البناء الاقتصادي في الإسلام للشيخ محمد الخراشي
عناصر الخطبة
1-أهمية العمل
2-الانبياء والعمل
3-البناء يحتاج الي العمل
4-ثمرات العمل
الخطبة
الحمد لله على احسانه والشكر له علي توفيقه وامتنانه ونشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه‘ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي الي رضوانه.
فاللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلي اله وأصحابه واخوانه
ثم أما بعد
أيها الأحباب
إن العمل بجميع أنواعه لابد فيه من الإخلاص والنية الصادقة عند القيام به ، لأن الإنسان عندما يعمل فإنه مراقب فيه ، والمراقب الأول والأعظم هو الله عز وجل ، ثم رسوله الكريم باطلاعه عليها ، ثم المؤمنون الصادقين ، قال تعالى ( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )( سورة التوبة 105) ، فهذه الآية تبين أهمية الإخلاص في العمل ، والحث على إتقانه ، لأننا واقعون تحت رؤية الحق تبارك وتعالى ، والله عز وجل أحق أن يراقب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ) ، الإتقان نقطه يجب أن نقف عندها ، لأن الإتقان في العمل مطلب شرعي يجعله كاملاً من جميع الوجوه لا نقص فيه ولا خلل حتى نقع تحت لواء محبة الله 0
ويلاحظ أن بعض العاملين يتقن العمل الخاص به خير إتقان لأن الفائدة تعود عليه هو فقط ، أما إذا كان العمل في قطاع حكومي ، أو قطاع خاص ( لدى الغير) ، نجد أن الإتقان مفقود ، والتقصير واضح وظاهر ، وهم قلة ولله الحمد ، ثم أن هذه النوعية من الناس نسيت أو تناست قضية الحل والحرمة في الراتب المتعلقة بإتقان العمل من عدمه ، العمل واحد فيجب أن يتصف بالإتقان والإخلاص ، وأن المسئول عن هذا العمل يجب أن يطاع في حدود الشرع ، لأنه لا طاعة إلا في المعروف ولا طاعة لأحد في معصية الخالق فالله عز وجل يقول ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( سورة النساء 59 ) ، فهذه الآية تبين أن الطاعة الأولى لله ، ثم للرسول صلى الله عليه وسلم استقلالاً ، ثم أدخلت طاعة ولي الأمر فيهما لأنه قد يأمر بما يصح وقد يأمر بما لا يصح ، فإذا أمرنا المسؤول بعمل معين لا معصية فيه ولا حرام وجب علينا أن ننفذه قدر المستطاع فينتج عن هذا توازن في العمل وزيادة في الإنتاج وتحديد للمسؤوليات
و إن النظام الاقتصادي في الإسلام قائم على تصور معين ، و هو أن الله هو الخالق و المالك لهذا الكون و ما فيه ، و هو الوهاب و الرزاق ، استخلف الإنسان في هذه الأرض ، و مكَّنه مما فيها من أرزاق و أقوات و قوى و طاقات ، و جعل له حرية التصرف فيها و لكن بشرط أن يكون وفق منهج الله و حسب شريعته ، فالأمر ليس فوضى ، و إنما هناك حدود و قيود واضحة ، فالله هو المشرِّع و له الحكم وحده ، و الإنسان مُستخلَف في الأرض و ليس مالكاً لما في يديه من أرزاق ! .
و بعبارة أخرى ، إن النظام الاقتصادي في الإسلام قائم على أساس الكسب المشروع و الإنفاق المشروع و أداء ما أمر الله بأدائه ، و تنمية المال بوسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين ، فلا بد من الطهارة في النية و العمل ، و النظافة في الوسيلة و الغاية . فإذا قام التصور في النظام الاقتصادي على هذا الأساس ، ازدهرت الحياة الاقتصادية و شاع الرخاء ، و أما إذا قام على غير هذا الأساس المشروع ، انتكست الحياة الاقتصادية و عمت الأزمات . ذلك أن المفاهيم الاقتصادية التي تقوم على أساس الكسب المشروع و الإنفاق المشروع ينتج عنها أن يشيع التفكير بالمصالح العامة ، و أن يحسن الناس التعامل بمصادر الثروة ، و هذا فيه صالح الجميع ، و أما التصور الثاني القائم على الطرق غير المشروعة ، ففيه مصلحة أفراد معينين ، هم النهابين و المحتكرين و المرابين ، الذين يقتصرون في الإنفاق على شهواتهم الخاصة و لا تهمهم إلا مصالحهم الشخصية ، و لو كانت على حساب الآخرين و الإضرار بهم أو حتى سحقهم !! .
فمن البنود التي يقوم عليها النظام الاقتصادي في الإسلام تيسير و توفير فرص العمل و الرزق لكل قادر ، و حسن توزيع الثروة بين الأفراد على أساس الحق و العدل بين الجهد و الجزاء . فالأصل ان يكلف الجميع بالعمل ، كل حسب طاقته و استعداده و فيما يسره الله له ، فلا يكون أحد كلاً على الجماعة و هو قادر على العمل ، و لكن هناك حالات خاصة تُستثنى و هي التي تُعالَج بالزكاة و الصدقة .
قال عليه و آله الصلاة و السلام : " لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق منه فيستغني به عن الناس ، خير له من أن يسأل رجلاً أعطاه أو منعه ذلك ، فإن اليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول " [ صحيح ، الألباني - صحيح الترمذي : 680 ] . و قال : " من استعف أعفه الله ، و من استغنى أغناه الله ، و من سأل الناس و له عدل خمس أواق ، فقد سأل إلحافاً " [إسناده صحيح رجاله ثقات ، الألباني - السلسلة الصحيحة : 2314 ] .
و من البنود كذلك التزام جانب القصد و الاعتدال ، و اجتناب السرف و الشطط في الإنفاق و الاستمتاع بالطيبات التي أحلها الله ، و البعد عن النمط الاستهلاكي الترفي ، و أن تبقى الحاجات الاستهلاكية محدودة بحدود الاعتدال .. ﴿ .. و كلوا و اشربوا و لا تسرفواۤ إنَّهُ لا يُحِبُّ المسرِفينَ ﴾.. { الأعراف : 31 } .
و أيضاً ، أن يقوم التكافل بين المؤمنين ، فينتفعوا جميعاً برزق الله الذي أعطاهم ، فمن وهبه الله سعة في الرزق أفاض و أنفق على من قُدر عليه رزقه ، شعوراً منه بنعمة الله عليه ، و شكراً له عليها ، و ذلك بأن يُحسن التصرف فيها ، و الإحسان إلى الخلق .. ﴿ .. و أَحْسِنْ كماۤ أَحْسَنَ اللهُ إلَيْكَ ..﴾.. { القصص : 77 } .
و يتمثل هذا التكافل في الزكاة المفروضة و الصدقات التطوعية . فالزكاة هي قاعدة المجتمع المؤمن المتكافل المتضامن ، و الصدقة عطاء و سماحة و طهارة و زكاة و تعاون و تكافل ، و النفس التي تنفق في سبيل الله لا تخشى الفقر لأنها نفس تتصل بالله و تعتمد عليه ، و لا يتزعزع يقينها فيما عنده ، فهي إنما عليها أن تأخذ بأسباب الرزق الظاهرة في الأرض ، ثم تستيقن أنها ليست هي التي ترزقها و إنما خالقها و مسببها ، فرزقها مقدر في السماء ، و ما كتب الله لا بد من أن يكون .. ﴿ و فىِ السَّمآءِ رِزْقُكُمْ و ما تُوعَدونَ ﴾..{ الذاريات : 22 } . و أما الكف عن الإنفاق فإنما ينشأ عن دوافع السوء التي يثيرها الشيطان في القلوب ، من مخافة الفقر و الحرص و الشح و التكالب و التطاحن على متاع الدنيا .. ﴿ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفقْرَ و يأمُرُكُم بِالفَحْشاۤءِ و اللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ و فَضْلاً و اللهً وٰسعٌ عليمٌـ ﴾..{ البقرة : 268 } .
و ما من مجتمع يقوم على التكافل و التعاون المتمثل في الزكاة و الصدقة ، و تسوده روح المودة و الحب و الرضا و السماحة ، إلا بارك الله لأهله في مالهم و رزقهم و في صحتهم و قوتهم و في طمأنينة قلوبهم و راحة بالهم .
و أما الوجه الآخر للتكافل و التعاون بدفع الصدقات فهو الربا و ما فيه من قبح و شناعة ، و جفاف في القلب و شر في المجتمع ، و فساد في الأرض و هلاك للعباد ، و فساد في حياة الجماعة و تضامنها ، بما يبثه من روح الشره و الطمع و الأثرة و المقامرة ، فالنظام الربوي نظام يسحق البشرية سحقاً ، و يشقيها في حياتها أفراداً و جماعات و دولاً و شعوباً ، لمصلحة حفنة من المرابين ، و يحطها أخلاقياً و نفسياً و عصبياً ، و يحدث الخلل في دورة المال و نمو الاقتصاد البشري نمواً سوياً . و المجتمع الذي يتعامل بالربا لا تبقى فيه بركة أو رخاء أو سعادة أو أمن أو طمأنينة ، و لا يبارك لأهله في مال و لا في عمر و لا في صحة و لا في طمأنينة بال ، بالبركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد .. ﴿ يَمْحَقُ اللهُ الرِّبوٰا و يُرْبىِ الصَّدَقاتِ ..﴾.. { البقرة : 276 } . و البشرية الضالة التي تأكل الربا و توكله ، تصيبها البلايا في أخلاقها و دينها و صحتها و اقتصادها ، و تتلقى حرباً من الله تصب عليها النقمة و العذاب .. ﴿ فإن لّمْ تفعلوا فأْذَنُوا بحربٍ مِّنَ اللهِ و رسولِهِ و إن تُبْتُمْـ فلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمونَ و لا تُظْلَمونَ ﴾..{ البقرة : 279 } .
و النظام الربوي نهاية الأمر فيه أن يصير جميع المال إلى عدد قليل جداً من المرابين ، و لكن النظام الاقتصادي الإسلامي قائم على دوران المال في الأيدي على أوسع نطاق ، حتى لا يكون في أيدي الأغنياء وحدهم و ممنوعاً من التداول بين الفقراء .. ﴿ .. كَىْ لا يَكونَ دُولَةَۢ بَيْنَ الأغْنِيآءِ مِنكُمْ ﴾..{ الحشر : 7 } . فجعل الله للفقراء حقاً في الزكاة ، و في الغنائم ، و حرم الاحتكار و الربا .
كما و شرَّع الله نظام الإرث ، و هو نظام عادل يتمشى مع الفطرة و مع واقع الحياة و الإنسانية في كل حال ، و فيه ضمان لتفتيت الثروة و عدم تجمعها في أيدٍ قليلة ، و هذا يدعو إلى أن يضاعف الفرد جهده في تنمية ماله ، مما يضمن للأمة النفع و الفائدة من هذا الجهد ، و انتفاع ورثته من هذا المال من خلال مبدأ التكافل الاجتماعي في نظام الإرث . يقول سيد قطب : (( فهو نظام يضمن تفتيت الثروة المتجمعة على رأس كل جيل ، و إعادة توزيعها من جديد ، فلا يدع مجالاً لتضخم الثروة و تكدسها في أيد قليلة ثابتة ، و هو من هذه الناحية أداة متجددة الفاعلية في إعادة التنظيم الاقتصادي في الجماعة ، و رده إلى الاعتدال ، دون تدخل مباشر من السلطات .. هذا التدخل الذي لا تستريح إليه النفس البشرية بطبيعة ما ركب فيها من الحرص و الشح ، فأما هذا التفتيت المستمر و التوزيع المتجدد فيتم و النفس به راضية ، لأنه يماشي فطرتها و حرصها و شحها ! و هذا هو الفارق الأصيل بين تشريع الله لهذه النفس و تشريع الناس !!! )) .
و أنا أستغرب من هؤلاء الذين يظلون لسنوات طوال دون توزيع للميراث ، بحجة عدم تفريق شمل الأسرة أو احتفاظاً بالتركة و ذكرياتهم فيها ، و غيرها من الحجج الواهية ! فهل هم أدرى بمصلحتهم من الله الذي خلقهم و هو أعلم بهم من أنفسهم ، حتى يشرعوا لأنفسهم و يمتنعوا عن توزيع الميراث ؟! فهذا حق شرّعه الله ، و لا يجوز لأحد أن يحول دون إعطائه لأصحابه ، بل إن كثيراً من المشاكل و الأحقاد و الخصومات و قطع الأرحام نتجت عن عدم توزيع الميراث و التساهل في هذا المر ، فما هذه العقول المظلمة ، و ما هذا التفكير السقيم العقيم !! .
إن ازدهار الحياة الاقتصادية تحتاج إلى تحريك المال و تنميته بالطرق المشروعة و تداوله بين الأيدي و أداء حق الله فيه ، لا تكديسه و كنزه و البخل به و الشح ، أو تجمعه في أيدٍ قليلة . كما و تحتاج إلى حركة و عمل و جهد و إسهام الجميع في العمل و البناء ، و حسن استغلال مصادر الثروة ، و الاهتمام بالمصلحة العامة و البعد عن الأثرة و الأنانية .
و مما ورد عن ازدهار الحياة الاقتصادية في عهد نور الدين زنكي ، ما أشار إليه د. حسين مؤنس في قوله : (( التزم نور الدين أحكام الشريعة أيضاً فيما يتصل بجبي الضرائب ، و كانت مقاديرها قد تزايدت مع الزمن ، و ابتكر ظلمة الحكام منها أشياء بعد أشياء ناء الناس بثقلها ، حتى استغنى الكثيرون من التجار عن المتاجرة ، و أخفى الناس أموالهم .. و ارتفعت نسبة الخراج الذي يجبى على الأرض حتى لم يبق للزراع ما يتقوتون به . و كانت النتيجة الطبيعية لذلك – أي بعد إلغاء الضرائب – أن نشط الناس للعمل ، فأخرج التجار أموالهم و مضوا يتاجرون ، و أعلن كل إنسان ما عنده ، فجاءت الجبايات الشرعية بأضعاف ما كان يجبى من وجوه الحرام . فأقبل يعد للجهاد آلته مما آتاه الله ، و نشط في البناء و التعمير .. و استطاع بالقليل الذي وصل إليه أن يهيئ الجيوش بعد الجيوش ، و يبني مئات المدارس و المساجد و المستشفيات ، و يقيم أسوار المدن و قلاعها .. )) ، و بُنيت الأسواق التجارية ، و ازدهرت الصناعات المختلفة ، و الزراعة الواسعة حتى أصبحت كل من مصر و الشام تموج بالبساتين و المروج ، و تزخر بالمحاصيل و الصناعات .
كما و ارتبط بهذا الازدهار الاقتصادي توفير فرص العمل و التدريب المهني و التعليم الحرفي ، و هذا مما أشار إليه ابن جبير في قوله : (( و سائر الغرباء ممن .. عهد الخدمة و المهنة يُسبب له أيضاً أسباب غريبة من الخدمة ، إما بستان يكون ناطوراً فيه ، أو حمام يكون عيناً على خدمته ، و حافظاً لأثواب داخلية ، أو طاحونة يكون أميناً عليها ، أو كفالة صبيان يؤديهم إلى محاضرهم و يصرفهم إلى منازلهم ، إلى غير ذلك من الوجوه الواسعة )) .
و بعد ، فإن الحلال يأتي بالخيرات و البركات ، و الحرام يأتي بالبلايا و المحق و العذاب ، فاكفنا اللهم بحلالك عن حرامك ، و أغننا بفضلك عمن سواك ... اللهم آمين ، و الحمد لله رب العالمين .
اقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين له الحمد الحسن والثناء الجميل يقص الحق وهو خير الفاصلين ونشهد ان لا اله إلا الله وحده لا شريك له وان محمدا رسول الله خاتم الانبياء والمرسلين.
عبادَ اللهِ: دينٌ الإسلامِ دينٌ الفطرةِ والسماحةِ، جمعَ بينَ مقاصدِ الدنيا والآخرةِ، ووفّقَ بينَ سعي الإنسانِ لدنياهُ في طلبِ رزقِه ورزقِ عيالِه، والعيشِ في هذه الدنيا بكرامةٍ وأمانٍ، وبينَ الإقبالِ على الدارِ الآخرةِ والاجتهادِ في العبادةِ.
أيها المسلمونَ: ولما كانَ العملُ وطلبُ العيشِ والكسبُ من ضرورياتِ الحياةِ ولوازمِها هيأَ اللهُ للناسِ من الأسبابِ ما تقومُ به حياتُهم وما فيه مصدرُ عيشِهم " الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار" (إبراهيم:32-34).
عبادَ اللهِ: أعلى الإسلامُ من شأنِ العملِ والكسبِ، ورتَّب عليهما الثوابَ والأجرَ، ومما يؤكِّدُ ذلكَ كثرة الاقتران بينَ العبادةِ والعملِ في نصوصِ القرآنِ الكريم ومن ذلكَ قولُه تعالى:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين" (البقرة:198) .يقولُ ابنُ عباسٍ رضي اللهُ عنه:" كانوا يتّقونَ البيوعَ والتجارةَ في المواسمِ والحجِ، يقولونَ: أيامُ ذكرٍ، فأنزلَ اللهُ: " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم" ، بل قرنَ المولى سبحانَه في كتابِه بينَ المجاهدينَ في سبيِلِه والذينَ يضربونَ في الأرضِ يبتغونَ من فضلِ اللهِ " وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقتلون في سبيل الله "( المزمل:20).
أيها المسلمونَ: إن البحثَ عن العملِ وطلبَ المالِ الحلالِ، والسعيَ على الأهلِ والعيالِ مما حثَّ عليه الإسلامُ، قيلَ يا رسولَ اللهِ أيُّ الكسبِ أطيبُ؟ قالَ:" عملُ الرجلِ بيدِه وكلُ بيعٍ مبرورٍ" (رواهُ أحمدُ وغيرُه) وقالَ صلى اللهُ عليه وسلمَ:" لأن يأخذ أحدُكم أحبُلَهُ فيأتي الجبلَ، فيجيءَ بحُزمةٍ من حطبٍ على ظهرٍ، فيبيعَها فيستغنيَ بثمنِها، خيرُ له من أن يسألَ الناسَ أعطَوه أو منعُوه " (رواه أحمدُ وأصلُه في البخاري) ، وروى كعبُ بنُ عجرةٍ رضي اللهُ عنه قال : مرَّ رجلٌ على النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ، فرأى أصحابُ رسولِ اللهِ صلى اللهِ عليه وسلمَ من جَلَدِهِ ونشاطِه ما رأوا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ لو كانَ هذا في سبيلِ اللهِ ؟ فقالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ :" إن كانَ خرجَ يسعى على ولدِه صغاراً فهو في سبيلِ اللهِ، وإن كانَ خرجَ يسعى على أبوينِ شيخينِ كبيرينِ فهو في سبيلِ اللهِ، وإن كانَ خرجَ يسعى على نفسِه يعُفّها فهو في سبيلِ اللهِ، وإن كانَ خرجَ يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ" رواه الطبرانيُ ورجالُه رجالُ الصحيحِ.
أيها المسلمونَ: ليسَ بعدَ أنبياءِ اللهِ – صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِم- من قدوةٍ يُقتدى بها، كانوا أعفَّ الناسِ عما في أيدي الناسِ، فعمِلوا وكسبُوا بأيدِيهم، وما نقَصَ ذلكَ من اصطفاءِ اللهِ تعالى لهم، ولا أنزلَ ذلكَ من مكانتِهم عندَ الأممِ، كانَ زكريا عليه السلامُ نجاراً، وكانَ داودُ عليه السلامُ حداداً، وقال صلى اللهُ عليه وسلمَ: "ما بَعثَ اللهُ نبياً إلا رعى الغنمَ، فقالَ أصحابُه: وأنتَ ؟ فقالَ: نعم ، كنتُ أرعاها على قراريطَ لأهلِ مكةَ" ( رواه البخاري).
عبادَ اللهِ: لقد كانَ النبي صلى اللهُ عليه وسلمَ يُوجهُ أصحابَه إلى العملِ، ويُجنبُهم البطالةَ والمسألةَ، فإذا جاءَ أحدُهم إليه صلى اللهُ عليه وسلمَ يسألُه مالاً، وكانَ قوياً على العملِ وجهَّه إلى العملِ وحثَّه عليه، وبيَّن له أن العملَ مهما كانَ محتقراً في أعينِ الناسِ فهو أشرفُ للإنسانِ من التسولِ والمسألةِ، ومما يُروى في ذلكَ أن رجلاً من الأنصارِ أتى النبيَ صلى اللهُ عليه وسلمَ يسألُه، فقال: " أما في بيتك شيءٌ؟ قال: بلى، حِلسٌ نلبسُ بعضَه، ونبسُط بعضَه، وقَعبٌ نَشربُ فيه الماءَ، قال: ائتني بهما، قالَ: فأتاه بهما، فأخذَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيده، وقالَ: من يشتري هذين؟ قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمٍ، قالَ: من يزيدُ على درهمٍ؟ مرتينِ أو ثلاثاً، قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، واخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري َّوقالَ: اشتر بأحدهما طعاماً فأنبذه إلى أهلك، واشتر بالآخرِ قَدوماً فأتني به، فأتاه به، فشدَّ فيه صلى اللهُ عليه وسلمَ عوداً بيده، ثم قالَ: اذهب فاحتطِب وبع، ولا أرينَّكَ خمسةَ عشرَ يوماً، فذهبَ الرجلُ يَحتطبُ ويبيعُ، فجاءَ وقد أصابَ عشرةَ دراهمٍ، فاشترى ببعضِها ثوباً وببعضِها طعاماً، فقالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: هذا خيرٌ لك من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهكَ يومَ القيامةِ، إن المسألةَ لا تصلحُ إلا لثلاثةٍ، لذي فقرٍ مُدقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مُفظِعٍ، أو لذي دَمٍ مُوجعٍ" ( رواه أبو داودَ والترمذيِّ وحسنَّه).
لقد كانَ أصحابُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ عُمالُ أنفُسِهم كما تقولُ عائشةُ رضي اللهُ عنها، فها هو أبو بكرٍ الصديقُ رضي اللهُ عنه من أتجرِ قريشٍ، وما قُتلَ عثمانُ بنُ عفانَ رضي اللهُ حتى بلغت غَلّةُ نخلِه مائةَ ألفٍ، وكانَ عبدُالرحمنِ بنُ عوفٍ رضي اللهُ عنه يقولُ: يا حبذا المالَ أصونُ به عرضِي، وأتقربُ به إلى ربي" ، ويقولُ صالحُ ابنُ الإمامِ أحمدَ رحمهما اللهُ: " كانَ أبي ربما أخذَ القَدّومَ وخرجَ إلى دارِ السكنِ يعملُ الشيءَّ بيدِه " ،
أيها المسلمونَ: لقد أنقسمَ الناسُ في الجملةِ فيما يتعلقُ بالكسبِ والعملِ إلى أقسامٍ متعددةٍ:
فقسمٌ زعموا أن السعيَ في طلبِ الرزقِ والتكسبِ ينافي التوكلَ على اللهِ تعالى، فلزموا القعودَ والتخلفَ عن طلبِ المعاشِ والسعيَ في الأرضِ فخالفوا بذلكَ ما أُمروا به، وأصبحوا عالةً على غيرِهم، قالَ ابنُ عباسٍ رضي اللهُ عنهما: كانَ أهلُ اليمنِ يحجون ولا يتزودونَ ويقولونَ: نحنُ متوكلونَ، فيَحجونَ فيأتونَ مكةَ فيسألونَ الناسَ فأنزل اللهُ: " وتزودوا فإن خيرَ الزادِ التقوى" ( البقرة: 197) ، وسألَ رجلٌ أحمدَ بنَ حنبلٍ فقالَ: أيخرجُ أحدُنا إلى مكةَ متوكلاً لا يحملُ معه شيئاً؟ قال: لا يعجبُني فمن أينَ يأكلُ؟ قالَ: يتوكلُ فيعطيه الناسُ، قال: فإذا لم يُعطوه أليس يَتشرفُ حتى يُعطوه؟ لا يُعجبني هذا، لم يبلغُني أن أحداً من أصحابِ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ والتابعينَ فعل هذا، ولكن يعملُ ويطلبُ ويتحرى.
وقسمٌ منَ الناسِ عباد الله أفرطوا في أمرِ التكسبِ، ولم يراعوا حلالاً من حرام، فتلوَّثَ مطعمُهم ومشربُهم وملبسُهم، فحَملوا بذلكَ أثاماً وأوزارا، ومحقَت بركةِ كسبِهم.
وأما القسمٌ الثالثٌ من الناسِ: فقد عمِلوا بالأسبابِ المباحةِ، وتكسَّبوا من الرزقِ الحلالِ، إلا أن الدنيا شغلتُهم عن أداءِ حقِ اللهِ تعالى ، فخَسِروا دنياهم وآخرتَهم، وقد قالَ اللهُ تعالى: " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منه وماله في الآخرة من نصيب" ( الشورى:20)، وأما القسمُ الأخيرُ من الناسِ فهم الذينَ سلكوا الطرقَ المشروعةَ للكسبِ، وجعلوا مرضاةَ اللهِ تعالى نصبَ أعينِهم، فأخذوا ما لهم، وأدوا الحقَ الذي عليهم، وأنفقوا في سبيلِ الخيرِ، وهؤلاءِ هم الذين " هدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد" (الحج:32).
أيها المسلمون: إن مما تفشى في هذه الأزمانِ كثرةُ التسولِ والسؤالِ في الطرقاتِ والمساجدِ وفي غيرِها، وفي أولئكَ القومُ الأصحاءُ الأقوياءُ الأغنياءُ، وفيهم الضعفاءُ والمرضى والفقراءُ، وإن مما ينبغي أن يُعلمَ نهيُ الإسلامِِ عن التسولِ والمسألةِ، لما فيها من ضررٍ وخطورةٍ وفسادٍ على صاحبِها، وما فيها من هضمٍ لحقوقِ الآخرينَ في المجتمعِ، قالَ أبو حامدِ الغزاليِ – رحمه اللهُ - : " السؤالُ حرامٌ في الأصلِ، وإنما يُباحُ لضرورةٍ أو حاجةٍ مهمةٍ قريبةٍ من الضرورةِ، وإنما قُلنا إن الأصلَ فيه التحريمُ لأنه لا يَنفكُ من ثلاثةِ أمورٍ محرمةٍ: الأولُ: إظهارُ الشكوى من اللهِ تعالى، إذ السؤالُ إظهارٌ للفقرِ، وذكرٌ لقصورِ نعمةِ اللهِ تعالى عنه، والثاني: أن فيه إذلالُ السائلِ نفسَهُ لغيرِ اللهِ تعالى، وليسَ للمؤمنِ أن يُذلِ نفسَه لغيرِ اللهِ إلا لضرورةٍ، الثالثُ: أنه لا يَنفكُ عن إيذاءِ المسئول غالباً .
عبادَ اللهِ: إن العملَ المباحَ مهما كانَ جنسُه ونوعُه وضعفُه واحتقارُه في أعينِ الناسِ لهو شرفٌ يُعزُ اللهُ تعالى به أهلَهُ، وكرامةٌ لصاحبِه من أن يُهينَ نفسَه بسؤالِ الناسِ أعطَوه أو منعُوه، وإن البطالةَ والكسلَ والقعودَ عن العملِ والتفرغَ لسؤالِ الناسِ لهو أمرٌ قبيحٌ ودناءةٌ في الخُلقِ وذلةٌ في الدنيا ويومَ القيامةِ، يقولُ عمرُ بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنه: " مكسبةٌ فيها دناءةٌ خيرٌ من سؤالِ الناسِ، وإني لأرى الرجلَ فيُعجبُني شكُله، فإذ سألتُ عنه فقيلَ لي: لا عملَ له، سقطَ من عيني" .
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وكونوا عوناً لإخوانِكم على أنفسِهم والشيطانِ، نبهوا أهلَ التسولَ وحذرِّوهم من الوقوعِ في الهلكةِ والعذابِ، وحثُوهم على العملِ والكسبِ، وتذكروا أن نبيَّكم صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه كانَ يقولُ: " اللهمَ إني أعوذُ بكَ من العجزِ والكسلِ، والجُبنِ والبُخلِ، وغَلبةِ الدَّينِ وقَهرِ الرِجالِ" (أخرجه النسائيُ وأبو داودَ) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..
عباد الله: إن الكسب الذي حث الإسلام عليه هو الكسب الحلال الطيب، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وبذلك أمر المؤمنين كما أمر المرسلين ، فقال سبحانه: "ياأيها الرسل كلوا من الطييبات وأعملوا صالحاً " ( المؤمنون:51) ، وقال سبحانه: " يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون" .
أيها المسلمون: إن طلب الحلال وتحريه أمر واجب، وحتم لازم، فلن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه.
أرأيتم عباد الله ذلكم الرجل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم" يطيل السفر أشعث أغير يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فآنى يستجاب له" رواه مسلم، لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة ما يدعو إلى رثاء حاله، ويؤكد شدة افتقاره، تقطعت به السبل، وطال به المسير، وتغربت به الديار، تربت يداه، وشعث رأسه، واغبرت قدماه، ولكنه قد قطع صلته بربه، وحرم تفسه من مداد مولاه، فحيل بين دعائه والقبول.
عباد الله : ماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه، وحجب دعاؤه، وحيل بينه وبين الرحمة؟
لمثل هذا قال بعض السلف: لو قمت في العبادة قيام السارية مانفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك.
أيها العمال والموظفون، أيها الصناع والتجار، أيها السماسرة والمقاولون، أيها المسلمون والمسلمات، إياكم أن يكون طلبكم للرزق مفضياً إلى الكسب الحرام من ربا أو غش أو خداع أو قمار أونحوها مما يتحصل به على الحرام. وإياكم أن تكون هذه الأرزاق من الله لكم سبيلاً للفساد في الأرض أو الصدود عن سبيل الله، أو منع ما أوجب الله.
عباد الله : " كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين " (الأنعام:142).
اللهم يا سامعاً لكل شكوى ويا كاشفاً لكل بلوى، فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين، وأقض الدين عن المدينين، وأشف مرضانا ومرضى المسلمين.
اللهم يا حي يا قيوم اغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا.
اللهم أبرم لأمة محمد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويهدى فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم أنصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
واقم الصلاة
ان الصلاة كانت علي المؤمنين كتابا موقوتا