التاجر الصدوق للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيما وتكبيرا المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرا وتدبيرا المتعالي بعظته ومجده الذي نزل الفرقان علي عبده ليكون للعالمين نذيرا وبلغ رسوله الكريم الذي أرسله إلى الثقلين الإنس بشيرا ونذيرا
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له
العظيم التواب الغفور الوهاب الذي خضعت لعظمته الرقاب وذلت لجبروته الشدائد
الصلاب رب الأرباب ومسبب الأسباب ومنزل الكتاب وخالق خلقه من تراب غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب فما سأله سائل فخاب لا إله إلا هو عليه توكلت واليه المرجع والمئاب
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله
سيدي يا رسول الله
لغة الكلام كما رأيت على فمي | ** | خجلا ولولا الحب لن أتكلمي |
يا خير خلق الله يا | ** | أشرف السادات يا نبينا
|
وأجمل منك لم تر قط عين | ** | وأطيب منك لم تلد النساء |
خلقت مبرأ من كل عيب | ** | كأنك قد ولدت كما تشاء |
العناصــر
أولاً: فضل طلب الرزق ثانياً: مفاتيح الرزق الحلال
ثالثًا: صفات التاجر الصدوق وآدابه في المعاملة
رابعًا: سلوكيات يجتنبها التاجر الصدوق
المــوضـــــوع
أولاً: فضل طلب الرزق
أمر الله تعالى بطلب الرزق: فقال تعالى: "فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" "الملك.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئا إلا أن ييسره الله لكم) ([1])
عن كَعْبِ بن عُجْرَةَ t أنه قال: مَرَّ على النبي t، رَجُلٌ فَرَأَى أَصْحَابُ رسول اللَّهِ r من جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! لو كان هذا في سَبِيلِ اللَّهِ؟! فقال رسول اللَّهِ r: إن كان خَرَجَ يَسْعَى على وَلَدِهِ صِغَارًا، فَهُوَ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كان خَرَجَ يَسْعَى على أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ، فَهُوَ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كان يَسْعَى على نَفْسِهِ يُعِفُّهَا، فَهُوَ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كان خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً، فَهُوَ في سَبِيلِ الشَّيْطَانِ) ([2])
أمر الله تعالى بالكسب الطيب الحلال: عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله r : «أيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّباً، وَإِنَّ اللهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ". وَقَالَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ". ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ، فَأنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ ([3])
وقد سئل r أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ "([4])
من الضروريات الخمس التي تهدف فالشريعة الإسلامية إلى المحافظة عليها والمال أحد هذه الضروريات، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وغاية هذه الضرورات جلب المصالح لهم، ودفع الضرر عنهم، فعن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللَّهِ r: (...كُلُّ الْمُسْلِمِ على الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) ([5])
السؤال عن المال: فعن معاذ بن جبل t أن النبي t قال: (لن تَزُولَ قَدَمَا عبدٍ يَومَ القِيَامَةِ حتى يُسأَلَ عن أربعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمْرِه فيما أَفْنَاهُ؟ وعن شَبَابِهِ فيما أبلاه؟ وعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اَكتسبه وفيما أَنْفَقَهُ؟ وعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فيه؟) ([6])
ثانياً: مفاتيح الرزق الحلال
أهم مفاتيح الرزق التي يُستنزل بها الرزق من الله عز وجل:
تقوى الله عز وجل: قال الله تعالى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ "96"" "الأعراف 96".
وقال الله تعالى "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا "2" وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" الطلاق 2
الاستغفار والتوبة إلى الله:قال الله تعالى: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا "10" يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا "11" وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا "12"" "نوح 12".
وقال الله تعالى: "وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ "52"" "هود 52".
التوكل على الله عز وجل: قال الله تعالى: "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا "3"" "الطلاق 3".
وَعَنْ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ t قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله r يَقُولُ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بطَاناً» ([7]).
اجتناب المعاصي: قال الله تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ "41"" "الروم 41".
الدعاء: قال الله تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ "186"" "البقرة 186".
وقال الله تعالى: "قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ "114" قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ "115"" "المائدة: 11115".
الإنفاق في سبيل الله تعالى: قال الله تعالى: "وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ "سبأ"
وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «قالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ! أنْفِقْ أنْفِقْ عَلَيْكَ» ([8])
الإنفاق على أهل العلم: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ: كَانَ أَخَوَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبيِّ r فَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِي النَّبيَّ r وَالآخَرُ يَحْتَرِفُ فَشَكَا المُحْتَرِفُ أَخَاهُ إِلَى النَّبيِّ r فَقَالَ: َ «لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بهِ» ([9])
إكرام الضعفاء والإحسان إليهم: عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأى سَعْدٌ t أنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقال النَّبِيُّ r: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ »([10])
لة الرحم: عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ t قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله r يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أوْ يُنْسَأ لَهُ فِي أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» ([11])
التبكير في طلب الرزق: عَنْ صَخْرٍ الغَامِدِيِّ t عَنِ النَّبيِّ r قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لأمَّتِي فِي بُكُورِهَا». وَكَانَ إِذا بَعَث سَرِيَّةً أَوْ جَيْشاً بَعَثهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِراً وَكَانَ يَبْعَث تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثرَى وَكَثرَ مَالُهُ ([12])
الهجرة في سبيل الله تعالى: قال الله تعالى: "وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا "النساء.
التفرغ لعبادة الله عز وجل: ومعناه: حضور القلب وخشوعه وخضوعه لله أثناء العبادة.
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله r: «يَقُولُ رَبُّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي، أَمْلأْ قَلْبَكَ غِنىً، وَأَمْلأْ يَدَيْكَ رِزْقاً، يَا ابْنَ آدَمَ، لا تَبَاعَدْ مِنِّي، فَأَمْلأْ قَلْبَكَ فَقْراً، وَأَمْلأْ يَدَيْكَ شُغْلاً»([13])
الاستعاذة بالله من المأثم والمَغْرم: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ النَّبِيَّ r كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاةِ: «اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ
القَبْرِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، اللَّهُمَّ! إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ». قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ المَغْرَمِ يَا رَسُولَ الله! فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأخْلَفَ» ([14])
المتابعة بين الحج والعمرة: عَنْ عبد الله بْنِ مَسْعُودٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله r: «تَابعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَث الحَدِيدِ وَالذهَب وَالفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثوَابٌ إِلاَّ الجَنَّةُ» ([15])
ثالثًا: صفات التاجر الصدوق وآدابه في المعاملة
صلاح النية: عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله r "إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" ([16])
فتقصد بتجارتك أو بيعك وشرائك أن تستعفف عن السؤال وتستعين بكسبك الحلال على دينك وكفاية حاجتك واهلك فقد قال أحد السلف: من سره أن يكمل له عمله فليحسن نيته ويصلحها وقال أحدهم: صلاح العمل بصلاح النية
ذكر الله: قال تعالى "رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه" النور
وعن عمر بن الخطاب أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ:" مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ؛ وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ؛ وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ " ([17])
فشو السلام فإن السلام يسبب المحبة ويقوي الروابط والوحشة بين الناس
فعن أبي هريرة t قال قال رسول الله r لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم " ([18])
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي r قال: " إياكم والجلوس بالطرقات " فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، قال: " فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه ". قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله قال: " غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ([19])
الصدق: قال رسول الله r: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما"([20])
وعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ r إِلَى الْمُصَلَّى، فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فَقَالَ " يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ "، فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ r وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ " إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّاراً، إِلاَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ "([21])
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r: "اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ. قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا"([22])
تقوى الله والعدل في الوزن والكيل يقول الله جل وعلا: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إذا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإذا كَالُوهُمْ أو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ*)، وقال عن شعيب أنه قال لقومه: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، فمن المصيبة إخلال بالمكاييل والموازين وتخفيضها من بعض ما هي معروف وخداع الناس بذلك.
ولتأخذ العبرة والعظة من قصة هذا المطفف كيف يكال له في الدنيا ووجه لنفسك سؤالا كيف سيكال له في الآخرة، فذلك رجل فقير زوجته تصنع الزبد وهو يبيعها في المدينة لأحد البقالات وكانت الزوجة تعمل الزبد على شكل كرة وزنها كيلو وهو يبيعها لصاحب البقالة ويشتري بثمنها حاجات البيت
وفي أحد الأيام شك صاحب المحل بالوزن فقام ووزن كل كرة من كرات الزبدة فوجدها تسعمائة جرام فغضب من الفقير، وعندما حضر الفقير في اليوم الثاني قابله بغضب وقال له لن اشتري منك يا غشاش تبيعني الزبد على أنها كيلو ولكنها أقل من الكيلو بمائة جرام حينها حزن الفقير ونكس رأسه ثم قال نحن يا سيدي لا نملك ميزان ولكني اشتريت منك كيلو من السكر وجعلته لي مثقال كي ازن به الزبد.
السماحة في البيع والشراء: يقول r: "رحم الله امرئ سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا اقتضى"([23])
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فلا يخلو السوق من صخبا وأقوال باطلة وكذباً وإيمانا فاجرة والمسلم مأمور أن يأمر بالمعروف على قدر استطاعته (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ)، فإذا أمر بالمعروف ونهي عن المنكر اختفت الرذائل والأمور الدنيئة وعلى الحق وإذا أهمل الناس هذا الجانب ظهرت الرذيلة والشرور والفساد
يترك المسلم البيع والشراء وقت سماع الآذان:حي على الصلاة حي على الفلاح ويقبل إلى المسجد لأداء هذه الفريضة ليتمكن من الوضوء وإدراك تكبيرة الإحرام وإدراك الجماعة فذلك خيراً له من الدنيا وما عليها قال الله جل وعلا: (فِي بُيُوتٍ إذنَ اللَّهُ أن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ)النور ، فيا أيها المسلم عند سماع حي على الصلاة حي على الفلاح أغلق متجرك وأقبل على صلاتك فذلك الخير لك.
الإكثار من الصدقات عسى أن يكون ذلك تكفيرًا لما قد يقع فيه من غش أو غبن أو سوء خلق أو ما إلى ذلك، فلقد روى قيس بن أبي غرزة -t-قال: خرج علينا رسول الله - r -ونحن نسمى السماسرة، فقال: (يا معشر التجار، إن الشيطان والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة) ([24]) يعني أخلطوا.
وانظر فعل سيدنا عثمان t فعن ابن عباس قال: قحط الناس في زمان أبي بكر، فقال أبو بكر: لا تمسون حتى يفرج الله عنكم. فلما كان من الغد جاء البشير إليه قال: قدمت لعثمان ألف راحلة براً وطعاماً، قال: فغدا التجار على عثمان فقرعوا عليه الباب فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيهما على عاتقه فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: قد بلغنا أنه قد قدم لك ألف راحلة براً وطعاماً، بعنا حتى نوسع به على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: ادخلوا. فدخلوا فإذا ألف وقر قد صب في دار عثمان، فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من الشام؟ قالوا العشرة اثني عشر، قال: قد زادوني، قالوا: العشرة أربعة عشر، قال: قد زادوني. قالوا: العشرة خمسة عشر، قال: قد زادوني، قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادني بكل درهم عشرة، عندكم زيادة؟ قالوا: لا!! قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة قال عبد الله بن عباس: فبت ليلتي فإذا أنا برسول الله r في منامي وهو على برذون أشهب يستعجل؛ وعليه حلة من نور؛ وبيده قضيب من نور؛ وعليه نعلان شراكهما من نور، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد طال شوقي إليك، فقال r: إني مبادر لأن عثمان تصدق بألف راحلة، وإن الله تعالى قد قبلها منه وزوجه بها عروسا في الجنة، وأنا ذاهب إلى عرس عثمان"([25])
إنظار المعسر: قال الله تعالى: "وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ"(البقرة)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:" مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ" ([26])
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ فَتَوَارَى عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ فَقَالَ إِنِّى مُعْسِرٌ. فَقَالَ آللَّهِ قَالَ آللَّهِ. قَالَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -r-يَقُولُ «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ» ([27]).
إظهار عيوب السلعة: ذات يوم خرج أحد التجار الأمناء في سفر له، وترك أحد العاملين عنده ليبيع في متجره، فجاء رجل يهودي واشتري ثوبًا كان به عيب. فلما حضر صاحب المتجر لم يجد ذلك الثوب، فسأل عنه، فقال له العامل: بعته لرجل يهودي بثلاثة آلاف درهم، ولم يطلع على عيبه. فغضب التاجر وقال له: وأين ذلك الرجل؟ فقال: لقد سافر. فأخذ التاجر المسلم المال، وخرج ليلحق بالقافلة التي سافر معها اليهودي، فلحقها بعد ثلاثة أيام، فسأل عن اليهودي، فلما وجده قال له: أيها الرجل! لقد اشتريت من متجري ثوبًا به عيب، فخذ دراهمك، وأعطني الثوب. فتعجب اليهودي وسأله: لماذا فعلت هذا؟ قال التاجر: إن ديني يأمرني بالأمانة، وينهاني عن الخيانة، فقد قال رسولنا -r-: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا" (مسلم)، فاندهش اليهودي وأخبر التاجر بأن الدراهم التي دفعها للعامل كانت مزيفة، وأعطاه بدلاً منها، ثم قال: لقد أسلمت لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله."
الكتابة والإشهاد: فإنه يستحب ذلك لقوله تعالى-:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾"البقرة: 282"،
وقوله:﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ "البقرة: 282"، ففي ذلك مزيد ضمان للحق وتمتين للثقة والتعاون بين المسلمين
وقال تعالى-:﴿ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾"البقرة: 282
الالتزام بالعهود والعقود والوفاء بهما: قال الله جل وعلا (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)، وقال: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ أن الْعَهْدَ كان مَسْئُولاً)، والبيع والشراء عقد والله يقول: (وَأَشْهِدُوا إذا تَبَايَعْتُمْ)، كل ذلك من لأجل رفع الحرج والوفاء بالعقود وعدم الخيانة والخداع في ذلك.
رابعًا: سلوكيات يجتنبها التاجر الصدوق
اجتناب النظر إلى الحرام: قال تعالى :(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) النور.
اجتناب الغش في المعاملة وإخفاء عيوب السلعة: عن أبي هريرة أن رسول الله r مر على صبرة من طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال يا صاحب الطعام ما هذا قال أصابته السماء يا رسول الله قال أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ثم قال من غش فليس منا "([28])
وعن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا" ([29])
يبتعد عن بيع كل حرام: فكل أمر تحرمه الشريعة تكون بعيداً عنه لأن الله يقول لنا (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، فمن التعاون على العدوان البيوع المحرمة كبيع الخمور والخنزير والميتة والحيوانات الغير مأكولة وغير ذلك فعن أبي مسعود الأنصاري t أن النبي r نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن "([30])
فنهى عن ثمن الكلب ونهى عن مهر البغي وما تعطي البغي والعياذ بالله على استحلال فرجها ونهى عن حلوان الكاهن ما يأخذه من الكهنة خداع وكذبة.
وعن جابر أنه سمع رسول الله r يقول عام الفتح وهو بمكة: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ". فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة؟ فإنه تطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: " لا هو حرام ". ثم قال عند ذلك: " قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه " ([31])
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ؛ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ؛ فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ ([32])
اجتناب جميع المكاسب الخبيثة: كالربا والغش، والسرقة والنهب وغيرها، وهي شؤم على صاحبها، ويظهر أثرها في عبادته، فيُسلب الخشوع، ويُسلب قبول الدعاء، ويُسلب الطمأنينة، وكل كسب خبيث سببه عدم الإيمان أو نقصه، ومن كان مكسبه خبيثاً سلط الله عليه من يسلبه منه، وعذبه به في الدنيا، وعاقبه عليه في الآخرة.
قال الله تعالى: "فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ "55" "التوبة 55.
وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله r "أيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّباً، وَإِنَّ اللهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ". وَقَالَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ". ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ، فَأنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟" ([33])
الكذب في البيع والشراء الكذب في الأيمان لترويج السلع: فعن أبي ذر t عن النبي r قال ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال فقرأها رسول الله r ثلاث مرات فقلت خابوا وخسروا ومن هم يا رسول الله قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " ([34])
فأحذر أخي من الأيمان الكاذبة لترويج سلعك احذر أن تحلف بيمينك الزم الصدق فرزق الله آت إن شاء الله.
احتكار السلعة: فعن معمر قال: قال رسول الله r: " من احتكر فهو خاطئ "([35])
والاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة، ولا يبيعه في الحال، بل يدخره ليغلو ثمنه، فأما إذا جاء من قريته، أو اشتراه في وقت الرخص وادخره، أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في وقته، فليس باحتكار ولا تحريم فيه، وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال، هذا تفصيل مذهبنا، قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس.
وعن بعض السلف أنه جهز سفينة حنطة إلى البصرة وكتب إلى وكيله: بع هذا الطعام في يوم تدخل البصرة فلا تؤخره إلى غد، قال: فوافق السعر فيه سعة، قال له التجار: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافاً فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا قد كنا قنعنا أن نربح الثلث مع سلامة ديننا وإنك قد خالفت أمرنا وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي فخذ المال كله فتصدّق به على فقراء أهل البصرة وليتني أنجو من الاحتكار كفافاً لا عليّ ولا لي .
فاحتكار السلع يحمل في طياته بذور الهلاك والدمار لما يسببه من ظلم وغلاءٍ في الأسعار، وإهدارٍ لتجارة المسلمين وصناعتهم، وتضييق لأبواب العمل والرزق، وهو نوعٌ من محبة الذات وتقديم النفس على الآخرين. ويؤدي إلى تضخم الأموال في طائفةٍ قليلةٍ من الناس كما في قوله تعالى (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)
ارتفاع الأسعار: عن أنس قال الناس يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا فقال رسول الله r إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال ([36]).
ولم يتدخل الرسول r في التسعير وسبب ذلك أنه خشي أن يطالبه أحد بمظلمة يوم القيامة إذا تدخل في الأسعار فربما يظلم البائع أو المشتري .. وإنما أراد أن يعلمنا أنه تتعرض الشعوب والأمم لحالات من الشدة والرخاء والسّراء والضّراء, وهذا كله بقدر الله تعالى ليعلم من ذلك من صبر ومن شكر, فما يقع من شدائد ومصائب وارتفاع الأسعار كله بقدر الله وقد يكون مرتبط بالذنوب والآثام التي يرتكبها البشر, قال تعالى "ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثّمرات وبشّر الصّابرين"( البقرة/155).
وعن أبي سعيد الخدري أن يهوديا قدم زمن النبي r بثلاثين حمل شعير وتمر فسعر مدا بمد النبي r وليس في الناس يومئذ طعام غيره وكان قد أصاب الناس قبل ذلك جوع لا يجدون فيه طعاما فأتى النبي rالناس يشكون إليه غلاء السعر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال لا ألقين الله من قبل أن أعطي أحدا من مال أحد من غير طيب نفس إنما البيع عن تراض ولكن في بيوعكم خصالا أذكرها لكم لا تضاغنوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا يسوم الرجل على سوم أخيه ولا يبيعن حاضر لباد والبيع عن تراض وكونوا عباد الله إخوانا "([37])
فدلّهم على مكارم الأخلاق في البيوع و نهاههم عن الضغينة و التناجش و الحسد و السوم على سوم الأخ و عن بيع حاضر لباد ..و لو كان في حثّهم على ترك السلع -بغية إرخاصها- خيرٌ لحثّهم على ذلك !.
ولا يخفى على كلّ مسلم فطن مقدار الضرر الذي سيلحق بالتاجر بعد ترك الناس لسلعه ، و فساد السلع و كسادها فيه ضرر عام و خاص !.
فقد يفلس التاجر، وتفسد بضاعته، و يركبه الدين و الهم .
فيأتي كي يرخصها، فيبيعها بثمن أقلّ مما اشترى به أو بثمن لا يسدد له فواتير العمل و توابع التجارة .
وهذا إن كان اشتراها فعلا بسعر مرتفع فبالتالي اضطر لبيعها بسعر مرتفع، أما إن كان اشتراها بسعر رخيص أو أراد أن يبيعها بسعر مرتفع لأنه لا يوجد غيره عنده هذه السلعة فهذا هو الاحتكار وقد حرمه الله تعالى كما سنعلم ذلك في العنصر التالي بإذن الله.
الغش : الغشُّ آفةٌ يَطُول ضررُها الجميع، فالغشَّاش شخص همُّه تحصيل المال على حِساب غيره، فالطمع حَجَبَ عقله، فلا ينظر إلا للمَكاسِب التي حصَل عليها والتي يسعى للحصول عليها، ولا يَلتَفِت إلى ضحاياه الذين أرداهم غشُّه لا يلتَفِت إلى جنايته على المجتمع، وكيف أصبح أداةَ إفسادٍ فيه، الغشَّاشون كُثُر ومجالات الغشِّ مختلفة، كلُّ غشَّاش على حَسْبِ اهتِماماته، وعلى حسب موقعه وقدرته على الغش، والكلام في هذه الدقائق حول الغشِّ في البيع والشراء.
الغِشُّ ضد النُّصْحِ مأخوذٌ من الغَشَشِ وهو المَشُوبُ الكَدِر والغش المحرَّم في البيع أن يُخفِي البائع شيئًا في السلعة لو أطلع عليه المشتري لم يشترها بذلك الثمن والغشاش حينما يسعى لكسب المال يحرص على جمع المال، لكنَّ الطمع أعماه عن حقيقة؛ وهي: أنَّ المسألة ليست مسألة كَثرة ربح، بل المسألة مسألة بركة، فقد يَربَح الغشَّاشُ المال الكثير لكن يتعرَّض لآفةٍ تَجتاح هذا المال، وقد يَربَح التاجر الصادق المال القليل، فيُبارِك الله في كسبه؛ فعن حكيم بن حزام - t - قال: قال رسول الله - r-: ((البيِّعان بالخِيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدَقَا وبيَّنا، بُورِك لهما في بيعهما، وإن كتَمَا وكذَبَا، مُحِقت بركة بيعهما))([38])
ويشتدُّ الإثم حينما يُنَفِّق الغشَّاش سلعته بالحلف الكاذب، بأنه اشتَراها بكذا، أو بأنَّ فلانًا سامَها بكذا... أو غير ذلك من أساليب الغشاشين؛ فعن أبي هريرة - t - قال: سمعت رسول الله - r - يقول: ((الحلف مَنْفَقَةٌ للسلعة مَمْحَقَة للبركة))([39])
فعلى البائع أن يعزلَ الطيِّب عن الرَّدِيء، فيكون المشتَرِي على بيِّنة من أمر السلعة، لكنه إن جعَل الطيِّبَ في الأعلى والرَّدِيء يخفيه تحتَه، إمَّا لآفةٍ فيه أو لصِغَره أو غير ذلك من الأشياء التي تُزهد الناس فيه، وتقلِّل من قيمته فهذا من الغشِّ المحرَّم
فعن أبي هريرة: أن رسول الله - r - مرَّ على صبرة طعام، فأدخَل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟))، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ((أفلا جعلته فوق الطعام؛ كي يراه الناس، مَن غشَّ فليس مِنِّي)) ([40])
فخابَ وخسر في الدنيا والآخرة مَن تبرَّأ منه النبيُّ، ولا يُعذَر الشخص بِحُجَّة أنَّ العمَّال قاموا بهذا، فالواجب عليه المُتابَعة، فلو فعَلُوا فعلاً يضرُّ بسلعته، ويُنقِص من قيمتها، لم يرضَ بذلك وعمل على عدم تَكرار ذلك، فكذلك الواجب عليه إذا أضرُّوا بإخوانه المسلمين.
وعن عُقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - r - يقول: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يحلُّ لمسلمٍ باعَ من أخيه بيعًا فيه عيبٌ إلا بيَّنه له)) ([41])
فإذا بيَّن العيب برأ البائع في الدنيا والآخرة، وليس للمشتري الحقُّ في ردِّ السلعة إلا إذا رضي البائع، فأقالَه بيعته، أمَّا إذا لم يُبيِّن البائع عيبَ السلعة، فللمشتري الردُّ.
قال تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ) النساء 29
التطفيف في الكيل والوزن: عن ابن عباس قال لما قدم النبي r المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله سبحانه ( ويل للمطففين ) فأحسنوا الكيل بعد ذلك ([42])
فأهل المدينة والأنصار رضوان عليهم قبل أن يأتيهم النبي rكانوا يتعاملون في البيع والشراء وكانوا أخبث الناس كيلاً أو من أخبث الناس في الكيل يعني: يطففون في الكيل والميزان ويبخسون الناس أشياءهم في ذلك.
فلما قدم النبي r أنزل الله سبحانه وتعالى عليهم من القرآن فكان مما نزل: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (المطففين: 3).
فتلا النبي rعليهم ذلك فكانوا من أحسن الناس وزناً بعد ذلك.
لا يبيع على بيع أخيه: كأن يعرض على المشتري في فترة الاختيار فسخ البيع مقابل بيعه ما هو أجود أو أرخص ليتم الاختيار الحر، فعن أبي هريرة: أن رسول الله r قال: " لا تلقوا الركبان لبيع ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ولا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها: إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر " وفي رواية: " من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام: فإن ردها رد معها صاعا من طعام لا سمراء " ([43]). يتراضيا على ثمن سلعة فيقول آخر أنا أبيعك مثلها بأنقص من هذا الثمن
الدخول أول السوق والخروج آخره : فاحذر أن تكون من المتكالبين على الدنيا الحريصين عليها؛ فلا تكونن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها؛ فإن ذلك شر عظيم.
فعَنْ سَلْمَانَ قَالَ:" لَا تَكُونَنَّ إِنْ اسْتَطَعْتَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ وَلَا آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا فَإِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ." ([44])
قال الإمام النووي في شرح مسلم:" قوله في السوق (إنها معركة الشيطان). فشبه السوق وفعل الشيطان بأهلها ونيله منهم بالمعركة; لكثرة ما يقع فيها من أنواع الباطل كالغش والخداع، والأيمان الخائنة، والعقود الفاسدة، والنجش، والبيع على بيع أخيه، والشراء على شرائه، والسوم على سومه، وبخس المكيال والميزان. وقوله (وبها ينصب رايته) إشارة إلى ثبوته هناك، واجتماع أعوانه إليه للتحريش بين الناس، وحملهم على هذه المفاسد المذكورة ونحوها، فهي موضعه وموضع أعوانه.
استعمال أوراق المصحف الشريف في البيع والشراء: فاحذر أخي التاجر من استعمال الورق المكتوب عليه الآيات القرآنية لتغليف السلع؛ لما في ذلك من
امتهان لآيات الكتاب الكريم لأنه يجب شرعاً تعظيم شعائر الله ، يقول الله تعالى: "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ" (الحج: 32) قال الإمام القرطبي في تفسيره:" الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم… فشعائر الله أعلام دينه "؛ ولا شك أن آيات القرآن الكريم من أعظم شعائر الله فتجب صيانتها وحفظها من الامتهان وعندما تلف البضاعة بهذا الورق الذي كتبت عليه آيات القرآن الكريم فهذا يعرضها للامتهان وهذا أمر محرم.
المماطلة في السداد: فكثير من الناس يستغل البائع فيأخذ منه البضاعة إلى أجل ثم يماطله في السداد رغم سعة المشتري ويسره؛ وهذا ظلم فاحش للبائع فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ:" مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ"([45])
لذلك فإن الله يعامله بنقيض قصده ويمحق بركة ماله بتلفه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ r قَالَ:" مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ؛ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ" ([46])
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
%%%%%%%%
جميع وترتيب: الشيخ أحمد أبو عيد
نسألكم الدعاء
01098095854