فضل اليقين د/ أحمد محمد أبو عيد
الحمد لله الذي لا يحرم من دعاه ولا يخيب من رجاه، فارج الهم، وكاشف الغم، ومجيب دعوة المضطرين.
وأشهد ان لا إله إلا الله، اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، وبك خاصمنا وإليك حاكمنا، فاغفر لي ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا، وما أعلنا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت الأول والآخر الظاهر الباطن، عليك توكلنا، وأنت رب العرش العظيم. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها يا رب العالمين.
واشهد أن سيدنا محمدا رسول الله، يا صاحب الجمعة الغراء يا أملي في الصف عند امتحاني، أخاف من خطاياي وأنت في الحشر عوني في مجادلتي، عسى أن تزيل حديد النار من عنقي، وعند واقعة قد كان بي خطأ فاشفع لي على عند ربك الرحمن ما كان من خطأي.
العناصر
أولًا: فضل اليقين وأهميته ثانيًا: وسائل تقوية اليقين
ثالثًا: من قصص الصالحين مع اليقين
الموضوع
أولًا: فضل اليقين وأهميته
تعريف اليقين: العِلم وإزاحة الشكِّ، وتحقيق الأمر، وفي كلام ربِّ العالمين: ﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الحاقة: 51]، فأضاف جلَّ وعزَّ الحقَّ إلى اليقين، وليس هو مِن إضافة الشيء إلى نفسه؛ لأنَّ الحق غير اليقين، إنَّما هو خالصُه وأصحُّه، فجَرَى مجْرى إضافةِ الخاصِّ إلى العامِّ.
وقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]؛ أي: حتى يأتيك الموت، وفيه: الأمر بالإقامة على العِبادة إلى الممات.
وتُعبِّر العربُ بالظنِّ عن اليقين، وباليقين عن الظنِّ، ومنه قول أبي سدرة الأسدي:
تَحَسَّبَ هَوَّاسٌ وَأَيْقَنَ أَنَّنِي ♦♦♦ بِهَا مُفْتَدٍ مِنْ وَاحِدٍ لَا أُغَامِرُهْ
فاليقين هو النَّظرُ إلى الله في كلِّ شيء، والرُّجوع إليه في كلِّ أمْر، والاستعانة به في كلِّ حال.
قال سفيان الثّوريّ رحمه الله: «لو أنّ اليقين استقرّ في القلب كما ينبغي لطار فرحا وحزنا وشوقا إلى الجنّة، أو خوفا من النّار».
وقال بعضهم: «رأيت الجنّة والنّار حقيقة، قيل له: كيف؟ قال: رأيتها بعيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورؤيتي لهما بعينيه أوثق عندي من رؤيتي لهما بعينيّ، فإنّ بصري قد يخطيء بخلاف بصره صلّى الله عليه وسلّم»
وقال ذو النّون: «ثلاثة من أعلام اليقين: قلّة مخالطة النّاس في العشرة، وترك المدح لهم في العطيّة، والتّنزّه عن ذمّهم عند المنع»
خصَّ عزَّ وجلَّ المتقين بالانتفاع بالآيات والبراهين، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: 75].
الهُدى والفلاح، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 4، 5].
من صفات الأنبياء: قال تعالى: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) )
الإمامةُ في الدِّين؛ قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]، يَهْدُون أتباعهم وأهل القَبول منهم بإِذْن الله لهم بذلك، وتقويته إيَّاهم عليه.
أهل التقوى والإحسان، قال تعالى {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 3]
الثقة بأنه لا فارج إلا الله: إذا توالى الهمّ، وتتابع الغم، فلا فارج له إلا الله: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87].
وإذا جاءت النقمة أو حلت الفتنة فلا صارف لها إلا الله (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يوسف: 34]، وكلما عظمت الخطوب، أو تزايدت الكروب، فلا ملجأ إلا إلى الله (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50]، ولا منجى ولا ملجأ إلا إليه -سبحانه-.
إجابة الدعاء: عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض فإذا سألتم الله- عزّ وجلّ- أيّها النّاس فأسألوه وأنتم موقنون بالإجابة فإنّ الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل) سنن الترمذي (حسن).
دخول الجنة: عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام بلال ينادي فلمّا سكت، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قال مثل هذا يقينا دخل الجنّة» مستدرك الحاكم (صحيح).
وعن شدّاد بن أوس- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سيّد الاستغفار أن يقول: اللهمّ أنت ربّي لا إله إلّا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء لك بذنبي، اغفر لي، فإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت. قال: ومن قالها من النّهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنّة، ومن قالها من اللّيل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنّة» صحيح البخاري.
إغاظة الشيطان وإذلاله: عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلّى؟ ثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشّكّ وليبن على ما استيقن. ثمّ يسجد سجدتين قبل أن يسلّم. فإن كان صلّى خمسا، شفعن له صلاته، وإن كان صلّى إتماما لأربع، كانتا ترغيما للشّيطان) |(صحيح مسلم).
يحمد العارفون ربهم عند البلاء؛ لأنه لم يكن بلاؤهم في دينهم، وأنه لم يكن أكثر من ذلك. فهم قد فطنوا كبد الحقيقة، وجعلوها دعاءهم الدائم، وتسبيحهم المحبب لربهم بأن لا يجعل مصيبتهم في دينهم، وكلما جن ليلهم دعوا ربهم بأن كل بلاء دونه عافية، وكل غني دونه فقر، وكل قرب دونه وحشة وبعد؛ فلو علم أهل البلاء ما أعده الله لهم يوم القيامة لتمنوا أن يكون أكثر من ذلك؛ عن جابر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب؛ لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض" [الترمذي (2402)حسنه الألباني]، لكن هذا لا يمنع المؤمن سؤال ربه العافية ليلا نهارا وأن يرزقه مع العافية شكرا عليها؛ حتى لا يعتريه ضعف في نفسه ووهن في عزمه.
غياب اليقين من صفات أهل النار: أخبر عن أهل النّار: بأنّهم لم يكونوا من أصحاب اليقين، فقال عزّ من قائل: "وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ الجاثية/ 32)
ثانيًا: وسائل تقوية اليقين
العناية بكتاب الله تعالى تلاوة وتدبرًا وسماعًا: فالله تعالى عن كتابه الكريم: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20]، وقال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118]، ووصف الله تعالى عباده المتقين فقال: {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، وذكر سبحانه عن الدابة التي تخرج آخر الزمان فقال: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82]، فكل هذه الآيات وغيرها تدل على أن التدبر في آيات الله تعالى والعمل بما جاء فيها يورث اليقين في قلب المؤمن ويزيد إيمانه بالله تعالى.
التفكر في مخلوقات الله تعالى: قال الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)) ، فالتدبر فيما بثه الله تعالى في السماء من نجوم وكواكب، وفي الأرض من بحار وجبال وغيرها؛ كل ذلك مما يقوي يقين المؤمن بالله تعالى ويثبته على الإيمان، فيوقن أن الذي خلق هذه المخلوقات كلها هو الإله الحق الذي يستحق العبادة وحده دون شريك معه. قال البقاعي معقبًا على هذه الآية: "فكأنه يقول لعباده المتقين: تعالوا فانهجوا طريق الاعتبار ملة أبيكم إبراهيم، كيف نظر عليه السلام نظر السامع المتيقظ".
النظر في سيرته صلى الله عليه وسلم: في سيرته صلى الله عليه وسلم كثير من المواقف والأحاديث التي تدل على عظيم يقينه صلى الله عليه وسلم بربه، مما ينبغي للمسلم أن يتأملها ويحفظها أيضًا، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم: «أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أخبر: أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة وعلق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: إن هذا اخترط علي سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله، -ثلاثا- ولم يعاقبه وجلس». وعلم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس اليقين بقوله له: «يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» رواه الترمذي.
دعاء الله تعالى أن يرزقه اليقين ويقيه الذنوب والمعاصي: وقد كان ذلك من سنته صلى الله عليه وسلم، فقد صحَّ أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا...» رواه الترمذي.
وعن معاذ بن رفاعة، أخبره عن أبيه، قال: قام أبو بكر الصديق، على المنبر ثم بكى فقال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الأول على المنبر ثم بكى فقال: "اسألوا الله العفو والعافية، فإن أحدًا لم يعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية" [الترمذي (3558) وصححه الألباني].
النظر في سير الصالحين العارفين بالله تعالى: وإن مما يورث اليقين في القلب ويقويه أن ينظر المسلم في سير الصالحين من سلف هذه الأمة وخلفها ممن شُهد لهم بالصلاح وماتوا على ذلك، ينظر المسلم كيف كانوا في إيمانهم بالله تعالى على يقين، لا تزعزعهم المصائب والبلايا، ولا تفتنهم السرائر والعطايا أيضًا.
ومما ينبغي فهمه مع النظر في تقوية اليقين العلم بأنه لا يلزم من زيادة اليقين أن توجد للمرء كرامات من خوارق العادات، ولا أن يترك معه الأخذ بأسباب الرزق، فكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لهم كرامات وكانوا من أئمة الموقنين بالله تعالى، وكان الأنبياء عليهم السلام والصحب الكرام يتكسبون بأيديهم، وقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده»، وقد تاجر الصحابة الكرام وزرعوا، وامتهنوا المهن، وكذلك كان خيار السلف بعدهم، لم يحملهم اليقين على الجلوس في المساجد والبيوت وانتظار الرزق، بل سعوا إليه وأخذوا بأسبابه.
ثالثًا: من قصص الصالحين مع اليقين:
اليقين بحفظ الله: عَنْ جَابِرَ ابْنَ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيَّ، أَخْبَرَ ؛أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَفَلَ مَعَهُمْ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ يَوْمًا، فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ e، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ، يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَظِلُّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، قَالَ جَابِرٌ: « فَنِمْنَا بِهَا نَوْمَةً، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَا، فَأَتَيْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e: إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفَهُ، وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللهُ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللهُ، فَشَامَ السَّيْفَ، وَجَلَسَ، فَلَمْ يُعَاقِبْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ»(متفق عليه).
اليقين الكامل بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: حينما انطلق رَسُولُ اللهِ e وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e: لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e: قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بَخٍ. بَخٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ. بَخٍ؟ قَالَ: لاَ وَاللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ، إِلاَّ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: « لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ »]رواه مسلم
بين اليقين والتجربة: روى عن حَيْوَة بن شريح التجيبي، الفقيه، المحدث، الزاهد، وهو من رواة الحديث الثقات، كان يأخذ عطاءه في السنة ستين ديناراً، فلا يفارق ذلك المكان الذي أخذ فيه العطاء حتى يتصدق بها جميعاً، فكان إذا جاء إلى منزله وجد الستين ديناراً، تحت فراشة، فبلغ ذلك ابن عم له، فتصدق لعطائه جميعا أراد أن يفعل مثل حيوة، وجاء إلى تحت فراشه فلم يجد شيئاً! فذهب إلى حيوة وقال: أنا تصدقت بكل عطائي، ولم أجد تحت فراشي شيئاً، فقال له حيوة: أنا أعطيت ربي يقيناً، وأنت أعطيته تجربة. يعنى: أنت كنت تريد أن تجرب، وتختبر ربك، فتصدقت، لتنظر النتيجة، وأما أنا فأتصدق وأنا راسخ اليقين بما عند الله عز وجلّ من الجزاء والعوض. ( سير أعلام النبلاء 11/491 )
اليقين بنصر الله: لما أراد سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه أن يعبر دجلة إلى المدائن، وقطع الفُرْسُ عليه الجسر، وحازوا السفن؛ نظر سعد في جيشه، فلما اطمأن إلى حالهم، اقتحم الماء، فخاض الناس معه، وعبروا النهر فما غرق منهم أحد، ولا ذهب لهم متاع، فعامت بهم الخيل وسعد يقول:' حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصُرَّنَ الله وليَّه، وليُظْهِرَنَّ الله دينه، وليهزمن الله عدوه؛ إن لم يكن في الجيش بَغْيٌ أو ذنوب تغلب الحسنات". ( تاريخ الطبري2/462. )
توكل مبن على اليقين: ولما نزل خالد بن الوليد رضى الله عنه الحيرة، فقيل له: احذر السم لا تسقك الأعاجم، فقال:' ائتوني به، فأُتي به، فالتهمه، واستفه، وقال: بسم الله، فما ضره'. قال الذهبي رحمه الله:' هذه والله الكرامة وهذه الشجاعة'. ( سير أعلام النبلاء1/376 )
اليقين بخبر الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم: روي عن علي رضي الله عنه:"رأيت الجنة والنار حقيقة". فقيل له: كيف رأيتها حقيقة؟ قال: "رأيتها بعينى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيتي لها بعينه آثر عندي من رؤيتي لها بعيني؛ فإن بصري قد يطغى ويزيع بخلاف بصره صلى الله وعليه وسلم".
يا حبيب تقدمناك ولكنك سبقتنا: تأخر حبيب في إحضار العشاء يوما، فسأله الإمام الحسن البصري: أين العشاء يا حبيب، فقد أهلكنا الجوع!!
فقال : يا إمام لقد جاء مسكين فأعطيته كل ما عندنا ، لأني سمعتك تقول إن الإيمان أن تكون فيما عند الله أوثق مما في يدك ..
فقال البصري: يا حبيب إنك رجل كثير اليقين قليل العلم، لو أعطيته النصف وتركت لنا نصف نتقوى به، وبينما هم كذلك إذا بالباب يطرق ، ففتح حبيب فإذا بغلام يحمل إناء مُلئ بما لذ وطاب قال: هذا هدية من سيدي ، فتبسم حبيب وقال: يا إمام إنك رجل كثير العلم قليل اليقين ..
فتبسم الحسن البصري وقال: يا حبيب تقدمناك ولكنك سبقتنا.
والله إنه ينقصنا اليقين في كل شيء في المال والرزق والنصر والشفاء فثقوا بربكم ..
من اليقين أن تعلم : أن الله ألطف من أن يرى خاطر عبده مكسوراً ولا يجبره ، ارم همومك وراء ظهرك ، وتفاءل ولا تيأس، فالله قادر على كل شيء.
اللهم ارزقنا اليقين وعافنا في الدنيا والدين.
أبو الدحداح: بينما كان الرسول محمد -صلَّى الله عليه وآله- جالساً وسط أصحابه إذ دخل عليه شابٌّ يتيمٌ يشكو إليه قائلاً: "يا رسول الله، كنت أقوم بعمل سور حول بستاني فقطع طريق البناء نخلةٌ هي لجاري, طلبت منه أن يتركها لي لكي يستقيم السور فرفض، فطلبت منه أن يبيعني إياها فرفض".
فطلب الرسول أن يأتوه بالجار. فأُتي بالجار إلى الرسول -صلى الله عليه وآله- وقص عليه الرسول شكوى الشاب اليتيم فصدَّق الرجل على كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-. فسأله الرسول -صلى الله عليه وآله- أن يترك له النخلة أو يبيعها له فرفض الرجل فأعاد الرسول قوله: "بِعْ له النخلة ولك نخلةٌ في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام" فذُهِلَ أصحاب رسول الله من العرض المغري جداً فمن يدخل النار وله نخلة كهذه في الجنة, وما الذي تساويه نخلةٌ في الدنيا مقابل نخلةٍ في الجنة, لكن الرجل رفض مرةً أخرى طمعاً في متاع الدنيا, فتدخل أحد أصحاب الرسول ويدعي أبا الدحداح فقال للرسول الكريم: "إن أنا اشتريت تلك النخلة وتركتها للشاب إلي نخلة في الجنة يا رسول الله؟" فأجاب الرسول: "نعم".
فقال أبو الدحداح للرجل: أتعرف بستاني يا هذا؟ فقال الرجل: نعم، فمن في المدينة لا يعرف بستان أبي الدحداح ذا الستمائة نخلة والقصر المنيف والبئر العذب والسور الشاهق حوله فكل تجار المدينة يطمعون في تمر أبي الدحداح من شدة جودته. فقال أبو الدحداح: بعني نخلتك مقابل بستاني وقصري وبئري وحائطي. فنظر الرجل إلى الرسول -صلى الله عليه وآله- غير مصدق ما يسمعه أيُعقل أن يقايض ستمائة نخلة من نخيل أبي الدحداح مقابل نخلةً واحدةً فيا لها من صفقة ناجحة بكل المقاييس فوافق الرجل، وأشهد الرسول الكريم -صلى الله عليه وآله- والصحابة على البيع وتمت البيعة.
فنظر أبو الدحداح إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سعيداً سائلاً: "أليَ نخلة في الجنة يا رسول الله؟"، فقال الرسول "لا" فبُهِتَ أبو الدحداح من رد رسول الله -صلى الله عليه وآله- ثم استكمل الرسول قائلاً ما معناه: "الله عرض نخلة مقابل نخلة في الجنة, وأنت زايدت على كرم الله ببستانك كله, وَرَدَّ الله على كرمك -وهو الكريم ذو الجود- بأن جعل لك في الجنة بساتين من نخيل يُعجز عن عدها من كثرتها" ثم قال الرسول الكريم: "كم من عذق رداح لأبي الدحداح -والرداح هنا هي النخيل المثقلة من كثرة التمر عليها-في الجنة" وظل الرسول -صلى الله عليه وآله- يكرر جملته أكثر من مرة. لدرجة أن الصحابة تعجبوا من كثرة النخيل التي يصفها الرسول لأبي الدحداح وتمنى كُلٌّ منهم لو كان أبا الدحداح.
وعندما عاد أبو الدحداح إلى امرأته، دعاها إلى خارج المنزل وقال لها لقد بعت البستان والقصر والبئر والحائط فتهللت الزوجة من الخبر فهي تعرف خبرة زوجها في التجارة وسألت عن الثمن فقال لها: "لقد بعتها بنخلة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام" فردت عليه متهللةً: "ربح البيع أبا الدحداح, ربح البيع" [الحاكم في المستدرك (2194) وصححه ووافقه الذهبي والألباني في الصحيحة (2964)].
فمن منا يقايض دنياه بالآخرة، ومن منا مُستعد للتفريط في ثروته أو منزله أو سيارته في مقابل شيءٍ آجلٍ لم يره إنه الإيمان بالغيب، وتلك درجة عالية لا تُنال إلا باليقين والثقة بالله الواحد الأحد، لا الثقة بحطام الدنيا الفانية، وهنا الامتحان والاختبار، أرجو أن تكون هذه القصة عبرة؛ فالدنيا لا تساوي أن تحزن أو تقنط لأجلها، أو يرتفع ضغط دمك من همومها.
عباد الله: إن المؤمن القوي يجب أن يكون وثيق العزم، مجتمع النية على إدراك هدفه بالوسائل الصحيحة التي تقرّبه منه، باذلاً قصارى جهده في بلوغ مأربه، والإسلام يكره للمسلم أن يكون متردداً في أموره يحار في اختيار أصوبها وأسلمها، ويكثر الهواجس في رأسه فتخلق أمامه جواً من الريبة والتوجّس، فلا يدري كيف يفعل أو بماذا يتصرف إن هذا الضعف ومثل هذا الاضطراب لا يليق بالمؤمن القوي.
فقوة اليقين، وصدق التصديق بموعود الله ورسوله، جعل سلف هذه الأمة يحلفون بالله على صدق موعود الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتصديقاً بموعود الله ورسوله.
أعرابي والأصمعي: تأمل حال هذا الأعرابي الذي سمع آيات بيّنات فتأثر بها،. فماذا صنع؟ قال الأصمعي: "أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلداً سيفه، وبيده قوسه، فَدَنا وسلّم، وقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع. قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم . قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يُتلى فيه كلام الرحمن. قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟! قلت: نعم . قال: فَاتلُ عليّ منه شيئًا، فقرأت (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) إلى قوله: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات:22].
فقال الأعرابي: يا أصمعي هذا كلام الرحمن؟ قلت: إي والذي بعث محمداً بالحق إنه لكلامه، أنزله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-. فقال لي: يا أصمعي حسبك. ثم قام إلى ناقته فنحرها، وقطعها بجلدها، وقال: أعنِّي على توزيعها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما، ووضعهما تحت الرحل، وولّى نحو البادية، وهو يقول: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) [الذاريات:22].
قال الأصمعيّ: فَمَقتُّ نفسي ولمتها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفتُّ، فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل، فسلّم عليّ، وأخذ بيدي، وقال: اتلُ عليّ كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام، فقرأت (وَالذَّارِيَاتِ) حتى وصلت إلى قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقًّا. وقال: غير هذا؟ قلت: نعم؛ يقول الله -تبارك وتعالى-: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات: 23] فصاح الأعرابي، وقال:" يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟ فقالها ثلاثًا، وخرجت بها نفسه" [شعب الإيمان (2 / 481)].
فانظروا -رحمكم الله- ما بلغ بهذا الأعرابي من رسوخ في اليقين وعظيم في التصديق حيث أيقن أن مجرد إخبار الله أن رزق العباد وما يوعدون في السماء كاف دون أن يقسم على ذلك، فسبحان الله ما أكثر جزع الإنسان إن مسته الضراء وما أحرصه إن مسته السراء.
عباد الله: اتقوا ربكم، وعليكم بحسن الظن والثقة واليقين بالله، واعتصموا بربكم، فنعم المولى ونعم النصير.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
%%%%%%%%
جمع وترتيب: د/ أحمد محمد أبو عيد