حرمة السخرية والاستهزاء بالآخرين د أحمد محمد أبو عيد

  




pdf


word



حرمة السخرية والاستهزاء بالآخرين د/ أحمد محمد أبو عيد

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وعلى آله وصحبهِ، ومن سار على نهجه وهَدْيِه

أما بعدُ:

العناصر

أولًا: بيان آية الحجرات                                   ثانيًا: عاقبة الاستهزاء بالآخرين

ثالثًا: صور من السخرية والاستهزاء

الموضوع

أولًا: بيان آية الحجرات

حرمة السخرية من الآخرين: قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11].

(تَلْمِزُوا): اللَّمْزُ: الاغتياب وتتبع المعايب، يُقال: لَمَزه يَلْمِزُه ويَلْمُزُه، قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [التوبة: 58]، ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ ﴾ [التوبة: 79]، ﴿ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحجرات: 11]؛ أي: لا تلمزوا الناس فيَلْمِزُوكم فتكونوا في حكم مَن لَمَز نفسه، ورجل لمَّاز ولُمَزة: كثير اللمز، قال تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾ [الهمزة: 1]، (تَنَابَزُوا) النَّبْزُ التلقيبُ، قال: ﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَاب ﴾ [الحجرات: 11][1].

وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية روايات منها: أنها نزلت في قوم من بنى تميم، سخروا من بلال، وسلمان، وعمار، وخباب.. لما رأوا من رثاثة حالهم، وقلة ذات يدهم.

ومن المعروف بين العلماء، أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.

وقوله: يَسْخَرْ من السخرية، وهي احتقار الشخص لغيره بالقول أو بالفعل، يقال: سخر فلان من فلان، إذا استهزأ به، وجعله مثار الضحك، ومنه قوله-تبارك وتعالى- حكاية عن نوح مع قومه:.. قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ .

أى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان، لا يحتقر بعضكم بعضا ولا يستهزئ بعضكم من بعض.

وقوله: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهى عن السخرية.

أى: عسى أن يكون المسخور منه خيرا عند الله-تبارك وتعالى- من الساخر، إذ أقدار الناس عنده-تبارك وتعالى- ليست على حسب المظاهر والأحساب.. وإنما هي على حسب قوة الإيمان، وحسن العمل.

وقوله: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ،

معطوف على النهى السابق، وفي ذكر النساء بعد القوم قرينة على أن المراد بالقوم الرجال خاصة.

أى: عليكم يا معشر الرجال أن تبتعدوا عن احتقار غيركم من الرجال، وعليكن يا جماعة النساء أن تقلعن إقلاعا تاما عن السخرية من غيركن.

ونكر- سبحانه - لفظ قَوْمٌ ونِساءٌ، للإشعار بأن هذا النهى موجه إلى جميع الرجال والنساء، لأن هذه السخرية منهى عنها بالنسبة للجميع.

وقد جاء النهى عن السخرية موجها إلى جماعة الرجال والنساء، جريا على ما كان جاريا في الغالب، من أن السخرية كانت تقع في المجامع والمحافل، وكان الكثيرون يشتركون فيها على سبيل التلهي والتلذذ.

حرمة اللمز: ثم قال-تبارك وتعالى- وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أى: ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة سواء أكان على وجه يضحك أم لا، وسواء كان بحضرة الملموز أم لا، فهو أعم من السخرية التي هي احتقار الغير بحضرته، فالجملة الكريمة من باب عطف العام على الخاص.

يقال: لمز فلان فلانا، إذا عابه وانتقصه، وفعله من باب ضرب ونصر.

ومنهم من يرى أن اللمز ما كان سخرية ولكن على وجه الخفية، وعليه يكون العطف من باب عطف الخاص على العام، مبالغة في النهى عنه حتى لكأنه جنس آخر.

أى: ولا يعب بعضكم بعضا بأى وجه من وجوه العيب.

سواء أكان ذلك في حضور الشخص أم في غير حضوره.

وقال- سبحانه - وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ مع أن اللامز يلمز غيره، للإشارة إلى أن من عاب أخاه المسلم، فكأنما عاب نفسه، كما قال- تعالى: ( فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ، تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) .

النهي عن التنابز بالألقاب: قوله: (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أى: ولا يخاطب أحدكم غيره بالألفاظ التي يكرهها، بأن يقول له يا أحمق، أو يا أعرج، أو يا منافق.. أو ما يشبه ذلك من الألقاب السيئة التي يكرهها الشخص.

فالتنابز: التعاير والتداعي بالألقاب المكروهة، يقال: نبزه ينبزه- كضربه يضربه- إذا ناداه بلقب يكرهه، سواء أكان هذا اللقب للشخص أم لأبيه أم لأمه أم لغيرهما.

النهي عن ارتكاب هذه الرذائل: قوله-تبارك وتعالى-: (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) تعليل للنهى عن هذه الرذائل والمراد بالاسم: ما سبق ذكره من السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، والمخصوص بالذم محذوف.

أى: بئس الفعل فعلكم أن تذكروا إخوانكم في العقيدة بما يكرهونه وبما يخرجهم عن صفات المؤمنين الصادقين، بعد أن هداهم الله-تبارك وتعالى- وهداكم إلى الإيمان.

وعلى هذا فالمراد من الآية نهى المؤمنين أن ينسبوا إخوانهم في الدين إلى الفسوق بعد اتصافهم بالإيمان.

قال صاحب الكشاف: الاسم هاهنا بمعنى الذّكر، من قولهم: فلان طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته.. كأنه قيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين.. أن يذكروا بالفسق .

ويصح أن يكون المراد من الآية الكريمة نهى المؤمنين عن ارتكابهم لهذه الرذائل، لأن ارتكابهم لهذه الرذائل، يؤدى بهم إلى الفسوق والخروج عن طاعة الله-تبارك وتعالى- بعد أن اتصفوا بصفة الإيمان.

وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام ابن جرير فقال ما ملخصه: وقوله بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ.

يقول-تبارك وتعالى-: ومن فعل ما نهينا عنه، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه، فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن ونبزه بالألقاب، فهو فاسق، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه.

أن تسموا فساقا- بعد أن وصفتهم بصفة الإيمان.

وقال الإمام الفخر الرازي ما ملخصه: هذا أي قوله-تبارك وتعالى- بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ من تمام الزجر كأنه-تبارك وتعالى- يقول: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم، ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا فإن من يفعل ذلك يفسق بعد إيمانه، والمؤمن يقبح منه أن يأتي بعد إيمانه بفسوق.. ويصير التقدير: بئس الفسوق بعد الإيمان.

ويبدو لنا أن هذا الرأي أنسب للسياق، إذ المقصود من الآية الكريمة نهى المؤمنين عن السخرية أو اللمز أو التنابز بالألقاب، لأن تعودهم على ذلك يؤدى بهم إلى الفسوق عن طاعة الله-تبارك وتعالى- والخروج عن آدابه، وبئس الوصف وصفهم بذلك أى: بالفسق بعد الإيمان.

هم الظالمون: ثم ختم- سبحانه - الآية بقوله: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أى: ومن لم يتب عن ارتكاب هذه الرذائل، فأولئك هم الظالمون لأنفسهم، حيث وضعوا العصيان موضع الطاعة، والفسوق في موضع الإيمان.

هذا، ومن الإحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآية: وجوب الابتعاد عن أن يعيب المسلم أخاه المسلم، أو يحتقره، أو يناديه بلقب سيئ.

قال الألوسي: اتفق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره، سواء كان صفة له أم لأبيه أم لأمه أم لغيرهما.

ويستثنى من ذلك نداء الرجل بلقب قبيح في نفسه، لا على قصد الاستخفاف به، كما إذا دعت له الضرورة لتوقف معرفته، كقول المحدثين: سليمان الأعمش، وواصل الأحدب.

ثانيًا: عاقبة الاستهزاء بالآخرين

القلب هو محل نظر الله لعبادة وليس أشكالهم وصورهم: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» ([1])

فهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع بعيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة ، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال، ولعل من رأينا عليه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسب .

فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية ، ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة ، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة، بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة ، لا تلك الذات المسيئة، فتدبر هذا ، فإنه نظر دقيق.

حرمة الكبر: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ» ([2])

ومعنى بطر الحق: الاستنكاف عن قَبوله ورده، والنظر إليه بعين الاستصغار، وذلك للترفع والتعاظم، ومعنى غمط الناس: ازدراؤهم واحتقارهم.

صفة من صفات المنافقين: يكفي هذ الخلق (السخرية والاستهزاء) قبحا وسوءا أنه من صفات المنافقين؛ فالمنافقون هم أكثر الناس سخرية بالرسل وأتباعهم، وبما جاءت به الرسل عليهم السلام من الحق والهدى، قال تعالى في وصفهم﴿ وَإذا لقوا الذِينَ آمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة:14] وفي آية أخرى يقول ربنا سبحانه﴿ يَحْذرُ المُنَافِقونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تحْذرُونَ ﴾ [التوبة:64].

هلاك في الدنيا، وخسران يوم القيامة: قال تعالى: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾. وقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ [الرعد: 32].

خزي في الدنيا، وعذاب في الآخرة: هلاك ودمار في العاجلة، وعذاب مقيم في الآجلة. فذلك جزاء من عادى أولياء الله، واستهزأ بأحبابه وأصفيائه. ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب...". أي أعلمته بالهلاك والنكال.

عذاب مقيم في جهنم وبيس المصير: قال تعالى: ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [المؤمنون:111].

هؤلاء الذين كنتم تحتقرونهم وتشمئزون منهم وتسخرون منهم هم الفائزون، أما أنتم أيها المستهزئون فأنتم الخاسرون الهالكون.

يعاقبهم بأن يُذِلهم ويُخزيهم، ويُمَكّنَ لعباده المؤمنين من الضحك عليهم يوم القيامة. فالجزاء من جنس العمل، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المطففين: 29، 36].

ثالثًا: صور من السخرية والاستهزاء

للسخرية والاستهزاء صور عديدة وأشكال كثيرة، أعظمها قبحا وجرما:

الاستهزاء بالله تعالى: أن يستهزئ المرء بخالقه ومولاه؛ بالكفر به، والتمرد على دينه، والتجرّؤ على كتابه...

فمما لا يجهله أحد من المؤمنين: أن الله سبحانه وتعالى واحد أحد فرد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد، أول بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء، له الأسماء الحسنى والصفات العلا، له كل جلال وكمال وجمال، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].

غير أن كثيرا من الناس لم يَقدُروا الله حق قدره، فكان من أقبح كفرهم وعنادهم ونفاقهم الاستهزاء بالله والسخرية منه، سبحانه وتعالى عما يصفون، وتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

ومن صور الاستهزاء بالله:

الكفر والإلحاد والجحود؛ فمن الناس من لا يؤمن بالله، ويعتقد أنما يقع في الكون إنما هو من تصرف الطبيعة، فجعلوا من الطبيعة إلها يُعبَد من دون الله تعالى، حتى قال بعضهم – وبئس ما قال -: لا إله، والكون مادة، والطبيعة تخبط خبط عشواء ولا حدّ لقدرتها على الخلق.

 ومن الناس من أشرك بالله غيره، فاتخذ لنفسه أندادا يحبهم ويعظمهم ويعبدهم من دون الله، يفرح بالشرك ويشمئز من التوحيد، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الزمر: 45].

 

ومن الاستهزاء بالله تعالى: وَصْفُه بما لا يليق به سبحانه، كمن يصفه بالعجز والتقصير، والبخل، والظلم، وغير ذلك مما لا يليق بجلال الله وعظمته وفضله وعطائه. قال تعالى: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 181، 182]. وقال عز وجل: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ [المائدة: 64].

ومن الاستهزاء بالله تعالى: الاستهزاءُ بكلامه عز وجل؛ بالقرآن الكريم. فمن الناس من يشكك الناس في القرآن الكريم، ويطعن في أحكام القرآن ويصفها بالنقص والعجز عن مسايرة العصر المتطور حسب زعمهم، يجادلون بالباطل لصد الناس عن الحق، قال تعالى: ﴿ وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً ﴾ [الكهف: 56]. وقال تعالى: ﴿ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ ﴾ [الصافات: 12 - 17].

ومن الناس من يُعرض عن كتاب الله ويرفض أحكامه وأخلاقه، ويسعى بكل ما يملكه من جهد ووسيلة لصد الناس عنه وإبعادهم عنه. قال عز وجل: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ﴾ [الجاثية: 7 - 10].

الاستهزاء بالأنبياء والرسل:

فالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام - وهم أشرف خلق الله - لم يَسْلموا من سخرية أقوامهم واستهزائهم بهم. هكذا كان دأب الكافرين في كل الأمم؛ يسخرون من رسلهم وأنبيائهم، ويتهمونهم بكل عيب ونقيصة، كما أخبر الله تعالى بذلك عنهم: ﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾. وقال عز وجل: ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الذاريات: 52، 53]. كأنما تواصوا بهذا الاستقبال على مدار القرون، وما تواصوا بشيء إنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد، تجمع بين المنحرفين من الغابرين واللاحقين.

 فهذا نبي الله نوح عليه السلام يقابله قومه بالسخرية والاستهزاء، يضحكون منه ويسخرون منه حين رأوه يصنع السفينة في الصحراء؛ قال الله تعالى: ﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [هود: 38، 39].

 وهذا نبي الله هود عليه السلام أرسله الله إلى عاد فسخروا منه: ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جئتنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقولُ إِلَّا اعْترَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ﴾ [هود: 53].

 وهذا نبيّ الله صالح عليه السلام أرسله الله إلى ثمود فأجابوه بهذا الجواب: ﴿ قَالَ الْمَلَأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأعراف: 75 - 77].

 وهذا نبي الله لوط عليه السلام أرسله الله إلى قومه فنهاهم عن فاحشة اللواط، وإتيان الرجال شهوة من دون النساء: ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [النمل: 56].

 أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد لاقى من الاستهزاء والسخرية ما تتفطر له القلوب، واجه صلى الله عليه وسلم سخرية قبائل العرب المشركين في الفترة المكية، وواجه سخرية واستهزاء المنافقين واليهود في الفترة المدنية.

 قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 41، 42].

وقال عز وجل: ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾.

وفي شأن المنافقين الذين يسخرون من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ويزعمون أن ذلك مجرد لعب ومزاح، نزل قول ربنا سبحانه: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65، 66].

 

 الاستهزاء بالعباد:

السخرية والاستهزاء داء ابتلي به كثير من الناس؛ يضحكون على الناس، ويسخرون منهم، ويستهزئون بهم، وينتقصونهم ويحتقرونهم...

وثمة أشخاص متخصصون في صنع النوادر والنكت على الناس، تكبرا وغرورا، أو تقليدا، أو انتقاما...

 فمن أرباب العمل من يسخر من خدمه وعماله، ومن المُدرّسين من يسخر من طلابه وتلامذته، ومن المدراء من يسخر من موظفيه، والقوي يسخر من الضعيف، والغني يسخر من الفقير، وصاحب الجاه يسخر ممن لا جاه له. والمرأة الحسناء أو الغنية أو الموظفة تسخر ممن هي دونها في ذلك... ومن الناس من يسخر من غيره للونه أو لسانه أو حرفته أو عادته... ولا يصدر ذلك إلا عمن ضعف إيمانه وانتكِسَتْ فِطرته وغاب عقله وقل حياؤه.. أما المؤمن الحيي الفطن فلا يسخر من أحد ولا يحتقر أحدا؛ لأنه يعلم أن الناس كلهم من آدم وآدم من تراب، ويعلم أن أكرم الناس عند الله أتقاهم، وكلما كان العبد تقيا كلما ازداد تواضعا ورفقا وحياء ورحمة وسماحة..

عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: مرَّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: "ما رأيك في هذا" فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيك في هذا" فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا" ([3]).

الاستهزاء بأهل الفضل والخير من المؤمنين والمؤمنات:

ولا يستهزئ بأهل الفضل ويسخر منهم إلا مريض القلب عديم الإيمان. قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ [البقرة:212]. وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ [المطَّففين:29-30].

وقد بين الله تعالى أن السخرية من المؤمنين صفة من صفات المنافقين، فقال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.

 ويبين ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي مسعود، قال: "لما أمِرْنا بالصدقة كنا نحامل، - أي نتكلف الحمل على ظهورنا بالأجرة لنكتسب ما نتصدق به - فجاء أبو عَقِيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخرُ إلا رئاء، فنزلت: ﴿ الذين يَلمِزُون المُطوّعِين من المؤمنين في الصّدَقات، والذين لا يَجدُون إلا جُهْدَهُمْ ﴾ الآية". [التوبة: 79].

 قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: ( وهذه - أيضاً - من صفات المنافقين، ألا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مُرَاء !! وإن جاء بشيء يسير قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا ).

 فالمؤمن لا يليق به أن يسخر من إخوانه، ولا أن يحتقرهم ويعظم نفسه، بل يتواضع لهم، ويحبهم ويعينهم على الخير... ورحم الله بكر بن عبد الله حين قال: إذا رأيت من هو أكبرُ مني سناً قلت سبقني بالإسلام والعمل الصالح فهو أفضل مني.. وإذا رأيت من هو أصغرُ مني سناً قلت سبقته بالذنوب وارتكاب المعاصي فهو أفضل مني.. وإذا رأيت إخواني يكرمونني قلت: نعمة تفضلوا بها عليّ.. وإذا رأيتهم يقصّرون في حقي قلت: مِن ذنب أصبته.

 السخرية من الناس لعيب في خِلقتِهم وصورتهم:

فمن الناس من يسخر من عباد الله لضعف في قوتهم، أو تشوه في صورتهم، أو إعاقة في حركاتهم... ولا يليق هذا بمؤمن موقن بأن الله تعالى هو الخالق الواهب، ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: حسبك من صفيّة كذا وكذا. قال بعض الرواة: تعني قصيرة. فقال: "لقد قلتِ كلمة لو مُزجَتْ بماء البحر لمزجَته". أي لو خالطت هذه الكلمة ماء البحر لتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها. والحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح.

فإذا رأيتَ مبتلى في بدنه فاحمدِ الله الذي عافاك مما ابتلاه به، وسل الله تعالى له الشفاء والعافية، وقدم له من المعونة ما تستطيع، وأشْعِرْه أنك تحبه وتتضامن معه...

فالله هو الخالق؛ ومن تمام عدله سبحانه أنه لا يحاسب الناس على أشكالهم وألوانهم وصورهم؛ إذ هو خالقهم سبحانه، ولكن يحاسبهم على أعمالهم وأقوالهم.

الاستهزاء بالمقصّرين المذنبين من المسلمين:

وكلنا مذنبون وكلنا مقصرون، ومن ادعى الكمال لنفسه فهو متكبر مغرور؛ إذ لا كمال في كل جميل وجليل إلا لله رب العالمين، ولا كمال في الطاعة والعبادة إلا لأنبياء الله ورسله الذين عصمهم الله واصطفاهم واجتباهم. وإذا كنا نعترف أننا مقصرون مذنبون فعلينا أن نتعاون ونتآزر ونتناصح، لا أن يسخر بعضنا من بعض، أو يحتقر بعضنا بعضا ويعظم نفسه ويمدحها. والله تعالى يقول: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾. أي لا تمدحوها معجبين بها.

فإذا رأيت مِن أخيك شيئاً من مخالفة الشرع فإياك أن تسخر منه، وإياك أن تحتقره، وإياك أن تشمت به فتعِينَ الشيطان عليه.

ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب، قال: "اضربوه" قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: "لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان".

إذا رأيتَ إنسانا على معصية فإياك أن تقول: هذا لا يُغفرُ له، وهذا لا تقبل توبته، فأنت بذلك تتألى على الله وتتطاول على حكمه، والله أحكم وأعلم وأعدل، فقد يمنّ عليه بتوبة نصوح قبل مماته فيكون من الناجين، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لما دعا على نفر من كفار قريش: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾. [آل عمران:128].

 وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث: "أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان. وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك". أو كما قال.

لا تسخر من أخيك لذنب ارتكبه، بل انصحْه ووجِّهه، فالدين النصيحة. أما أن تضحك منه وتجعلَه حديثَ مجالسك تتحدَّث عن سيئاته وعن أخطائه فليس ذلك من شيم المسلم ولا من أخلاقه؛ ففي صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا ". ويشير إلى صدره ثلاث مرات "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه". أي يكفي المسلمَ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، وهذا تعظيم لاحتقار المسلم، وأنه شر عظيم، لو لم يأت الإنسان من الشر إلا هذا لكان كافيا في الإثم والذم والعقاب.

 

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

%%%%%%%%

جمع وترتيب: د/ أحمد محمد أبو عيد

01098095854

 



[1])صحيح مسلم

[2])صحيح مسلم

[3])صحيح البخاري


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات