لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا د. محمد عامر




العناصر
1- المقدمة
2- معية الله مع الأنبياء .
3- معية الله مع النبي صلي الله عليه وسلم .
4- معية مع المؤمنين .
5- معية الله مع موسي عليه السلام .
6- معية الله مع السيدة هاجر وولدها اسماعيل عليهما السلام .
7- معية الله مع الصحابي هلال بن أمية .
8- معية الله مع الصبي زيد بن أرقم .
9- شروط بلوغ معية الله
10- أنواع معية الله .
11- جنود الله لعباده .

المقدمة

الحمد لله رب العالمين, الحمد لله الذي أراد فقدر, وملك فقهر, وخلق فأمر وعبد فأثاب, وشكر, وعصي فعذب وغفر, جعل مصير الذين كفرو إلي سقر, والذين اقو ربهم إلي جنات ونهر, ليجز الذين كفرو بما عملو, والذين امنوا بالحسنى
واشهد إن لا اله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, وهو علي كل شيء قدير
يارب
رضاك خير إلي من الدنيا وما فيها يا مالك النفس قاصيها ودانيها
فنظرة منك يا سـؤلي ويـا أملى خير إلى من الدنيـا وما فيها
فليـس للنـفس أمـآل تحققـها سوى رضاك فذا أقصى أمانيها
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه
بلغ الرسالة وأدى الأمانة وكشف الظلمة وأحاط به الغمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين
يا سيدي يا رسول الله :
أنت الذي تستوجب التفضيل فصلوا عليه بكرة وأصيـلا
ملئت نبوته الوـجود فأظهرا بحسامه الدين الحديد فأسفرا
ومن لم يصلي عليه كان بخيل فصـلوا عليه وسلموا تسليما
وعلي اله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلي يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين

أما بعد

يقول تعالي {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}(التوبة:40)؛
ويقول تعالى {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}(الشعراء:62).

ولما أمر الله موسى وهارون عليهما السلام بالذهاب إلى فرعون لدعوته طمأنهما فقال: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}(طه:46)
وقد قال بعض السلف لأخيه: "إن كان الله معك فمن تخاف، وإن كان عليك فمن ترجو؟"

{لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}(التوبة:40)؛ قيلت في أحلك الظروف، وأشد المواقف.
ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} أي ناصرنا ومؤيدنا، ومعيننا وحافظنا، وهذه ما يطلق عليها العلماء: المعية الخاصة، التي تقتضي النصر والتأييد، والحفظ والإعانة، وهذه النصرة والمعية للعبد تكون بحسب قربه من الله، فمن كان لله أكثر تقوى وعبادة كانت معية الله أقرب منه.

وقد أدركت معية الله الخاصة إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقي في النار، فقال له جبريل علية السلام ألك حاجة الي فقال أما لك فلا وأما إلي الله فنعم فقال الله (يا نار كوني بردا وسلاما على ابرآهم )

وأدركت محمداً صلى الله عليه وسلم حين كان مختبئاً في الغار، وأدركت يونس عليه السلام حين كان في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر.

وكانت معية الله مع يوسف عليه السلام، وهو يسجن سبع سنوات فيسألونه عن تفسير الرؤى، فيتركها، ثم يبدأ بالدعوة فيقول: يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار [يوسف:39]. فيعلن الوحدانية، فيجد السعادة.

وكانت معية الله مع موسى عليه السلام حينما تقابل أتباعه مع جند فرعون وقال أصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}(الشعراء:61)؛ رد عليهم موسى عليه السلام مستشعراً تلك المعية: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}(الشعراء:62).

وكانت معية الله مع يونس عليه السلام حينما أُلقي في البحر في ظلمات ثلاث فقال( لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين) فرد سبحانه وتعالي (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)

ولما أمر الله موسى وهارون عليهما السلام بالذهاب إلى فرعون لدعوته طمأنهما فقال: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}(طه:46) يقول قتادة رحمه الله تعالى: "من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تُغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، وكتب بعض السلف إلى أخ له: أما بعد فإن كان الله معك فمن تخاف، وإن كان عليك فمن ترجو"
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان

{لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} يحتاجها المسلم في كل آن: فإذا تكاثف همك، وكثر غمك، وتضاعف حزنك فقل لقلبك: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
وإذا ركبك الدين، وأضناك الفقر، وشواك العدم؛ فقل لقلبك: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
وإذا هزَّتك الأزمات، وطوَّقتك الحوادث، وحلَّت بك الكربات؛ فقل لقلبك: إن الله معنا".

لو وقفت الدنيا كل الدنيا في وجهك، وحاربك البشر كل البشر، ونازلك كل من على وجه الأرض فلا تحزن لأن الله معنا.

معيّة الله لحبيبه والصِدِّيق في الغار:
______________

نقف أمام هذا النص الذي أورده الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عندما كان يتحدث عن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار ثور حيث قال:[إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ...] سورة التوبة (40). فيا أهل مكة! ويا قريش! ويا أيها العرب! إذا لم تجتمعوا على نصرة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى نصره، وأيّده، ولم يتخلَّ عنه ولن يتخلى عنه أبدا.

أ- الشعور بمعية الله يوجب الحفاظ على المبدأ والثقة بالله:

حكى لنا ربنا سبحانه وتعالى قصة نصره وتأييده ورعايته لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال:[...إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...] سورة التوبة (40). لقد أخرجه أهل مكة بعد جهاد طويل معهم، وعروض مغرية، عرضوا عليه المال والنساء والجاه والسيادة عن طريق عمه أبي طالب، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان يُعلن عن ثبات موقفه ومبدئه فيقول: "والله يا عمّ! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهِره الله أو أهلِكَ دونه".
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان صاحب مبدأ ثبت عليه، وحافظ عليه وكان قلبه مطمئناً بالله سبحانه وتعالى، واثقاً ومحسناً الظن به. والله تعالى يقول كما ورد في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، فليظنَّ بي ما شاء". صحيح ابن حبان. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يعتقد أن الله سينصره ويؤيده ويمنعه ويدافع عنه في كل المواقف التي سيخوضها في المستقبل.

ب- الشعور بمعية الله يخلّص القلب من الخوف إلا من الله:

لقد أصاب سيدَنا أبا بكر رضي الله عنه شيء من الخوف والاضطراب لا على نفسه، إنما على الإسلام، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن حماية أبي بكر رضي الله عنه ودفاعه وتأييده للنبي عليه الصلاة والسلام إنما هي حماية للإسلام، ودفاع عن الشريعة، ودعم لهذا الدين العظيم الذي سخّر الله تعالى له جنوداً كثيرين، منهم من كان يعمل سراً بأمر من الله تعالى، ومنهم من كان يعمل جهراً كسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي سخّر نفسه، وولده عبد الله، وابنتيه أسماء وعائشة، ومولاه عامر بن فهيرة ليكونوا جميعاً في خدمة الإسلام ورعاية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في هذه الأثناء كانت قريش قد أعلنت عن الجائزة الكبرى لمن يأتي بمحمد عليه الصلاة والسلام وصاحبه أحياء أو ميتين، وهذه الجائزة كانت مئة ناقة من كرام نوق العرب، فطمع بها الطامعون، وسعى إليها الساعون، وأمر طبيعي أن يسعى الناس إلى جائزة، لكنهم لم يدركوا أن الله تعالى يحمي ذلك المطارَد الذي يلاحقونه، وأنه سيجعل معجزة عظيمة عندما يصلون إلى فم الغار. وصلوا فعلاً إلى أسفل الجبل حيث قال متتبِّع الأثر: إلى هنا انقطع الأثر. فصعدوا الجبل لعلهم يجدونهما هناك، فلما أن وصلوا إلى فم الغار وبدؤوا يبحثون في قمة الجبل اضطرب قلب أبي بكر رضي الله عنه، وخشي أن يظفر أولئك القوم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى أسفل قدميه لرآنا. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "يا أبا بكر! ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثهما؟!". صحيح مسلم. ثم أنزل الله سبحانه وتعالى على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم ما يؤكد هذا المعنى:[...إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...] سورة التوبة (40).
من كان مع الله فلا يبالي بأحد في الدنيا كلها. كن مع الله ولا تبالِ. ماذا وجد من فقد الله؟ وماذا فقد من وجده؟! لقد خاب وخسر من رضي بغير الله بدلاً! أولئك الذين يظنون أن قدراتهم الذهنية، وإمكاناتهم البدنية، وممتلكاتهم المادية ستحميهم من دون الله، وستكون لهم حصناً منيعاً عن عقاب الله تعالى إن هم أخطؤوا أو أساؤوا أو قصّروا أو فرّطوا في حق الله. خاب سعيهم ولم يَصدُق ظنهم أنهم الأقوياء والقادرون على حماية أنفسهم؛ لأن الله تعالى هو وحده القادر على حمايتنا وحفظنا من أي سوء يمكن أن نقع به.

معيّة الله لسيدنا موسى في البحر:
________________________________

سيدنا موسى عليه السلام كان يؤمن إيماناً جازماً بحتمية النصر من الله سبحانه وتعالى له؛ لأنه وفّى ما استحق عليه من قبل الله تعالى، ووفى ما استحقته المعية عليه كالصبر والإحسان والتقوى. وقد وصف الله سبحانه وتعالى لنا مشهد معيته لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام فقال:[فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61) سورة الشعراء قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)] سورة الشعراء. فقد تراءى جمع الإيمان بقيادة سيدنا موسى عليه السلام، وجمع الكفر بقيادة فرعون ومعه زبانيته وأعوانه، وعندما بدأ أصحاب اليقين المتشكِّك يحاولون إضعاف موقف سيدنا موسى عليه السلام وينصحونه ألا يقع في صراع مع فرعون قالوا له:[...إِنَّا لَمُدْرَكُونَ] سورة الشعراء (61). فكان كلام سيدنا موسى عليه السلام كأنه كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار؛ فيه ثقة، وثبات، ويقين، وإيمان راسخ وعقيدة ثابتة، فهو يستخدم أسلوب الإضراب والزجر "كلاّ" عندما قال:[كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ] سورة الشعراء (62).فلو تأملنا حق التأمل في هذه الآية لوجدنا أن سيدنا موسى عليه السلام لم يقبل هذا النقاش من أصحابه؛ لأنه كان مدركاً لحتمية النصر من ربه سبحانه وتعالى، وأن نصره من قِبل الله تعالى حقيقة لا مراء ولا جدال فيها. فسيدنا موسى عبّر في تلك اللحظة عن قوة إيمانه بالله، وشدة ثقته به سبحانه. وهذا ما جاء عملياً في قوله سبحانه وتعالى:[فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ] سورة الشعراء (63). لقد ضرب سيدُنا موسى عليه السلام البحرَ بعصاه بأمر من الله تعالى، فانفصل البحر قسمين، ومشى سيدنا موسى حتى وصل إلى الشاطئ، وأغرق الله فرعون وجنوده، ولا تزال جثة فرعون - التي تُعرف اليوم بالمومياء - شاهدةً إلى عصرنا هذا على قدرة الله وحفظه ورعايته لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام. وقد عبّر الله تعالى عن ذلك بقوله:[وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67)] سورة الشعراء.
إن نصر الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين قانون عام يصلح لجميع البشر، لا يمكن أن يتعدّى إلى غيره؛ لأن الله تعالى إذا وعد أنبياءه وأولياءه بالنصر والتمكين والثبات فلن يُخْلِف الله وعده، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن ذلك في مواضع كثيرة منها قوله:[إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] سورة الأنفال (12).

معية الله للسيدة هاجر وولدها إسماعيل في وادٍ غيرِ ذي زرع:
_____________________________________________________________-

ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن حسن الظن بالله واليقين به ومعيته أن نذكر السيدة هاجر أم سيدنا إسماعيل عليه السلام، والتي كانت بموقفها من أعظم من عاش بمعية الله سبحانه وتعالى، فعندما أمر الله تعالى سيدنا إبراهيم أن يأخذ هاجر وولدها إسماعيل إلى جوار بيت الله حيث لا زرع، ولا ماء، ولا نبات، ولا إنسان ليتركهم، ثم يعود إلى مهمته، ووضع الأمتعة التي كان يحملها لهاجر وإسماعيل ثم مشى، نادته السيدة هاجر: يا إبراهيم! فلم يردّ عليها ولم يلتفت. فقالت له: آالله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لن يضيَّعنا.
هذه الثقة وهذا القلب المطمئنّ بالله تعالى هو الذي جعل السيدة هاجر تحيا وتعيش بمعية الله، فكانت خير معيشة، وكان خيرَ زمن أقامت فيه تلك المرأة الصالحة مع مولودها الصغير، وهيأ الله تعالى لهما حياة صالحة فيها الخير والنماء والعطاء، وأرشد إليها الخلق ليعيشوا في جوارها، ثم عَمَرَ الله ذلك المكان عند خير بقعة في الأرض (الكعبة المشرَّفة). ولأن نعيش بمعية الله خير من أن نعيش بمعية أي مخلوق على وجه الأرض.

معية الله مع الصحابي الجليل هلال بن أمية
________________________
- وهذا الصحابي هلال بن أمية رضي الله عنه الذي رجع من أرضه عشاءً، وكان يعمل في الزرع فوجد عند امرأته رجلاً أجنبياً، كارثة كبيرة، ومصيبة عظيمة، فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، وكان قد نزل قوله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون َسورة النور:4، فلو تكلم الآن تكلم بأمر عظيم سيجلد عليه، ولو سكت سيسكت على غيظ وحنق وشدة، فذهب وتكلم، وكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك واشتد عليه، واجتمعت الأنصار وقالوا: الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية، فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجاً، والله يعلم إني لصادق، ووالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه حد القذف؛ لأنه اتهم المرأة وليس عنده بينة، وهو صادق عند نفسه؛ فجاء المخرج من الله؛ لأن الله مع الصادقين، وأنزل الله:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ سورة النور:6الآيات، فجاء المخرج، وصارت هذه القضية، وعرف حكم الملاعنة، ولم يكن الله سبحانه وتعالى ليتخلى عن أوليائه الصادقين في الأزمات الشداد.

معية الله مع الصبي زيد بن أرقم
__________________
وقد كان الله مع الصبي زيد بن أرقم حين سمع عبد الله بن أبي يقول: "لئن رجعنا المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، وبلغ الكلمة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن مثل هذه الكلمة الخطيرة لا بد أن تُنقل، لكن لم يكن معه من يشهد له، وظن قومه أنه غفل ونقل ما لم يحصل؛ فلم يصدقوه، فخفق برأسه من الهم ما ذكره بقوله: "فأصابني همٌّ لم يصبني مثله قط" فأنزل الله عز وجل: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِسورة المنافقون:7إلى قوله: يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَسورة المنافقون:8، فأرسل إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليَّ ثم قال: ((إن الله قد صدقك يا زيد)) ، فكان الله مع الصبي الذي كان حريصاً على مصلحة أهل الإسلام.

معية الله تعالى تشمل كل مؤمن:
_______________________________

إن معية الله ليست خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه، بل إنها عطاء من الله تعالى لمن يستحق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو دائماً في معية الله، في يقظته، ونومه، وكلامه، وصمته، وعبادته، وعمله وحياته الخاصة والعامة، لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام موصوفاً من قِبل الله تعالى بأنه لا ينطق عن الهوى وذلك في قوله:[وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى] سورة النجم (3). فكيف ينطق عن الهوى وهو في رعاية دائمة من الله؟! والله تعالى يكلؤه ويرعاه في الليل والنهار، وقد زاده الله تعالى على ذلك بوصفه بالخُلًُق العظيم وذلك في قوله:[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] سورة القلم (4). فمن كان خلقه عظيماً وكان في رعاية الله سبحانه وتعالى فهو في معية الله على الدوام، فمعية الله عطاء منه تعالى يخص به عباده ويشمل الباقي إذا تعرّضوا هم لهذه المعية، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان مخصوصاً بهذه المعية، وأما سائر الخلق فإن هم تعرضوا لمعية الله وفعلوا الأسباب الموجبة ليكونوا في معية الله كان الله معهم وكانوا بمعيته، وشيء عظيم أن يكون الإنسان بمعية الله، فإن كنا نعيش بمعية الله نعلم أن الله تعالى قد حفظنا، ورعانا، وكَلَأنا بعينه ورعايته، فهو يشرف علينا إشرافاً كاملاً.

شروط بلوغ معية الله تعالى:
______________________________

حتى نبلغ معية الله تعالى لا بد من شروط:
أ- التقوى:
يقول تعالى:[إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ....] سورة النحل (128).
لا بد أن يكون الإنسان تقياً، وتقوى الله: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. وهي أن يفقدك الله حيث نهاك، وأن يجدك حيث أمرك. وهي ألا يكون الله سبحانه أهون الناظرين إلينا؛ فنفعلَ ما نشاء، ونرتكب ما نريد، ولا نعتقد بأن الله تعالى مطّلع على أحوالنا ويرى فِعالنا.
ب- الصبر:
يقول الله تعالى:[...إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] سورة البقرة (153).
الإنسان مبتلى في حياته؛ فيمكن أن يُبتلى في نفسه، أو ماله أو أولاده، فما عليه إلا أن يصبر، وقد يكون الامتحان والابتلاء تمحيصاً لإيمان المؤمن، وقد يكون ترقية لدرجاته، وقد يكون تكفيراً لذنوبه وسيئاته، فإن صبر المؤمن على ما ابتُلي به وامتُحِن فإنه يهيِّئ نفسه للعيش بمعية الله سبحانه وتعالى.
جـ- الإحسان:
يقول تعالى:[...وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ] سورة العنكبوت (69).
فعلينا أن نكون من المحسنين؛ خُلُقاً وسلوكاً، عبادة وعملاً، مادةً ومعنى. ويجب أن يظهر أثر هذا الإحسان على سلوكنا في معاملاتنا مع جميع الخلائق.
إن معيّة الله لهؤلاء الأصناف قد تكررت في القرآن الكريم في عدة مواضع، وهذا يؤكد أن تقوى القلب والصبر هما شأن من شؤون الروح التي تطمئن لله سبحانهوتعالى، وأن الإحسان هو تقديم عمل خير للناس.

أنواع معية الله سبحانه وتعالى:
________________________________
أ- المعية العامة:
إن معية الله تعالى يمكن أن تكون عامة، شاملة لجميع الخلق مؤمنِهم وكافرِهم، وهي تعني أن يكون الله مع خلقه بعلمه ومشيئته، وإحاطته ونفوذ أمره، وقدرته وقهره، لا يغيب عنه شيء ولا يُعجِزه شيء, هذا المعنى الشمولي للمعية يمكن أن يدرك كلَّ إنسان على وجه الأرض ممن خلقه الله سبحانه وتعالى. وهذا ما يدل عليه قول الله سبحانه وتعالى:[أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] سورة المجادلة (7).
إذاً فالله سبحانه وتعالى معنا جميعاً لكن ليس بكيف، ولا بشيء تنحصر فيه ذاته تعالى، إنما هو معنا بعلمه، ومشيئته، وأمره وإحاطته بكل صغيرة وكبيرة من أمور حياتنا. هذه تسمى المعية الشاملة.
ب- المعية الخاصة:
أما المعية الخاصة فهي من نصيب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض الأنبياء، والأولياء، والصالحين. وتكون هذه المعية بالنصر، والتأييد، والتوفيق، والمحبة، والإلهام. فالله تعالى ينصر أنبياءه، ويؤيد رسله، ويوفقهم لما فيه الخير، ويُلهمهم أن يعملوا ما فيه الصلاح لهذه الأمم كلها. الله سبحانه وتعالى أشار في القرآن الكريم إلى هذه الخصوصية في قوله:[...لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...] سورة التوبة (40). فالمراد بالمعية هنا معية الحفظ والنصر والعصمة. والله سبحانه وتعالى قال في مطلع هذه الآية:[إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ...] سورة التوبة (40). هو ليس بحاجة إلى نصركم أو دعمكم أو معونتكم، فالله هو الذي أيّده ونصره وحفظه، بل عصمه من أن يقع في يد أعدائه وأن يحققوا بذلك رغبتهم التي سعَوا من أجلها.
هذه المعية (المعية الخاصة) هي ما ينبغي أن يحرص عليه المسلمون جميعاً؛ ليبلغوا هذه الدرجة، ويشعروا بنعمة العيش بمعية الله تعالى.

أقول ماتسمعون واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله على ما أعطى واجزل نحمده تبارك وتعالى حمد العارفين الشاكرين الطالبين لمزيد فضله والصلاة على إمام العارفين وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

جنود الله لعباده .. أحد أشكال المعية الخاصة:
________________________________________________

عندما نصر الله سبحانه وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام وهو في غار ثور أيّده بجنود وقد قال:[...وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا] سورة التوبة (40). كلمة جنود هنا نكرة، والنكرة تفيد التعميم، ومعنى ذلك أن الجنود الربانيين يتعددون كثيراً ويتنوعون.
أ- الملائكة:
فمن جند الله تعالى الملائكة الذين أرسلهم تأييداً لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى وفي غزوة حُنين، فقد كانوا يقاتلون معه عليه الصلاة والسلام ومع أصحابه، حتى أنه عليه الصلاة والسلام وصف لأصحابه سيدَنا جبريل بأنه يقاتل على النقع (الغبار المتصاعد في أرض المعركة) وعليه عمامة سوداء.
ب- الرعب:
حيث يقذفه الله تعالى في قلوب الأعداء، فإذا تزلزلت قلوبهم وخافت فإنهم يضعفون ويجبنون أمام لقاء المؤمنين.
والنبي عليه الصلاة والسلام عندما تحدث عن بعض الخصائص التي خصّه الله بها عن سائر الأنبياء يقول: "نُصِرتُ بالرعب". متفق عليه. فالرعب كان أحد الجنود الأقوياء الأشدّاء الذين دعم بهم اللهُ سبحانه وتعالى رسولَنا محمداً صلى الله عليه وسلم.
جـ- الرياح:
ومن جملة الجند الرياح العاتية التي زلزل الله تعالى بها خيام الأحزاب من المشركين في غزوة الخندق، فجاءت الريح قوية خلعت خيامهم، وألقت قدورهم، فما كان منهم إلا أن انصرفوا خاسرين ذاهلين مما أصابهم من الرياح الشديدة.
معية الله سبحانه وتعالى يمكن أن ندركها جيداً من خلال هذه المواقف وهذه الشواهد التي استعرضناها من خلال حياة سيدنا موسى عليه السلام وحياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة عندما كان في الغار مع سيدنا أبي بكر وقال له:[...لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...] سورة التوبة (40).

عباد الله: إن الله تعالى قد أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56.

هذا وما كان من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأٍ، أو سهوٍ، أو نسيانٍ، فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه الأطهار الأخيار ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات