تنظبم النسل قضية أخذ بالأسباب الشرعية للشيخ أحمد أبو عيد

 







الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إلاه إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله إمام النبيين

وبعد

العناصر

أولا: فضل النكاح والترغيب فيه                    ثانيا: نعمة الأبناء

ثالثا: الإسلام وتنظيم النسل

الموضــوع

أولا: فضل النكاح والترغيب فيه

الزواج نعمة من نعم الله تعالى، وآية من آياته:  قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) سورة الروم

(فهو راحةٌ حقيقةٌ للرجل والمرأة، فالمرأة تجد من يكفل لها رزقها، فتعكف على البيت ترعاه، وعلى الأولاد تربيهم، وهذا ما يتفق مع طبعها. والرجل يتفرَّغ للعمل والقيام بأعباء الأسرة، وإذا عاد للبيت شعر بالراحة والسعادة بعد العمل، فيدركون حكمة الخالق في خلق كلٍ من الجنسين على نحوٍ يجعله موافقاً للآخر، ملبياً لحاجاته الفطرية: نفسية وعقلية وجسدية، بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة، لأنَّ تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظٌ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثَّل في جيلٍ جديد) ([1])

أمر الله به: قال تعالى " فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)" سورة النساء

وقال تعالى" وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "سورة النور

فأمر بإنكاح الأيامى أمراً مطلقاً ليعم الغني والفقير وبين أن الفقر لا يمنع التزويج لأن الأرزاق بيده سبحانه وهو قادر على تغيير حال الفقير حتى يصبح غنياً، وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد رغبت في الزواج وحثت عليه فإن على المسلمين أن يبادروا إلى امتثال أمر الله وأمر رسوله بتيسير الزواج وعدم التكلف فيه وبذلك ينجز الله لهم ما وعدهم.

قال أبو بكر الصديق t: (أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى).

مباهاة النبي بأمته يوم القيامة: عن مَعْقِل بن يسار قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: إني أصَبْت امرأةً ذات حَسَبٍ وجمالٍ، وإنها لا تَلِدُ؛ أفأتزوجها؟ قال: " لا ". ثم أتاه الثانية؟ فنهاه. ثم أتاه الثالثة؟ فقال: " تَزَوَّجوا الودود الولود؛ فإني مُكَاثِرٌ بحَم الأمَمَ " ([2])

فرغَّب في نكاح المرأة التي توفرت فيها صفة الود والحب لزوجها والأنس به وطيب معاملته، التي تلد كثيرًا، فإن المكاثرة مما أكد عليه المصطفى لما ذكره من مباهاته بأمته عند عرض الأمم يوم القيامة.

الإعانة على شطر الدين: عن أنس t أن رسول الله r قال من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي" ([3])

اتباع سنن المرسلين: قال تعالى" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً " سورة الرعد

الزواج بالدين والخلق وليس بكثرة المال: عن أبي حاتم المزني قال قال رسول الله r إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد قالوا يا رسول الله وإن كان فيه قال إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات ([4])

وعن أبي هريرة، t قال: قال رسول الله r: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" ([5])

ومعنى قوله تعالى: " إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ " أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين الناس فساد منتشر طويل عريض.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -r- قَالَ «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» ([6])

ثانيا: نعمة الأبناء

زينة الحياة الدنيا: قال تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].

حببها الله وزينها لخلقه: قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، الأولاد نعمةٌ إلهيةٌ، وهبةٌ ربانيه، الأولادُ زينةُ الحياة الدنيا وزهرتها، يُخففونَ عن آبائهم متاعب الحياة وهمومها، الأولاد وجودهم في البيت كالأزهار في الحدائق، يسر الفؤاد مشاهدتهم، وتَقر العين برؤيتهم، وتبتهجُ الأرواح بقربهم، الأولاد بسمةُ الأمل، وأريجُ النفس وريحانُ القلب، أولادنا هم أكبادنا التي تمشي على الأرض، وقد أحسن من قال:

قرة العين: قال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].

نعم ما أجمل ثم ما أجمل نعمة الأولاد، وما أروع تصرفاتهم وهم في عمرِ الصبا، تجد في ابتساماتهم البراءة، وفي تعاملاتهم البساطة، لا يحقدون ولا يحسُدون، وإن أصابهم مكروه لا يتذمرون.

يعيشون اليوم بيومه بل الساعة بساعتها، لا يأخذهم التفكير ولا التخطيط لغد، ولا يفكرون كيف سيكون؟ وماذا سيعملون؟ أحاسيسهم مرهفة، وأحاديثهم مشوقة، وتعاملاتهم محبة، إنْ أسأت إليهم اليوم ففي الغد ينسون، وبكلمة أو كلمتين تستطيع أن تمحو تلك الإساءة، قلوبهم بيضاء، وسرائرهم نقية، ومعادنهم صافية.

نعمة لن يقدرها حقا إلا من حرم منها: نعمة الأولاد من افضل نعمِ الله على العبد بعد نعمة الاسلام، يختص الله بها من يشاءُ من عباده ولو كان فقيرًا، ويمنعها عمن يشاء من خلقه ولو كان غنيًّا، وإذا أردت أن تعرف عظيم منَّة الله عليك بهذه النعمة، فانظر الى من حُرمَها كيف يتلوى؟ وكيف يتألم؟ وكيف يحترق؟ وكيف يشتهي؟ وكيف يتمنى أن يُرزَقَ ولدًا يملأ عليه حياته، ويملأ عليه دنياه فرحًا وسرورًا وأنسًا، وبهجةً وأمنًا وأمانا، بل انظر إلى أولئك الذين يدفعون أموالهم، ويُضحون بأوقاتهم متنقلين من مستشفى إلى آخر، ومن مركز صحي إلى آخر، ومن دكتور متخصص في العقم إلى آخر، بل ربما يُضطرون للسفر إلى الخارج من أجل أن يحظون بعلاجٍ يساعد في رزقهم ولدًا واحدًا أو بنتًا!

وأنت يا من لم تُقدِّر هذه النعمة وتشكر الله كثيرًا عليها، أنت أعطاك ووهبك الله الأولاد دون مقابل، ومن غير عناء، وبلا سفر أو تنقلاتٍ ودون ذهابٍ أو إياب.

غيرك ممن حُرمَ الأولاد يضرب أخماسًا بأسداس، ومن عامٍ إلى عامٍ آخر وهو في آناتٍ وآهات وتناهيد، وصرخات وأحزان: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴾ [الشورى: 49]، وتأمَّل معي هنا هذا النص الصريح "يهبُ"، فالله سبحانه وتعالى سمى الأولاد "هبة"، ولم يسمهم رزقًا؛ لأن الرزق قد تكفل الله به للجميع،

أما الهبة، فهو يهبها لمن يشاء، ووقت ما شاء وكيفما شاء، ولأنه يفعل ما يشاء، ولذلكم: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 49، 50].

اليوم نجد من ليس له ولد أو بنت يقول: "أتمنى ولدًا أو بنتًا"، فإذا ما رزقه الله ببنتٍ اعترض على حكم الله، وقال: ماذا أفعل بالبنت! أريد ولدًا يحملُ اسمي ويرثني، أريد الذكر! فإذا ما رُزق بالذكر قال: يا رب أريد اثنين وثلاثة وأربعة، وهكذا..."، وما علموا حِكمةَ الله تبارك وتعالى في تقديم كلمة "إناثًا" في قوله: "يهب لمن يشاء إناثًا"؛ لأنه كان في الجاهلية إذا رزق الرجل بالبنت ظلَّ وجهُهُ مسودًا، وكانوا يتخافتون ويسخرون من بعضهم إذا رُزق أحدهم وبشِّر بالأنثى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 58، 59].

فكانوا يدفنون الإناث أحياءً والله يقول: ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾ [التكوير: 8، 9]، بمعنى لماذا تقتلونها؟ لماذا تفضِّلون الذكور على الإناث؟ لماذا الاعتراض على حكم الله واختيار الله؟

عباد الله، أتعرفون أبا حمزة؟ ومن يكون؟! أبو حمزة رجل من السابقين كانت له زوجةٌ صالحة أنجبت له بنتًا وراء بنت، حتى أصبحت ذريته من البنات، فترك بيتها وأصبح يبيت عند جيرانه، فقالت زوجته تناديه بكل أدبٍ واحترام وبكلماتٍ رائعة مهذبةٍ وبدُرر ذهبية ثمينة، فقالت:

ما لأبي حمزة لا يأتينا؟ ** يظل في البيت الذي يلينا

غضبان ألا نلد البنينا ** تالله ما ذلك في أيدينا

وإنما نأخذ ما أعطينا ** ونحن كالأرض لزارعينا

ننبت ما قد زرعوه فينا

تمنى أن يكون ولدك صالحا: هل مع تمنِّيك للولد تتمنى كذلك أن يكون هذا الولد صالحًا؟ فهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام تمنَّى الولد، وهذا سيدنا زكريا عليه السلام تمنى الولد: ﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 1 - 5]، لم يقل ذكرًا ولم يقل ولدًا وإنما: ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 5، 6]؛ أي: أريده ولدًا صالحًا، ولدًا مؤمنًا، ولدًا يعرف ربه ويعرف دينه ويُقدِّر أبوَّتي!

وما أجمل وما أروع هؤلاء الآباء الذين يطلبون من ربهم هذه الصفات في أولادهم، فيدعون ربهم أن يرزق أولادهم بها، وكم هناك من يتمنى الولد لكن ليس لأجلِ أن يخدم دينه، وينفع أمته، ويستقيم على شرع ربه، إنما تحولت الدعوات بالأولاد لأجل الشهرة والسمعة والميراث، فأصبحت النية سيئة، وصار المنبت سيئًا والولد لم يأت بعدُ.

حسن التربية وسوءها: فمَنْ أَحْسَنَ تَرْبِيَةَ أَوْلَادِهِ أَحْسَنَ لِنَفْسِهِ في الحَقِيقَةِ، لِأَنَّهُ رَآهُمْ بَرَرَةً بِهِ في حَالِ حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ، وَالفَرْحَةُ الكُبْرَى عِنْدَمَا يَجْتَمِعُ مَعَهُمْ في الجَنَّةِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

تَخَيَّلْ نَفْسَكَ أَنْتَ وَزَوْجَتُكَ وَأَوْلَادُكُمَا مِن حَوْلِكُمَا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، بِسَبَبِ حُسْنِ تَرْبِيَتِكُمَا لِأَبْنَائِكُمَا، وَالمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ لَكُمْ: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

أروع أثر لك أيها الأب هو الولد الصالح، الولد المؤمن، الولد الذي سيدعو لك بعد مفارقتك للحياة الدنيا، الولد الذي سيعمل جاهدًا لأن يسعدك في قبرك، ويسعدك يوم الوقوف بين يدي ربك جل وعلا، الولد الذي يحمل ذكرك، ويحمل تربيتك، ويحمل اسمك في اليوم الذي سيقول عنه الناس: ما شاء الله تبارك الله، هذا فلان بن فلان رحمة الله عليه، هذا الشبل فعلًا من ذاك الأسد، ملتزمٌ كوالده، ومحترمٌ كأبيه، أخلاقه مهذبة وخلقه مستقيم، لين الجانب، رحب الصدر، طيب القلب كريم النفس، انظروا إليه، ماذا تجدون؟ الصدق، الأمانة، الأدب، الاحترام، الأخلاق الالتزام، الإيمان، المثابرة، الحنان، الرحمة، التواضع، الصلاح، الاستقامة.

فإنه ليس أحب إلى الإنسان من ولد صالح يسعى في بره وطاعته وخدمته في حياته، ثم إن مات الوالد قبله دعا الولد له بالمغفرة والرحمة والرضوان، فعن أبي هريرة t قال قال رسول الله r "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " ([7]) فيُثاب الولدُ على دعائه لوالديه، ويلحق دعاؤه الوالدين فينتفعان به.

يَا عِبَادَ اللهِ: وَلَكِنَّ المُصِيبَةَ كُبْرَى إِذَا انْقَلَبَتْ نِعْمَةُ الوَلَدِ إلى نِقْمَةٍ عَلَى الوَالِدَيْنِ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَفِي عَالَمِ البَرْزَخِ، وَفِي عَالَمِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَذَلِكَ بِإِهْمَالِ تَرْبِيَتِهِ، أَو بِسُوءِ تَرْبِيَتِهِ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى ـ.

فَمَنْ أَهْمَلَ تَرْبِيَةَ أَوْلَادِهِ، أَو أَسَاءَ في تَرْبِيَتِهِمْ، هُوَ في الحَقِيقَةِ أَسَاءَ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا بِهِمْ صَارُوا وَبَالَاً عَلَيْهِ، وَانْقَلَبُوا إلى أَعْدَاءٍ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوَّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾. وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسَبَبِ إِهْمَالِ تَرْبِيَتِهِمْ، أَو سُوءِ تَرْبِيَتِهِمْ.

فَكَمْ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ يَشْكُوَانِ مِنْ عَدَاوَةِ أَوْلَادِهِمَا لَهُمَا في حَيَاتِهِمَا الدُّنْيَوِيَّةِ؟ وَكَمْ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ يَبْكِيَانِ أَلَمَاً وَحُزْنَاً وَأَسَىً مِنْ عَدَاوَةِ أَوْلَادِهِمَا لَهُمَا؟ وَكَمْ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ يَدْعُوَانِ اللهَ تعالى عَلَى أَوْلَادِهِمَا بِسَبَبِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُمَا؟

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ سُوءَ تَرْبِيَةِ الأَوْلَادِ وَإِهْمَالَهُمْ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاءِ العَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ، حَيْثُ تَلْحَقُهُ اللَّعَنَاتُ في قَبْرِهِ بِسَبَبِ فَسَادِ أَوْلَادِهِ في المُجْتَمَعِ.

وَالطَّامَّةُ الكُبْرَى أَنْ تَرَى هَؤُلَاءِ الآبَاءَ وَالأُمَّهَاتِ وَالأَوْلَادَ يَفِرُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، بِسَبَبِ سُوءِ التَّرْبِيَةِ وَإِهْمَالِهِمْ لِأَوْلَادِهِمْ، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾.

الطَّامَّةُ الكُبْرَى أَنْ تَرَى الآبَاءَ وَالأُمَّهَاتِ وَالأَوْلَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُخَاطِبُ الآخَرَ ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِإِهْمَالِ وَسُوءِ تَرْبِيَةِ الأَوْلَادِ.

الطَّامَّةُ الكُبْرَى أَنْ تَرَى الآبَاءَ وَالأُمَّهَاتِ الذينَ أَجْرَمُوا في حَقِّ الأَوْلَادِ وَلَمْ يُحْسِنُوا تَرْبِيَتَهُمْ في حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، إِذَا انْطَبَقَ عَلَيْهِمْ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ ـ قَوْلُ اللهِ سُبْحَانَهُ: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعَاً ثُمَّ يُنْجِيهِ﴾. وَهَذِهِ مُصِيبَةُ المَصَائِبِ.

ثالثا: الإسلام وتنظيم النسل

في الشريعة الإسلامية، لابد من التمييز بين تنظيم النسل بمعنى منع الحمل، وتنظيم النسل بمعنى التحكم في عدد الأولاد، ولابد من التمييز بين أن يكون التنظيم علاجًا لحالات فردية وأن يكون التنظيم سياسة عامة للدولة. ولاشك أن منع الحمل أو تنظيم النسل على إطلاقه مخالف للشريعة الإسلامية التي تعتبر النسل نعمة من النعم التي منَّ الله بها على عباده. إذ يقول الله تعالى ﴿يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا ﴾ النساء: 1. ويقول جل شأنه ﴿والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا﴾ الفرقان: 74. ولذلك رغبت الشريعة في تكثير النسل وزيادته وانتشاره .

فالإسلام لا يقر ّ منع الإنجاب على إطلاقه أو تنظيم النسل بصورة عامة، كما لايقبل الحجج التي يقدمها بعض الناس في هذا الصدد، مثل القول بضيق الأرض وقصور خيراتها عن الوفاء بحاجة الأعداد المتكاثرة من الناس. أو أن تنظيم النسل يحفظ للمرأة نضارتها وجمالها وحسنها. لأن القول بضيق الأرض وقلة خيراتها غير صحيح إضافة إلى أنه مخالف لما يقرره الإسلام من أن الله خلق الأشياء وقدرها وحدد أعداد الخلق ومقاديرهم، قال سبحانه: ﴿إنا كل شيءٍ خلقناه بقدر﴾ القمر: 49. ﴿وكل شيءٍ عنده بمقدار﴾ الرعد: 8 و ﴿لله ملك السموات والأرض، يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور¦أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا ويجعل من يشاء عقيمًا، إنه عليم قدير﴾ الشوري 49 ، 50.

كما أنّ الرزق بيد الله، يرزق من يشاء بغير حساب. قال تعالى: ﴿ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم﴾ الأنعام: 151. ﴿ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطئًا كبيرًا﴾ الإسراء: 31.

أما دعوى أن تنظيم النسل يحفظ للمرأة جمالها ورونقها فموضع نظر؛ إذ يؤدي عدم الإنجاب إلى حرمان المرأة وعزلها عن أداء وظيفتها الفطرية التي خلقها الله لها، مما يُحْدِث في نفسها اكتئابًا، ويولد فيها عُقدًا نفسية ويورثها بؤسًا وكآبة يذهبان بجمالها وحسن رونقها. وهذا ما أكده بعض العلماء من أمثال ألكسيس كاريل في كتابه الإنسان ذلك المجهول.

ويُجيز الإسلام منع الحمل والولادة أو تأخيرهما إذا كان هناك خطر على حياة المرأة، وذلك دفعًا للضرر الأعظم وتجنبًا للتهلكة قال تعالى: الن ﴿ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما﴾ ساء: 29. ﴿ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ البقرة : 195 .

أما تنظيم النسل فقد أباحه الشرع في حالة الخشية على صحة الأولاد أو تربيتهم، أو العناية بتنشئتهم إذا كثر عددهم. ففي هذه الحالة يمكن أن تتخذ الوسائل التي يؤخر بموجبها الحمل. وقد ورد في صحيح مسلم عن أسامة بن زيد أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله إني أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تفعل ذلك؟ قال الرجل: أشفق على ولدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان ذلك ضارًا لضرّ فارس والروم.

كما يجيز الإسلام أيضًا تنظيم النسل إذا خشي الزوج على الطفل الرضيع من حمل جديد، فيعزل عن المرأة منعًا لذلك. ويُعرف الوطء في حال الرضاع بوطء الغِيلة أو الغَيْل لما يترتب عليه من حمل يفسد اللبن ويضعف الولد. وإنما سُمِّي غَيْلاً أو غِيلة لأنه جناية خفية على الرضيع فهو أشبه بالقتل سرًا.

وفي مثل هذه الحالات التي رخَّص فيها الإسلام تنظيم النسل، كانت الوسيلة المستخدمة لذلك هي العزل (وهو قذف النطفة خارج الرحم عند الإحساس بنزولها) . وقد كان الصحابة يفعلون ذلك، كما روي في الصحيحين عن جابر، رضي الله عنه، أنه قال: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا).

فيجوز استخدام الوسائل التى يمكن بها تنظيم النسل بشرط عدم الاضرار بصحة المرأة، وهو دليل على الأخذ بالأسباب.

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين

جمع وترتيب: الشيخ أحمد أبو عيد

 

 

 

 

 

 

 

 



([1]) ظلال القرآن

([2]) صحيح الترغيب والترهيب

([3]) صحيح الترغيب والترهيب

([4]) صحيح سنن الترمذي

([5]) السلسلة الصحيحة

([6]) صحيح مسلم

([7]) صحيح مسلم 



التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات