَالرِّضَا
فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَالْزَمُوا شَرِيعَتَهُ، وَإِنْ حَادَ عَنْهَا الْمُبْطِلُونَ، وَتَمَسَّكُوا بِهَا وَلَوْ سَخِرَ مِنْهَا الْمُنَافِقُونَ؛ فَإِنَّهَا عَهْدُ اللَّهِ تَعَالَى لَكُمْ، وَوَصِيَّتُهُ إِلَيْكُمْ وَإِلَى النَّبِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ قَبْلَكُمْ، وَهِيَ نَجَاتُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، الْبَقَرَةِ : 132 .
خامساً : البركة والمحق في الرزق من أفعال الله
اعْلَمُوا أَنَّ الله مَالِكُ الْمُلْكِ، وَمُدَبِّرُ الْأَمْرِ، وَرَازِقُ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ مِنْ بَرَكَاتِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَى عِبَادِهِ ؛ (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) ,غَافِرٍ : 64
وَفِي دُعَاءِ الْوِتْرِ نَقُولُ : "إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ"؛ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ
وَعَقِبَ كُلِّ صَلَاةٍ نَقُولُ فِي أَذْكَارِهَا الْبَعْدِيَّةِ : "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ"؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَهَذَا الِاعْتِرَافُ الدَّائِمُ بِالرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَجَلَّ جَلَالُهُ - هُوَ طَلَبٌ لِلْبَرَكَةِ مِنْهُ - سُبْحَانَهُ - فِي أُمُورِنَا كُلِّهَا؛ لِمَسِيسِ حَاجَتِنَا إِلَى الْبَرَكَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ السَّعَادَةِ وَهَنَاءِ الْعَيْشِ وَرَغَدِهِ، وَخَوْفًا مِنَ الْمَحْقِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الشَّقَاءِ وَالتَّعَاسَةِ وَالْفَقْرِ وَالْجُوعِ
إِنَّ الْبَرَكَةَ وَالْمَحْقَ وَصْفَانِ مُؤَثِّرَانِ فِي الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ أَرْزَاقٍ وَأَمْوَالٍ، وَهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الرَّبِّ - جَلَّ جَلَالُهُ -، فَإِذَا بَارَكَ رِزْقًا قَلِيلًا وَسِعَ النَّاسَ كُلَّهُمْ مَهْمَا بَلَغُوا، وَإِذَا مَحَقَ شَيْئًا لَمْ يَكْفِ صَاحِبَهُ وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا، وَكَمَا أَنَّ الْبَرَكَةَ هِيَ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَدَوَامُهُ وَلَوْ بَدَا لِلنَّاسِ قَلِيلًا، فَإِنَّ الْمَحْقَ قِلَّةُ الشَّيْءِ وَزَوَالُهُ وَلَوْ كَانَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ كَثِيرًا
أثر الإيمان والإلحاد بهاتين الصفتين :
وَأَهْلُ الْإِيمَانِ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، بِخَلَافِ الْمَلَاحِدَةِ الْمَادِّيِّينَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْغَيْبَ، وَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِالْعَدِّ وَالْحِسَابِ وَالْإِحْصَاءِ وَالْمِيزَانِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ ضَيَّعَهُمْ فَلَمْ تَكْفِهِمْ أَرْزَاقُهُمْ، وَبِنَظْرَتِهِمُ التَّشَاؤُمِيَّةِ، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِاللَّهِ - تَعَالَى - أَوْبَقُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَضَرُّوا بِغَيْرِهِمْ
إِنَّ رَبَّنَا - جَلَّ جَلَالُهُ - مَوْصُوفٌ بِالْغِنَى وَالْجُودِ؛ فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) [سَبَأٍ : 24] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
وَمِنْ جُودِهِ وَكَرَمِهِ جَلَّ جَلَالُهُ أَنْ يُبَارِكَ فِي أَرْزَاقِ عِبَادِهِ حَتَّى يَكْفِيَ قَلِيلُهَا كَثِيرَهُمْ، وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ خَلَقَ الْأَرْضَ، وَبَسَطَ فِيهَا الرِّزْقَ، وَجَعَلَهَا مَسَاكِنَ لِلْبَشَرِ؛ بَارَكَ - سُبْحَانَهُ - فِي مَنَافِعِهَا وَمَوَارِدِهَا وَأَرْزَاقِهَا فَهِيَ تَكْفِي الْبَشَرَ مَهْمَا بَلَغَتْ أَعْدَادُهُمْ، وَهَذِهِ الْبَرَكَةُ فِي الْأَرْضِ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَصِفُ خَلْقَهُ لِلْأَرْضِ (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) , فُصِّلَتْ : 10
ثبوت بركة الله على عباده بالحس
وَهَذِهِ الْبَرَكَةُ ثَابِتَةٌ بِالْحِسِّ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَقْتَطِعُونَ جُزْءًا يَسِيرًا مِنَ الْأَرْضِ يَزْرَعُونَهُ، فَيَنْتُجُ مِنَ الطَّعَامِ مَا يُشْبِعُ عَدَدًا كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَأَكْثَرُ الْمُزَارِعِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا يَعِيشُونَ وَأُسَرُهُمْ طَوَالِ حَيَاتِهِمْ عَلَى مَا تُنْتِجُهُ أَرَاضِيهِمْ مِنْ خَيْرَاتٍ، وَأَكْثَرُ الْبِلَادِ الْفَقِيرَةِ يَعِيشُ أَفْرَادُهَا عَلَى الزِّرَاعَةِ، وَلَوْلَاهَا لَهَلَكُوا، بِدَلِيلِ أَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي يُحْبَسُ عَنْهَا الْمَطَرُ، وَيُصِيبُهَا الْجَفَافُ يَهْلِكُ أَفْرَادُهَا مِنَ الْجُوعِ
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا بَارَكَ الْأَرْضَ جَعَلَ لِبَرَكَةِ الْخَيْرَاتِ فِيهَا أَسْبَابًا إِنْ أَخَذَ النَّاسُ بِهَا بَارَكَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ فَكَفَتْهُمْ وَفَاضَتْ عَنْهُمْ وَلَوْ بَدَتْ لِلنَّاسِ قَلِيلَةً، كَمَا جَعَلَ سُبْحَانَهُ لِلْمَحْقِ أَسْبَابًا إِنْ أَتَاهَا النَّاسُ مُحِقَتْ بَرَكَةُ أَرْزَاقِهِمْ؛ فَلَا تَكْفِيهِمْ وَلَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً
إِنَّهَا سُنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ فِي الرِّزْقِ وَالْمَالِ وَالْمُعَامَلَاتِ التِّجَارِيَّةِ، لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ؛ إِنْ فَهِمَهَا الْبَشَرُ وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهَا بُورِكَ لَهُمْ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمْ يَشْتَكُوا نُدْرَةً وَلَا قِلَّةً، وَلَمْ يَجِدُوا بَخْسًا وَلَا نَقْصًا، وَإِنْ عَارَضَهَا الْبَشَرُ جَرَتْ فِيهِمْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فَمُحِقَتْ أَرْزَاقُهُمْ، وَذَهَبَتْ بَرَكَةُ إِنْتَاجِهِمْ
سادساً : من أسباب البركة في الرزق
1- السعي لكسب الرزق وتحصيل المعاش
قال تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } الملك/15، قال ابن كثير: " أي: فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم " ، تفسير ابن كثير 4/424
ومن عظمة هذا الدين أن جعل للنية الصالحة في كسب المال - إن كان ضمن الطرق المباحة – دورا كبيرا في تحويل الأعمال المباحة إلى عبادة من العبادات يثاب عليها المسلم، ففي الحديث عَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ، قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ) الطبراني في المعجم برقم/15619 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم/1428
2- تحري الحلال المشروع في الكسب واجتناب الحرام
وفي ذلك يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } البقرة/172
وفي الحديث عن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ». ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ) . صحيح مسلم برقم/2393
3- الصدق في التجارة
وَمِنْ سُنَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى - مُبَارَكَةُ الْأَمْوَالِ بِالتِّجَارَةِ الْحَلَالِ، وَالصِّدْقِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَتَلْحَقُ بَرَكَةُ أَرْبَاحِهَا الْمَالَ كُلَّهُ، فَيَكُونُ مَالًا مُبَارَكًا، كَمَا أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ - سُبْحَانَهُ - مَحْقَ الْأَمْوَالِ بِالْبُيُوعِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْكَذِبِ وَالْغِشِّ وَالضَّرَرِ وَالِاحْتِكَارِ، فَيُحِيطُ الْمَحْقُ بِأَصْحَابِهَا وَأَمْوَالِهِمْ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا : حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ " إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ؛ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَلَوْ أَمْعَنَّا النَّظَرَ فِي هَاتَيْنِ السُّنَّتَيْنِ الرَّبَّانِيَّتَيْنِ الْقَاضِيَتَيْنِ بِأَنَّ الْمَالَ يَتَبَارَكُ بِالزَّكَاةِ وَبِالصِّدْقِ وَالنُّصْحِ فِي الْعُقُودِ وَالتِّجَارَةِ، وَأَنَّ الْمَالَ يُمْحَقُ بِالرِّبَا وَبِالْكَذِبِ وَالْغِشِّ فِي التِّجَارَةِ، ثُمَّ نَزَّلْنَا هَاتَيْنِ السُّنَّتَيْنِ عَلَى وَاقِعِ الْبَشَرِ - فَإِنَّنَا سَنُدْرِكُ يَقِينًا أَنَّ الْمَحْقَ قَدْ حَاقَ بِالْبَشَرِ فِي أَرْزَاقِهِمْ بِسَبَبِ انْتِشَارِ الرِّبَا فِي أَمْوَالِهِمْ، وَتَفَشِّي الْمُحَرَّمَاتِ فِي عُقُودِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ، وَأَنَّ الْبَرَكَةَ نُزِعَتْ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ بِسَبَبِ مَنْعِ الزَّكَاةِ، وَقِلَّةِ الصِّدْقِ وَالنُّصْحِ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ.
وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَغْفَلُهُ النَّاسُ فِي تِلْكَ الْأَزَمَاتِ الْمَالِيَّةِ الْمُتَلَاحِقَةِ، الَّتِي تُنْذِرُ بِخَطَرٍ كَبِيرٍ، نَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - الْعَافِيَةَ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، كَمَا نَسْأَلُهُ - سُبْحَانَهُ - الثَّبَاتَ عَلَى الدِّينِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) ، الْبَقَرَةِ : 278 – 279
4- إقامة العدل في المعاملات التي يحتاج إليها الناس لمعاشهم
وقد شرع الإسلام وأباح أنواعا كثيرة من العقود : كالبيع والإجارة والرهن والشركة والمساقاة والمزارعة و...... غيرها
ومن عظمة الإسلام ومرونته في باب المعاملات أن فتح المجال أمام ما تكشف عنه التجارب الاجتماعية من عقود شريطة أن لا تنطوي على الظلم أو الإجحاف بطرف من الأطراف ، أو يكون فيها نوع من أكل أموال الناس بالباطل، ومن هنا يمكن فهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون عند شروطهم فيما أحل) ، صحيح الجامع للألباني برقم/6715
ومِنَ الْأَوَامِرِ الْإِلَهِيَّةِ لِلْبَشَرِ لِاسْتِمْرَارِ الرِّزْقِ وَالْأَمْنِ - إِقَامَةُ الْعَدْلِ، وَاجْتِنَابُ الظُّلْمِ; لِأَنَّ الظُّلْمَ قَدْ يَنْشَأُ عَنِ اعْتِقَادِ كَثْرَةِ الْبَشَرِ، وَقِلَّةِ الرِّزْقِ، فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا ظَفَرَ بِالرِّزْقِ إِلَّا بِالْقُوَّةِ وَسَحْقِ الضُّعَفَاءِ; لِئَلَّا يُشَارِكُوا الْأَغْنِيَاءَ فِي أَرْزَاقِ الْأَرْضِ، فَيَكُونُ هَذَا الْمُعْتَقَدُ الْخَاطِئُ هُوَ سَبَبَ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ مَا وَقَعَ فِيهِ الْبَشَرُ لَمَّا حَادُوا عَنْ هُدَى اللَّهِ تَعَالَى وَشَرِيعَتِهِ
وَكَانَ مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ إِهْلَاكُ الْأَقْوِيَاءِ إِذَا ظَلَمُوا، وَإِصَابَتُهُمْ بِالْقَوَارِعِ وَالْكَوَارِثِ إِذَا اعْتَدَوْا عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَهُوَ مَا وَقَعَ مِنَ الدُّوَلِ الرَّأْسِمَالِيَّةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الدُّوَلِ، بَلْ وَقَعَ فِي الدَّوْلَةِ الرَّأْسِمَالِيَّةِ الْوَاحِدَةِ حِينَ انْتَهَبَ أَغْنِيَاؤُهُمْ أَمْوَالَ فُقَرَائِهِمْ بِالرِّبَا وَالتَّأْمِينِ وَالْغِشِّ وَالِاحْتِكَارِ؛ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هُودٍ: 102]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ) [الْأَنْبِيَاءِ: 11]، وَفِي آيَةٍ ثَالِثَةٍ: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) ، الْحَجِّ: 48
5- إخراج الزكاة لمستحقيها
وَنَجِدُ هَذَا الْقَانُونَ الرَّبَّانِيَّ وَاضِحًا كُلَّ الْوُضُوحِ فِي قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - : (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) [الْبَقَرَةِ : 276]، وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ، الرُّومِ : 39
إِنَّ الرِّبَا يَزِيدُ الْمَالَ فِي الظَّاهِرِ فَتَهْفُو النُّفُوسُ إِلَيْهِ، وَإِنَّ الزَّكَاةَ تُنْقِصُ الْمَالَ فِي الظَّاهِرِ فَيُحْجِمُ النَّاسُ عَنْهَا، وَلَكِنَّ سُنَّةَ اللَّهِ - تَعَالَى تَقْضِي بِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي الرِّبَا تَعُودُ عَلَى الْمَالِ وَصَاحِبِهِ بِالْمَحْقِ، كَمَا أَنَّ الْجُزْءَ الْمُزَكَّى يَعُودُ عَلَى الْمَالِ وَصَاحِبِهِ بِالْبَرَكَةِ وَالنَّمَاءِ؛ وَلِذَا قِيلَ فِي الزَّكَاةِ : إِنَّهَا النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، وَهَذِهِ السُّنَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ الْمُحْكَمَةُ يَعْرِفُهَا الْمُؤْمِنُونَ؛ لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، وَيَجْهَلُهَا الْمَادِّيُّونَ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْغَيْبَ
يقول عليه الصلاة والسلام: "إذا أدّيتَ زكاة مالك، فقد قضيتَ ما عليك".والسؤال، هل يقوم من وجبت عليه الزكاة بدفع الزكاة وفق قوانينها الشرعية؟ هل يدفع مُحصِياً ما يملك بشكل دقيق وموثّق؟ وهل ينفق الطيب والأنفع للفقير؟ أم أنه فيما يخص الزكاة يشتغل على الإجمال من حيث الحساب، ويشتغل على الإهمال من حيث نوع ما يعطي ويقدِّم؟ فإن وجد لديه بضاعة كاسدة جعلها زكاة، وإن وجد أن زكاته ستكون كثيرة حاول أن يقلل من ممتلكاته ليقولَ عن تلك الأرض التي أعدّها للتجارة لا ليست للتجارة، بل من أجل ولدي حتى أبني عليها أرضاً ومزرعة له. ثم يسأل بخبث هل على المزرعة زكاة؟! لا، إذاً هذه الأرض مزرعة؛ لأنه وجد أن الزكاة ستكون كبيرة، ولا سيولة. هكذا يقول، وهو يعلم أنه يكذب على نفسه وعلى الناس؛ لأن نصاب الزكاة ليس كبيرا، فهي تتراوح من "2، 5 %" في النقود والتجارة، إلى "5%" في الزرع المسقى بالآلات، إلى "10%" فيما سقي بغير الة، إلى "20%" في الركاز "المعادن" وفيما يعثر عليه من الكنوز، فكلما كان جهد الإنسان أكبر كانت النسبة أقل. ومع ذلك يتهرب عبيد المال من إخراجها للفقراء والمحتاجين، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلما- عندما قال فيهم وفي أمثالهم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم’’
ولا شك أن منع الزكاة عن مستحقيها له ضرر على مانعها وعلى المجتمع أيضا
فأما الضرر على مانعها: فهو وعد الله له بالعذاب الأليم على مانعها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[التوبة: 34].
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا أحميت يوم القيامة، فجعلت صفائح من نار، فكوي بها جنبه وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" [أخرجه مسلم]. وكذا يُحرم بركة الرزق عقوبة له من الله، وحكم الشرع فيه أن تؤخذ منه قهرا، ويعاقب بأنواع من العقوبات منها في الدنيا ومنها في الآخرة .
وأما الأضرار التي تلحق المجتمع: فمنها: أنهم يتسببون بمنع القطر من السماء بسبب منع الزكاة، مما يؤدي إلى انتشار الجوع؛ كما في الحديث: "ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا" [رواه ابن ماجة وصححه الألباني] . وإذا لم يجد الفقراء حاجتهم من الزكاة أدى هذا إلى سخط الفقراء على الأغنياء، واتساع دائرة الكراهة والشحناء بين المسلمين، وسادت الطبقية، وانتشرت الجريمة، وقل المعروف بين الناس، وترتب على ذلك كل مساوئ الفقر والفاقة
أيها المسلمون: المحتاجون كثيرون من أقاربنا من إخواننا، جيراننا، من أبناء ديننا، من أولئك الذين ننظر إليهم على أنهم أتقى منا، لكنهم في حاجة، لكنهم في بؤرة الضرورة يعانون، ونحن ننظر إليهم ولا نتحرك، ولا نفعل، ولا نطبق، ولا ننفذ
كنا نسمع الآيات التي طبقها الصحابة تطبيقاً كاملاً: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، الحشر:9
كان الواحد يقول لأخيه: هذا مالي فخذ نصفه، لن نقول الآن افعلوا هذا، لكننا نقول: "إذا أديتَ زكاة مالك فقد قضيت ما عليك
ليتك أديت الزكاة التي عليك .
6- التَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ
لْنَعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَ الْبَشَرَ، وَمَا يَتَوَقَّعُونَهُ مِنْ نَكَسَاتٍ مَالِيَّةٍ ضَخْمَةٍ يَتَدَاعَى مَعَهَا الْغِنَى وَالْأَمْنُ، وَيَنْتَشِرُ الْجُوعُ وَالْخَوْفُ فِي الْأَرْضِ مَا هُوَ إِلَّا بِسَبَبِ ذُنُوبِ الْعِبَادِ; فَكَمْ حَارَبُوا اللَّهَ تَعَالَى فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا بِالرِّبَا وَالظُّلْمِ، وَأَنْوَاعِ الْغِشِّ وَالْبُيُوعِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَقَدْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ فِي مَنْأًى عَنِ الْعُقُوبَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَقَدْ عَارَضُوا سُنَنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَخَالَفُوا شَرْعَهُ؛ (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آلِ عِمْرَانَ: 165]، (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ، الشُّورَى: 30
وَلَا نَجَاةَ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، سِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا كَمَا رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَذَابَ عَنْ قَوْمِ يُونُسَ لَمَّا تَابُوا؛ (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) ، يُونُسَ: 98
وَبِمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَزْمَةَ الْمَالِيَّةَ الْعَالَمِيَّةَ وَمَا سَيَنْتِجُ عَنْهَا مَا هِيَ إِلَّا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّنَا مَأْمُورُونَ أَنْ نَتَعَوَّذَ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْ سُوءِ الْقَدَرِ، وَأَنْ نَسْأَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَنَّا; فَإِنَّ الدُّعَاءَ يَرُدُّ الْقَدَرَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “ تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ “؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ
أَلَا فَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَسَلُوهُ الْعَافِيَةَ لَكُمْ وَلِأُمَّتِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَمْ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكُمْ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكُمْ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ
سابعاً : من أسباب محق البركة من الرزق
1- إضاعة المال بالإسراف والتبذير
قال تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } الأعراف/31
وقال تعالى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } الإسراء/26
وفي الحديث عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنَعَ وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ) ، صحيح البخاري برقم/2408
قال الحافظ ابن حجر: "ومنع منه لأن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح إما في حق مضيعها وإما في حق غيره....." ، فتح الباري 10/422
2- بيع الطعام قبل حيازته
وَمِنْ عَجِيبِ مَا جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ مِنْ قَيْدٍ عَلَى الْبُيُوعِ - وَفِيهِ مِنْ تَدَاوُلِ الْمَالِ وَمِنَ الْمَصَالِحِ لِلنَّاسِ مَا لَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ- : اشْتِرَاطُ حِيَازَةِ الطَّعَامِ الْمَبِيعِ قَبْلَ بَيْعِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا : حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ ’’
وَفِي لَفْظٍ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبْتَاعُ الطَّعَامَ، فَيَبْعَثُ عَلَيْنَا مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَاهُ فِيهِ إِلَى مَكَانٍ سِوَاهُ قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
’’ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا، فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ
وَفِي رِوَايَةٍ : "أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْكَرَ بَيْعَ طَعَامٍ لَمْ يُنْقَلْ مِنْ مَحَلِّهِ، وَقَالَ لِوَالِي الْمَدِينَةِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ : أَحْلَلْتَ بَيْعَ الرِّبَا؟ فَقَالَ مَرْوَانُ : مَا فَعَلْتُ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَحْلَلْتَ بَيْعَ الصِّكَاكِ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُسْتَوْفَى، قَالَ : فَخَطَبَ مَرْوَانُ النَّاسَ فَنَهَى عَنْ بَيْعِهَا، قَالَ الرَّاوِي : فَنَظَرْتُ إِلَى حَرَسٍ يَأْخُذُونَهَا مِنْ أَيْدِي الناسِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنَ الْبَيْعِ، كَمَا أَنْكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى مَرْوَانَ
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : "قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ بِزَيْتٍ فَسَاوَمْتُهُ فِيمَنْ سَاوَمَهُ مِنَ التُّجَارِ حَتَّى ابْتَعْتُهُ مِنْهُ، حَتَّى قَالَ : فَقَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَبَّحَنِي فِيهِ حَتَّى أَرْضَانِي، قَالَ : فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ لِأَضْرِبَ عَلَيْهَا، فَأَخَذَ رَجُلٌ بِذِرَاعِي مِنْ خَلْفِي، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَالَ : لَا تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْتَهُ حَتَّى تَحُوزَهُ إِلَى رَحْلِكَ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فَأَمْسَكْتُ يَدِي"، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
بَلْ جَاءَ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَاقَبُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ ذَلِكَ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا اشْتَرَوْا طَعَامًا جُزَافًا أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يُحَوِّلُوهُ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
الحكمة من منع ذلك
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى وَاقِعِ الْأَسْوَاقِ تَبَيَّنَتْ لَهُ بَعْضُ الْحِكَمِ الْعَظِيمَةِ مِنْ هَذَا التَّشْرِيعِ الرَّبَّانِيِّ، وَعَلِمَ سَبَبَ التَّشْدِيدِ فِيهِ؛ فَالْأَحَادِيثُ نَصٌّ فِي أَنَّ الطَّعَامَ لَا يَبِيعُهُ مَنِ اشْتَرَاهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَوْفِيَهُ، وَيَحُوزَهُ إِلَى مِلْكِهِ
وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي الْبَيْعِ سَبَبٌ لِتَدَاوُلِ الْمَالِ وَالطَّعَامِ عَلَى أَوْسَعِ نِطَاقٍ، وَمَنْعِ الْأَغْنِيَاءِ مِنَ احْتِكَارِهِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الطَّعَامَ بِهِ عَيْشُ النَّاسِ، وَهُوَ أَهَمُّ السِّلَعِ وَأَشَدُّهَا ضَرُورَةً، وَهُوَ أَكْثَرُهَا اسْتِهْلَاكًا، فَإِذَا مُنِعَ التُّجَّارُ مِنْ تَدَاوُلِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ دُونَ حِيَازَتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ وَنَقْلِهِ - رَآهُ النَّاسُ بِكَثْرَةِ تَنَقُّلِهِ، وَاطْمَأَنُّوا إِلَى تَوَفُّرِ الْغِذَاءِ. وَهَذَا مَا يُسَمَّى فِي مُصْطَلَحَاتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْنِ الْغِذَائِيِّ
وَيَعُودُ ذَلِكَ بِتَحَقُّقِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَمْنِ الْحِسِّيِّ؛ لِاطْمِئْنَانِ النَّاسِ أَنَّ مَعَايِشَهُمْ لَيْسَتْ فِي خَطَرٍ، ثُمَّ إِنَّ كِبَارَ التُّجَّارِ إِذَا اضْطُرُّوا إِلَى نَقْلِ الطَّعَامِ بَعْدَ شِرَائِهِ بِالْجُمْلَةِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ التُّجَّارِ إِلَى أَنْ يَصِلَ لِمَحَلَّاتِ الْبَيْعِ بِالتَّجْزِئَةِ - انْتَفَعَ بِهَذَا التَّحْرِيكِ وَالنَّقْلِ جُمْلَةٌ مِنَ الْعَامِلِينَ فِي الْأَسْوَاقِ؛ فَتَزْدَهِرُ سَيَّارَاتُ النَّقْلِ وَيُرْزَقُ مُلَّاكُهَا وَسَائِقُوهَا، وَتُسْتَأْجَرُ الْمُسْتَوْدَعَاتُ وَالثَّلَّاجَاتُ لِلتَّخْزِينِ فِيهَا، وَيَصِلُ نَفْعُ ذَلِكَ إِلَى الْحَمَّالِينَ وَالْحُرَّاسِ؛ إِذْ يَجِدُونَ عَمَلًا بِتَحْمِيلِ هَذِهِ الْبَضَائِعِ وَتَنْزِيلِهَا وَحِرَاسَتِهَا، وَيَتَحَرَّكُ الْمَالُ فِي أَيْدِي أَكْبَرِ عَدَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَيَنْتَفِعُ بِهِ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ، وَلَا يَكُونُ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ دُونَ الْفُقَرَاءِ
وَلَوْ أُطْلِقَتِ الْحُرِّيَّةُ فِي الْبَيْعِ، وَلَمْ يَلْزَمْ نَقْلُ الْمَبِيعِ بَعْدَ بَيْعِهِ - وَلَا سِيَّمَا فِيمَا يَكْثُرُ اسْتِهْلَاكُهُ كَالطَّعَامِ - فَإِنَّ السِّلَعَ يَتَدَاوَلُهَا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَدَدٌ مِنَ التُّجَّارِ وَهِيَ فِي مَكَانِهَا، فَيَكُونُ الْمَالُ فِي أَيْدِيهِمْ، وَلَا يَصِلُ إِلَى غَيْرِهِمْ
فَمَا أَحْسَنَ حُكْمَ اللَّهِ -تَعَالَى- لِعِبَادِهِ ! وَمَا أَعْدَلَ شَرِيعَتَهُ فِيهِمْ ! وَمَا أَشَدَّ ظُلْمَ الْبَشَرِ وَبَغْيَهُمْ حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ، الْمَائِدَةِ : 50
3- أكل أموال الناس بالباطل
قال تعالى: { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } البقرة/188
قال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بَيِّنة، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل حرامٍ . تفسير ابن كثير 1/521
ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ) , صحيح البخاري برقم/ 2387
4- أكل الربا، والوعيد الشديد فيه
ومن سنن الله تعالى الشرعية التي أجمعت عليها كل الشرائع الربانية: تحريم الربا، وتشديد الوعيد فيه؛ حتى لُعن في لسان الشرع آكله وموكله وكاتبه وشاهداه، وأُعلنت الحرب على المرابين، وعدته الشريعة من السبع الموبقات التي تُهلك أصحابها، ويُعذب أكلته في البرزخ في نهر أحمر مثل الدم يُلقمون حجارة في أفواههم لينقلوها من جانب إلى آخر، ويُبعثون يوم القيامة يتخبطون كالذي يتخبطه الشيطان من المس، والعلماء مجمعون على أن الربا في شريعة الله تعالى كبيرة من كبائر الذنوب؛ لما رتب عليه من الوعيد الشديد
قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ، البقرة:278-281
وجاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ظَهَرَ في قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إلا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ الله عز وجل " رواه أحمد
والسنة الشرعية حينما جاءت بتحريم الربا فهي توافق السنة الكونية التي قضاها الله تعالى في الربا وأرباحه وأهله بالمحق ونزع البركات، وحلول العقوبات؛ فإن الله تعالى قد قضى قضاء كونياً بأن الربا ممحوق، وهذه السنة الربانية جاءت في الكتاب والسنة ( يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا ) ، البقرة:276 ، ( فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ الله وَرَسُولِهِ ) ، البقرة:279
وعَنِ ابن مَسْعُودٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فإن عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إلى قُلٍّ " رواه أحمد وصححه الحاكم
وصور المحق في الربا كثيرة : وتعم الدنيا والآخرة؛ لأن الإخبار عن المحق جاء عاماً؛ ليكون محقاً عاجلاً في الدنيا، ومحقاً آجلاً في الآخرة؛ ومن مظاهر محقه:
عدم بركة المال : لأنه ملوث بسبب المحق وهو الربا، وصاحبه ينفقه فيما لا يعود عليه بالنفع بل فيما يضره؛ ليقينه أنه كسب خبيث فيجعله في خبيث أيضاً، فيكتسب به إثمين: إثمًا في الاكتساب وإثمًا في الإنفاق؛ ذلك أن كسب المال في حرام لا يجيز إنفاقه في الحرام كما يظن كثير ممن يتخوضون في الحرام .
ومن أبصر مشاريع كبار المرابين من المسلمين يجد أنها فيما تضر الناس ولا تنفعهم، كما ضرَّ مال الربا صاحبه ولم ينفعه؛ ومن نظر إلى حال ملاك القنوات الفضائية التي هي منبع الفساد، ومرتع الآثام، يجد أنهم من أكلة الربا ومن المتاجرين به؛ لينفقوه في إفساد الناس بقنواتهم، فتتضاعف آثامهم، وتعظم أوزارهم، نسأل الله تعالى السلامة من شرهم وحالهم
ومِنْ محق الربا أن أكثر المرابين لا يُسخِّرون أموالهم في طاعة الله تعالى، ومساعدة المحتاجين؛ لعلمهم أنها أموال سحت محرمة فكيف يتقربون بها إلى الله تعالى!! وهذا من أعظم المحق حين لا ينتفع صاحب المال بماله فيما يقربه إلى الله تعالى؛ فإنْ تصدق بشيء منه أو أنفقه في وجوه البر أو أدى به حجاً أو عمرة كان حريًا بالرد وعدم القبول؛ لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً
وأكلة الربا قد استغلوا حاجة الناس إلى القروض، فأكلوا أموالهم بالباطل، واستعبدوهم بقروضهم، وقهروهم على أموالهم، وراكموا ديونهم، وهؤلاء المظلومون المقهورون يبغضون من استغلوا حاجتهم من كبار المرابين، ويلعنونهم ولا ينفكون عن الدعاء عليهم؛ مما يكون سببًا في زوال الخير والبركة عن أهل الربا في أنفسهم وأهلهم وأموالهم، وهذا من أعظم المحق؛ فإن دعوة المظلوم مجابة، ومن أعظم الظلم أكل أموال الناس بالربا
وإذا جمع المرابون أموالاً عظيمة توجهت إليها أطماع الظلمة الغاصبين، ويشجعهم على ذلك أنهم يرون عدم أحقيتهم بها، فيسوغون لأنفسهم أخذها منهم أو مشاركتهم فيه بالقوة، وهذا واقع مشاهد من تسلط الظلمة بعضهم على بعض، والله تعالى يقول: ( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ، الأنعام:129
ومن المحق بسبب الربا ما تُطبع عليه النفوس من الجشع والطمع والأثرة، وكلها أخلاق رديئة تهلك أصحابها، فتضمحل مظاهر الرحمة والرأفة والقناعة في الأمم التي تتعامل بالربا؛ ذلك أن المحق يلحق القلوب التي تعلقت بكسب الربا، كما يلحق الأموال التي داخلها كسبه الخبيث
وانعدام القناعة من القلوب، وضعف التراحم بين الناس لا تخطئه العين في عصرنا هذا حين سادت قيم الرأسماليين، وانتشرت ثقافة الربا في الأرض، واستحوذت على مؤسسات الأموال والأعمال في العالم، فعمَّ المحق أرجاء الأرض، ودمَّر الأفراد والدول والأمم: فالأفراد في عصر الربا يشتكون من نزع البركة من أموالهم رغم كثرة مواردهم وتعدد سبل كسبهم، ويكدحون ولا يجني كثير منهم نتائج توازي كدحهم وتعبهم
والمحق الربوي قد ضرب في زمننا هذا الدول والأمم؛ فمع اختراع الآلة، واستغلال ثروات الأرض، وتنوع الصناعات، وتعدد الزراعات التي أصبح الإنسان المعاصر ينتج في يوم ما لم يستطع إنتاجه من قبل في سنوات.. رغم ذلك كله فإن أكثر سكان الأرض يعيشون فقرًا، ولا يجدون كفافًا، وفي كل يوم يموت منهم آلاف من الجوع والمرض؛ فأين هي المنتجات الزراعية والصناعية؟! لِمَ لَمْ تسد حاجة الملايين من الفقراء والجياع، وهي تبلغ المليارات من الأطنان، فما كانت إذن قلة إنتاج، ولكنها قلة بركة فيما ينتجون ويزرعون ويصنعون
إنه محق عامٌ أصاب الأفراد والدول والأمم، لا يكاد أحد يسلم منه، وسِرُّ هذا المحق في قول الله تعالى ( يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) ، البقرة:276
خلَّص الله تعالى بلادنا وبلاد المسلمين من الربا والمرابين، وأغنانا والمسلمين بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، إنه سميع قريب .
نعوذ بالله تعالى من زوال نعمته وتحول عافيته وفُجَأَةِ نقمته وجميع سخطه، ونسأله الهداية لنا وللمسلمين أجمعين
وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وصحبه وآله