فضائل بر الوالدين للشيخ بركات سيد البخاري





الحمد لله ﴿ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 61، 62]، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ الذي أرسله ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد:

فإن للوالدين مكانةً كبيرة في الإسلام؛ من أجل ذلك أحببتُ أن أذكر نفسي وطلاب العلم الكرام بفضائل الإحسان إلى الوالدين، والتحذير من عقوقهما
معنى البر:
البر معناه: الإحسانُ والخير والعطاء.
البر: اسم جامع لكل معاني الخير؛ (غذاء الألباب - السفاريني - ج- 1 - ص- 373).
• البَرُّ مِن أسماء الله الحسنى:
قال سبحانه: ﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28].
قوله: ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ ﴾؛ أي: المحسِنُ إلى عباده؛ (محاسن التأويل - جمال الدين القاسمي - ج- 9 - ص- 52).
معنى بر الوالدين:
بر الوالدين: الإحسانُ إلى الوالدين بالقول والفعل؛ تقرُّبًا إلى الله تعالى.
بر الوالدين وصية ربِّ العالمين:
أوصانا الله تعالى في كثير من آيات القرآن العظيم ببِرِّ الوالدين،وسوف نذكر بعضًا منها:
(1) قال الله تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36].
في هذه الآية المباركة قرَن سبحانه الدعوة إلى توحيده ببر الوالدين والإحسان إليهما، وكثيرًا ما يقرن الله بينهما؛ كقوله تعالى: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14].
(2) وقال سبحانه: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 23 - 25].

(3) وقال سبحانه: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾ [العنكبوت: 8].

قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): أمر الله تعالى عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسُّك بتوحيده؛ فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان، ولهما عليه غاية الإحسان؛ فالوالد بالإنفاق، والوالدة بالإشفاق؛ (تفسير ابن كثير - ج- 6 - ص- 238).

بر الوالدين من صفات الأنبياء:

(1) قال تعالى عن يحيى بن زكريا صلى الله عليهما وسلم: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 12 - 15].
(2) وقال سبحانه عن عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾ [مريم: 30 - 34].

نبينا صلى الله عليه وسلم يحثنا على بر الوالدين:

(1) روى الشيخانِ عن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: ((الصلاة على ميقاتها))،قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم برُّ الوالدينِ))،قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))؛ (البخاري حديث 527 / مسلم حديث 85).
(2) روى مسلمٌ عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: أقبل رجلٌ إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجرَ من الله،قال: ((فهل مِن والديك أحَدٌ حيٌّ؟))، قال: نعم،بل كلاهما،قال: ((فتبتغي الأجرَ من الله؟))، قال: نعم،قال: ((فارجع إلى والديك فأحسِنْ صحبتَهما))؛ (مسلم - كتاب البر - حديث 6).
(3) روى الشيخان عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد،فقال: ((أحيٌّ والداك؟))، قال: نعم،قال: ((ففيهما فجاهِدْ))؛ (البخاري حديث 3004 / مسلم حديث 2549).
قال الإمام ابن حجر العسقلاني - تعليقًا على هذا الحديث -: يحرُمُ الجهادُ إذا منع الأبوان أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمينِ؛ لأن برَّهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعيَّن الجهادُ فلا إذنَ؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني - ج- 6 - ص- 163).

(4) روى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَجزي ولدٌ والدًا إلا أن يجدَه مملوكًا فيشتريَه فيُعتقَه))؛ (مسلم - حديث 1510).

• قوله: (لا يجزي)؛ أي: لا يكافئ.
• قوله: (ولدٌ والده)؛ أي: إحسانَ والدِه.
• قوله: (إلا أن يجده)؛ أي: يصادف والده مملوكًا لرجلٍ آخر.
• قوله: (فيعتقه) معناه: يجعله حرًّا بالشراء؛ (مرقاة المصابيح - علي الهروي - ج- 6 - ص- 2222)
(5) روى أبو داود عن أبي سعيدٍ الخدري: أن رجلًا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن اليمن، فقال: ((هل لك أحد باليَمن؟))، قال: أبواي،قال: ((أَذِنا لك؟))، قال: لا،قال: ((ارجِعْ إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهِدْ، وإلا فبَرَّهما))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 2207).
(6) روى ابن ماجه عن جابر بن عبدالله: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح (يأخذ) مالي، فقال: ((أنتَ ومالُك لأبيك))؛ (حديث صحيح) (صحيح ابن ماجه للألباني حديث: 1855).
قال الإمام الطحاوي (رحمه الله): قال فريق من العلماء: ما كسَب الابنُ مِن شيء فهو له خاصة دون أبيه،قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا ليس على التمليك منه للأب كَسْبَ الابن، وإنما هو على أنه لا ينبغي للابن أن يخالف الأبَ في شيء من ذلك، وأن يجعل أمره فيه نافذًا كأمره فيما يملِك،ألا تراه يقول: ((أنت ومالك لأبيك))، فلم يكن الابن مملوكًا لأبيه بإضافة النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فكذلك لا يكون مالكًا لماله بإضافة النبي صلى الله عليه وسلم إليه؛ (شرح معاني الآثار - للطحاوي ج- 4 - ص- 169).

بر الوالدين بركة في العمر وسَعة في الرزق:

روى مسلم عن أنس بن مالكٍ، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن سَرَّه أن يبسط عليه رزقه، أو يُنسَأ في أثره، فليصِلْ رحمه))؛ (مسلم حديث: 2557).
• (يُنسَأ)؛ أي: يؤخَّر.
• (أثره)؛ أي: أجَله.
• (يبسط عليه رزقه) بسطُ الرزق: توسيعُه وكثرته،وقيل: البركة فيه.
• قال الإمام النووي (رحمه الله): وأما التأخير في الأجل، ففيه سؤال مشهور، وهو أن الآجال والأرزاق مقدَّرة لا تَزيد ولا تنقص؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34].

وأجاب العلماء بأجوبةٍ، الصحيح منها:

الأول: أن هذه الزيادة بالبركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك.
والثاني: أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة في اللوح المحفوظ، ونحو ذلك، فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنةً إلا أن يصل رحمه، فإن وصلها زيد له أربعون، وقد علم الله تعالى ما سيقع له من ذلك، وهو مِن معنى قوله تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ﴾ [الرعد: 39]، فبالنسبة إلى علم الله تعالى وما سبق قدره لا زيادة، بل هي مستحيلة، وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين يتصور الزيادة، وهو مراد الحديث.
والثالث: أن المرادَ بقاءُ ذِكره الجميل بعده، فكأنه لم يمُتْ؛ (مسلم بشرح النووي ج- 16 - ص- 114).

فَضْل الوالدين على الأبناء:

قال الإمام ابن الجوزي (رحمه الله): غير خافٍ على عاقلٍ لزومُ حق المنعم، ولا منعم بعد الحق سبحانه على العبد كالوالدين؛ فقد حمَلَتِ الأم بحمله أثقالًا كثيرةً، ولقيت وقت وضعه مزعجاتٍ مثيرةً، وبالغت في تربيته وسهِرَت في مداراته، وأعرضت عن جميع شهواتها لمرادته، وقدَّمته على نفسها في كل حالٍ،وقد ضم الوالدُ إلى تسبُّبه في إيجاده ومحبته بعد وجوده وشفقته في تربيته الكسبَ له والإنفاق عليه، والعاقل يعرف حق المحسن ويجتهد في مكافأته،وجهل الإنسان بحقوق المنعم من أخسِّ صفاته، فإذا أضاف إلى جحد الحق المقابلةَ بسوء الأدب، دل على خبث الطبع ولؤم الوَضْع وسوء المنقلب، وليعلم البارُّ بالوالدين أنه مهما بالغ في برهما لم يفِ بشكرهما؛ (كتاب البر والصلة - لابن الجوزي - ص- 39).

أقوال السلف الصالح في بر الوالدين:

سوف نذكر بعضًا من أقوال السلف الصالح في بر الوالدين:
(1) روى البخاري (في الأدب المفرد) عن ابن عباسٍ، قال: لا أعلم عملًا أقربَ إلى الله عز وجل من برِّ الوالدة؛ (صحيح) (صحيح الأدب المفرد - للألباني - ص- 35 رقم 6).
(2) روى عبدالرزاق عن الحسن البصري: أنه سُئِل: ما برُّ الوالدين؟ قال: أن تبذُلَ لهما ما ملكتَ، وأن تطيعَهما فيما أمراك به، إلا أن تكون معصية؛ (مصنف عبدالرزاق - ج- 5 - ص- 176 - رقم: 9288).
(3) روى البخاري (في الأدب المفرد) عن طيسلة بن مياسٍ، قال: قال لي ابن عمر: أتفرَقُ النارَ وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت: إي والله، قال: أحيٌّ والدُك؟ قلت: عندي أمي، قال: فوالله لو ألَنْتَ لها الكلام، وأطعَمْتَها الطعام، لتدخلن الجنةَ ما اجتنبتَ الكبائر؛ (صحيح) (صحيح الأدب المفرد - للألباني ص- 34 رقم 4).
(4) قال عبدالله بن عمر: بكاء الوالدينِ من العقوق؛ (البر والصلة - لابن الجوزي - ص- 59 - رقم: 30).
(5) روى البخاري (في الأدب المفرد) عن هشام بن عروة، عن أبيه، أو غيره: أن أبا هريرة أبصر رجلين، فقال لأحدهما: ما هذا منك؟ فقال: أبي، فقال: لا تسمِّه باسمه، ولا تمشِ أمامه، ولا تجلِسْ قبله؛ (صحيح) (صحيح الأدب المفرد - للألباني حديث 32).
(6) قال لقمان الحكيم لابنه: يا بني، مَن أرضى والديه فقد أرضى الرحمنَ، ومن أسخَطهما فقد أسخَط الرحمنَ؛ (بر الوالدين - لأبي بكر الطرطوشي ص- 37).
(7) قال لقمان لابنه: يا بني، إن الوالدينِ بابٌ من أبواب الجنة، إن رضيَا عنك مضيتَ إلى الجنة، وإن سخِطا حُجِبت؛ (كتاب البر والصلة لابن الجوزي - ص- 80).
(8) روى عبدالرزاق عن طاوس بن كيسان قال: مِن السنَّة أن يوقَّرَ أربعة: العالم، وذو الشَّيبة، والسلطان، والوالد، قال: ويقال: إن مِن الجفاء أن يدعوَ الرجلُ والدَه باسمِه؛ (مصنف عبدالرزاق - ج- 11 - رقم 20133).
(9) قال هشام بن حسان: قلتُ للحسن البصري: إني أتعلَّم القرآنَ، وإن أمي تنتظرني بالعَشاء،فقال الحسن: تَعَشَّ العَشاءَ مع أمك تقر به عينها، أحب إليَّ من حجةٍ تحجها تطوعًا؛ (كتاب البر والصلة - لابن الجوزي ص- 73).
(10) لما ماتت أم إياس بن معاوية بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: كان لي بابانِ مفتوحان إلى الجنة، وغُلِّق أحدُهما؛ (كتاب البر والصلة - لابن الجوزي - ص- 72).

(11) قال وهب بن منبه: البر بالوالد يثقِّل الميزان، والبر بالوالدة يشُدُّ الأصل، والذي يشُدُّ الأصل أفضل؛ (كتاب البر والصلة - لابن الجوزي - ص- 73).

(12) قال مكحول الشامي: برُّ الوالدين كفَّارةٌ للكبائر؛ (شرح السنة للبغوي ج- 13 ص- 13).
(13) قال سفيان بن عيينة: مَن صلى الصلواتِ الخمسَ فقد شكر لله، ومن دعا لوالديه عقبها فقد شكر لهما؛ (فتح الباري - لابن حجر العسقلاني - ج- 2 - ص- 10).
(14) قال مجاهدُ بن جبرٍ: لا ينبغي للولد أن يدفع يدَ والده عنه إذا ضربه، قال: ومَن شد النظر إلى والديه فلم يَبَرَّهما، ومَن أدخل عليهما حزنًا فقد عَقَّهما؛ (البر والصلة - لابن الجوزي - ص- 117).
(15) قال محمد بن محيريزٍ: مَن مشى بين يدَيْ أبيه فقد عقَّه، إلا أن يمشي فيميط له الأذى عن طريقه، ومن دعا أباه باسمه أو بكنيته فقد عقَّه، إلا أن يقول: يا أبتِ؛ (البر والصلة - لابن الجوزي - ص- 117).

(16) قال بعض الحكماء: لا تصادِقْ عاقًّا؛ فإنه لن يبَرَّكَ وقد عقَّ مَن هو أوجب حقًّا منك عليه؛ (كتاب البر والصلة - لابن الجوزي ص- 60).

دعوة الآباء الصالحين مستجابة:
إن مِن إكرام الله تعالى للوالدين الصالحين استجابةَ دعائهما لأبنائهما أو على أبنائهما، وخاصة إذا بلغا مِن الكِبَر عتيًّا، وهذا واقع أمام أعيننا في حياتنا الدنيا،ولقد نبَّهنا إلى ذلك صاحب الشفاعة العظمى نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم:
روى البخاري (في الأدب المفرد) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثُ دعواتٍ مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده))؛ (حديث صحيح) (صحيح الأدب المفرد - للألباني - حديث 488).
قال الحسن البصري: دعاء الوالدين يثبت المالَ والولد، دعاء الوالدين على الولد يستأصل المال والولد؛ (البر والصلة - لابن الجوزي ص- 120: ص- 123).

وقفةُ تأمُّل مع النفس:

تدبَّر يا عبد الله وقِفْ مع نفسك لحظات تتأمل فيها كيف يكون حالك عندما تقصر في حقوق والديك، فيقوم أحدهما أو كلاهما في ثلث الليل الآخر فيصلي لله تعالى ركعتين في جوف الليل، وقد انهمرت دموعُه على خديه رافعًا يديه إلى السماء متذللًا ومتوسلًا إلى الله تعالى أن ينتقم له منك؛ لأنك قد أسأتَ معاملتَه، وكم من دعوة للوالدين الصالحين كانت سببًا في سعادة أبنائهما أو شقائهما في الدنيا والآخرة.

روى الشيخانِ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل ربُّنا تبارك وتعالى كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: مَن يدعوني فأستجيبَ له، مَن يسألني فأعطيَه، مَن يستغفِرُني فأغفِرَ له))؛ (البخاري حديث 1145 / مسلم حديث 758).

رضا الآباء الصالحين مِن رضا الله تعالى:
يجب أن نعلَمَ أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين رضا الله تعالى ورضا الآباء الصالحين؛ ولذا يجب على الأبناء أن يحرصوا على رضا آبائهم وطاعتهم؛ لينالوا رضا اللهِ عليهم في الدُّنيا والآخرة،ولقد أرشَدَنا إلى ذلك نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم في كثيرٍ مِن أحاديثه الشريفة:
(1) روى الترمذي عن عبدالله بن عمرٍو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رضا الربِّ في رضا الوالد، وسخَط الربِّ في سخط الوالد))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1549).
هذا الحديث المبارك دليل على فضل الإحسان إلى الوالدين، ووجوبه، وأنه سببٌ لرضا الله تعالى،والحديث أيضًا تحذير من عقوق الوالدين، وتحريم له، وأنه سببٌ لغضب الله تعالى على العبد المسلم.

(2) روى أبو داود عن عبدالله بن عمر بن الخطاب قال: كانت تحتي امرأة وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلِّقْها، فأبيتُ، فأتى عمرُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((طلِّقْها))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث 4284).

فائدة مهمة:
يتضح من هذا الحديث أن الذي طلب الطلاق مِن ولده هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وليس كل الآباء أتقياء، بل يمكن أن يكون هناك شيء من العداوة بين الزوجة والوالدين لأمور دنيوية، فينظر الولد في ذلك إلى العدل ومعرفة الحق مع من يكون،فإن كان الحق مع الزوجة، وجب على الولد أن يبين لوالديه أنهما ليسا على حق، ويسعى إلى إقناعهما بالتي هي أحسن مع الإبقاء على زوجته، وأما إذا كانت الكراهيَة لأمر دِيني، أو أن الأمر بلغ إلى حد لا يمكن معه التوفيق، فلا شك أن طاعة الوالد مطلوبة، ورضاه مطلوب.
• سأل رجل الإمام أحمد بن حنبل فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي،قال: لا تطلِّقْها،قال: أليس عمرُ أمر ابنه عبدالله أن يطلق امرأته، قال: حتى يكونَ أبوك مِثلَ عمرَ رضي الله عنه؛ (الآداب الشرعية - لابن مفلح الحنبلي - ج- 1 - ص- 447).
• سُئل الإمام ابن تيمية (رحمه الله) عن رجلٍ تأمره أمه بطلاق امرأته،فقال: لا يحِلُّ له أن يطلِّقَها، بل عليه أن يبَرَّها، وليس تطليقُ امرأتِه مِن برِّها؛ (الآداب الشرعية - لابن مفلح الحنبلي - ج- 1 - ص- 447).
(3) روى الترمذي عن أبي الدرداء: أن رجلًا أتاه فقال: إن لي امرأةً، وإن أمي تأمرني بطلاقها،قال أبو الدرداء: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الوالدُ أوسطُ أبواب الجنة))، فإن شئتَ فأضِعْ ذلك الباب، أو احفَظْه؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1548).
قوله: (أوسط أبواب الجنة)؛ أي: خير الأبواب وأعلاها، والمعنى: أن أحسن ما يتوسل به إلى دخول الجنة، ويتوصل به إلى وصول درجتها العالية: مطاوعةُ الوالد، ومراعاة جانبه؛ (مرقاة المفاتيح - علي الهروي - ج- 7 - ص- 3089).
(4) روى البخاري (في الأدب المفرد) عن أبي الدرداء قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسعٍ: ((لا تشرك بالله شيئًا، وإن قُطِّعت أو حُرِّقت، ولا تتركن الصلاة المكتوبة متعمدًا، ومن تركها متعمدًا برئت منه الذمة، ولا تشربن الخمر؛ فإنها مفتاح كل شر، وأطِعْ والديك، وإن أمراك أن تخرج من دنياك فاخرج لهما، ولا تنازعن ولاة الأمر، وإن رأيتَ أنك أنت، ولا تفرر من الزحف، وإن هلكتَ وفرَّ أصحابك، وأنفق من طَوْلك على أهلك، ولا ترفع عصاك عن أهلك، وأخِفْهم في الله عز وجل))؛ (حديث حسن) (صحيح الأدب المفرد للألباني حديث 14).

بر الأم مقدَّم على بر الأب:

قال الله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14].
وقال جل شأنه: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15].
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): يذكر تعالى تربية الوالدة وتعَبَها ومشقتها في سهرها ليلًا ونهارًا؛ ليذكر الولد بإحسانها المتقدم إليه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]؛ ولهذا قال: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]؛ أي: فإني سأَجزيك على ذلك أوفرَ الجزاء؛ (تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج- 11 ص- 53).
(1) روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مَن أحق الناس بحُسن صَحابتي؟ قال: ((أمك))،قال: ثم من؟ قال: ((ثم أمك))،قال: ثم من؟ قال: ((ثم أمك))،قال: ثم من؟ قال: ((ثم أبوك))؛ (البخاري حديث 5971 / مسلم حديث 2548).
قال الإمام ابن بطال (رحمه الله): مقتضى هذا الحديث أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرَّضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأبَ في التربية؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج- 10 ص- 416).

وقال الإمام القرطبي (رحمه الله): هذا الحديثُ يدلُّ على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثةَ أمثال محبة الأب؛ لذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأمَّ ثلاثَ مراتٍ، وذكر الأب في الرابعة فقط؛وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب، فهذه ثلاثُ منازلَ يخلو منها الأب؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج- 10 ص- 243: ص- 244).

وقال القاضي عياض (رحمه الله): ذهب الجمهورُ إلى أن الأم تفضَّل في البِرِّ على الأب؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج- 10 ص- 416).

(2) روى ابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يوصيكم بأمهاتكم ثلاثًا، إن الله يوصيكم بآبائكم، إن الله يوصيكم بالأقربِ فالأقرب))؛ (حديث صحيح) (صحيح ابن ماجه - للألباني - حديث: 2954).

• قوله: (ثلاثًا)؛ أي: كرره ثلاث مرات لمزيد التأكيد.
(3) روى النسائي عن معاوية بن جاهمة السلمي: أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أردتُ أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك من أم؟))، قال: نعم،قال: ((فالزَمْها؛ فإن الجنةَ تحت رِجليها))؛ (حديث حسن صحيح) (صحيح النسائي للألباني حديث 2908).
(4) روى أحمدُ عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نِمْتُ فرأيتُني في الجنة، فسمعت صوت قارئٍ يقرأ،فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا حارثة بن النعمان))،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذاك البِرُّ، كذاك البِرُّ، وكان أبرَّ الناسِ بأمِّه))؛ (حديث صحيح) (مسند أحمد - ج- 42 - حديث 25182).

(5) روى البخاري (في الأدب المفرد) عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري: أنه شهِد ابن عمر ورجل يماني يطوف بالبيت، حمل أمه وراء ظهره، يقول:

إنِّي لها بعيرُها المُذلَّلْ  إنْ أُذعِرَتْ ركابُها لم أُذْعَرْ
ثم قال: يا بنَ عمر، أتُراني جزيتُها؟ قال: لا، ولا بزفرةٍ واحدةٍ؛ (صحيح) (صحيح الأدب المفرد للألباني - حديث 9).
• أُذعِرَت: فزع وخاف.
• ركابُها: بعيرها.
• بزفرةٍ: بطلقة.

الإحسان إلى الوالدينِ الكافرينِ:

شريعتنا الإسلامية المباركة لا تهمل الإحسان إلى الوالدين، ولو كانا كافرين، فضلًا عن الوالدين العاصيين،ولقد حثنا القرآن العظيم بأسلوب رائع بليغ على بر الوالدين، وإن كانا مشركينِ؛ عسى أن تكون هذه المعاملة الطيبة سببًا في هدايتهما.
قال الله عز وجل: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 15].
قال الإمام ابن كثير (رحمه الله): إن حرَصَا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دِينهما، فلا تقبَلْ منهما ذلك، ولا يمنعنَّك ذلك من أن تصاحبَهما في الدنيا معروفًا؛ أي: محسنًا إليهما؛ (تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج- 11 ص- 54).
قال الإمام القرطبي (رحمه الله): الآية دليلٌ على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن مِن المال، إن كانا فقيرينِ، وإلانةِ القول والدعاء إلى الإسلام برفقٍ؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج- 14 ص- 66).
قال الله تبارك وتعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].
قال الإمام ابن جرير الطبري (رحمه الله): لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدِّين مِن جميع أصناف المِلَل والأديان أن تبَرُّوهم وتصِلوهم، وتُقسِطوا إليهم؛ (تفسير ابن جرير الطبري - ج- 25 - ص- 611).
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، يقول: إن الله يحب المنصِفين الذين ينصِفون الناس، ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم، فيبَرُّون مَن برَّهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم؛ (تفسير ابن جرير الطبري - ج- 25- ص- 612).
روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما، قالت: قدِمَتْ عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: ((نعم، صِلِي أمَّكِ))؛ (البخاري حديث 2620 / مسلم حديث 1003).

قال الإمام ابن حجر العسقلاني (رحمه الله): قولها (وهي راغبة)؛ أي: طالبة في بر ابنتها لها، خائفة من ردها إياها خائبةً؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج- 5 ص- 277).

قال الإمام النووي (رحمه الله): هذا الحديث فيه جواز صلة القريب المشرك؛ (مسلم بشرح النووي - ج- 7 - ص- 89).
كيف نعامل الآباء عند الكِبَر؟
يقول الله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24].
قال الإمام القرطبي (رحمه الله): خصَّ الله تعالى حالة الكبر؛ لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بر الولد؛ لتغيُّر الحال عليهما بالضعف والكِبَر؛ فألزَمَ في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثرَ مما ألزمه من قبلُ؛ لأنهما في هذه الحالة قد صارا كَلًّا عليه، فيحتاجان أن يليَ منهما في الكِبَر ما كان يحتاج في صغره أن يلِيَا منه؛ فلذلك خص هذه الحالة بالذِّكر،إن طول مكث الوالدين أو أحدهما عند الولد عادةً ما يسبب نوعًا من الاستثقال للمرء، ويحصل الملل، ويكثر الضجر، فيظهر غضبه على أبويه، وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالة البنوة، وقلة الديانة، وأقل المكروه ما يُظهره بتنفُّسه المتردد من الضجر،وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم عن كل عيبٍ فقال: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23]؛ (الجامع لأحكام القرآن - للقرطبي - ج- 10 ص- 246).
• قوله تعالى: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾ [الإسراء: 23] قال مجاهد بن جبرٍ: معناه: إذا رأيتَ منهما في حال الشيخِ الغائطَ والبولَ الذي رأياه منك في الصغر، فلا تَقْذَرهما وتقول: أفٍّ؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج- 10 ص- 248).
قال الإمام القرطبي (رحمه الله): قال علماؤنا: وإنما صارت قولة: ﴿ أُفٍّ ﴾ للأبوين أردأ شيءٍ؛ لأنه رفضَهما رفضَ كفرِ النعمة، وجحد التربية، وردَّ الوصية التي أوصاه في التنزيل، و﴿ أُفٍّ ﴾ كلمة تقال لكل شيءٍ مرفوضٍ؛ ولذلك قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم لقومه: ﴿ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [الأنبياء: 67]؛ أي: رفض لكم ولهذه الأصنامِ معكم؛ (الجامع لأحكام القرآن - للقرطبي - ج- 10 - ص- 248).

• وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ﴾ [الإسراء: 23]؛ أي: ولا يصدُرْ منك إليهما فِعلٌ قبيح؛ (تفسير ابن كثير - ج- 8 - ص- 467).

• وقوله تعالى: ﴿ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23]؛ أي: ليِّنًا طيِّبًا حسنًا، بتأدُّبٍ وتوقيرٍ وتعظيمٍ؛ (تفسير ابن كثير - ج- 5 - ص- 64).
قال سعيد بن المسيَّب: قول العبدِ المذنب للسيِّد الغليظِ الفظِّ؛ (كتاب البر والصلة - لابن الجوزي - ص- 45).
قوله تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24].
قال الإمام القرطبي (رحمه الله): أمَر تعالى عباده بالترحُّم على آبائهم والدعاء لهم، وأن ترحَمَهما كما رحماك، وترفُقَ بهما كما رفقا بك؛ إذ وَلِيَاك صغيرًا جاهلًا محتاجًا، فآثَراك على أنفسهما، وأسهَرا ليلهما، وجاعَا وأشبعاك، وتعرَّيَا وكسواك، فلا تجزيهما إلا أن يبلغا من الكِبَرِ الحدَّ الذي كنت فيه من الصغر، فتَلِي منهما ما وَلِيَا منك، ويكون لهما حينئذٍ فضل التقدم؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج- 10 ص- 249).
قال الإمام القرطبي: قوله تعالى: ﴿ كَمَا رَبَّيَانِي ﴾ [الإسراء: 24] خص التربية بالذِّكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتَعَبَهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقًا لهما، وحنانًا عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين؛ (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج- 10 ص- 249).

دعاء البار بوالديه مستجاب:

إن مِن أعظم بركات بر الوالدين: استجابةَ الله تعالى لدعاء الأبناء الصالحين البررة:
روى الشيخان عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما ثلاثة نفرٍ يتماشَون، أخذهم المطر، فمالوا إلى غارٍ في الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعضٍ: انظروا أعمالًا عملتموها لله صالحةً، فادعوا الله بها؛ لعله يفرجها، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رُحْتُ عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه ناء بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبتُ كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا فرجةً نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجةً حتى يرون منها السماء ...))؛ (البخاري حديث 5974 / مسلم حديث 2743).
روى مسلم عن أسير بن جابرٍ قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامرٍ؟ حتى أتى على أويسٍ، فقال: أنت أويس بن عامرٍ؟ قال: نعم،قال: من مرادٍ ثم من قرنٍ؟ قال: نعم،قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهمٍ؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم،قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامرٍ مع أمداد أهل اليمن، من مرادٍ، ثم من قرنٍ، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهمٍ، له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبَرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل))، فاستغفِرْ لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة،قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحبُّ إليَّ؛ (مسلم - حديث 2542).

• قوله: (أمداد أهل اليمن) هم الجماعة الغزاة الذين يمدون جيوش الإسلام في الغزو؛ (مسلم بشرح النووي - ج- 16 - ص- 96).

• غبراء الناس: فقراء الناس الذين لا يَنتبه إليهم أحدٌ.
فائدة:
قال ابن الملك (رحمه الله): أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه باستغفار أويسٍ لهم، وإن كان الصحابة أفضل من التابعين؛ ليدل على أن الفاضل يستحب له أن يطلب الدعاء من المفضول، أو قاله صلى الله عليه وسلم تطييبًا لقلبه؛ لأنه كان يمكنه الوصول إلى حضرته، لكن منعه بره لأمه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم به؛ ليندفع به أنه مسيءٌ في التخلُّف؛ (مرقاة المصابيح - علي الهروي - ج- 9 - ص- 4035).

تأمل - أخي المسلم الكريم - كيف كان بر الوالدين سببًا في جعل أويس بن عامرٍ القرني مجابَ الدعوة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أصحابه رضي الله عنهم أن يطلبوا من أويس أن يستغفرَ لهم.

كيف نبَرُّ الآباء بعد موتهم؟
الإحسان إلى الوالدين لا يكون في حياتهما فقط، بل يمتد الإحسان إليهما بعد موتهما أيضًا.
(1) روى مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفَع به، أو ولَدٍ صالحٍ يدعو له))؛ (مسلم حديث 1631).
قال الإمام النووي (رحمه الله): إن عمل الميت ينقطع بموته، إلا في هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه كان سببها؛ فإن الولد من كَسْبه، وكذلك العِلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي الوقف؛ (مسلم بشرح النووي ج- 6 ص- 95).
(2) روى ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل لتُرفَعُ درجته في الجنة، فيقول: أنَّى هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك))؛ (حديث حسن) (صحيح ابن ماجه للألباني حديث 2953).

(3) روى مسلم عن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن مِن أبرِّ البرِّ صلةَ الرجلِ أهلَ وُدِّ أبيه بعد أن يولي))؛ (مسلم حديث 13).

• قوله: (إن من أبر البر)؛ أي: أفضله بالنسبة إلى والده، وكذا الوالدة.
• قوله: (ود أبيه)؛ أي: أصحاب مودته ومحبته.
• قوله: (بعد أن يولي)؛ أي: بعد أن يموت؛ (مرقاة المفاتيح - علي الهروي - ج- 7 - ص- 3083).
ولذا؛ فإن من السنة أن يقوم الولد بزيارة أصدقاء أبويه، والإحسان إليهم، وإكرامهم في حياة أبويه وبعد موتهما.
(4) روى مسلم عن عبدالله بن دينارٍ عن ابن عمر: أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروَّح (ليستريح) عليه إذا ملَّ ركوب الراحلة (البعير)، وعمامة يشد بها رأسه، فبينا هو يومًا على ذلك الحمار إذ مر به أعرابي، فقال: ألست ابن فلان بن فلانٍ؟ قال: بلى، فأعطاه الحمار، وقال: اركب هذا، والعمامة، قال: اشدُدْ بها رأسك،فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك؛ أعطيت هذا الأعرابي حمارًا كنت ترَوَّحُ عليه، وعمامةً كنت تشد بها رأسك، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من أبرِّ البرِّ صلةَ الرجلِ أهلَ وُدِّ أبيه بعد أن يولِّيَ))،وإن أباه كان صديقًا لعمر؛ (مسلم - كتاب البر - حديث 13).
(5) روى ابن حبان عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال: قدمت المدينة، فأتاني عبدالله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت: لا،قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أحب أن يصلَ أباه في قبره، فليصِلْ إخوان أبيه بعده))، وإنه كان بين أبي عمرَ وبين أبيك إخاءٌ وودٌّ، فأحببتُ أن أصلَ ذاك؛ (حديث حسن) (صحيح الترغيب والترهيب للألباني، حديث 2506).

الأمور المعِينة على بر الوالدينِ:

سوف نذكر بعض الأمور التي تساعد على بر الوالدين.
(1) الاستعانة بالله تعالى: وذلك بإحسان الصلة به سبحانه؛ عبادةً ودعاءً والتزامًا بما شرع؛ لكي يوفِّق اللهُ العبدَ ويعينه على بر والديه.
(2) استحضار فضائل بر الوالدين وعواقب العقوق: فإن معرفة ثمرات البر واستحضار حُسن عواقبه مِن أكبر الدواعي إلى فعله.
وكذلك النظر في عواقب العقوق، وما يجلبه من غمٍّ وحسرةٍ وندامةٍ، كل ذلك مما يعين على البِر، ويُبعد العبد عن عقوق والديه.
(3) استحضار فضل الوالدين على الإنسان: فهما سبب وجوده في هذه الدنيا، وهما اللذان تعِبا من أجله، وأولَيَاه خالص الحنان والمودة، وربَّيَاه حتى كبِرَ؛ فمهما فعل الولد معهما فلن يستطيع أن يوفِّيَهما حقهما؛ فاستحضار هذا الأمر مدعاةٌ للبر.
(4) صلاح الآباء: فصلاحهم سبب لصلاح أبنائهم وبرهم بهم.
(5) التواصي ببرِّ الوالدين: وذلك بتشجيع البررة، وتذكيرهم بفضائل البر، ونصح العاقِّين، وتذكيرهم بعواقب عقوق الوالدين.
(6) يضع الولد نفسه موضع الوالدين: فهل يسرُّك - أيها الولد - غدًا إذا أصابك الكِبَر ووَهن العظم منك، واشتعل الرأس شيبًا، وعجزت عن الحركة - أن تلقى مِن أولادك المعاملة السيئة؟!
(7) قراءة سِيَر البارِّين بآبائهم والعاقين لهم: فسِيَر البارين مما يساعد على البر، وقراءة سِيَر العاقين وما نالهم من سوء المصير تُنَفِّرُ عن العقوق، وتبغِّضُ فيه، وتدعو إلى البر وترغِّب فيه؛ (عقوق الوالدين - محمد بن إبراهيم الحمد - ص- 41: 38).

ثمرات بر الوالدين:

يمكن أن نوجِزَ ثمرات بر الوالدين في الأمور التالية:
(1) بر الوالدين مِن كمال الإيمان وحُسن الإسلام.
(2) بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله عز وجل.
(3) بر الوالدين طريقٌ موصل إلى الجنة.
(4) بر الوالدين يؤدي إلى البركة في المال والذرية.
(5) بر الوالدين رفعٌ لذكر العبد في الدنيا والآخرة.
(6) مَن برَّ آباءه برَّه أبناؤه، والجزاء من جنس العمل.
(7) بر الوالدين يفرِّج الكرب، ويشرح الصدر.
(8) مَن حفِظ وُدَّ أبيه، فإن الله تعالى لا يُطفِئُ نوره في الدنيا والآخرة؛ (موسوعة نضرة النعيم - ج- 3 - ص- 779).

صُوَر مشرقة في بر الوالدين:

هناك الكثير من النماذج المشرقة في بر الوالدين، وسوف نذكر بعضًا منها؛ لتكون نبراسًا يسير عليه أبناؤنا في كل مكان.
(1) إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع أبيه:
ذكَر لنا الله تبارك وتعالى مثالًا رائعًا في معاملة الوالدِ الكافر؛ فهذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم يدعو أباه الكافرَ إلى الإيمان بالله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة؛يقول الله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم: 41 - 48].
أخي الكريم، إذا كانت هذه هي معاملة الوالد الكافر، فكيف تكون معاملة العصاة من الوالدين؟! فليتدبَّر كلٌّ منا هذا النموذج الرائع في بر الوالدين ونضعه أمام أعيننا، ولنتَّقِ اللهَ في آبائنا.

(2) إسماعيل صلى الله عليه وسلم مع أبيه إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم:

قال الله تعالى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الصافات: 99 - 109].

(3) أبو هريرة:

روى البخاري (في الأدب المفرد) عن أبي حازمٍ: أن أبا مرة مولى أم هانئ ابنة أبي طالبٍ أخبره: أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بالعقيق، فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: عليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أمتاه، تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، يقول: رحمكِ الله، ربيتِني صغيرًا، فتقول: يا بني، وأنت فجزاك الله خيرًا، ورضي عنك، كما برَرْتَني كبيرًا؛ (صحيح الأدب المفرد للألباني حديث 11).
• قال محمد بن سيرين: كنا عند أبي هريرة ليلةً، فقال: اللهم اغفر لأبي هريرة، ولأمي، ولمن استغفر لهما، قال لي محمد: فنحن نستغفر لهما حتى ندخل في دعوة أبي هريرة؛ (صحيح الأدب المفرد - للألباني - حديث 28).

(4) أسامة بن زيد رضي الله عنه:

كانت النخلة تبلغ بالمدينة ألفًا، فعمَد أسامة بن زيدٍ إلى نخلةٍ فقطعها من أجل جمارها، فقيل له في ذلك، فقال: إن أمِّي اشتَهَتْه عليَّ، وليس شيء من الدنيا تطلُبُه أمي أقدِرُ عليه إلا فعلتُه؛ (مكارم الأخلاق - لابن أبي الدنيا ص- 55).

(5) عليُّ بن الحسين:

قال محمد بن شهاب الزهري: كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبٍ لا يأكل مع أمه، وكان أبَرَّ الناس بها، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف أن آكل معها فتسبق عينها إلى شيءٍ من الطعام وأنا لا أعلم به، فآكله، فأكون قد عققتها؛ (البر والصلة - لابن الجوزي - ص- 86).

(6) الهذيل بن حفصة بنت سيرين:

قالت حفصة بنت سيرين: "بلغ من برِّ الهذيل ابني بي، أنه كان يكسر القصب في الصيف فيوقد لي في الشتاء، قال: لئلا يكون له دخان، وكان يحلب ناقته بالغداة، فيأتيني به، فيقول: اشربي يا أم الهذيل؛ فإن أطيب اللبن ما بات في الضرع،قالت: فمات، فرزق الله عليَّ من الصبر ما شاء أن يرزق، وكنت أجد مع ذلك حرارةً في صدري لا تكاد تسكن، قالت: فأتيت ليلةً من الليالي على هذه الآية: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96]،فذهب عني ما كنت أجد"؛ (البر والصلة - لابن الجوزي - ص- 87: 86).

(7) محمد بن المنكدر:

كان محمد بن المنكدر يضع خده بالأرض، ثم يقول لأمه: ضعِي قَدَمكِ عليه؛ (مكارم الأخلاق - لابن أبي الدنيا ص- 56).

(8) مِسعَر بن كِدام:

استسقَتْ أمُّ مِسعَر بن كدام منه ماءً في الليل، فقام فجاءها به وقد نامت، وكره أن يذهب فتطلبه ولا تجده، وكره أن يوقظها، فلم يزل قائمًا والإناء معه حتى أصبح؛ (مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا ص- 56).

(9) سعيد بن سفيان الثوري:

قال سعيد بن سفيان الثوري: ما جفَوْتُ أبي قط، وإنه ليدعوني وأنا في الصلاة غير المكتوبة فأقطعها له؛ (مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا ص- 64).

(10) الفضل بن يحيى البَرْمكي:

قال الخليفة المأمون: لم أرَ ابنًا أبَرَّ بأبيه من الفضل بن يحيى البرمكي، بلغ مِن بره أن يحيى كان لا يتوضأ إلا بماءٍ سخن، وهما في السجن، فمنعهم السجان من إدخال الحطب في ليلةٍ باردةٍ، فقام الفضل حين أخذ يحيى مضجعه إلى قمقمٍ كان يسخن فيه الماء، فملأه، ثم أدناه من نار المصباح، فلم يزل قائمًا وهو في يدِه حتى أصبح؛ (المجالسة وجواهر العلم - للدِّينوري - ج- 3 - رقم 1098).

(11) حَيْوة بن شريح:

كان حَيْوة بن شريح، وهو أحد أئمة المسلمين، يقعد في حلقته يعلِّم الناس، فتقول له أمه: قم يا حيوة وألق الشَّعيرَ للدجاج، فيقوم ويترك التعليم؛ (بر الوالدين - لأبي بكر الطرطوشي - ص- 39).

(12) طَلْق بن حبيب:

كان طَلْق بن حبيب من العبَّادِ، وكان يقبِّل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيتٍ وهي تحته؛ إجلالًا لها؛ (بر الوالدين - لأبي بكر الطرطوشي - ص- 38).

(13) ابن عمرَ بنِ ذرٍّ:

لما مات ابنُ عمرَ بنِ ذر، قيل له: كيف كان بره؟ قال: ما مشى معي نهارًا قط إلا كان خلفي، ولا ليلًا إلا كان أمامي، ولا رقِيَ على سطحٍ أنا تحته؛ (البر والصلة - لابن الجوزي - ص- 89).

(14) الزبير بن هشام:

قال مصعب بن عثمان: كان الزبير بن هشامٍ بارًّا بأبيه، إن كان لَيرقى إلى السطح في الحَرِّ فيؤتى بالماء البارد، فإذا ذاقه فوجد برده لم يشرَبْه، وأرسله إلى أبيه؛ (البر والصلة - لابن الجوزي - ص- 86).
(14) قال رجل لعبيدالله بن عميرٍ: حملت أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيتُ بها المناسك، أتُراني جزيتها؟ قال: لا، ولا طلقة واحدة؛ (البر والصلة - لابن الجوزي - ص- 41).

التحذير من عقوق الوالدين:

معنى عقوق الوالدين:
العقوق في اللغة: مشتق مِن العَقِّ، وهو القطع.
عقوق الوالدين: صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قولٍ أو فعلٍ، إلا في شركٍ أو معصية؛ (فتح الباري - لابن حجر العسقلاني - ج- 10 - ص- 406).

قال الإمام ابن الجوزي (رحمه الله): عقوق الوالدين: مخالفة الوالدينِ فيما يأمرانِ به من المباح، وسوء الأدب في القول والفعل؛ (كتاب البر والصلة - لابن الجوزي - ص- 116).

أسباب عقوق الوالدين:
يمكن أن نوجز الأسباب التي تؤدي إلى عقوق الوالدين فيما يلي:
(1) الجهل: فالجهل داءٌ قاتل، والجاهل عدوٌّ لنفسه، فإذا جهل الإنسان عواقب العقوق في الدنيا والآخرة، وجهل ثمرات البر، قاده ذلك إلى العقوق، وصرَفه عن البر.
(2) سوء التربية: فالوالدان إذا لم يربِّيَا أولادهما على التقوى، والبر والصلة، فإن ذلك سيقودهم إلى التمرُّد والعقوق.
(3) الصحبة السيئة للأولاد: فهي مما يفسِد الأولاد، ومما يجرِّئهم على العقوق، كما أنها تُرهق الوالدينِ
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات