البناء الاقتصادي ودوره في استقرار المجتمع د/ خالد بدير
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: أهمية البناء الاقتصادي في الإسلام
العنصر الثاني: وسائل البناء الاقتصادي
العنصر الثالث: دور البناء الاقتصادي في استقرار المجتمع
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: أهمية البناء الاقتصادي في الإسلام
عباد الله: إن البناء الاقتصادي له أهمية كبيرة في قوام الأمم والمجتمعات ؛ فلا قوام لأي أمة إلا بالعلم والمال ؛ كما يقول أمير الشعراء أحمد شوقي: بِالعِلْمِ وَالمَالِ يَبْنِي النَّاسُ مُلْكَهُمُ ........................ لَمْ يُبْنَ مُلْكٌ عَلَى جَهْلٍ وَإِقْلاَلِ
والناظر إلى الشريعة الغراء ؛ يجد أن الإسلام اهتم اهتماماً كبيراً بالنظام المالي والاقتصادي؛ فنظم الإسلام حياة البشر المالية والاقتصادية؛ ووضع لها قواعد وأصولاً وأحكاماً في جميع المجالات الاقتصادية: في العمل والإنتاج ؛ في الملكية والحيازة ؛ في الاستثمار والتداول ؛ في الإنفاق والاستهلاك ؛ في توزيع الدخول والثروات ؛ في الميراث ...... إلخ .
وحتى تتضح أهمية البناء الاقتصادي للأمة أذكر هنا عدة حقائق تتعلق بالمال والاقتصاد تتلخص فيما يلي:
الحقيقة الأولى: أن الإسلام جعل المال إحدى الضرورات الخمسة التي أوجب الشارع حفظها ؛ وذلك لأهميته في قوام والمجتمعات، بل إن المال سيد هذه الضرورات، لأن المال بذاته ضرورة لقيام الضرورات الأخرى؛ يقول الإمام الشاطبي: " ومجموع الضرورات خمس هي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، هذه الضرورات إن فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعمة، والرجوع بالخسران المبين ." ( الموافقات ) .
وفي العصر الحاضر أضيفت ضرورة سادسة وهي : حفظ الوطن ؛ وذلك لما يتعرض له الوطن من هجمات داخلية وخارجية .
الحقيقة الثانية: أن ملكية المال لله "أصالة" وللجماعة الإنسانية "خلافة " : فمن الأمور البديهية أن الله هو المالك الوحيد لكل ما في السماوات وما في الأرض ، وهذه حقيقة لا يكمن إنكارها ، قال تعالى: { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . ( آل عمران : 189 ) . يقول الإمام الشاطبي – رحمة الله – : " إن الأعيان لا يملكها في الحقيقة إلا باريها تعالى ، وإنما للعبد منها المنافع ، فالقصد إلى ملك الرقاب منصرف إلى ملك المنافع ، إذ أعيان الرقاب لا منفعة فيها من حيث هي أعيان ، بل من حيث اشتمالها على المنافع المقصورة." . (الموافقات).
فالمالك الحقيقي للمال هو الله ؛ وملكية الإنسان لهذا المال خلافة ووكالة ونيابة ، وهذه قيمة عليا ، أن يكون الإنسان خليفة عن الله تعالى في أرضه ؛ وعليه أن ينفق منه وفق ما قرره وكيله ؛ قال تعالى: { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} . (الحديد: 7) . يقول الإمام ابن كثير – رحمه الله - : " حث الله تعالى على الإنفاق مما جعلكم مستخلفين فيه ؛ أي مما هو معكم على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، فأرشد تعالى إلى استعمال ما استخلفهم فيه من المال في طاعته، فإن يفعلوا وإلا حاسبهم عليه وعاقبهم لتركهم الواجبات فيه .
وقوله: { مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفًا عنك، فلعل وارثك أن يطيع الله فيه، فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك، أو يعصي الله فيه فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان. " ( تفسير ابن كثير ) .
ويقول الإمام الرازي: " في الآية وجهان الأول : أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها ، ثم إنه تعالى جعلها تحت يد المكلف ، وتحت تصرفه لينتفع بها على وفق إذن الشرع ، فالمكلف في تصرفه في هذه الأموال بمنزلة الوكيل والنائب والخليفة، فوجب أن يسهل عليكم الإنفاق من تلك الأموال، كما يسهل على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه .
الثاني : أنه جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم ، لأجل أنه نقل أموالهم إليكم على سبيل الإرث ، فاعتبروا بحالهم ، فإنها كما انتقلت منهم إليكم فستنقل منكم إلى غيركم فلا تبخلوا بها ". ( التفسير الكبير ) .
الحقيقة الثالثة: أن المال سلاح ذو حدين: إذا استخدمته في الخير كان سبباً في سعادتك وطريقاً إلى الجنة ؛ وإذا استخدمته في الشر كان سبباً في شقائك وطريقاً إلى النار وبئس القرار .
فالمال في حياة البشر كالنار يدفئ ويطهر ، وأيضاً يلسع ويحرق ، والدفء يرجع إلى وعى ويستند إلى قيم ، والطهر يقوم على بذل ورحمة وإخاء ، والاحتراق يكون أتوناً من الأثرة والغلظة والنهم والكبر، فالمال للإنسان شهوة مجنونة ، وزينة مثيرة للفتن .
الحقيقة الرابعة: أن الإنسان لن يأخذ معه شيئاً من هذا المال: وهذه حقيقة يعرفها الصغير والكبير؛ والذكر والأنثى؛ والمؤمن والكافر على السواء. قال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ }. (الأنعام: 94).
ويحضرني في هذا المقام قصة لأحد الملوك والذي لم يشعر بهذه الحقيقة إلا في مرض الموت :
فقد أوصى ملك وهو على فراش الموت قائده ثلاث وصايا قائلاً:
وصيتي الأولى : أن لا يحمل نعشي عند الدفن إلا أطبائي ولا أحد غير أطبائي !!
والوصية الثانية: أن ينثر على طريقي من مكان موتي حتى المقبرة قطع الذهب والفضة وأحجاري الكريمة التي جمعتها طيلة حياتي.
والوصية الأخيرة: حين ترفعوني على النعش أخرجوا يداي من الكفن وأبقوها معلقتان للخارج وهما مفتوحتان.
حين فرغ الملك من وصيته قام القائد بتقبيل يديه وضمهما إلى صدره ، ثم قال: ستكون وصاياك قيد التنفيذ وبدون أي إخلال ، إنما هلا أخبرني سيدي في المغزى من وراء هذه الوصايا الثلاث ؟!!
أخذ الملك نفساً عميقاً وأجاب: أريد أن أعطي العالم درساً لم أفقهه إلا الآن !!!
أما بخصوص الوصية الأولى : فأردت أن يعرف الناس أن الموت إذا حضر لم ينفع في رده حتى الأطباء الذين نهرع إليهم إذا أصابنا أي مكروه ، وأن الصحة والعمر ثروة لا يمنحهما أحد من البشر !!
وأما الوصية الثانية: ليعلم الناس أن كل وقت قضيناه في جمع المال ليس إلا هباء منثوراً ، وأننا لن نأخذ معنا حتى فتات الذهب .
وأما الوصية الثالثة : ليعلم الناس أننا قدمنا إلى هذه الدنيا فارغي الأيدي وسنخرج منها فارغي الأيدي كذلك.
وبهذا - أيها المسلمون – عرفنا الحقائق التي هي قوام البناء الاقتصادي الإسلامي .
العنصر الثاني: وسائل البناء الاقتصادي
عباد الله: تعالوا بنا لنقف في هذا العنصر حول الوسائل التي من خلالها يتم البناء الاقتصادي للأمة والتي تتلخص فيما يلي:-
الوسيلة الأولى: إخراج الزكاة لمستحقيها: فمن ينظر إلى المجتمع يجد فيه فقراء ومعدمين؛ وبؤساء ومجروحين؛ وأصحاب شدة مهضومين؛ وضعفاء مهمَّشين؛ ويجد أن الخلل يكمن في منع الزكاة؛ لأن الغني منع حق الفقير ؛ فعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم؛ ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يضيع أغنياؤهم ألا وإن الله يحاسبهم حسابا شديدا ويعذبهم عذابا أليما" (الطبراني في الأوسط والصغير والبيهقي موقوفا ) .
فكيف يحدث توازن وتكافل وقد منع الغني حق الفقير وضن وبخل به؟!!! إن الغني لو منع حق الفقير – المقرر شرعاً ليس منحة ولا تفضلاً- لازداد الغني غنيً والفقير فقراً، واختل التوازن في المجتمع. لذلك قال على رضي الله عنه – أيضاً-: " ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيّع"، وكما قال الشيخ الشعراوى رحمه الله: " إذا رأيت فقيراً في بلاد المسلمين .. فاعلم أن هناك غنياً سرق ماله"؛ وقال عمر : "ما تمتع غنيٌّ إلا من جوع فقير".
الوسيلة الثانية: دفع الجميع إلى سوق العمل والإنتاج: فالإسلام لا يعرف سناً للتقاعد، بل يجب على المسلم أن يكون وحدة إنتاجية ما دام قادراً على العمل، بل إن قيام الساعة لا ينبغي أن يحول بينه وبين القيام بعمل منتج، وفي ذلك يدفعنا النبي صلى الله عليه وسلم دفعاً إلى حقل العمل وعدم الركود والكسل. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ؛ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فليغرسها". [ أحمد والبخاري في الأدب المفرد بسند صحيح ]، كما حث الإسلام على اتخاذ المهنة للكسب مهما كانت دنيئة فهي خير من المسألة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ فَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ" (الترمذي وحسنه).
لذلك كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهتم بالعمل والترغيب فيه فيقول: ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلىَّ من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري، وكان إذا رأي فتى أعجبه حاله سأل عنه: هل له من حرفة ؟ فإن قيل : لا. سقط من عينيه .وكان إذا مدح بحضرته أحد سأل عنه : هل له من عمل؟ فإن قيل : نعم .قال : إنه يستحق المدح . وإن قالوا : لا. قال : ليس بذاك . وكان يوصي الفقراء والأغنياء معاً بأن يتعلموا المهنة ويقول تبريرا لذلك:- فإنه يوشك أن يحتاج أحدكم إلى مهنة، وإن كان من الأغنياء.
وكان كلما مر برجل جالس في الشارع أمام بيته لا عمل له أخذه وضربه بالدرة وساقه إلى العمل وهو يقول: إن الله يكره الرجل الفارغ لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة. وكان يقول أيضاً: "مكسبةُ في دناءة خيرٌ من سؤال الناس؛ وإن الله خلق الأيدي لتعمل فإن لم تجد في الطاعة عملا وجدت في المعصية أعمالا ". وكان سعيد بن المسيب يتاجر بالزيت ويقول: والله ما للرغبة في الدنيا ولكن أصونُ نفسي وأصل رحمي."، وكان إبراهيم بن أدهم إذا قيل له : كيف أنت ؟ قال : بخير ما لم يتحمل مؤنتي غيري. (إحياء علوم الدين – الإمام الغزالي).
أحبتي في الله: إن أجسام الناس ما هي إلا آلات يجب إعمالها وعدم تعطيلها وإلا دمرها العجز والخور والشلل ، وصارت إلى الموت البطئ والاسترخاء والصدأ، وتحولت إلى أداة تعويق للحياة الاجتماعية ونموها، بدلاً من أن تكون أداة قوة ونماء وازدهار، وهذا ما كان يغرسه الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه حينما يتوجع أحدهم أو يتمارض أو يركن إلى الخمول والكسل، معتمدا في ذلك على صدقات المحسنين، مع قدرته على الكسب والعمل، فإذا جاءَ أحدُهم إليه صلى الله عليه وسلم يسألُه مالاً، وكانَ قوياً على العملِ وجهَّه إلى العملِ وحثَّه عليه، وبيَّن له أن العملَ مهما كانَ محتقراً في أعينِ الناسِ فهو أشرفُ للإنسانِ من التسولِ والمسألةِ، ومما يُروى في ذلكَ أن رجلاً من الأنصارِ أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم يسألُه، فقال: «أما في بيتك شيءٌ؟» قال: بلى، حِلسٌ نلبسُ بعضَه، ونبسُط بعضَه، وقَعبٌ نَشربُ فيه الماءَ، قال: «ائتني بهما»، قالَ: فأتاه بهما، فأخذَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيده، وقالَ: «من يشتري هذين؟» قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمٍ، قالَ: «من يزيدُ على درهمٍ؟» -مرتينِ أو ثلاثاً-، قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقالَ: «اشتر بأحدهما طعاماً فأنبذه إلى أهلك، واشتر بالآخرِ قَدوماً فأتني به»، فأتاه به، فشدَّ فيه صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قالَ: «اذهب فاحتطِب وبع، ولا أرينَّكَ خمسةَ عشرَ يوماً»، فذهبَ الرجلُ يَحتطبُ ويبيعُ، فجاءَ وقد أصابَ عشرةَ دراهمٍ، فاشترى ببعضِها ثوباً وببعضِها طعاماً، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا خيرٌ لك من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهكَ يومَ القيامةِ، إن المسألةَ لا تصلحُ إلا لثلاثةٍ، لذي فقرٍ مُدقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مُفظِعٍ، أو لذي دَمٍ مُوجعٍ» (رواه أبو داودَ والترمذيِّ وحسنَّه). فالرسول صلى الله عليه وسلم لقن هذا الرجل درساً لا ينساه ، وبهذا سد الرسول صلى الله عليه وسلم باباً من أبواب الكسل والتواكل، فلو أن الرسول أعطاه من الصدقة لفتح بذلك الباب على مصراعيه للكسالى والمتواكلين، ولأصبحت هذه مهنتهم كما هي مهنة الكثيرين في هذا العصر، وما يرى – من أمثال هؤلاء – في الموصلات والشوارع والطرقات لأقوى دليل على ذلك، لهذا كله حرم الإسلام البطالة والكسل والركود لأن ذلك يؤدي إلى انحطاط في جميع مجالات الحياة، فإنه يؤدي إلى هبوط الإنتاج، وتخلف الأمة، وانتشار الفوضي، وكثرة المتواكلين، إضافة إلى المذاق الغير الطبيعي للقمة العيش وخاصة إذا حصل عليها الكسول من عرق جبين غيره، فينبغي على الفرد أن يعمل ليأكل من كسب يده لأنه أفضل أنواع الكسب، فقد أخرج البخاري عَنْ الْمِقْدَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ؛ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ".
الوسيلة الثالثة: ترشيد الاستهلاك: فينبغي على العبد أن يتوسط في الإنفاق دون إسراف أو تقتير ؛ فقد قال - تعالى - مادحًا عبادَه المقتصِدين: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. قال ابن كثير - رحمه الله -: " {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا}؛ أي: ليسوا بمبذِّرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصِّرون في حقِّهم، فلا يكفونهم؛ بل عدلاً خيارًا ، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا ".أ هـ.
فعلى المسلم إذن أن يتجنب الإسراف في شتى صوره ، في المأكل والمشرب والمسكن ، والصدقة ، والترفيه ، وسائر الأغراض المشروعة ، لأن الإسراف تبديد للموارد ، وإضاعة للثروات ، من أجل هذا فإن أهم ما فسرت به إضافة المال التي نهى عنها النبي هو الإسراف.
الوسيلة الرابعة: مراعاة الحقوق والواجبات: فالحياة حقوق وواجبات؛ فكما أن لك حقوقاً مكفولةً في مجتمعك ووطنك ؛ فعليك كذلك واجبات تجاه وطنك ومجتمعك؛ فلو أدى كل إنسان واجبه على أكمل وجه دون نقصان، وأخذ كل واحد حقه دون زيادة؛ لصلح حال البلاد والعباد، والراعي والرعية، وما صرنا إلى ما نحن فيه .
وإليكم هذه القصة التي بينت صفات المجتمع المسلم في عصر الخلافة الراشدة؛ ومالهم من حقوق وما عليهم من واجبات.
روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضياً على المدينة، فمكث عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، لم يعقد جلسة قضاء واحدة، وعندها طلب من أبي بكر إعفاءه من القضاء، فقال أبو بكر لعمر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ قال عمر: لا يا خليفة رسول الله، ولكن لا حاجة لي عند قوم مؤمنين عرف كل منهم ما له من حق فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟!!
الوسيلة الخامسة: ملازمة تقوى الله تعالى: فقد علق الله عز وجل البركة في الرزق وتحقيق البناء الاقتصادي بالإيمان والتقوى فقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96). يقول الإمام ابن كثير – رحمه الله : " قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا } أي: آمنت قلوبهم بما جاءتهم به الرسل، وصدقت به واتبعته، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات، { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } أي: قطر السماء ونبات الأرض." أ.ه
وقال تعالى – أيضاً – عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة : 65 ؛ 66) يقول ابن كثير :" وقوله: { لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ } يعني: لأرسل السماء عليهم مدرارًا، { وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } يعني: يخرج من الأرض بركاتها." أ.ه
وخلاصة القول: أن الله عز وجل بين أن أقوات الناس مقدرة منذ الأزل ؛ وأنه مبارك فيها مدى وجود الحياة على ظهر الأرض ، فإذا ما وجدت دابة في الأرض لا يصلها رزقها ، فلا بد أن يكون وراء ذلك : إما منع الزكاة وحقوق الفقراء والمساكين؛ أو تقصير في طلب الرزق ، أو انحراف في طريقة الكسب، أو إسراف في الإنفاق ، أو سوء في التوزيع والإدارة ، أدي ذلك إلى مضاعفة حصة طرف على حساب نقص في حصة الطرف الآخر. وأنه في حالة الكوارث والأزمات الطبيعية – كالزلازل والفيضانات والأعاصير – التي تحل في رقعة ما من أرض الله ، فإنه يوجد من الفائض في رقعة أخرى ، ما يكفي لتغطية احتياجات المنكوبين ، وسد كفاف المتضررين ، وإذا لم يحدث ذلك التعاون : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } . ( يونس : 44 ) .
ولهذا كان ختم الآية الكريمة التي قررت أمر الوفرة في الموارد والنعم بقوله تعالى: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }. (إبراهيم: 34) . فقد يظلم الإنسان نفسه بكفر النعم وجحدها ، أو يظلم غيره فلا يوصل إليه حقه ، أو لا يتعاون معه في إزالة الضرر وسد العوز .
أختم هذا العنصر بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي جمع أسباب وعقبات البناء الاقتصادي السابق ذكرها كلها؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا؛ وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ؛ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا؛ وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ؛ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ" ( البيهقي والحاكم وصححه ).
فهل يعي المسلمون معنى هذا الحديث في أحوالهم التي يعيشونها ؛ ويعودوا إلى رشدهم ويبتعدوا عن طرق الكسب المحرمة؟!
العنصر الثالث: دور البناء الاقتصادي في استقرار المجتمع
عباد الله: إن البناء الاقتصادي له دور كبير في تقدم الأمة ونهضتها ؛ فالأمة القوية اقتصادياً تكون لها مكانتها بين الأمم ؛ لا تذل أو تخضع لأحد ؛ ورحم الله الشيخ الشعراوي حيث يقول : طول ما لقمتك مش جاية من فاسك، عمر قرارك ما يبقى من راسك !!
عباد الله: إن البناء الاقتصادي له دور كبير في أمن واستقرار المجتمع ؛ فالدولة المتقدمة اقتصادياً ينعم أهلها برغدٍ من العيش والأمن والأمان؛ لذلك ربط الله بين البناء الاقتصادي والأمن في امتنانه على قريش بهاتين النعمتين فقال: { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } ( قريش 1 -4 ) .
ولأنه في ظل انعدام الأمن لا تنهض أمة ولا تقوم حضارة، ألم تجد أن الله تعالى منَّ على ثمود قوم صالح بنعمة الأمن التي كانت من أسباب نهضة دولتهم وقيام حضارتهم؟!! فقال تعالى:{وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ}( الحجر: 82) ؛ فلو انعدم الأمن ما استطاعوا أن ينحتوا بيوتاً من الخشب فضلاً عن الجبال!! ولهذا امتن الله على سبأ حيثُ أسكنهم الديار الآمنة، فتمكنوا من بناء حضارتهم، وتشييد مملكتهم، فقال تعالى:{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ}(سبأ: 18) .
ولو نزلنا إلى أرض الواقع لوجدنا أن الأماكن الفقيرة المعدومة اقتصادياً تنتشر فيها كبرى الجرائم من السرقة والزنا والخمر والمخدرات والتعامل بالربا وغيرها من الجرائم التي تؤدي إلى زعزعة الأمن وعدم الاستقرار .
وهذه المعاصي والذنوب والجرائم وارتكاب المحرمات لها أثرها السيئ في حجب النعم والبركات عامة ؛ وقد تضافرت نصوص القرآن والسنة وأقوال سلف الأمة في ذلك؛ فقد كان الحسن البصري -رحمه الله- إذا رأى السحاب قال: في هذه والله رزقكم، ولكنكم تحُرمونه بخطاياكم وذنوبكم. قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، فالرزق المطر، وما توعدون به الجنة، وكلاهما في السماء. ويقول أبو هريرة رضي الله عنه : إن الحباري – نوع من الطيور – لتموت في وكرها من ظلم الظالم . وقال مجاهد رحمه الله : إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السَنَة – أي : القحط – وأمسك المطر , وتقول : هذا بشؤم معصية ابن آدم .
وقال عكرمة رحمه الله : دواب الأرض وهوامها ، حتي الخنافس ، والعقارب يقولون : مُنعنا القطر بذنوب بني آدم .
ولذلك كان المسلمون على تعاقب العصور والأزمان ينظرون إلى تأخر المطر وقحط السماء وجدب الأرض على أنه نوع من العقوبة الإلهية بسبب الذنوب والمعاصي والسيئات فيبادرون إلى التوبة والإنابة إلى الله.
فكما أن تقوى الله مجلبة للرزق فترك التقوى مجلبة للفقر ، فما استجلب رزق الله بمثل ترك المعاصي؛ ويدل على ذلك قَول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ “( أخرجه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه ) .
وما أجمل مقولة عبد الله بن عباس: إن للحسنة ضياءً في الوجه ، ونورا في القلب ، وسعة في الرزق ، وقوة في البدن ، ومحبة في قلوب الخلق ، وإن للسيئة سوادا في الوجه ، وظلمة في القبر والقلب ، ووهنا في البدن ، ونقصا في الرزق ، وبغضة في قلوب الخلق . وقال بعض السلف : إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي ، وامرأتي ( الداء والدواء لابن القيم ) .
أيها المسلمون: علينا أن نتعاون ونتكاتف ونتكافل جميعاً من أجل البناء الاقتصادي لأمتنا ووطننا ؛ استجابة لدعوة رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(مسلم).
اللهم اجعل مصرنا أمناً أماناً رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين .
الدعاء........ وأقم الصلاة،،،،