وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا للشيخ أحمد أبو عيد






الحمد لله العفو الغفور، لا تَنقضي نعمه، ولا تحصى على مر الدهور، وسع الخلائق حِلمه مهما ارتكبوا من شرور، سبقت رحمته غضبه من قبل خلق الأيام والشهور، يتوب على من تاب ويغفر لمن أناب ويجبر المكسور.
وأشهد أن لا إله إلا الله جعل الظلمات والنور، خلق سبع سموات طباقًا ما ترى فيها من تفاوت أو فطور، أنزل من السماء ماء فمنه أنهار وآبار وبحور، وفي الأرض قطع متجاورات منها الخصبة ومنها البور، جعل الليل لباسًا والنوم سباتًا وفي النهار نشور.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله كامل النور، المرفوع ذكره في التوراة والإنجيل وكذلك في الزبور، المزمل بالفضيلة، والمدثر بالطهر والعفاف، والمبرأ من الشرور.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا بدر البدور، وعلى الصحب والآل ومن تبِع، وقِنا بحبهم كل الشرور.
العناصــر
أولا: تعريف الوفاء                            ثانيا: فضل الوفاء بالعهد
ثالثاً: أهل الوفاء بالعهد                        رابعاً: مجالات الوفاء بالعهود
خامسا: حال الأمة في نقض العهد وأسبابه
الموضــــــــــوع
أولا : تعريف الوفاء
معنى الوفاء لغةً: الوفاءُ ضد الغَدْر، يقال: وَفَى بعهده وأَوْفَى. بمعنى، ووفى بعهده يفي وفاءً، وأوفى: إذا تمم العهد ولم ينقض حفظه.
معنى الوفاء اصطلاحًا: الوفاء هو: (ملازمة طريق المواساة، ومحافظة عهود الخلطاء) .
وقيل: (هو الصبر على ما يبذله الإنسان من نفسه، ويرهن به لسانه، والخروج مما يضمنه، وإن كان مجحفًا به). ومعنى الوفاء بالعهد : امتثال ما أمر الله به ورسوله، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله .
ثانيا: فضل الوفاء بالعهد
أمر الله به : قال الله تعالى"وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا "الإسراء
أي: أوفوا بالعهد الذي تعاهدون عليه الناس، والعقود التي تعاملون بها فإن كلا من العهد والعقد مسؤول عنه صاحبه: هل وفى به أم لا؟
وقال سفيان الثوري: عليك بالمراقبة لمن لا تخفى عليه خافية ، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء، وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة. " سهم إبليس وقوسه " لعبد الملك القاسم
وقال تعالى: "إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا" "النساء: 58" .
وجوب الالتزام بالعهد: قال تعالى : "فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ "البقرة ، وعن شداد بن أوس - t - عن النبي - r - قال: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ومن قالها من النهار موقنا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل، وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة» ([1])
من خصال العبودية: « العبودية في أربع خصال : الوفاء بالعهود ، والحفظ للحدود ، والرضا بالموجود ، والصبر عن المفقود([2])
الأجر العظيم عند الله: قال تعالى "وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا"
السؤال عنه يوم القيامة: قال الله -تبارك وتعالى -: " وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا "
من صفات أهل الجنة المكرمون:  قال تعالى﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾"المعارج
وقال في سورة (المؤمنون) في صفات المؤمنين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون:﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾"المؤمنون: 8"
من علامات الصادقين المتَّقين : قال تعالى:﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾"البقرة: 177".
قال تعالى:﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"
ثالثا: أهل الوفاء بالعهد
الوفاء من صفات الله تعالى: قال تعالى": قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80)"
الوفاء من صفات الأنبياء: أ-سيدنا ابراهيم u: قال تعالى" وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى"
ب-سيدنا إسماعيل -u:  قال تعالى﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ﴾ . سورة مريم
ج-سيدنا محمد r: جعل علي بن ابي طالب ينام في فراشه ليرد الأمانات إلى أصحابها.
وعن حذيفة: أن المشركين أخذوه وأباه فأخذوا عليهم أن لا يقاتلوهم يوم بدر فقال رسول الله r : فذكره . وعن مصعب بن سعد قال: أخذ حذيفة وأباه المشركون قبل بدر فأرادوا أن يقتلوهما فأخذوا عليهما عهد الله وميثاقه أن لا يعينان عليهم فحلفا لهم فأرسلوهما فأتيا النبي r فأخبراه فقالا إنا قد حلفنا لهم فإن شئت قاتلنا معك فقال: فذكره بلفظ : نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم . وحدثنا أبو الطفيل : حدثنا حذيفة بن اليمان قال : ما منعني أن أشهد بدرا إلا أن خرجت أنا وأبي حسيل قال : فأخذنا كفار قريش قالوا : إنكم تريدون محمدا فقلنا : ما نريده ما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لتنصرفن من المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله r فأخبرناه الخبر فقال : انصرفا نفي لهم ... . الخ([3])
 الوفاء مِن صفات المؤمنين:  قال تعالى "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ"
أ-أبو بكر: عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r: لَوْ قَدْ جَاءَ مَال الْبَحْرَيْنِ قَد أَعْطَيْتُكَ هكَذَا وَهكَذَا وَهكَذَا فَلَمْ يَجِى مَالُ الْبَحْرَيْنِ حَتَّى قبِضَ النَّبِيُّ r فَلَمَّا جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَمَرَ أَبُو بَكْرٍ، فَنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ r عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِيَّ r، قَالَ لِي: كَذَا وَكَذَا فَحَثَى لِي حَثْيَةً، فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ وَقَالَ: خُذْ مِثْلَيْهَا "([4]لما كان النبي - r - أولى الناس بمكارم الأخلاق أدى أبو بكر مواعيده عنه، ولم يسأله البينة على  ما ادعاه.
ب-زوجة نبي الله أيوب u: يقول الشيخ عائض القرني: الوفاء غالٍ فأين الأوفياء : من أعظم العارفين بالله ، والمستسلمين لقضائه ، والراضين بحكمه ، نبي الله أيوب – u – فقد ابتلي بضرٍ في جسده وماله وولده ، حتى لم يبق من جسده مغرز إبرةٍ سليما سوى قلبه ، ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه ، غير أن زوجته حفظت ودّه لإيمانها بالله ورسوله ، فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحواً من ثماني عشرة سنة ، لا تفارقه صباحاً ولا مساء إلا بسبب خدمة الناس ، ثم تعود إليه ، فلما طال المطال واشتد الحال ، وتم الأجل المقدر ، تضرع إلى رب العالمين ، وإله المرسلين ، وأرحم الراحمين ، وناداه : " أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ " ، فعند ذلك استجاب له ، وقبل دعوته ، ولبى نداءه ، فأمره أن يقوم من مقامه ، وأن يضرب الأرض برجله ، ففعل ذلك ، فأنبع الله عيناً ، وأمره أن يغتسل منها ، فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى ، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عيناً أخرى وأمره أن يشرب منها ، فأذهبت ما كان في باطنه من السوء ، وتكاملت العافية ظاهراً وباطناً ، وذلك كله ثمرة الصبر ، ونتيجة الاحتساب ، وفائدة الرضى ([5])
ومِن عجائبِ الوفاءِ : أتى شابَّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب - t - وكان في المجلس، وهما يقودان رجلاً من البادية فأوقفوه أمامه، قال عمر: ما هذا؟ قالا: يا أمير المؤمنين، هذا قتل أبانا، قال: أقتلت أباهم؟ قال: نعم قتلته، قال: كيف قتلتَه؟ قال: دخل بجمله في أرضي، فزجرته فلم ينزجر، فأرسلت عليه ‏حجرًا وقع على رأسه فمات، قال عمر: النفس بالنفس، لا بد أن تُقتل كما قتلت أباهما، وانظروا إلى سيدنا عمر لم يسأل عن أسرة هذا الرجل، هل هو من قبيلة قويَّة أو ضعيفة؟ هل هو من أسرة معروفة ولها أهميَّة في المجتمع؟ كل هذا لا يهم عمر - t - لأنه لا يجامل أحدًا على حساب شرع الله، ولو كان ‏ابنه ‏القاتل لاقتصَّ منه.
قال الرجل: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي رفع السماء بلا عمد ‏أن تتركني ليلة؛ لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في
 البادية، فأُخبِرُهم ‏بأنك ‏سوف تقتلني ثم أعود إليك، والله ليس لهم عائلٌ إلا الله ثم أنا، قال عمر: مَن يكفلك أن تذهب إلى البادية ثم تعود إليَّ؟ فسكت الناس جميعًا؛ إنهم لا يعرفون اسمه ولا داره ‏ولا قبيلته، فكيف يكفلونه؟ وهي كفالة ليست على مائة دينار، ولا على عقار، ولا على
ناقة، إنها كفالة على الرقبة أن تُقطع بالسيف.
فسكت الناس وعمر مُتأثر؛ لأنه ‏وقع في حيرة، هل يقدم فيقتل هذا الرجل وأطفاله يموتون جوعًا هناك؟ أو يتركه فيذهب بلا كفالة فيضيع دم المقتول؟ وسكت الناس ونكَّس عمر ‏رأسه والتفت إلى الشابَّين: أتعفوان عنه؟ قالا: لا، مَن قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين، قال عمر: مَن يكفل هذا أيها الناس؟ فقام أبو ذر الغفاريّ بشيبته، وقال: يا أمير المؤمنين، أنا أكفله، قال عمر: هو قَتْل، قال: ولو كان قاتلاً! قال: أتعرفه؟ قال: ما أعرفه، قال: كيف تكفله؟ قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين فعلمت أنه لا يكذب، وسَيَفِي بعهده إن شاء الله، قال عمر: يا أبا ذر، أتظن أنه لو تأخَّر بعد ثلاث أني تاركك؟ قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين، فذهب الرجل وأعطاه عمر ثلاث ليالٍٍ، يُهيِّئ فيها نفسه، ويُودع ‏أطفاله وأهله، وينظر في أمرهم بعده ثم يأتي ليُقْتَص منه؛ لأنه قتل، وبعد ثلاث ليالٍ لم ينسَ عمر الموعد، وفي العصر ‏نادى ‏في المدينة: الصلاة جامعة، فجاء الشابَّان، واجتمع الناس، وأتى أبو ‏ذر ‏وجلس أمام عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال: ما أدري يا أمير المؤمنين! وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس، وكأنها تمرُّ سريعة على غير عادتها، وقبل الغروب بلحظات، إذا بالرجل يأتي، فكبَّر عمر وكبَّر المسلمون‏ معه، فقال عمر: أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك ما شعرنا بك ‏وما عرفنا مكانك.
قال: يا أمير المؤمنين، والله ما عليَّ منك ولكن عليَّ من الذي يعلم السرَّ وأخفى، ها أنا يا أمير المؤمنين، تركت أطفالي كفراخ‏ الطير لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل، وخشيت أن يُقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس، فسأل عمر بن الخطاب أبا ذر: لماذا ضمنته؟ فقال أبو ذر: خشيت أن يُقال: لقد ذهب الخير من الناس، فوقف عمر وقال للشابَّين: ماذا تَرَيَان؟ قالا وهما يبكيان: عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه ووفائه بالعهد، وقالوا: نخشى أن يُقال: لقد ذهب العفو من الناس، قال عمر: الله أكبر، ودموعه تسيل على لحيته.
وَفاءُ العَهدِ من شِيَمِ الكرامِ

**
ونقضُ العَهدِ من شِيَمِ اللِّئَامِ 
وعندي لا يُعَدُّ من السَّجايا

**
سِوَى حِفظِ المَوَدَّةِ والذِّمامِ  
وما حُسنُ البِداءَةِ شرطُ حُبٍّ

**
ولكن شرطُهُ حسنُ الخِتامِ
 
وليسَ العهدُ ما ترعاهُ يوماً

**
ولكن ما رعَيتَ على الدَّوامِ

نَقَضتمْ يا كرامَ الحيِّ عهداً

**
حَسِبناهُ يدومُ لألفِ عامِ

وكنَّا أمسِ نطمعُ في جِوارٍ
      
**
فصرنا اليومَ نقنعُ بالسَّلامِ

جَرَى عهدُ الثّقاتِ على فَعالٍ

**
وعهدُ الغادرينَ على كلامِ

أَنا الخِلُّ الوفيُّ وإنَّ نفسي

**
تَفي حقَّ الصَّديقِ على التَّمامِ

أُراعي حقَّهُ ما دامَ حيّاً

**
وبعدَ وفاتِهِ حقَّ العِظامِ

رابعا: مجالات الوفاء بالعهود:
الوفاء بعهد الله: اعلم علمني الله وإياك... أن الله اخذ علينا العهود والمواثيق وامرنا بالوفاء بها ونهانا عن نقضها: و أول هذه العهود الإيمان به وإفراده بالعبودية ولا نشرك به أحد، فقد اخذ الله عليك العهد والميثاق في عالم الذر وقد أقررت بذلك يقول سبحانه ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ﴾ "الأعراف: 172".
وعن أنس -t -قال: قال رسول الله r " يقول الله تعالى أهون أهل النار عذاباً لو كانت لك الدنيا كلها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أيسر من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً ولا أدخلك النار وأدخلك الجنة فأبيت إلا الشرك "([6]) ، فمن آمن بالله وعبده حق عبادته فعلم علم اليقين أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير فتوكل واستعان واستغاث ونذر وأحب وأبغض لله فقد أوفى بعهد الله تعالى، ومن أحب غيره أو اعتقده في غيره أنه ينفع ويضر فنذر وخاف واستعان به من الولي أو النبي فقد نقص عهد الله من بعد ميثاقه
ومن الأمثلة على ذلك
أ-إبراهيم -u -فهو إمام الحنفاء وإمام الأوفياء يقول سبحانه وتعالى ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ "النجم: 37"،  يقول ابن كثير - رحمه الله - قال سعيد بن جبير - " وفي " أي بلغ جميع ما أمر به، وقال ابن عباس " وفي " لله بالبلاغ، وقال سعيد بن جبير " في " ما أمر به، وقال قتادة " وفي " طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه وهذا القول هو اختيار ابن جرير وهو يشمل الذي قلبه ويشهد له قوله تعالى ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ "البقرة: 124".
 ب-وفاء أنس بن النضر -t -: عن أنس بن مالك - t - قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال
 بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ الجنة، ورب الكعبة إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما أصنع، قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف وطعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾"الأحزاب: "([7])
 ج-وفاء أعرابي: هذا أعرابي آمن بالنبي - r - وبايعه على الجهاد في سبيل الله فعن شداد بن الهاد - t - أن
رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي - r - فآمن به واتبعه ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي - r - أصحابه فلما كانت غزوة غنم النبي - r - سبياً فقسم، وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي - r - فأخذه فجاء به إلى النبي - r - فقال: ما هذا؟ قال: " قسمته لك "، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكنني اتبعتك على أن أرمي ها هنا - وأشار إلى حلفه - بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال " إن تصدق الله يصدقك " فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي - r - أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه " ثم كفنه النبي - r - في جبة النبي - r - ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته " اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً فقتل شهيداً أنا شهيد على ذلك "([8])
 الوفاء مع رسول الله r: اعلم علمني الله وإياك: أن العبد إذا نطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وجب عليه أن يفي بمضمون تلك الشهادة لأن الشهادة إقرار وتعهد من العبد أن لا إله سوى الله تعالى الذي أخذه علينا في عالم الذر، والآن نقف مع الوفاء بعهد رسوله r فاعلم زادك الله علماً: أن الوفاء مع النبي - r - إنما يكون بطاعته وإتباعه والتمسك بسنته والعض عليها بالنواجذ فإن طاعته من طاعة الله يقول سبحانه وتعالى ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ "النساء: 80" بل إنه سبحانه جعل طاعته من موجبات الهداية فقال سبحانه ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ﴾ "النور
 واعلم أنك لن تحقق الوفاء بعهد الله إلا إذا حققت الوفاء مع نبيه -r - لذا قال النبي - r - كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل ومن يأبى يا رسول الله؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" ([9])
الوفاء مع الناس: اعلم زادك الله علماً أن الوفاء بعهد الله ورسوله يقتضي الوفاء مع عباد الله ولقد أمرنا سبحانه بذلك في كتابه فقال سبحانه ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ ﴾ "النحل"
 فالله سبحانه أمرنا بالوفاء سواء كانت هذه العهود بين المسلم وربه أو كانت بينه وبين رسوله - r - كالتي كانت بين النبي والأنصار، أو كانت بينه وبين أخيه المسلم، أو كانت بينه وبين الكافرين فالآية عامة تشمل جميع تلك العهود والمواثيق.
وعهد الله: هو العهد الذي يوثق باسمه ويقام تحت سلطانه ونقض العهد ونكثه وعدم الوفاء به، والذي يعاهد قد جعل الله هو الضامن لما كفل من عهد...
والوفاء بالعهود هو الضمان لبقاء عنصر الثقة في التعامل بين الناس وبدون هذه الثقة لا تستقر الحياة ولا يعم الرخاء ولا يسود الأمن والسلام.
وإنه لجرم عظيم أن يعطي الإنسان عهداً باسم الله ويتخذ من هذا الاسم الكريم مدخلاً إلى ثقة الناس به
 واطمئنانهم إليه، ثم يكون منه غدر وخيانة.
وتأمل أخي المسلم إلى ذلك المثل الذي ضربه الله للعهود ولمن نقضها، حيث أنه سبحانه شبه الذي ينقض العهود بامرأة خراق إلا عقل لها ولا رأى لها فهي تغزل حتى إذا أتمت غزلها نقضته مرة أخرى فهل يرضى المسلم العاقل أن يكون مثل تلك المرأة الحمقاء؟!
 ثم أوضح سبحانه أنه يختبرنا بتلك العهود فقال ﴿ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ﴾ "النحل: 92"
قال ابن جرير أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ﴿ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ "النحل: 92" فيجازى كل عامل بعمله من خير وشر.
 واسمع إلى تلك الوصية الربانية التي يوصيك الله فيها بالوفاء بالعهد وينهاك أن تنقض العهد من أجل عرض من الدنيا قليل فيقول سبحانه ﴿ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ "النحل: 95، 96
الوفاء للزوجة: اعلم علمني الله وإياك: أن العهود التي ينبغي لك الوفاء بها مع عباد الله كثيرة منها: الوفاء بعقد الزواج والوفاء بشروطه والوفاء للزوجة وكذا الزوج فإنه من أسمى العقود والعهود وقد سماه سبحانه وتعالى ميثاقاً غليظاً وحث على الوفاء به فقال سبحانه ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾
فليكن الزوج وفيّا لزوجته يحسن صحبتها ويعرف حقها فهي وصية النبي - r - لجميع الأزواج فقال استوصوا بالنساء خيراً " فكم خدمتك زوجتك وكم سهرت من أجلك، وكم شقيت معك، وكافحت لتبني حياتك ومستقبلك، فاعرف لها فضلها واحفظ لها جميلها، وكن وفيا لها، لا تغدر بها ولا تخنها ولا تضيعها.
 واقتد بالنبي - r - فلقد كان المثل الأعلى في الوفاء لأزواجه تزوج خديجة - رضي الله عنها - فأقام معها خمساً وعشرين سنة لم يتزوج عليها حتى ماتت، وكان بعد موتها يذكرها بالجميل ويثنى عليها ويبر أهلها وخلائلها وفاء لها، حتى غارت عائشة - رضي الله عنها " ما غرت على أحد من نساء النبي - r - - ما غرت على خديجة - رضي الله عنها، وما رأيتها قط، ولكن كان يكثر ذكرها ربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد"([10])
  وفاء الزوجة لزوجها: ولتكن المرأة وفيه لزوجها، فإن فضله عليها عظيم، وحقه عليها كبير، حتى قال النبي - r - لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر ولو صلح أن يسجد بشر لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها والذي نفسي بيده لو أنه من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد ثم أقبلت تلحسه ما
أدت حقه"([11])
 فحسب المرأة أن تحاول أن تقترب من الكمال وإن لم تبلغه حسبها أن تجتهد في الوفاء لزوجها وإن لم تف بحقه ولتحفظ المرأة زوجها في نفسها وماله ولتجتهد في تجميل صورتها وتحسين هيئتها لذا قال النبي - r - " إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها، قيل لها أدخلي الجنة من أي أبواب -الجنة إن شئت "([12])
 ومن أروع أمثلة الوفاء من الزوجة ما حفظه التاريخ لفاطمة بنت عبد الملك بن مروان - رحمها الله - حيث أن زوجها عمر بن عبد العزيز خليفة المسلمين رغبها بالتبرع بحليها إلى بيت مال المسلمين فتبرعت به، ثم لم يلبث عمر أن مات، ولم يترك لها ولا لأولادها شيئاً، فجاء مسئول بيت المال، فقال لها: إن حليك ومجوهراتك كلها موجودة احتفظت بها لك لمثل هذا اليوم، ولم أودعها بيت المال وقد جئت استأذنك لآتيك بها فقالت: لقد تبرعت بها لبيت المال طاعة لأمير المؤمنين في حياته، وما كنت لأطيعه حياً واعصيه ميتاً ([13])
 الوفاء بالدين والوفاء بموعده: فالمسلم يجب عليه أن يتصف بصفة الوفاء مع إخوانه ويحذر من مخالفة الوعد ونقض العهد. لأن الله نهانا عن إخلاف الموعد وعدم الوفاء بما نقول بل جعل ذلك من أعظم الذنوب وأكبر الآثام فقال سبحانه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ "الصف.
فالذي يخلف الوعد فيه صفة من صفات المنافين قال رسول الله r" أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر "([14])  
وعن أبى هريرة عن رسول الله - r -: أنه ذكر أن رجلا من بنى إسرائيل سأل بعض بنى إسرائيل أن يسلفه ألف دينار قال ائتني بالشهود أشهدهم عليك قال: كفى بالله شهيدا قال: فأتني بكفيل قال: كفى بالله كفيلا قال: فدفعها إليه إلى أجل مسمى: فخرج في البحر وقضى حاجته ثم التمس مركبا يقدم عليه للأجل الذى أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها الدنانير وصحيفة منه إلى صاحبها ثم سد موضعها ثم أتى بها البحر فقال: اللهم إنك تعلم أنى تسلفت من فلان ألف دينار وسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا فرضى بك وسألني شهودا فقلت: كفى بالله شهيدا فرضى بك وقد جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذى له فلم أجد مركبا وإني أستودعكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركبا يخرج إلى بلده فخرج الرجل الذى كان سلفه رجاء أن يكون مركبا قد جاء بماله فإذا هو بالخشبة فأخذها لأهله حطبا فلما كسرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الرجل فأتاه بألف دينار فقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذى أتيت فيه فقال: هل كنت بعثت إلى بشيء قال: نعم قال: فإن الله عز وجل قد أدى عنك فانصرف بالألف دينار راشدا" ([15])
الوفاء بالعهود للأعداء: ومن صور الوفاء التي حث عليها الله وأمر بها الوفاء مع العدو وعد الغدر والخيانة، يقول المولى سبحانه وتعالى ﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ "التوبة: 4".
 ويقول صاحب المنار " والآية تدل على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دام العهد معقوداً، وعلى أن العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته، وأن شرط وجوب الوفاء به علينا محافظة العدو المعاهد لنا عليه بحذافيرها من نص القول وفحواه و الحنه المعبر عنها في هذا العصر بروحه فإن نقض شيئاً ما من شروط العهد أو أدخل بغرض ما من أغراضه عدَّ ناقضاً له إذ قال ﴿ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا ﴾ "التوبة: 4" ولفظ شيء أعم الألفاظ وهو نكرة في سياق النفي فيصدق بأدنى إخلال بالعهد "
 خامسا: حال الأمة في نقض العهد وأسبابه
• نقض العهد مع الله تعالى؛ بهجر طاعته، واتِّباع سبُل الغواية، والإعْراض عن الهداية، والانحِدار في جرف المعْصية، واتباع الأهواء والشَّهوات، وخذْلان دينِه حين المطالبة بالنُّصرة، وموالاة أعدائه، ومحاربة أوليائه، ونحو ذلك ممَّا يضادّ الإيمان وكماله، ويظهر على قول الإنسان وعمله.
• خلْع يد الطَّاعة عن سنَّة رسول الله - r - واستِدْبار أمرِه ومُقابلته بالإعراض عن العمَل، بالإضافة إلى التولِّي عن أرض معركةٍ طُلِب فيها نُصرة سنَّته وهدْيه - r.
• نقض العهد مع الزَّوجة والأوْلاد، بالتَّقصير في الحقوق وعدم أدائها، وعدم رعايتهم في دينهم وأخلاقهم، وتعريضِهم للفتن السلوكيَّة والأخلاقيَّة، وتيْسير سبُل المعاصي لهم في ظاهرِهم وباطنهم، ممَّا يعدُّ خيانة للأمانة، ونقضًا لإبرام التَّربية والتَّهذيب والرِّعاية، وإخفاقًا في اختبار أعدَّه الله - تعالى - ليبلوَ به وفاء مدَّعي الإيمان؛ مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ "الأنفال: 27 - 28".
• ما يقع فيه الكثير من المعلّمين مع تلاميذِهم، من عدَم الوفاء بميثاق التَّربية والتَّعليم، فترى التَّقصير في التَّدريس، وعدم حسن العرْض للموادّ، وقضاء وقت الحصَّة الدّراسيَّة فيما لا يفيد الطَّالب، فضلاً عن تقْصير المعلِّم في رعاية الطَّالب ونُصْحه وإرْشاده، فلا جرم أن يكون الطَّالب على شاكلة أستاذِه أيضًا منغمسًا في نقْض العهد، وقطْع أوصال الطَّاعة والولاء، والاحترام والتَّقدير، والشُّكْر والعرفان والتَّكريم، وصدَق الله - سبحانه -: ﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
• ما نراه ونشاهده من صنيع الموظَّفين في كثير من الدَّوائر الحكوميَّة من تقصير في الأعمال، وعدم القيام بِمصالح النَّاس، والبطْء في إنهاء الإجراءات، والتَّشديد والتَّعسير والتَّلميح للرَّشاوى من طرف خفيّ، فإنَّ هذا من نقْض العهْد مع العمل وميثاق الشَّرف.
فانظر - رحِمني الله تعالى وإيَّاك - إلى هذه الآفة القديمة الجديدة التي تفشَّت وانتشرتْ وأظلَّت بغبارها الأسود
على معاملات المسلمين، واتّفاقاتهم في شتَّى الميادين، ممَّا يؤدِّي إلى التَّأخُّر في ذيل الرَّكب، والعجْز عن اللّحاق بحضارة سلَفِنا ومجْدِهم.
ولأنّ كلَّ داء له أسباب عرَفها مَن عرفها وجهِلها مَن جهلها، فإنَّ هذا المرض العضال حريّ بأن نبحث عن أسبابه ودوافعه، ونُحاول وضْع اليد على موطن الجرح مع حُسن تشْخيص؛ للقضاء عليه والتخلُّص من أعراضه وبقائه، وإذا أخفق المرْء في علاجه، فلا أدْنى من تَحجيمه وتقْويضه، إمَّا في الفرد وإمَّا في المجتمع.
فمن الأسباب التي يُمكن أن تكون الدَّافع لنحْو هذا السّلوك الخبيث:
أصْل الجبلَّة والخلقة؛ فإنَّ الإنسان ظلوم جهول، فظُلْمه بسبب جهْلِه، فأمَّا الظلم فالانتِقاص، وخُلْف الوعد انتِقاص، وأمَّا الجهل فنقْص، وهو متوافق مع مفهوم نقض العهد.
عدم التحلّي والتزيُّن بزينة الرّسالة، وضوء النبوَّة، وجواهر إكليل السنَّة، ولآلئ القرآن الكريم.
عدم التصوّر السليم؛ فإنَّ المرء لو تصوَّر قُبْح هذا الصَّنيع عقلاً لما أقْدم عليه، فضلاً عن تصوّر قبْحِه شرعًا.
ضعف الهمَّة الدَّافعة إلى التَّغيير والتحوّل من حالٍ إلى حال، وهذا عنصر يَحتاج لبحث بمفرده؛ فإنَّ دفع الهمَّة يحيطه جملة من العوامل لتشخيصه ثمَّ استئصاله؛ كالرّكون لأصْل الطَّبع، والاستِسْلام للفتور، والتَّأثّر بالبيئة المحيطة المثبطة، بالإضافة إلى تسلُّل روح اليأْس في بعض الأحايين.
الهوى والشَّهوة؛ فالهوى يحثُّ على مخالفة مستقيم المنقول والمعْقول، والشَّهوة تدفع لهضْم حقِّ الآخرين في سبيل إشْباع الرَّغبات الشَّخصيَّة والأغراض الخاصَّة.
فهذه جملة من الأسباب الَّتي يجب على المرْء الوقوف معها، والتخلّي عنها، والتحلّي بضدِّها؛ ليتخلَّص من خلُق ذميم لا يليق بعباد الله الموحّدين، وعلاجها يسير بأمر الله - تعالى - من خلال ربْط النَّفس بخالقها وبارئِها وشرْعِه ووحْيه، والتشبُّع من القرآن الكريم والسنَّة النَّبويَّة، والتشبّه بالعالمين العامِلين من سلفنا الصالح - y - وإدْراك مدى خطورة هذا الأمر على المجْتمعات وكيانها، وأنَّه هضمٌ لحقوق الآخرين في صورة لا تُفْضي إلاَّ إلى خسران مبين على الخاصَّة والعامَّة، فيجب أن تُمحى من مُجتمعاتِنا المسلمة.
خامساً: عقوبة نقض العهد
البغض الشديد لناكث العهد: قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون "الصف. المقت: أشد البغض. وفي الآية وعيد شديد لمخالف الوعد، وناكث العهد.
من علامات النفاق: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -r- قَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ » ([16]) ، ، وزاد في رواية « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ » ([17]).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص t أن رسول الله - r - قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن  كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد
غدر، وإذا خاصم فجر» ([18])
والنفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو نوعان: اعتقادي، ... وعملي. فالاعتقادي: هو النفاق الأكبر، وصاحبه مع الكفار مخلد معهم في النار. قال الله تعالى: "المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون * وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم" "التوبة (67، 68) " . وقال تعالى: "إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يرآؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا" "النساء (142) " إلى آخر الآيات.
والنفاق العملي: هو النفاق الأصغر وهو من كبائر الذنوب.
يقول الشيخ عائض القرني في: كما تدين تُدان عجباً لنا ! نريدُ من الناسِ أن يكونوا حلماء ونحنُ نغضبُ ، ونريدُ منهم أن يكونوا كرماء ونحن نبخلُ ، ونريد منهم الوفاء بحسن الإخاءِ ، ونحن لا نؤدي ذلك "([19])
كبيرة من الكبائر: قال ابن حجر الهيتمي : عدم الوفاء بالنذر سواء أكان نذر قربة أم نذر لجاج وعد هذا ظاهر لأنه امتناع من أداء حق لزمه على الفور ، فهو كالامتناع عن أداء الزكاة ، إذ الصحيح عندنا أن النذر يسلك به مسلك واجب الشرع في أحكامه فكذلك يسلك به مسلك الواجب في عظيم إثم ترك ما يترتب عليه من أن تركه كبيرة وفسق ([20])
جعل الله تعالى ناقض العهد بمنزلة الحيوانات: قال تعالى: " إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ " "الأنفال"-
من صفات أهل النار: كما في قوله - جلَّ وعلا -: ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ "الرعد: 25"
من صفات الفاسِقين الخارجين عن طاعة الله وشريعته: قال تعالى﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ "البقرة: 26 - 27"، وجعله الله - تعالى - من صنيع المنافقين كما في آية التَّوبة: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ "التوبة: 75 - 77".
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: الشيخ احمد أبو عيد
01098095854
نسألكم الدعاء



([1]) صحيح البخاري
([2]) الزهد الكبير للبيهقي
([3]) صحيح مسلم
([4]) متفق عليه
([5])فوائد من كتاب أسعـد امـرأة في العـالـم لعائض القرنى
([6]) متفق عليه
([7]) صحيح البخاري
([8]) صحيح الترغيب والترهيب
([9]) صحيح البخاري
([10]) صحيح البخاري
([11]) صحيح ابن ماجة
([12]) مشكاة المصابيح
([13])جوامع الكلم في القرآن
([14]) صحيح البخاري
([15]) صحيح البخاري
([16]) صحيح مسلم
([17]) صحيح مسلم
([18]) صحيح البخاري
([19])كتاب لا تحزن
([20]) الزواجر عن اقتراف الكبائر - ابن حجر الهيتمي.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات