التجارة الرابحة بلا خسرا ن للشيخ أحمد أبو عيد
التجارة الرابحة بلا خسران
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولى الصالحين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله إمام النبيين
وبعد
العناصر:
أولًا: أهمية التجارة مع الله ثانيًا: أقسام الناس في التجارة والذكر
ثالثًا: تاجر مع الله
الموضوع
أولًا: أهمية التجارة مع الله
كيف تكون التجارة مع الله؟: التجارة مع الله لا تحتاج إلى دراسة جدوى، ولا تحتاج إلى رأس مال؛ بل تحتاج لجهد ولو كان قليلًا.
تكون بطاعة الله تعالى وتنفيذ أوامره، وبكثرة العبادات؛ من نوافل وصدقات، وكثرة الأذكار، وقراءة القرآن، ومعاملة الناس المعاملة الطيبة ولو بابتسامة؛ فالابتسامة صَدَقة، أليس كذلك؟!
وعبادات أخرى كثيرة تُكسِب صاحبَها جبالًا من الحسنات، هذه الحسنات هي الأجر على فعل كل ما سبق ذكره؛ بل أضعاف وأضعاف من تلك الأجور والحسنات التي تثقل بها موازين حسناتنا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله -عز وجل -: مَنْ جَاء بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا أَوْ أزْيَد» ([1])
وهذا رسول الله وشفيعنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام يقول: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» ([2])
حتى الصلاة الواحدة على سيدنا محمد، تتضاعف لعشر صلوات، سبحانك ربي ما أكرمك!
النية أساس كل عام تقوم به: العمر كلما زاد نقص، ولتكون واقعيا وتفكر بعقلية التجار، ولتكون التجارة مع الله رابحة عليك باستثمار الوقت، إنه سريع الانقضاء، إنه أثمن ما تملك، إنه رأس المال الحقيقي الذي تتاجر فيه مع الله، الوقت لا يمكن توفيره ولا بيعه ولا شراؤه، أولئك الذين يستثمرون كل دقيقة من وقتهم في إرضاء الله، هم الفائزون.
النية في كل عمل تقوم به أساس الكسب، فعلينا أن نجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم حتى يرضى الله عنا، ونكون من الفائزين في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، كل عمل بالحقيقة تنوي فيه وجه الله وإرضاء الله هو تجارة مع الله لن تبور ولن تخسر.
عاقبتها السعادة الدائمة: التجارة مع الله عز وجل عاقبتها السعادة الدائمة ورضا الله جل جلاله والفوز بجناته وجزيل ثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه وناره، نسأل الله من كرمه وفضله وجوده وإحسانه، قال الله عز وجل: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) } [الصف:10-12]
معتق نفسه أو موبقها: قال رسول الله ﷺ «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» ([3])
ففي هذا الحديث يُبيِّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس في هذه الحياة الدنيا غادون مستغرقون في أمورها، ولكنهم بين إحدى حالين، حينما يبيع الواحد منهم نفسه، فإما أن يعتقها من عذاب الله تعالى وسخطه، إلى رضوانه وجنته ونعيمه، وإما أن يُوبقها بأن يهلك هذه النفس، ويجعل عاقبتها إلى خسران في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ ولذلك أخبر الله جل وعلا في كتابه الكريم أن من عباده من عقدوا الصفقات معه جل وعلا، صفقات الربح والفوز والفلاح، بخلاف أُناسٍ باعوا أنفسهم للضلال والانحراف والهوى.
يقول الله جل وعلا مُخبرًا عن أمثال هؤلاء، مُخبرًا عن عباده المؤمنين الذين ابتغوا رضوانه، فباعوا أنفسهم لهم جل وعلا: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207].
أتته الدنيا وهي راغمة: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» ([4])
العاقبة للمتقين: من رأفته سبحانه أنه جعل العاقبة للمتقين لا للمفسدين، فإن الذين يتاجرون مع الله جل وعلا سيرون عاقبة هذه التجارة، وأنهم هم الرابحون الربح الأعظم، وأما الذين لم يدخلوا في التجارة مع الله جل وعلا، وإنما ارتضوا الحياة الدنيا وشهواتها وأهواءها -فإنهم سيرون الخسارة العظمى؛ كما قال سبحانه: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الزمر: 15].
ليس لها جزاء إلا الجنة: قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة:111].
لا تعرف الخسارة: يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29] لن تبور بمعنى لن تخسر أبدًا، وكيف تخسر وأنت تتاجر مع الله، الذي خزائنه لا تنفد، وعطاؤه لا حصر له.
ليس لها موسم: كل أنواع التجارة في الأرض لها موسم ولها أوقات كساد، ما عدا التجارة مع الله، فكل عبادة تقوم بها هي تجارة مع الله، والعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
ثانيًا: أقسام الناس في التجارة والذكر
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام في مسألة التجارة والذكر:
القسم الأول: من يقدِّم التجارة على الذكر، وهذا خاسر لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذِكرِ الله ومن يفعل ذلك فأُولئك هم الخاسرون } [المنافقون:9] ولو ربحوا في الأموال والأولاد فهم خاسرون.
القسم الثاني: من لا تلهيه التجارة ولا الأموال عن ذكر الله فهذا رابح، لم يفته ماله ولم يفته ذكر الله، أتى لهذا بنصيبه، ولهذا بنصيبه.
القسم الثالث: من هو أعلى من هذا، يجعل تجارته من ذكر الله، بحيث يقصد بهذه التجارة الاستعانة على طاعة ربه، وعلى بذل أمواله فيما يرضي ربه.
الثالث شأنه كبير، ولكن قلَّ من يوجد بهذه الصفة وهو نادر جداً، وأكثر الناس اليوم من القسم الأول الذي هو في الحقيقة أخيراً في المرتبة.
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: كيف تلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله؟ وتجارتهم مع الله رابحة، ومحاسنهم لذوي الألباب لائحة، ثناؤهم عطر الأنام، فهم بين الناس كالأعلام.
رجال استقاموا على عبادة الحي الذي لا يموت، تأسوا بسيد المرسلين، وعملوا أعمال الصالحين، واتبعوا سيرة المؤمنين.
رجال ليلهم قيام، ونهارهم صيام، يطلبون رضا ذي الجلال والإكرام.
رجال كحلوا أعينهم بالسحر، وغضوها عما لا يحل من النظر، لزموا مساجد الملك الرحمن، وجالت قلوبهم في علوم القرآن.
رجال صحبوا القرآن بحسن العمل، ولم يغتروا بطول الأمل، ونصبوا لأعينهم تقريب الأجل، واشتاقت نفوسهم إلى الملك الأعلى الأجل.
رجال إذا نظروا اعتبروا، وإذا سكتوا تفكروا، وإذا ابتلوا استرجعوا، وإذا جُهل عليهم حلموا، وإذا علموا تواضعوا، وإذا عملوا رفقوا، وإذا سئلوا بذلوا.
رجال رضوا من الدنيا بالقليل، فأزمعوا إلى الآخرة التحويل، ورغبوا في ثواب الملك الجليل، وحنوا إلى النعيم الدائم الجزيل.
رجال هم بالغداة والعشي في بيوت الله الطيبة، يدعون بألسنتهم رغباً ورهباً، ويسألونه بأيديهم خفضاً ورفعاً، ويشتاقون إليه بقلوبهم غدواً وعشياً، يدبون على الأرض بغير مرح ولا ميل ولا ترح يعبدون الرحمن، ويتلون القرآن، ويشفقون من عذاب النيران، ويخافون يوماً يكثر فيه الويل والأحزان، قد تجنبوا كل ريبة وبهتان، ولم يأمنوا مكر الملك الديّان.
رجال المساجد مأواهم، والله جل جلاله معبودهم ومولاهم، تركوا المعاصي خوفاً من الحساب والسؤال، وبادروا إلى الطاعة وحسن الأعمال.
رجال اطمأنت قلوبهم بذكر الرحمن، وحفظوا ألسنتهم من العيب والبهتان.
إن التجارة الخاسرة الكاسدة البائرة هي لمن عصى وخالف الهدى الذي جاء به رسول رب العالمين، نبينا محمد علية أفضل الصلاة والسلام، فهذا ما ربحت تجارته مع الله، وإن كسب الأموال الكثيرة، قال الله عز جل عن المنافقين: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} [البقرة:16].
قال العلامة السعدي رحمه الله: وإذا كان من يبذل ديناراً في مقابل درهم خاسراً، فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة، واختار الشقاء على السعادة، ورغب في سافل الأمور وترك عاليها ؟! فما ربحت تجارته، بل خسر فيها أعظم خسارة.
نسأل الله السلامة من الخسارة في الدنيا والآخرة.
ومن شروط التجارة الرابحة مع الله:
الاخلاص: اجعل كل دقيقة في حياتك لله وأخلص له عز وجل، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ» ([5])
الصبر على طاعة الله: هي أعظم الدرجات، ودونها الصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة، إن الله يقول: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 4].
كن واثقا بالله: أحسن الظن بالله وتوكل عليه في تجارة الإيمان والعمل الصالح والتقوى، قال الله سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾[الأعراف:96].
انتهز الفرص: منذ أن تصبح مكلفا وتبلغ رشدك حتى تلقى ربك فإنك في تجارة مع الله، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ، قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ»، قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» ([6])
ثالثًا: تاجر مع الله
لا تغفل عن هذه التجارة: كل عاقل مُدرك لا يشك لحظة أن مَن يربح الكثير في الوقت القصير أفضل ممن يربح القليل في وقت طويل، ومن هِمَّته في الثرى ليس كمن همته في الثريا، ومن يأتيك بالأزهار ليس كمن يأتيك بزهرة واحدة فقط، وهذه حالنا مع النية؟! فكل عمل لا بد له من نية عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ]إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى[ ([7]) ولكن هناك من يعمل العمل، ويستحضر عددًا من النوايا، فتضاعف له الأجور، ويجمع أكبر قدر من الحسنات بوقت قصير وعمل واحد، وهناك من يستحضر في العمل نية واحدة، فلا يكون له إلا أجر هذه النية، وشتان بينهما.
قال الغزالي في إحياء علوم الدين: الطَّاعَاتُ مُرْتَبِطَةٌ بِالنِّيَّاتِ فِي أَصْلِ صِحَّتِهَا، وَفِي تَضَاعُفِ فَضْلِهَا أَمَّا الْأَصْلُ، فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرُ، فَإِنْ نَوَى الرِّيَاءَ صَارَتْ مَعْصِيَةً وَأَمَّا تَضَاعُفُ الْفَضْلِ، فَبِكَثْرَةِ النِّيَّاتِ الْحَسَنَةِ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ الْوَاحِدَةَ يُمْكِنُ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا خَيْرَاتٍ كَثِيرَةً، فَيَكُونُ لَهُ بِكُلِّ نِيَّةٍ ثَوَابٌ؛ إِذْ كل واحدة منها حسنة، ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها؛ كما ورد به الخبر.
كمن عاد مريضًا يستطيع أن يستحضر أكثرَ من نيَّة في هذا العمل، فينوي عيادة المريض، وينوي إدخال السرور على مسلم، وينوي إطعام الطعام إن كان يأخذ معه شيء من الحلوى، ونية التبسم في وجه أخيه، وينوي الصلة إن كان من الأرحام، وينوي الدعوة إلى الله إن كان يذكِّره بالله وبأجر الصبر وحسن الظن بالله.
يا ألله، كم ضاعت علينا من نيات وأجور كثيرة، ونحن نغدو ونروح ونبذل من المال، ولا نستحضر مثل هذه النيات، بل قد نتضجر أحيانًا؛ لذلك قيل: النية تجارة العلماء، لا يعرف عِظم قدرها إلا هُم؛ لأنهم عرفوا كيف يتعاملون مع خالقهم؛ عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ....«وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ» قَالَ: " إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ " ([8]): فالكريم يجازيك على نيتك التي لم تبذل فيها أي مجهود ظاهر، فقط انوِ الخير واصدُق في ذلك،
فمن همَّ بحسنة ولم يفعلها، كُتبت له حسنة كاملة، وإن فعلها كتبت له عشر حسنات.
إنه أهل الجود والكرم، أهل المغفرة والرحمة، فالسير إلى الله سير القلوب أولًا ثم الأبدان، وقد يصل الإنسان بنيته أعلى الدرجات، والمشغول ببدنه ما وصل إلى عُشر ما وصل إليه الأول، وكما قيل: كم من عمل قليل عظَّمته النية، وكم من عمل كبير صغَّرته النية!
فلا تبخل على نفسك بهذا الفضل وهذه الغنيمة؛ لتنال من الخير الكثير في أعمال يسيرة، وهذا من البركة في العُمر والعمل.
وجاء في الحديث عن أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما في كيفية قراءتهما للقرآن، قال معاذ: أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ، أَوْ أَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَرْجُو فِي نَوْمَتِي مَا أَرْجُو فِي قَوْمَتِي)) ([9]) قال النووي معناه: ((أني أنام بنية القوة وإجماع النفس للعبادة وتنشيطها للطاعة، فأرجو في ذلك الأجر كما أرجو في قومتي؛ أي: صلواتي))، وقال ابن حجر: ((معناه: أنه يطلب الثواب في الراحة، كما يطلبه في التعب؛ لأن الراحة إذا قصد بها الإعانة على العبادة حصلت الثواب)).
جعلوا حتى العادات عبادات يتقرَّبون بها إلى الله، نومهم وقيامهم وأكلهم، فأصبحت حياتهم كلها عبادة وعدَّاد حسناتهم لا يقف أبدًا بسبب عمل هذه المضغة الصغيرة (القلب) التي هي محل نظر الرب عز وجل.
القرآن بين أيدينا ونقرأه كل يوم، فما هي النيات التي نستحضرها عند تلاوته؟
فالقرآن مبارك حتى لمن أراد أن يستكثر من النيات، انوِ بتلاوته رضا الله والتقرب إليه والهداية والنور والبصيرة، والعلم والإيمان، وجلاء الهم والأحزان، ولكي تنال شفاعته ولتكون صاحبًا له.
النيةَ النية، فهي تجعل حياتك لله ومع الله وفي الله، حتى تتمثل قوله تعالى:﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].
ذكر الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عِدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ " ([10])
صدقة: قال جلَّ وعلا: {من ذا الذي يُقرضُ الله قرضاً حسناً فيُضاعفهُ له أضعافاً كثيرة} [البقرة:245]
وقال سبحانه وتعالى: {إن المُصدقين والمُصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناًً يُضاعف لهم ولهم أجر كريم} [الحديد:18]
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عما يثيب به المصدقين والمصدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة، {وأقرضوا الله قرضاً حسناًً} أي دفعوه بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكوراً، ولهذا قال: {يُضاعف لهم} أي يضاعف لهم الحسنة بعشر أمثالها ويزاد على ذلك إلى سبعمائة ضعف.
التوبة: عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ، قَالَ: «إِذَا تَقَرَّبَ العَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» ([11])
أيها الإخوة الكرام، إن فترة هذه الصفقة مع الله جل وعلا، هي هذه الحياة التي نعيشها، والله جل وعلا قد قدَّر لكل واحدٍ أجلَه، فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعةً ولا يستأخرون، فبعض الناس ربما جعل أول هذه الصفقة مخلَّطًا، وربما أمهل، وقال: إذا بلغت من العمر كذا وكذا، أو إذا حصل كذا وكذا، صحَّحت حالي، وهيأت وضعي، وأحسنت الصلة بالله جل وعلا، ولكن مَن يضمن له؟ فإن هذه الصفقة مجالها الحياة الدنيا، وقد تَحِل ساعة الأجل ويُستنفَد الوقت، وحينئذ يتمنى الإنسان وأنَّى له أن يصنع أو يغير؛ ولذلك قال الله جل وعلا: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الزمر: 53 - 58].
التجارة الرابحة مع الله تكون في طاعته وتقواه: من أطاع الله واجتنب معاصيه، فقد ربحت تجارته، وإن كان لا يملك بضاعة، قال لقمان لابنه يوصيه: يا بني اتخذ طاعة الله تجارة تأتك الأرباح من غير بضاعة.
قال الله سبحانه وتعالى: {في بُيُوتٍ أذن اللهُ أن تُرفعَ ويُذكَرَ فيها اسمُهُ يُسبحُ لهُ فيها بالغُدُو والأصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذِكِر الله وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة يخافون يوماً تتقلبُ فيه القلوب والأبصار * ليجزيهم اللهُ أحسَنَ ما عملوا ويزيدهم من فضلِهِ واللهُ يرزقُ من يشاءُ بغير حساب} [النور/36-38]
نفع الناس: أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد، (يعني مسجد المدينة) شهرا ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه ([12])
فتبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك الرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة.
هل عرفتم ما لكم من الأجر والثواب إن أنتم قمتم بهذه الأعمال الرائـعة ؟، إن القلوب قد جبلت على حب من أحسن إليها، فلماذا تبخلون على إخوانكم بهذا الإحسـان؟ ولماذا تحرمون أنفسكم هذا الأجر العظيم؟ .
هل يستطيع أحدنا أن يعيش بمعزل عن إخوانه؟ ألا يحتاج بعضنا البعض؟ طعامنا وشرابنــــا ولباسنا، ألا نتعاون جميعــا في هذا كلـه؟ أليست حياتنا مشتركة، أم أن كل واحد منا يعيش على كوكــب لوحده ؟! .
يا إخوة، إن المرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، فلماذا لا يسعى أحدنا في حاجة أخيه ليقضيها له، وليدخل السرور على قلبه؟
قال رجل: ((كنت أمشي مع سفيان بن عيينة، إذ أتاه سائل فلم يكن معه ما يعطيه، فبكى، فقلت: يا أبا محمد، ما الذي أبكاك؟ قال: أي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل خيراً فلا يصيبه))
وقال الحسن البصري: ((لأن أقضي حاجة لأخ لي أحب إلي من أن أعتكف سنة))
وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه -: ((إن الجنة لتساق إلى من سعى لأخيه المؤمن في قضاء حوائجه ليصلح شأنه على يديه)). أرأيتم إلى هذا السمو والرقي الخلقي ؟!! .
الإصلاح بين الناس: أمر مهم أيضا يجب ألا نغفل عنه، و هو إصلاح ذات البين، فلابد أن يسعى كل واحد منا ـ بقدر استطاعته ـ للإصلاح بين المتخاصمين، ولا يكتفي بأن يقف موقف المتفرج و كأن الأمر لا يعنيه طالما أنه ليس طرفا فيه، فالمؤمنون إخوة، و هم كالجسد الواحد، إن اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى و السهر، و طوبى لمن جعله الله مفتاح خير و إصلاح بين الناس، فبهذا تشيع المحبة والرحمة و السكينــة و المــودة في الأســـر و المجتمعات، و بهذا يتغير حالنا الذي نحن عليه الآن، و نصبح أقوى و أقرب إلى الله تعالى وإلى تحقيق العزة و النصر .
مساعدة الناس: كان يشتكي من آلام شديدة في قلبه فذهب إلى مدينة لندن وبعد الكشف وإجراء الفحوصات والتحاليل وجدوا لديه ضِيْقاً في إحدى شرايين القلب، فقرروا إجراء جراحة له لتوسيع ذلك الشريان، فرجع إلى القاهرة وقبل الذهاب إلى لندن بثلاثة أيام، كان جالساً مع صديقٍ له، ومقابل له في الجهة الأخرى محل جزارة، فرأى امرأةً عجوز في المحل تجمع فتات اللحم والعظم فذهب إليها سائلاً عن فعلها فأجابت: -زوجي توفي ولي ست بنات لم يذوقوا اللحم منذ شهور.
فتألم لحالتها وطلب من الجزار أن يعطيها كل أسبوع ما تحتاج من لحم فما كانت من المرأة إلا أن رفعت يديها ودعت له دعاءً صادقاً فرجع إلى بيته وهو يشعر بسعادة وقوة في بدنه حتى أنه فكَّر في عدم الذهاب إلى لندن، لكن بعد إلحاح زوجته وأولاده عليه ذهب، وهناك رأى العجب لقد ذهب المرض دونما علاج فبكى الرجل بكاءً شديداً قائلاً: -تاجرت مع ربي
نعم تاجر الرجل مع ربه تاجر بصناعته للمعروف تجارة بها النجاة في الدنيا والآخرة تجارة مع الخالق بها طلب لرضا الرحمن تجارة بها شفاء من الأمر بها تفريج للعثرات وسداد للديون
الايمان: الإيمان بالله - تبارك وتعالى - والإيمان بنبيِّه محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول الله تعالى في الآياتِ التي ذكرْناها مِن سورة الصف: ﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾، فالإيمان هو أصلُ الدِّين، ولا يقبل الله بدونه عملاً، يقول سبحانه: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلاَمُ ﴾ [آل عمران: 19]، ويقول: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، ويقول: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5]، فجعَل سبحانه الإيمان أولى الأعمال بالوجوب، وجعله شرطًا في قَبول ما سواه مِن الأعمال، وشرطًا للمتاجرة معه، بل أول الشروط، ويلي الإيمان في المتاجَرة الدفاع عنه، والمجاهدة في سبيلِ الله بالنفس والمال، وهذا مِن لوازم الإيمان، ومِن لوازم الاعتقاد بأيِّ شيءٍ الدِّفاع عنه، والدَّعوة إليه، وكل عمَل ممَّا أمر به أو ندَب إليه الله ورسوله، ففعله مِن المتاجرة معه، وكل عمَل ممَّا نهى عنه أو كرهه الله ورسوله، فتركه مِن المتاجرة معه، وكل ما هو وسيلة وسبيل إلى تحقيقِ الإيمان الكامِل ممَّا ذكر في الكتاب والسُّنة، فهو مِن المتاجرة معه - تبارك وتعالى
اليقين: أفضل التجارات الرابحة بلا جدال، ولكن حتى تربح وتحقق مبتغاك لابد من توافر شرط اليقين.
قال تعالى ” فإن خفت عليه فألقيه في اليم” أي إذا أحاط بك الخوف فاجعل كل مخاوفك خلف ظهرك، واجعل حسن اليقين هو مفتاح فرجك.
فأم موسى رغم شدة خوفها عليه استجابت للأمر الإلهي وألقت بفلذة كبدها في النهر، لأن يقينها بالله أقوى من شدة عاطفتها نحو وليدها الصغير.
اليقين بالله وفي الله.
فليكن كل ما تفعل خالصا لوجه الله تعالى، لا تريد به إلا رضا ربك عنك وعن عملك، بنية خالصة له وحده، بهذا تتضمن الربح كاملا من تجارتك.
ومن التجارة مع الله: داوم على ذكر الله، فإن لك بكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وكل كلمة طيبة صدقة.
تاجر في وقت فراغك، استثمره في التعلم، تعلم أمور الدين، واجعلها تجارة مع الله، اقرأ القرآن، واستمع له، تعلم الحديث، اقرأ في سيرة الرسول صل الله عليه وسلم وصحابته.
التجارة مع الله في كل عمل دنيوي تقوم به، تاجر في دراستك إنوي أنها في سبيل إعلاء شأن المسلمين وقضاء حوائجهم، وسبيلك إلى الكسب الحلال.
اعمل الخير ما استصغرته، فإن أصغر خير قد تفعله على سبيل المثال ابتسامتك في وجه أخيك، إماطة الأذى من الطريق، إسعاف حيوان، كلها تجارة مع الله.
تاجر في زوجتك وأبناءك، تربيتك لأبنائك، وتعليمهم وإسعاد أهل بيتك ومعونتهم وقضاء حوائجهم في سبيل مرضاة الله
تاجر في علاقاتك، بر والديك فأطعهما وقرهما، وصل رحمك، وأحسن إلى جارك.
تأمل: لك أن تتأمل ولله المثل الأعلى، لو أن تاجرًا من تجار الدنيا من أصحاب الثروات الكبرى، جاء إليك وقال: إني أريد أن أتاجر معك بمبلغٍ قدره كذا وكذا مليار من الريالات، فقلت: لا أملك، كيف أتاجر معك وكيف أدخل معك في صفقةٍ لا أملك ولو شيئًا يسيرًا منها؟!
فيقول لك: هذا مليار، خذه وتملكه، ثم تدخل معي التجارة فيه، فإنك تستعظم هذا، وتعده شيئًا عجيبًا غريبًا، ولله المثل الأعلى أن الله تعالى منحك أعظم من ذلك، هذه الحياة الدنيا كلها، هذه الروح والنفس الذي يتردد بين جنبيك، إلى غير ذلك من أنواع النعم، ثم كلفك ربك باليسير، عبادة تستقيم عليها، وطاعة لا تُفارقها، ومع ذلك كان من شروط هذه الصفقة أن الله يقول لك إن أخطأت ولم تقم بما أوجبت عليك، فإني لا أؤاخذك ولا أعاجلك، فإن لك مجالاً لأن تصحِّح من وضعك، وتعود كما كنت، بل إنك إذا صححت وضعك عدت إلى حالٍ أفضل من التي كنت عليها؛ كما يدل عليه قول الله جل وعلا: ﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
أيها الإخوة الكرام، هذه هي التجارة الرابحة، وهذه هي الصفقة النافقة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمن، وألا يضيع حياته في أمور الحياة الدنيا على نحو يُسخط الله جل وعلا، ويجعله في نهاية الأمر في خسرانٍ مبين.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
إعداد: الشيخ أحمد أبو عيد