دروس مستفادة من يوم أحد للشيخ أحمد أبو عيد
الحمد لله رب
العالمين وأشهد أن لا إلاه إلا الله ولى الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدا إمام
النبيين
وبعد
العناصر
أولًا:
سبب الغزوة
ثانيًا:
الدروس المستفادة من الغزوة
أولا: سبب
الغزوة
كانت مكة تحترق غيظا على المسلمين مما أصابها
في معركة بدر من مأساة الهزيمة وقتل الصناديد والأشراف، وكانت تجيش فيها نزعات الانتقام
وأخذ الثأر، حتى إن قريشا كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم في بدر، ومنعوا من الاستعجال
في فداء الأسارى؛ حتى لا يتفطن المسلمون مدى مأساتهم وحزنهم.
وعلى إثر غزوة بدر اتفقت قريش على أن تقوم بحرب
شاملة ضد المسلمين، تشفي غيظها، وتروي غلة حقدها، وأخذت في الاستعداد للخوض في مثل
هذه المعركة.
وكان عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وأبو
سفيان بن حرب، وعبد الله بن أبي ربيعة أكثر زعماء قريش نشاطا وتحمسا لخوض المعركة.
ثانيا:
الدروس المستفادة من الغزوة
تقرير مبدأ الشورى، إذا استشار أصحابه في قتال المشركين خارج المدينة
أو داخلها، وأخذ برأي الأغلبية، فقد عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسا استشاريا
عسكريا أعلى، تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف، وأخبرهم عن رؤيا رآها، قال: إني قد رأيت
والله خيرا، رأيت بقرا يذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع
حصينة، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل
بيته، وتأول الدرع بالمدينة.
ثم قدم رأيه إلى صحابته أن لا يخرجوا من المدينة، وأن يتحضوا بها، فإن أقام
المشركون بمعسكرهم أقاموا بشر مقام وبغير جدوى، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون
على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، وكان هذا هو الرأي
وبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، فأشاروا على النبي صلّى
الله عليه وسلم بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، حتى قال قائلهم: يا رسول الله، كنا نتمنى
هذا اليوم وندعوا الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا
جبنّا عنهم.
وكان في مقدمة هؤلاء المتحمسين حمزة بن عبد المطلب
عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم- الذي كان قد أروى فرند سيفه في معركة بدر- فقد قال
للنبي صلّى الله عليه وسلم: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاما حتى أجالدهم بسيفي
خارج المدينة.
ورفض رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيه أمام
رأي الأغلبية، واستقر الرأي على الخروج من المدينة، واللقاء في الميدان السافر.
بيان كمال قيادته العسكرية،ويتجلَّى ذلك بوضوح في اختياره مكان المعركة
وزمانها، وفي وضعه الرماة على جبل الرماة ووصيته لهم بعدم مغادرة أماكنهم مهما كانت
الحال، ولو رأوا الموت يتخطف إخوانهم في المعركة، فانتخب منهم فصيلة من الرماة الماهرين،
قوامها خمسون مقاتلا، وأعطى قيادتها لعبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري الأوسي
البدري، وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الجنوبية من وادي قناة- وعرف فيما بعد
بجبل الرماة- جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد حوالي مائة وخمسين مترا من مقر الجيش
الإسلامي.
والهدف من ذلك هو ما أبداه رسول الله صلّى الله
عليه وسلم في كلماته التي ألقاها إلى هؤلاء الرماة فقد قال لقائدهم: «انضح الخيل عنا
بالنبل، لا يأتون من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك» .
ثم قال للرماة: «احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا
فلا تشركونا » ، وفي رواية البخاري أنه قال: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا
مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل
إليكم.
أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو،
وجعل على الميسرة الزبير بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود، وكان إلى الزبير مهمة
الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين
ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة، والذين يوزنون بالآلاف
شجاعة الصحابة:
أنس بن النضر،مرَّ على قوم قد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟
فقالوا: قُتل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا
على ما مات عليه رسول الله، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين،
وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا
أبا عمر؟ فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم
حتى قتل، فما عرف حتى عرفته أخته- بعد نهاية المعركة- ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين
طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم «صحيح البخاري» .
ونادى ثابت بن الدحداح قومه، فقال: يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل،
فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم. فنهض إليه نفر من
الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد، فما زال يقاتلهم، حتى قتله خالد بالرمح، وقتل
أصحابه «الرحيق المختوم» .
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتشحط
في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد
بلغ، فقاتلوا عن دينكم «زاد المعاد» .
لما نادى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين: هلم إليّ، أنا رسول الله، سمع صوته المشركون وعرفوه،
فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين، فجرى
بين المشركين وبين هؤلاء النفر التسعة من الصحابة عراك عنيف، ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني
والبسالة والبطولة.
روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في
سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: من يردهم عنا وله الجنة؟ أو هو رفيقي
في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا فلم يزل كذلك حتى قتل
السبعة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لصاحبيه- أي القرشيين- ما أنصفنا أصحابنا.
وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السكن، قاتل حتى أثبتته الجراحة
فسقط .
ولا شك أن المشركين كانوا يهدفون القضاء على حياة رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، إلا أن القرشيين سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله قاما ببطولة نادرة، وقاتلا
ببسالة منقطعة النظير، حتى لم يتركا- وهما اثنان فحسب- سبيلا إلى نجاح المشركين في
هدفهم، وكانا من أمهر رماة العرب، فتناضلا حتى أجهضا مفرزة المشركين عن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم.
فأما سعد بن أبي وقاص، فقد نثل له رسول الله صلّى
الله عليه وسلم كنانته، وقال: ارم فداك أبي وأمي «صحيح البخاري» . ويدل على مدى كفاءته
أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يجمع أبويه لأحد غير سعد.
وتقدم طلحة، قال جابر: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى
ضربت يده فقطعت أصابعه، فقال: حسّ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لو قلت: بسم الله
لرفعتك الملائكة والناس ينظرون، قال: ثم رد الله المشركين «فتح الباري»
وكان رجلا راميا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين
أو ثلاثا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول: «انثرها لأبي طلحة» . قال: ويشرف
النبي صلّى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف
يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك ((البخاري)).
أم عمارة: وما أروع تضحية النساء؛ فهذه أم عمارة نسيبة بنت
كعب عندما رأت النبي صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة قد تكالب عليه أعداؤه من يمنة
ويسرة ؛ رمت القراب التي كانت تسقي بها جرحى المسلمين، وأخذت تدافع عنه. فقال صلى الله
عليه وسلم عنها: «ما رأيت مثل ما رأيت من أم عمارة في ذلك اليوم، ألتفتُ يمنة وأم عمارة
تذود عني، والتفت يسرة وأم عمارة تذود عني»، وقال لها النبي في أرض المعركة: «من يطيق
ما تطيقين يا أم عمارة؟! سليني يا أم عمارة» قالت: «أسألك رفقتك في الجنة يا رسول الله»
قال: «أنتم رفقائي في الجنة ». (الرحيق المختوم).
بيان الآثار السيئة لتقديم الرأي على
قولِ الرَّسُولِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-،إذ كان من عوامل الهزيمة إصرار الصحابة على
رأيهم في القتال خارج المدينة، في الوقت الذي كان الرسول يرى عدم الخروج حَتَّى ألجأوه
إلى أدراعه ولباس لامته، ثم ندموا فلم ينفعهم ندم.
بيان عقوبة الله-تعالى-للمؤمنين لما
عصوه بترك الرماة لمراكزهم الدفاعية،وطلبهم للغنيمة،ولما تسائلوا عن سبب هزيمتهم
أجابهم–تعالى-بقولِهِ:{ قل هو من عند أنفسكم } آل عمران(165) .وهو ظاهر قوله-تعالى-:{
إذ تحسونهم بإذنه حَتَّى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون} أي من النصر
{منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا
عنكم والله ذو فضل على المؤمنين }. آل عمران(152) .
تعريف المؤمنين سوء عاقبة المعصية،
الفشل، والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو شؤم ذلك، كما قال-تعالى-:{ ولقد
صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حَتَّى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد
ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم
ولقد عفا عنكم } آل عمران(152). فلما ذاقوا
عاقبة معصيتهم للرسول وتنازعهم، وفشلهم، كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة ، وتحرزاً من
أسباب الخذلان.
أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق
الكاذب، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت، دخل معهم
في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله-عز وجل-أن سبب لعباده
محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما
كانوا يكتمونه، وظهرت مُخبَّاتهم وعاد تلويحُهم تصريحاً، وانقسم الناس إلى كافر، ومؤمن،
ومنافق، انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنين أن لهم عدواً في نفس دورهم وهم معهم لا يفارقونهم،
فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم. قال الله-تعالى-:{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم
عليه حَتَّى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي
من رسله من يشاء} آل عمران(179).أي ما كان
الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حَتَّى يميز أهل الإيمان
من أهل النفاق، كما ميزهم بالمحنة يوم أُحد، وما كان الله ليطلعكم على الغيب الذي يميز
به بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه، وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزاً
مشهوداً، فيقع معلومهُ الذي هو غيب شهادة. وقوله: { ولكن الله يجتبي من رسله ما يشاء}
استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب، سوى الرسل، فإنه يطلعهم على ما يشاء من
غيبه، كما قال:{ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول } الجن(27) .فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب
الذي يطلع عليه رسله، فإن آمنتم به وأيقنتم، فلكم أعظم الأجر والكرامة.
أنه-سبحانه- لو نصرهم دائماً، وأظفرهم
بعدوهم في كل موطن، وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبداً، لطفت نفوسهم،
وشمخت وارتفعت، فلو ابسط لهم النصر والظفر، لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط
لهم الرزق، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء والشدة والرخاء، والقبض والبسط، فهو
المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته، إنه بهم خبير بصير.
أنَّ الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه،
والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده، وليس بعد درجة الصِّدَّيقية إلا الشهادة،
وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء، تراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه
ومحابه على نفوسهم، ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها
من تسليط العدو " زاد المعاد \" (3/ 218-222) .
صدق رؤيا النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ
وسَلَّمَ-، إذ رأى في منامه ثلماً في سيفه، فأوله بموت بعض آل بيته، فمات حمزة-رضي الله
عنه-وعبد الله بن جحش ابن عمته -رضي الله عنه-.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
جمع وترتيب: الشيخ أحمد أبو عيد
0109
809 58 54
نسألكم الدعاء