الهجرة النبوية بين التخطيط البشري والتأييد الإلهي للشيخ احمد أبو عيد








الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء عنده بأجل مسمى يعطى ويمنع، ويخفض ويرفع ويضر وينفع، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما يمنع. يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل. يعلم الأسرار، ويقبل الأعذار، وكل شيء عنده بمقدار.



وأشهد ان لا إله إلا الله  سبحانه كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ: غِنى كُلِّ فَقِيرٍ، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ، مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ، وَمَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ، وَمَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَمَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه قديمًا، وكذا الملائكة في السماء، وصلى هو في المسجد الأقصى بالرسل والأنبياء، سبح الحصى في كفه بخير الأسماء، وحين ظمئ أصحابه نبع من بين أصابعه الماء، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحابته الأجلاء، وعلى السائرين على دربه والداعين بدعوته إلى يوم اللقاء، ما تعاقب الصبح والمساء، وما دام في الكون ظلمة وضياء.
العناصر
أولًا: التخطيط سبيل للنصر
ثانيًا: هجرة النبي r بين تدبير قريش وتدبير الله سبحانه وتعالى
ثالثا: التخطيط في الحياة
الموضوع
تعريف التخطيط هو: « إعمال الفكر في رسم أهداف مشروعة مع تحديد الوسائل المتاحة وفق الموارد المتاحة شرعًا، وبذل الطاقات في استثمارها؛ لتحقيق الأهداف في أقلِّ وقتٍ ممكن، مع تعليق النتائج بقضاء الله وقدره»
أولًا: التخطيط سبيل للنصر
قدرة الله تعالى لا تحدها حدود
لو أراد الله تعالى ان ينقل النبي r والمسلمين اجمعين من مكة إلى المدينة دون أن يمسهم سوء أو أذى وبنفس وسائل نقلهم من الدواب أو بوسائل أخرى كما كان البراق لرسول الله r أو الريح لسيدنا سليمان عليه السلام أو بأي وسيلة لفعل ذلك فهو القادر على كل شيء لكنه الاختبار والامتحان ليتبين المؤمن الصادق من غيره.
معية الله تعالى لرسوله r
قال تعالى: " إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)" التوبة.
خطة النبي r للهجرة
حدث الهجرة خطط النبي صلى الله عليه وسلم خطة متينة محكمة، فعلىٌّ – رضي الله عنه- على فراشه صلى الله عليه وسلم مغطياً رأسه، وبات المجرمون ينظرون من شق الباب، يتهافتون أيهم يضرب صاحب الفراش بسيفه، وعبدالله بن أبي بكر كان يصبح مع قريش فيسمع أخبارها ومكائدها فإذا اختلط الظلام تسلل إلى الغار وأخبر النبي  صلى الله عليه وسلم الخبر فإذا جاء السحر رجع مصبحاً بمكة، وكانت عائشة وأسماء يصنعان لهما الطعام ثم تنطلق أسماء بالسفرة إلى الغار ولما نسيت أن تربط السفرة شقت نطاقها فربطت به السفرة وانتطقت بالآخر فسميت بـ( ذات النطاقين )، ولأبي بكر راعٍ اسمه عامر بن فهيرة ، كان يرعى الغنم حتى يأتيهما في الغار فيشربان من اللبن، فإذا كان آخر الليل مر بالغنم على طريق عبدالله بن أبي بكر عندما يعود إلى مكة ليخفي أثر أقدامه، واستأجر رسول الله  صلى الله عليه وسلم رجلاً  كافراً اسمه عبدالله بن أريقط وكان هادياً خريتاً ماهراً بالطريق وواعده في غار ثور بعد ثلاث ليال، فتوزيع الأدوار جاء مرتباً مخططاً منظماً وفق خطة علمية مدروسة، فالقائد : محمد ، والمساعد : أبو بكر ، والفدائي : علي ، والتموين : أسماء ، والاستخبارات : عبدالله ، والتغطية وتعمية العدو : عامر ، ودليل الرحلة : عبدالله بن أريقط ، والمكان المؤقت : غار ثور ، وموعد الانطلاق : بعد ثلاثة أيام ، وخط السير : الطريق الساحلي.
وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته صلى الله عليه وسلم ، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وآخراً .
الأخذ بالأسباب من أساسيات التخطيط
فالنبي r لما هاجر اخذ بالأسباب وأعد الخطة المحكمة وهو في كل هذا معتمدا على الله لا على السبب نفسه وإنما على مسبب الأسباب فهو سبحانه القدر على ان يحول السبب إلى نصر عظيم وفرج كبير.
التوكل على الله والاعتماد عليه وليس على السبب نفسه
قال تعالى "وتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ" الفرقان.
وعن عمر رضي الله عنه قال : قال  رسول الله : " لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا " ([1])
فلما اعتمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه سبحانه نجاه الله من مواقف عديدة وصعبة.
أما ترك الاعتماد على فهو سبب للهزيمة كما ترك قوم سيدنا موسى عليه السلام التوكل على الله ونظروا إلى الأسباب فحسب كان هذا سبب هزيمتهم وعقاب الله تعالى لهم كما قال تعالى " قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)" المائدة

ثانيًا: هجرة النبي r بين تدبير قريش وتدبير الله سبحانه وتعالى ([2])
اجتماع قريش وفشل خطتهم وخروج رسول الله بدون ايذاء
اجتمع المشركون ليقضوا على النبي r وكان من طبيعة مثل هذا الاجتماع السرية للغاية، وألا يبدو على السطح الظاهر أي حركة تخالف اليوميات، وتغاير العادات المستمرة، حتى لا يشم أحد رائحة التآمر والخطر، ولا يدور في خلد أحد أن هناك غموضًا ينبئ عن الشر، وكان هذا مكرًا من قريش، ولكنهم ماكروا بذلك الله سبحانه وتعالى، فخيبهم من حيث لا يشعرون . فقد نزل جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوحى من ربه تبارك وتعالى فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة، وبين له خطة الرد على قريش فقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه .
وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة ـ حين يستريح الناس في بيوتهم ـ إلى أبي بكر رضي الله عنه ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي الله عنها : بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمى، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . ، فاستأذن، فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ( أخرج مَنْ عندك ) . فقال أبو بكر : إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله . قال : ( فأني قد أذن لي في الخروج ) ، فقال أبو بكر : الصحبة بأبي أنت يا رسول الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نعم ) .
ثم أبرم معه خطة الهجرة، ورجع إلى بيته ينتظر مجيء الليل . وقد استمر في أعماله اليومية حسب المعتاد حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة، أو لأي أمر آخر اتقاء مما قررته قريش .
أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد سرا لتنفيذ الخطة المرسومة التي أبرمها برلمان مكة [ دار الندوة ] صباحًا، واختير لذلك أحد عشر رئيسًا من هؤلاء الأكابر.
وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام في أوائل الليل بعد صلاة العشاء، ويخرج بعد نصف الليل إلى المسجد الحرام، يصلي فيه قيام الليل، فأمر عليًا رضي الله عنه تلك الليلة أن يضطجع على فراشه، ويتسجى ببرده الحضرمي الأخضر، وأخبره أنه لا يصيبه مكروه .
فلما كانت عتمة من الليل وساد الهدوء، ونام عامة الناس جاء المذكورون إلى بيته صلى الله عليه وسلم سرًا، واجتمعوا على بابه يرصدونه، وهم يظنونه نائمًا حتى إذا قام وخرج وثبوا عليه، ونفذوا ما قرروا فيه .
وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجاح هذه المؤامرة الدنية، حتى وقف أبو جهل وقفة الزهو والخيلاء، وقال مخاطبًا لأصحابه المطوقين في سخرية واستهزاء : إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها .
وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل في وقت خروجه صلى الله عليه وسلم من البيت، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكن الله غالب على أمره، بيده ملكوت السماوات والأرض، يفعل ما يشاء، وهو يجير ولا يجار عليه، فقد فعل ما خاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ الأنفال : 30] .
وقد فشلت قريش في خطتهم فشلًا ذريعًا مع غاية التيقظ والتنبه؛ إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رءوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يس : 9 ] . فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ومضى إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلًا حتى لحقا بغار ثَوْر في اتجاه اليمن .
وبقي المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة والفشل، فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال : ما تنتظرون ؟ قالوا : محمدًا . قال : خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم، وذر على رءوسكم التراب، وانطلق لحاجته، قالوا : والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رءوسهم .
ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا عليًا، فقالوا : والله إن هذا لمحمد نائمًا، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا . وقام علىٌّ عن الفراش، فسقط في أيديهم، وسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : لا علم لي به .
من الدار إلى الغار
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، الموافق 12/13
 سبتمبر سنة 622م . وأتى إلى دار رفيقه ـ وأمنّ الناس عليه في صحبته وماله ـ أبي بكر رضي الله عنه . ثم غادر منزل الأخير من باب خلفي؛ ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر .
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا سَتَجِدُّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسى المتجه شمالًا، فسلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثَوْر وهو جبل شامخ، وَعِر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل : بل كان يمشى في الطريق على أطراف قدميه كي يخفي أثره فحفيت قدماه، وأيا ما كان فقد حمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهي به إلى غار في قمة الجبل عرف في التاريخ بغار ثور.
وكَمُنَا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد . وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما . قالت عائشة : وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيُدْلِج من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، و [ كان ] يرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر مِنْحَة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْل ـ وهو لبن مِنْحَتِهما ورَضيفِهما ـ حتى يَنْعِق بها عامر بن فُهَيْرَة بغَلَس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليُعَفي عليه .
جنون قريش لإفلات رسول الله r منهم:
أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة . فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليًا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما .
ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها : أين أبوك ؟ قالت : لا أدرى والله أين أبي ؟ فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشًا خبيثًا ـ فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها .
وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة [ في جميع الجهات ] تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، كائنًا من كان .
وحينئذ جدت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد والهضاب، لكن من دون جدوى وبغير عائدة .
حماية الله لرسوله r في الغار
وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت : يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا . قال : ( اسكت يا أبا بكر، اثنان، الله ثالثهما ) ، وفي لفظ : ( ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما ) ، وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة .
في الطريق إلى المدينة
وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة .
وكانا قد استأجرا عبد الله بن أُرَيْقِط الليثي، وكان هاديًا خِرِّيتًا ـ ماهرًا بالطريق ـ وكان على دين كفار قريش، وأمناه على ذلك، وسلما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثَوْر بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة الاثنين ـ غرة ربيع الأول سنة 1هـ / 16 سبتمبر سنة 622م ـ جاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين، وكان قد قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم عند مشاورته في البيت : بأبي أنت يا رسول الله، خذ إحدى راحلتي هاتين، وقرب إليه أفضلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن . وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بسُفْرَتِهما، ونسيت أن تجعل لها عِصَامًا، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر فسميت : ذات النطاقين .
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وارتحل معهما عامر بن فُهَيْرة، وأخذ بهم الدليل ـ عبد الله بن أريقط ـ على طريق السواحل ، وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس، اتجه شمالًا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرًا .
وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق، قال : لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عُسْفَان، ثم سلك بهما على أسفل أمَج، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قُدَيْدًا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الْخَرَّار، ثم سلك بهما ثَنَّية الْمَرَّة، ثم سلك بهما لِقْفًا، ثم أجاز بهما مَدْلَجَة لِقْف، ثم استبطن بهما مَدْلَجة مِجَاج، ثم سلك بهما مَرْجِح مِجَاح، ثم تبطن بهما مَرْجِح من ذي الغُضْوَيْن، ثم بطن ذى كَشْر، ثم أخذ بهما على الْجَدَاجِد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم من بطن أعدا مَدْلَجَة تِعْهِنَ، ثم على العَبَابيد، ثم أجاز بهما الفَاجَة، ثم هبط بهما الْعَرْج، ثم سلك بهما ثنية العَائِر ـ عن يمين رَكُوبة ـ حتى هبط بهما بطن رِئْم، ثم قدم بهما على قُباء
وهاك بعض ما وقع في الطريق.
معجزة الصخرة والشاة
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ، إِلى أَبِي فِي مَنْزِلِهِ فَاشْتَرَى مِنْهُ رَحْلاً فَقَالَ لِعَازِبٍ: ابْعَثِ ابْنَكَ يَحْمِلُهُ مَعِي قَالَ: فَحَمَلْتُهُ مَعَهُ وَخَرَجَ أَبِي يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا حِينَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَعَمْ أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا، وَمِنَ الْغَدِ، حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ وَخَلاَ الطَّريقُ، لاَ يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ فَرُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ، لَهَا ظِلٌّ، لَمْ تَاتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَنَزَلْنَا عِنْدَهُ، وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَانًا بِيَدِي يَنَامُ عَلَيْهِ وَبَسَطْتُ فِيهِ فَرْوَةً وَقُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ اللهِ وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ، فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ بَغَنَمِهِ إِلَى الصَّخْرَةِ، يُرِيدُ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي أَرَدْنَا فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (أَوْ مَكَّةَ) قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ قَالَ: نَعَمْ قلْتُ: أَفَتَحْلُبُ قَالَ: نَعَمْ فَأَخَذَ شَاةً فَقُلْتُ: انْفُضِ الضَّرْعَ مِنَ التُّرَابِ وَالشَّعَرِ وَالْقَذَى (قَالَ الرَّاوِي: فَرَأَيْتُ الْبَرَاءَ يَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى، يَنْفُضُ) فَحَلَبَ فِي قَعْبٍ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ حَمَلْتُهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَرْتَوِي مِنْهَا، يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ فَوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ فَصَبَبْتُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى اللَّبَنِ، حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ قُلْتُ: بَلَى قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَ مَا مَالَتِ الشَّمْسُ" ([3])
والإداوة : إناء صغير من جلد .
أدب سيدنا أبو بكر
وكان من دأب أبي بكر رضي الله عنه أنه كان ردفًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان شيخًا يعرف، ونبي الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول : من هذا الرجل الذي بين يديك ؟ فيقول : هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعنى به الطريق، وإنما يعنى سبيل الخير .
معجزة شاة أم معبد
 وفي اليوم الثاني أو الثالث مر بخيمتي أم مَعْبَد الخزاعية، وكان موقعهما بالمُشَلَّل من ناحية قُدَيْد على بعد نحو 130 كيلو مترًا من مكة، وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبى بفناء الخيمة، ثم تطعم وتسقى من مر بها، فسألاها : هل عندها شيء ؟ فقالت : والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم، القِرَى والشاء عازب، وكانت سَنَةٌ شَهْباء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال : ( ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ ) قالت : شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال : ( هل بها من لبن ؟ ) قالت : هي أجهد من ذلك . فقال : ( أتأذنين لي أن أحلبها ؟ ) قالت : نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها . فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتفاجأت عليه ودَرَّتْ، فدعا بإناء لها يَرْبِض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها، فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيًا، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها فارتحلوا .
سراقة بن مالك
وتبعهما في الطريق سُرَاقة بن مالك . قال سراقة : بينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مُدْلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال : يا سراقة، أني رأيت آنفًا أسْوِدَة بالساحل، أراها محمدًا وأصحابه . قال سراقة : فعرفت أنهم هم، فقلت له : إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج فرسى، وهي من وراء أكَمَة، فتحبسها عَلَىَّ، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فخَطَطْتُ بزُجِّهِ الأرض، وخَفَضْتُ عالية، حتى أتيت فرسى فركبتها، فرَفَعْتُها تُقَرِّب بي حتى دنوت منهم، فعَثَرَتْ بي فرسى فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدى إلى كنانتى، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها، أضُرُّهُمْ أم لا ؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي ـ وعصيت الأزلام ـ تُقَرّبُ بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ـ سَاخَتْ يدا فرسى في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تَكَدْ تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسى حتى جئتهم، ووقع في نفسى حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يَرْزَأني، ولم يسألأني إلا أن قال : ( أَخْفِ عنا ) ، فسألته أن يكتب لي كتاب أمْنٍ، فأمر عامر بن فُهَيْرة، فكتب لي في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
النزول بقباء
وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة ـ وهي السنة الأولى من الهجرة ـ الموافق 23 سبتمبر سنة 622م نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء .
قال عروة بن الزبير : سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحَرَّة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أَوْفي رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبَيَّضِين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح . وتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة .
قال ابن القيم : وسُمِعت الوَجْبَةُ والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيقين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ] .
قال عروة بن الزبير : فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول . فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى ـ وفي نسخة : يجئ ـ أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس
رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك .
وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها، وقد رأي اليهود صدق بشارة حَبْقُوق النبي : إن الله جاء من التيمان، والقدوس من جبال فاران .
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل : بل على سعد بن خَيْثَمَة، والأول أثبت .
ومكث على بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاثًا حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيًا على قدميه حتى لحقهما بقباء، ونزل على كلثوم بن الهَدْم .
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام : الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس . وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس ـ يوم الجمعة ـ ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار ـ أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة وهم حوله، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل .
الدخول في المدينة
ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم بعد الجمعة حتى دخل المدينة ـ ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعبر عنها بالمدينة مختصرًا ـ وكان يومًا مشهودًا أغر، فقد ارتجت البيوت والسكك بأصوات الحمد والتسبيح، وتغنت بنات الأنصار بغاية الفرح والسرور :
طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا ** جئت بالأمر المطاع
والأنصار وإن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته : هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة، فكان يقول لهم : ( خلوا سبيلها فإنها مأمورة ) ، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلًا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بني النجار ـ أخواله صلى الله عليه وسلم ـ وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله، يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله، فأدخله بيته فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( المرء مع رحله ) ، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته، فكانت عنده .

ثالثا: التخطيط في الحياة
التخطيط الصحيح يؤدي الى النجاح
يعد التخطيط للمستقبل من أقوى العوامل للوصول للأهداف المطلوبة، وتحقيق الغايات المرسومة، فالنجاح في الحياة ما هو إلا ثمرة من ثمار التخطيط الناجح. أما الفشل فيعود لغياب التخطيط للمستقبل، وعدم وضوح الأهداف، وغياب أية رؤية لاستشراف آفاق المستقبل وتحدياته.
ومشكلة الكثير من الناس- وخاصة الشباب منهم-أنهم لا يخططون لمستقبل حياتهم، ولا يفكرون إلا في اللحظة الراهنة، ولا ينظرون إلى فرص وتحديات المستقبل، مما يجعلهم يفقدون القدرة على التعامل مع تحديات المستقبل وفرصه، ومن ثم يعيشون حالة من ضبابية الرؤية، وعدم معرفة متطلبات الزمان مما يدفعهم نحو الوقوع في دائرة الفشل والشقاء!
أما من يريد أن يحقق أهدافه في المستقبل، ويرسم لنفسه تصورا لمستقبل أيامه، فعليه أن يخطط لذلك المستقبل
من الحاضر، فالتخطيط للمستقبل هو: رسْم تصورات للمستقبل في الحاضر، ليعمل بعد ذلك على تحقيق تلك التصورات التي رسمها على أرض الواقع. أو بعبارة أخرى هو: أن تحدد أهدافك التي تريد تحقيقها في المستقبل، ثم تضع الخطوات والوسائل لتحقيقها عملياً.
أهمية التخطيط
1. يساعدك على تحديد الاتجاه لأنه مبني على أهداف سبق لك أن حددتها ، فالأهداف الواضحة المتناغمة تقود إلى اتجاه ،والتخطيط يزيد  الاتجاه وضوحا.
2. تحديد الأهداف وطرق تحقيقها
3. تحقيق التوازن بين الموارد والاحتياجات
4. يعمل علي زيادة الكفاءة والفاعلية
5. ضمان وجود الرقابة والمتابعة المستمرة
6. تحديد الوقت والتكلفة لكل عملية
7. تطوير قاعدة البيئة التنظيمية حسب الأعمال التي يجب أن تنجز (الهيكل  التنظيمي). وتحديد المستويات القياسية في كل مرحلة وبالتالي يمكن قياس مدى تحقيقنا للأهداف مما يمكننا من إجراء التعديلات اللازمة في الوقت المناسب
8. التخطيط يكشف لك الحقائق ويوضح لك الأمور فوجود برنامج زمني وأولويات مرتبة وخطوات محددة بتواريخ معينة يكشف لك كامل الحقائق عن أهدافك
9. التخطيط يجعلك مستعداً للخطوات القادمة
10. يجعلك تتخذ قرارات أفضل
ترك الذرية اغنياء خير من تركهم فقراء يسألون الناس
عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عَادَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنِى مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِى إِلاَّ ابْنَةٌ لِى وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَىْ مَالِى قَالَ « لاَ ». قَالَ قُلْتُ أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ « لاَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِى فِى امْرَأَتِكَ »([4]).
التخطيط للعمل الصالح قبل فوات الأوان
الدنيا ما هي إلا دار للتزود فيها من العمل الصالح النافع ليوم القيامة ، لذلك على كل مسلم أن يجد ويجتهد ليصل إلى اعلى الدرجات ولا يدع الدنيا تغره حتى تنفلت منه ولم يستطع ان يقدم فيها ما يقربه من ربه سبحانه وتعالى فلن ينفعه يوم القيامة ماله ولا ولده ولا ملكه إلا إن وظفهما في طاعة الله تعالى والله تعالى يقول " يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)" الشعراء.
وسيأتي يوم يندم فيه على ما فرط وضيع من الأعمال الصالحة في الدنيا كم قال تعالى " كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)" الفجر
لذا كان لابد من التخطيط للازدياد من العمل الصالح، وعقاب النفس حين التقصير فالنفس تميل إلى اتباع الهوى فوجب اجبارها على الطاعة والعمل الصالح.

الواجب على أبناء الوطن
لقد بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما في طاقته لإنجاح عملية الهجرة، وهذا البذل والجد والتخطيط والأخذ بالأسباب هو الإعداد المطلوب من أبناء الأمة جميعهم أفرادا وجماعات ، في كل جوانب الحياة  وفي كل ظرف، إذ يجب أن نبذل أقصى وسعنا وأن نبذل كامل جهدنا في التفكير وإعمال الذهن ، وتوطين النفوس على تحمل المشاق ومواجهة الصعاب، فان الأمم لن تتقدم بالكسالى المتواكلين ، بل تتقدم بالسواعد العاملة الآخذة بالأسباب.
أسباب عدم التخطيط للمستقبل
بالرغم من وضوح فوائد ومزايا التخطيط للمستقبل، إلا أن القليل من الناس من يعتمد على التخطيط المنظم لمستقبله، في حين أن الكثير من الناس يتركون مستقبلهم للظروف المستجدة، وربما للحظ والصدفة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لا نفكر بالمستقبل؟ وما الذي يدفعنا عن التخطيط له؟ وماهي الأسباب التي تجعلنا لا نخطط لمستقبلنا؟   ويمكن الإشارة إلى أهمها ضمن النقاط التالية:
1- غياب الأهداف والتطلعات الكبيرة: حينما يعيش الإنسان من دون أهداف واضحة في حياته، وبلا تطلعات نحو الأفضل، فإنه يصاب بعدم الفاعلية، والقناعة بالواقع الذي يعيشه، وهذا يدفعه نحو عدم التفكير بالمستقبل، ومن ثم عدم التخطيط له.
2- عدم الشعور بالمسؤولية:  الإنسان الذي يعيش بدون أي شعور بالمسؤولية تجاه نفسه أو أهله أو مجتمعه أو أمته لن يشعر بأهمية التخطيط للمستقبل، بل قد يعد ذلك بأنه نوع من الترف الثقافي أو العبث الذي لا ينبغي تضييع الوقت فيه ، أما الإنسان الذي يتحمل المسؤولية، ويعتمد على نفسه في إنجاز أعماله وتحقيق أهدافه؛ فإنه يشعر بأهمية التفكير بالمستقبل والتخطيط له، فالشعور بالمسؤولية، يدفع نحو الرغبة في توكيد الذات، وتحقيق الإنجازات، والوصول للأهداف...وكل ذلك يتطلب ـ فيما يتطلب ـ التخطيط المنظم، والهمة العالية، والإرادة الصلبة.
3- عدم الوعي بالمتغيرات: إن عدم الوعي بالمتغيرات الحادثة، وعدم فهم المستجدات الجديدة، وعدم الإلمام بمتغيرات الزمان والمكان، وغياب المعرفة الواعية بمستجدات الحياة وتطوراتها يؤدي إلى غياب التخطيط للمستقبل. لأن عدم الوعي بالمتغيرات يجعل الإنسان يفكر في الحاضر من دون استشراف آفاق المستقبل وتحدياته وفرصه، أما الإنسان المتابع للمتغيرات، الواعي للمستجدات، المدرك لما يدور حوله من تطورات وأحداث...يكون أكثر إدراكا لأهمية التخطيط للمستقبل لأنه يدرك بوعيه أن المستقبل سيختلف عن الحاضر كما أن الحاضر ليس هو الماضي.
4- الانغلاق والجمود: يعتبر الانغلاق والجمود من أسباب عدم التخطيط للمستقبل، ذلك لأن انغلاق الإنسان على نفسه، وجموده على ما هو عليه، يجعله محدوداً في تفكيره، منطوياً على نفسه، متبلد الذهن، خامل الحركة والنشاط.
5- المفاهيم الخاطئة: توجد بعض المفاهيم الخاطئة التي تؤدي إلى القيام بسلوكيات خاطئة، وهذه المفاهيم الخاطئة ناتجة من ثقافة جامدة، أدت إلى تكريس مفاهيم غير صحيحة في أذهان كثير من الناس.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
01098095854





([1]) صحيح سنن ابن ماجة
([2]) الرحيق المختوم
([3]) صحيح البخاري
([4]) متفق عليه 
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات