الهجرة النبوية دروس وعبر للشيخ احمد أبو عيد







أو

PDF








الحمد لله الذي تفرد بعز كبريائه عن إدراك البصائر، وتقدس بوصف علاه عن الأشباه والنظائر، وتوحد بكمال جبروته فلا العقل في تعظيمه حائر، وتفرد في ملكوته فهو الواحد القهار الأول قبل كل أول الأخر بعد كل أخر، الظاهر بما أبدع فدليل وجوده ظاهر، الباطن فلا يخفى عليه ما هجس في الضمائر.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير شهادة أعدها من أكبر نعمه وعطائه، وأعدها وسيلة إلى يوم لقاءه

يا حبيب القلب ما لي سواك فارحم اليوم مذنبا أتاكا

يا رجائي وراحتي وسروري قد أبى القلب إلا سواكا

وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه اختاره من أطيب العناصر، واصطفاه من أنجب العشائر، واختصه من أشرف الذخائر، وأدار على من عاده أفظع الدوائر.

يا سيدي يا رسول الله:

رباك ربك جـل من رباك ورعاك في كنف الهدى وحماك

سبحانه أعطاك فيض فضائل لم يعطها في العالمـين سواك

وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين

 عناصر الموضوع

أولًا: تعريف الهجرة                                                      ثانيًا: أنواع الهجرة

ثالتًا: حكم الهجرة                                                       رابعًا: فضل الهجرة

خامسًا: الدروس المستفادة منها

الموضوع

أولا: تعريف الهجرة:

الهجرة لغة: اسمٌ من هجر يهجُر هَجْرا وهِجرانا.

قال ابن فارس: "الهاء والجيم والراء أصلان، يدل أحدهما على قطيعة وقطع، والآخر على شد شيء وربطه. فالأول الهَجْر: ضد الوصل، وكذلك الهِجْران، وهاجر القوم من دار إلى دار: تركوا الأولى للثانية، كما فعل المهاجرون حين هاجروا من مكة إلى المدينة".

وضبط ابن منظور أيضاً التي بمعنى الخروج من أرض إلى أرض بضم الهاء: الهُجْرة.

ويكون الهجر بالقلب واللسان والبدن:

فمن الهجر بالبدن قوله تعالى: " وٱهْجُرُوهُنَّ في ٱلْمَضَاجِعِ" "النساء 34".

ومن الهجر باللسان قول عائشة رضي الله عنها لما قال لها النبي r: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى، أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا

ورب  إبراهيم) قالت: أجل، والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك."([1])

ومن الهجر بالقلب قوله تعالى:﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾(الفرقان: 30).

قال ابن الأثير نقلاً عن الهروي: "يريد هِجران القلب وترك الإخلاص في الذكر، فكأنّ قلبه مهاجر للسانه غير مواصل له".

وقد تجتمع هذه الوجوه كلها أو بعضها في بعض أنواع الهجر.

الهجرة شرعاً: عرّفها غير واحد بأنها ترك دار الكفر والخروج منها إلى دار الإسلام.

ثانيا: ما قاله الحافظ ابن حجر: "الهجرة في الشرع ترك ما نهى الله عنه" وعن عبد قال: بن عمرو قال: قال رسول الله " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه " ([2])

وهي تشمل الهجرة الباطنة والهجرة الظاهرة

 فأما الهجرة الباطنة فهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وما يزيّنه الشيطان، وأما الظاهرة فهي الفرار بالدين من الفتن، والأولى أصل للثانية.

ولما كانت الثانية أعظم أمارات الأولى وأكمل نتائجها خص بعض العلماء التعريف بها كما تقدم. ثم لما كانت هجرته r من مكة إلى المدينة أشرف الهجرات وأشهرها انصرف اللفظ عند الإطلاق إليها.

وأما لفظ الهجرتين فهو عند الإطلاق يراد به الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة

ثانيا: أنواع الهجرة

يمكن تقسيم الهجرة إلى نوعين أفصح عنهما سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله بقوله: "الهجرة هجرتان: هجرة الأوطان، وهجرة الإثم والعدوان. وأفضلهما هجرة الإثم والعدوان؛ لما فيها من إرضاء الرحمن، وإرغام النفس والشيطان"

ولعلَّ العزَّ رحمه الله قصد أن هذه الهجرة متجددة، بخلاف ترك الوطن فإنه يكون مرة غالباً؛ والمتجدد أكثر أجراً، وإلا فإن الأولى لا يقارن بها شيء، والعلم عند الله تعالى.

فالهجرة هجرتان: معنوية، وحسية.

الهجرة المعنوية: هي الهجرة من الكفر إلى الإسلام، ومن البدعة إلى السنة، ومن الشرك إلى توحيد الله، ومن المعصية إلى الطاعة.

فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو t عَنْ النَّبِيِّ r قَالَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» ([3]).

الهجرة الحسية فهي أربعة أنوع:

أ- الهجرة إلى النبي r في المدينة، وهذه أشرف الهجرات وأفضلها على الإطلاق.

وهذه خصَّ الله تعالى بها ساداتِ الأولياء من المهاجرين، y وأرضاهم، وتأمل هذا الحديث لتعرف عظيم قدرهم.

عَنْ جَابِرٍ t أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبِيَّ r فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ r؛ لِلَّذِي ذَخَرَ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ. فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ. فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي؛ بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ r. فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟! قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ. فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» ([4]).

ب- الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.

ج- هجرة أرض السوء إلى أرض الصلاح.

ودليلها قصة قاتل المائة نفس

قال الحافظ: "قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين والورعين ومن يقتدي بهم، وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته".

وقال الحافظ:" ففيه إشارة إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية، والتحول منها كلها والاشتغال بغيرها".

د- الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن.

فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو t قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ: «سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرْضُوهُمْ، تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ، وَتَحْشُرُهُمْ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ» ([5]).

ثالثا: حكم الهجرة

أما الهجرة المعنوية فواجبة على كل أحد لا خلاف في ذلك.

وأما الهجرة الحسية فالناس فيها أربعة أقسام:

القسم الأول: من تجب عليهم ويأثمون بتركها: وذلك في حق من يقدر عليها ولا يمكنه إقامة واجبات دينه في ديار الكفر. قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا" (النساء: 97).

ففي سنن أبي داود والترمذي، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ t قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ r : «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، لا تَرَاءَى نَارَاهُمَا» ([6])

القسم الثاني: من تجب عليهم لكنهم معذورون في عدم القيام بها:قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا" (النساء: 999).

القسم الثالث: من يتمكن من إظهار دينه ولا يضيق عليهم وهذا تستحب في حقه، ولا تجب عليه.

القسم الرابع: من كان بقاؤهم في دار الكفر أولى من هجرتهم.

جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية –بعد ذكرها للأقسام السابقة-: "وزاد الشّافعيّة قسماً رابعاً: وهو من يقدر على إظهار دينه في دار الحرب، ويقدر على الاعتزال في مكان خاص، والامتناع من الكفّار، فهذا تحرم عليه الهجرة، لأنّ مكان اعتزاله صار دار إسلام بامتناعه، فيعود بهجرته إلى حوزة الكفّار، وهو أمر لا يجوز، لأنّ كلّ محلّ قدر أهله على الامتناع من الكفّار صار دار إسلام".

ومن هؤلاء السفراء، فإن مكثهم فيها متعين؛ للقيام على شؤون رعايا بلادهم من المسلمين.

ومنهم العيون الذي يبعثون بالأخبار إلى الدولة المسلمة.

ومنهم الدعاة، والقائمين على أمر الجاليات المسلمة.

وطالب علمٍ لا يتأتى له أن يتعلمه في بلاد المسلمين. والله أعلم.

ولا تعارض بين حديث الشيخين: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» ([7])، وحديث: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» ([8]).

فالجواب: أنَّ الهجرة المنقطعة هي الهجرة من مكة إلى المدينة، أو الهجرة إلى رسول الله r لنصرته والجهاد معه، وأما الهجرة الباقية فهي الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.

رابعا: فضل الهجرة:

الإيمان الصادق: قال تعالى: "وٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" (الأنفال 74).

الأجر الجزيل: فقد قال النبي r لأبي فاطمة الضَّمْري t: «عليك بالهجرةِ؛ فإنه لا مثلَ لها» ([9])

الرزق: قال تعالى: "وَمَن يُهَاجِرْ في سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ في ٱلأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً" (النساء 100).

"والظاهر -والله أعلم-أن المراغم التمنّع الذي يُتَحصَّن به، ويراغم به الأعداء. قوله: "وَسَعَةً" يعني: الرزق. قاله غير واحد، منهم: قتادة، حيث قال في قوله: "يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً" إي والله، من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى".

ومن ذلك أن الله سبحانه يعوضهم خيراً مما تركوا، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

قال تعالى: "وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (النحل: 41).

قال الطبري رحمه الله: "لنسكننهم في الدنيا مسكناً يرضونه صالحاً".

وقد تعقب الإمام الطبري رحمه الله من قال إن المراد: لنرزقنهم في الدنيا رزقا حسناً الحسن بقوله: "التبوء في كلام العرب الحلول بالمكان، والنزول به".

المغفرة والرحمة: قال تعالى: "إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"(البقرة 218).

قال تعالى: "ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ" (النحل 110).

ولما أراد عمرو بن العاص t أن يشترط على النبي r عند بيعته، قال له نبي الله r: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» ([10]).

الجنة: قال تعالى: "فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سبيلي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَاٰرُ ثَوَاباً مّن عِندِ اللهِ واللهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ" (آل عمران 195).

وقال: "الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ. يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ" (التوبة: 20-21).

قال تعالى "وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) " (الحج 58).

قال ابن كثير:" "ثُمَّ قُتِلُواْ" أي: في الجهاد. "أَوْ مَاتُواْ"، أي: حتف أنفسهم، أي: من غير قتال على فرشهم. فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل"

وعن فضالة بن عبيد t قال سمعت رسول الله r يقول أنا زعيم والزعيم الحميل لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى غرف الجنة فمن فعل ذلك لم يدع للخير مطلبا ولا من الشر مهربا يموت حيث شاء أن يموت» ([11]).

وعن سبرة بن الفاكه t قال: سمعت رسول الله r يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك! فعصاه فأسلم، فغفر له. فقعد له بطريق الهجرة، فقال له: تهاجر وتذر دارك وأرضك وسماءك! فعصاه فهاجر. فقعد بطريق الجهاد، فقال: تجاهد فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال! فعصاه فجاهد. فمن فعل ذلك فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة، إن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وإن وقصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة» ([12])

خامسا: أسباب الهجرة النبوية

رغبة النبي r وصحابته في التمكن من إقامة دولة إسلامية من الطراز الأول يؤدون فيها عبادة الله تعالي على أتم وجه. لكن متى فكر ؟؟ ولماذا فكر بعد ثلاثة عشرة سنة من  دعوة قومه إلى الله تعالي ترى لماذا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يبني الرجال الذين سيقودون هذه الدولة قبل أن يبني الدولة ولكن كيف بني الرسول هؤلاء الرجال؟

• بناهم على اليقين على الله سبحانه وتعالى فعلمهم كيف يعتمدون عليه ويؤمنون به وكيف لا يخافون في الله لومة لائم وكيف لا يثقون إلا بالله تعالى؟

• بناهم على خشية الله وحسن الأدب مع الله، بناهم على الصدق والعفاف، بناهم على حب الله تعالى وترك كل حب إلا حب الله تعالي فملأ الإيمان قلوبهم بحبه فلم يضيرهم شيء ولم يهمهم شيء إلا حب الله ورضاه

استثمار الإيمان الموجود في قلوبهم الذي أغناهم عن أهلهم ووطنهم وذويهم: ولم يكونوا يتمكنوا من هذا الأمر في وطنهم وذلك لصد المشركين من أهل مكة دعوتهم بعنف شديد وتعذيب لا وصف له.

كثرة الإساءة والتعذيب :   أ-فها هو عقبة بن أبي معيط يدخل على رسول الله وهو يصلي في الكعبة ويضع ثوبه في عنقه ويخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله !!!!!!

  ب-وها هي أسماء بنت أبي بكر الصديق تحكي أن قريشا ضربوا رسول الله مرة حتى غشي عليه فقام أبو بكر ونادي فيهم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله فتركوه وأقبلوا علي أبي بكر.

  ج-وعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله r  وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون) ([13])

  د- وهذا ابن مسعود t يحكي ويقول" بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -r- يُصَلِّى عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلاَ جَزُورِ بَنِى فُلاَنٍ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِى كَتِفَىْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَأَخَذَهُ فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِىُّ -r- وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ قَالَ فَاسْتَضْحَكُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ. لَوْ كَانَتْ لِى مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ -r-وَالنَّبِىُّ -r-سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ فَجَاءَتْ وَهِىَ جُوَيْرِيَةُ فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ. ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ فَلَمَّا قَضَى النَّبِىُّ -r-صَلاَتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاَثًا. وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلاَثًا ثُمَّ قَالَ «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمُ الضِّحْكُ وَخَافُوا دَعْوَتَهُ ثُمَّ قَالَ «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِى جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِى مُعَيْطٍ». وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ فَوَالَّذِى بَعَثَ مُحَمَّدًا -r-بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ. ([14]).

تحـالف المشركين: تحالف المشركون على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يؤوهم ولا يخاطبوهم ولا يكون بينهم وبينهم شيء حتى يسلموا لهم رسول الله r.......

المقـاطعة الظالمة: وذلك بعد فشلهم في كل العروض التي عرضوها على عم الرسول أبي طالب من أن يصرف ابن أخيه عن دعوته أو أن يعطوه فتى من أجمل فتيان قرش ويسلم لهم محمدا وكلما اشتد الإيذاء على رسول الله واشتدت عداوتهم له كلما كشف الله عنهم الكرب الشداد ها هو سيدنا حمزة بن عبد المطلب في ظل هذه الظروف يدخل في الإسلام وبعده بثلاثة أيام يدخل عمر بن الخطاب بعد دعوة الرسول له...........

ففكروا في هذه المقاطعة الظالمة فقطعوا عنهم الطعام، والمادة فلم يكونوا يتمكنوا من ذلك إلا من الموسم إلى الموسم، وهكذا جنَّد الله من المشركين مَن يدخلوا ليلاً بالطعام والحنطة عليهم، ومنهم هشام بن عمرو بن ربيعة، وظل عمه أبو طالب في حمايته يضطجع رسول الله على فراشه ويضطجع هو أحد أبنائه مكان رسول الله r، ثم نقضت الصحيفة الظالمة لما أذن الله ومحَّص قلوب المؤمنين ثم مات أبو طالب عم النبي وحاميه، وماتت خديجة بنت خويلد المرأة التي أحبها رسول الله ودافعت عن الدين وضحت بكل ما تملك السيدة خديجة رضي الله عنها، وغيرها من الأسباب ....

سادسا: الدروس المستفادة من الهجرة: -

هجرة كل ما نهى الله عنه: لقد أذن الله تعالى لنبيه وأصحابه بالهجرة لما ضاقت عليهم الأرض، ومنعتهم قريش من إقامة دين الله.

إن الهجرة بالمعنى الشرعي ليست مجرد الانتقال من بلد إلى آخر فحسب، بل هي هجرة عامة عن كل ما نهى عنه الله ورسوله r، حتى يكون الدين كله لله.

هجرة من الذنوب والسيئات ... هجرة من الشهوات والشبهات ... هجرة من مجالس المنكرات. هجرة من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.

الصبر واليقين طريق النصر والتمكين:فبعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء قضاها النبي r وأصحابه بمكة يهيأ الله تعالى لهم طيبة الطيبة، ويقذف الإيمان في قلوب الأنصار، ليبدأ مسلسل النصر والتمكين لأهل الصبر واليقين "إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" "غافر: 51".

إن طريق الدعوة إلى الله شاق محفوف بالمكاره والأذى، لكن من صبر ظفر، ومن ثبت انتصر.

" والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".

درس في التوكل على الله والاعتصام بحبل الله: لقد كانت الهجرة محفوفة بالمخاطر التي تطير لها الرؤوس، فالسيوف تحاصره عليه الصلاة والسلام في بيته وليس بينه وبينها إلا الباب. والمطاردون يقفون أمامه على مدخل الغار. وسراقة الفارس المدجج بالسلاح يدنو منه حتى يسمع قراءته. والرسول r في هذا كله متوكل على ربه واثق من نصره.

فمهما اشتدت الكروب ومهما ادلهمت الخطوب يبقى المؤمن متوكلاً على ربه واثقاً بنصره لأوليائه.

فألزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك معدودة.

هل رأيتم رجلاً أعزلاً محاصراً يخرج إلى المجرمين ويخترق صفوفهم فلا يرونه ويذر التراب على رؤوسهم ويمضي، هل رأيتم عنكبوتاً تنسج خيوطها على باب الغار في ساعات معدودة، هل رأيتم فريقاً من المجرمين يصعدون الجبل ويقفون على الباب فلا يطأطئ أحدهم رأسه لينظر في الغار، هل رأيتم فرس وسراقة تمشي في أرض صلبه فتسيب اللبن. في الأرض وكأنما هي تسير في الطين، هل رأيتم شاة أم معبد الهزيلة يتفجر ضرعها باللبن.

إن هذه المعجزات لهي من أعظم دلائل قدرة الله تعالى، وإذا أراد نصر المؤمنين خرق القوانين، وقلب الموازين " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " يس.

درس في الحب:عن أنس t قال: قال رسول الله r: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين "([15]).

إن هذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته r، إن هذا الحب هو الذي جعل أبا بكر يقاوم السم وهو يسري في جسده يوم أن لدغ في الغار.

إن الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله ليؤثر به الحبيب r على أهله ونفسه، إن هذا الحب هو الذي أخرج الأنصار من المدينة كل يوم في أيام حارة ينتظرون قدومه r على أحر من الجمر. فأين هذا ممن يخالف أمر الحبيب r ويهجر سنته ثم يزعم أنه يحبه !!! يا مدعي حب أحمد لا والفداء ** فالحب ممنوع في دنيا لمحبينا

درس في التضحية والفداء: لقد سطر النبي  r وأصحابه صفحات مشرقة من التضحية، والمغامرة بالأنفس والأموال لنصرة هذا الدين .. لقد هاجروا لله ولم يتعللوا بالعيال ولا بقلة المال فلم يكن للدنيا بأسرها أدنى قيمة عندهم في مقابل أمر الله وأمر ورسوله r.

فيوم أن بات علي في فراشه r وغطى رأسه كان يعلم أن سيوف الحاقدين تتبادر إلى ضرب صاحب الفراش، ويوم أن قام آل أبي بكر عبدا لله وأسماء وعائشة ومولاه عامر بهذه الأدوار البطولية كانوا يعلمون أن مجرد اكتشافهم قد يودي بحياتهم.

هكذا كان شباب الصحابة فأين شبابنا .. أين شبابنا الذين يضعون رؤوسهم على فرشهم ولا يضحون بدقائق يصلون فيها الفجر مع الجماعة.

نعم .. لقد نام شبابنا عن الصلاة يوم أن نام على مضحياً بروحه في سبيل الله، فشتان بين والسلام.

أين شبابنا الذين كلّت أناملهم من تقليب أجهزة القنوات ومواقع الشبكات. أين هذه الأنامل من أنامل أسماء وهي تشق نطاقها لتربط به سفرة النبي عليه الصلاة والسلام ويوم القيامة ستشهد الأنامل على تضحي الأسباب وستشهد على الظالمين بما كانوا يعملون.

درس في العبقرية والتخطيط واتخاذ الأسباب: لقد كان r متوكلاً على ربه واثقاً بنصره يعلم أن الله كافيه وحسبه، ومع هذا كله لم يكن  r  بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها. بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان.

فالقائد النبي r الله عليه وسلم والمساعد: أبو بكر، والفدائي: علي، والتموين: أسماء، والاستخبارات: عبد الله، والتغطية وتعمية العدو: عامر، ودليل الرحلة: عبدا لله بن أريقط، والمكان المؤقت: غار ثور، وموعد الانطلاق: بعد ثلاثة أيام، وخط السير: الطريق الساحلي.

وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته r، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وآخراً.

درس في الإخلاص: عن ابن عباس قال: خرج رسول الله r في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال (إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر) ([16]) ومعنى خوخة: باب

 فقد كان أبو بكر" الذي يؤتي ماله يتزكى " ينفق أمواله على رسول الله r، وعلى الدعوة إلى دين الله.

لكن السؤال هنا هو لماذا رفض r أخذ الراحلة من أبي بكر إلا بالثمن؟

قال بعض العلماء: إن الهجرة عمل تعبدي فأراد عليه الصلاة والسلام أن يحقق الإخلاص بأن تكون نفقة هجرته خالصة من ماله دون غيره. وهذا معنى حسن، وهو الهجرة: الإخلاص وتكميل أعمال القرب التي تفتقر إلى النفقة (كنفقة الحج، وزكاة الفطر، وغيرها من الأعمال) فإن الأولى أن تكون نفقتها من مال المسلم خاصة.

درس في التأريخ الهجري: التأريخ بالهجرة النبوية مظهر من مظاهر تميز الأمة المسلمة وعزتها. ويعود أصل هذا التأريخ إلى عهد عمر t حيث فكر أن يجعل للأمة تأريخاً يميزها عن الأمم الكافرة استشار الصحابة فيما يبدأ به التأريخ، أيؤرخون من مولده عليه الصلاة والسلام؟ أم مبعثه؟ أم هجرته؟ أم وفاته؟

كانت الهجرة أنسب الخيارات. أما مولده وبعثته فمختلف فيهما، وأما وفاته مدعاة للأسف فهدى الله تعالى الصحابة إلى اختيار الهجرة منطلقاً للتأريخ الإسلامي.

وظلت الأمة تعمل بهذا التأريخ قرونا كثيرة، حتى ابتليت في هذا العصر بالذل والهوان، ففقدت هيبتها، وأعجبت بأعدائها، واتبعتهم حذو القذّة بالقذّة، حتى هجرت معظم الدول المسلمة تأريخها الإسلامي فلا يكاد يعرف إلا في المواسم كرمضان والحج، وأرخت بتواريخ الملل المنحرفة.

لقد نسينا تاريخنا فأنسينا تأريخنا. وأضعنا أيامنا فضاعت أيامنا. .... والله المستعان.

الاعتدال حال السراء والضراء: فيوم خرج عليه الصلاة والسلام من مكة مكرهاً لم يخنع، ولم يذل، ولم يفقد ثقته بربه، ولما فتح الله عليه ما فتح وأقر عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين لم يطش زهواً، ولم يتعاظم تيهاً؛ فعيشته يوم أخرج من مكة كارهاً كعيشته يوم دخلها فاتحاً ظافراً، وعيشته يوم كان في مكة يلاقي الأذى من سفهاء الأحلام كعيشته يوم أطلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر ناحية تبوك.

اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين: فالذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي يظن أن الدعوة إلى زوال واضمحلال.

ولكن الهجرة في حقيقتها تعطي درساً واضحاً في أن العاقبة للتقوى وللمتقين. فالنبي r يعلّم بسيرته المجاهد في سبيل الله الحق أن يثبت في وجه أشياع الباطل، ولا يهن في دفاعهم وتقويم عوجهم، ولا يهوله أن تقبل الأيام عليهم، فيشتد بأسهم، ويجلبوا بخيلهم ورجالهم؛ فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أما العاقبة فإنما هي للذين صبروا والذين هم مصلحون.

ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة: ذلك في جواب النبي r لأبي بكر t لمّا كان في الغار، فعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ قَالَ نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِى الْغَارِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَقَالَ «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» ([17]).

فهذا مثل من أمثلة الصدق والثبات، والثقة بالله، والاتكال عليه عند الشدائد، واليقين بأن الله لن يتخلى عنه في تلك الساعات الحرجة، هذه حال أهل الإيمان، بخلاف أهل الكذب والنفاق؛ فهم سرعان ما يتهاونون عند المخاوف وينهارون عند الشدائد، ثم لا نجد لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً.

أن من حفظ الله حفظه الله: ويؤخذ هذا المعنى من حال النبي r لما ائتمر به زعماء قريش ليعتقلوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، فأنجاه الله منهم بعد أن حثا في وجوههم التراب، وخرج من بينهم سليماً معافى، وهذه سنة ماضية، فمن حفظ الله حفظه الله، وأعظم ما يحفظ به أن يحفظ في دينه، وهذا الحفظ شامل لحفظ البدن، وليس بالضرورة أن يعص الإنسان؛ فلا يخلص إليه البتة؛ فقد يصاب لترفع درجاته، وتقال عثراته، ولكن الشأن كل الشأن في حفظ الدين والدعوة.

أن النصر مع الصبر: فقد كان هيناً على الله عز وجل أن يصرف الأذى عن النبي r جملة، ولكنها سنة الابتلاء يؤخذ بها النبي الأكرم؛ ليستبين صبره، ويعظم عند الله أجره، وليعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيراً كان أم كبيراً.

الحاجة إلى الحلم، وملاقاة الإساءة بالإحسان: فلقد كان النبي r يلقى في مكة قبل الهجرة من الطغاة والطعام أذىً كثيراً، فيضرب عنها صفحاً أو عفواً، ولما عاد إلى مكة فاتحاً ظافراً عفا وصفح عمن أذاه.

إستبانة أثر الإيمان: حيث رفع المسلمون رؤوسهم به، وصبروا على ما واجهوه من الشدائد، فصارت مظاهر أولئك الطغاة حقيرة في نفوسهم.

إنتشار الإسلام وقوته:  وهذه من فوائد الهجرة، فلقد كان الإسلام بمكة مغموراً بشخب الباطل، وكان أهل الحق في بلاء شديد؛ فجاءت الهجرة ورفعت صوت الحق على صخب الباطل، وخلصت أهل الحق من ذلك الجائر، وأورثتهم حياة عزيزة ومقاماً كريماً.

أن من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه: فلما ترك المهاجرون ديارهم، وأهليهم، وأموالهم التي هي أحب شيء إليهم، لما تركوا ذلك كله لله عوضهم الله بأن فتح عليهم الدنيا، وملّكهم شرقها وغربها.

ظهور مزية المدينة: فالمدينة لم تكن معروفة قبل الإسلام بشيء من الفضل على غيرها من البلاد، وإنما أحرزت فضلها بهجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام أصحابه إليها، وبهجرة الوحي إلى ربوعها حتى أكمل الله الدين، وأتم النعمة، وبهذا ظهرت مزايا المدينة، وأفردت المصنفات لذكر فضائلها ومزاياها.

سلامة التربية النبوية: فقد دلّت الهجرة على ذلك؛ فقد صار الصحابة مؤهلين للاستخلاف، وتحكيم شرع الله، والقيام بأمره، والجهاد في سبيله.

التنبيه على عظم دور المسجد في الأمة: ويتجلى ذلك في أول عمل قام به النبي r فور وصوله المدينة، حيث بني المسجد؛ لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المسلم برب العالمين، وليكون منطلقاً لجيوش العلم، والدعوة والجهاد.

التنبيه على عظم دور المرأة: ويتجلى ذلك من خلال الدور الذي قامت به عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما حيث كانتا نعم الناصر والمعين في أمر الهجرة؛ فلم يخذلا أباهما أبا بكر مع علمهما بخطر المغامرة، ولم يفشيا سرّ الرحلة لأحد، ولم يتوانيا في تجهيز الراحلة تجهيزاً كاملاً، إلى غير ذلك مما قامتا به.

عظم دور الشباب في نصرة الحق: ويتجلى ذلك في الدور الذي قام به علي بن أبي طالب t حين نام في فراش النبي r ليلة الهجرة، ويتجلى من خلال ما قام به عبد الله بن أبي بكر؛ حيث كان يستمع أخبار قريش، ويزود بها النبي r وأبا بكر.

حصول الأخوة وذوبان العصبيات.

 

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

%%%%%%%%

 



([1]) متفق عليه

([2]) صحيح البخاري

([3]) صحيح البخاري

([4])  صحيح مسلم

([5]) صحيح الترغيب والترهيب

([6]) السلسلة الصحيحة

([7]) السلسلة الصحيحة

([8]) صحيح الجامع

([9]) السلسلة الصحيحة

([10])  صحيح مسلم

([11]) صحيح الترغيب والترهيب

([12]) صحيح الترغيب والترهيب

([13]) صحيح البخاري

([14]) متفق عليه

([15])  متفق عليه

([16])  صحيح البخاري

([17]) متفق عليه

التعليقات
0 التعليقات