الإمـــــــام الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس للشيخ أحمد أبو عيد









الحمدُ لله مَوْصُولا كما وجبا، فهو الذي برداء العِزّة احْتَجَبا، الباطِن الظّاهرِ الحق الذي عَجَزَتْعنه المدارِكُ لما أمْعَنَتْ طَلَبا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، علا عنِ الوصْفِ مَن لا شيءَ يُدْرِكُه وجَلَّ عن سبَبٍ من أوْجَدَ السّببا، والشُّكرُ للهِ في بدْءٍ ومُخْتَتَم، فالله أكرَمُ من أعْطى ومَنْ وَهَبَ.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، فاللهم صلِّ وسلم وبارك عليه في الأولين والآخرين وفي كل وقت وحين.
العناصر
أولًا: نسبه                                                         ثانيًا: حياته العلمية
ثالثًا: علاقته بربه واخوانه                                     رابعًا: ثناء العلماء عليه
خامسًا: وفاة الإمام الشافعي
الموضوع
أولًا: نسبه:
هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد ، بن هاشم ، بن المطلب ، بن عبد مناف . فهو يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف . وكان ابوه قد هاجر من مكة الى غزة بفلسطين بحثا عن الرزق لكنه مات بعد ولادة محمد بمدة قصيرة فنشأ محمد يتيما فقيرا . وشافع بن السائب هو الذي ينتسب اليه الشافعي لقي النبي صلى الله عليه وسلم ، واسر ابوه السائب يوم بدر في جملة من أسر وفدى نفسه ثم اسلم . ويلتقي نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف.
أما أمه فهي يمانية من الازد وقيل من قبيلة الاسد وهي قبيلة عربية لكنها ليست قرشية، قيل ان ولادة الشافعي كانت في عسقلان وقيل بمنى لكن الاصح ان ولادته كانت في غزة عام 150 هجرية وهو نفس العام الذي توفى فيه ابو حنيفة .
وهو ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي، ومؤسس علم أصول الفقه، وهو أيضاً إمام في علم التفسير وعلم الحديث، وقد عمل قاضياً فعُرف بالعدل والذكاء. وإضافةً إلى العلوم الدينية، كان الشافعي فصيحاً شاعراً، ورامياً ماهراً، ورحّالاً مسافراً.
ثانيًا: حياته العلمية
نشأته وطلبه للعلم: لما بلغ سنتين قررت امه العودة وابنها الى مكة لاسباب عديدة منها حتى لايضيع نسبه ، ولكي ينشأ على ما ينشأ عليه اقرانه ، فأتم حفظ القران وعمره سبع سنين .
وحفظ الشافعي وهو ابن ثلاث عشرة سنة تقريبا كتاب الموطأ للامام مالك ورحلت به امه الى المدينة ليتلقى العلم عند الامام مالك . ولازم الشافعي الامام مالك ست عشرة سنة حتى توفى الامام مالك (179 هجرية ) وبنفس الوقت تعلم على يد ابراهيم بن سعد الانصاري ، ومحمد بن سعيد بن فديك وغيرهم .
فعمل بقول الله تعالى حيث قال (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28))  {سورة فاطر}
وقول رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» ([1])
رحلته إلى البادية: إضافةً إلى حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية، اتجه الشافعي إلى التفصُّح في اللغة العربية، فخرج في سبيل هذا إلى البادية، ولازم قبيلة هذيل، قال الشافعي: «إني خرجت عن مكة، فلازمت هذيلاً بالبادية، أتعلم كلامها، وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، أرحل برحيلهم، وأنزل بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار، وأذكر الآداب والأخبار». ولقد بلغ من حفظه لأشعار الهذليين وأخبارهم أن الأصمعي الذي له مكانة عالية في اللغة قال: «صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس».
إن القبيلة التي ضوى إليها الشافعي هي هذيل، وهم يوصفون بأنهم أفصحُ العرب، قال مصعب بن عبد الله الزبيري: قرأ علي الشافعي رضيَ الله عنه أشعار هذيل حفظاً ثم قال: «لا تخبر بهذا أهل الحديث فإنهم لا يحتملون هذا»، قال مصعب: وكان الشافعي رضيَ الله عنه يسمر مع أبي من أول الليل حتى الصباح ولا ينامان، قال: وكان الشافعي رضيَ الله عنه في ابتداء أمره يطلب الشعر، وأيام الناس، والأدب، ثم أخذ في الفقه بعد، قال: وكان سبب أخذه أنه كان يسير يوماً على دابة له، وخلْفه كاتبٌ لأبي، فتمثل الشافعي رضيَ الله عنه بيت شعر، فقرعه كاتبُ أبي بسوطه ثم قال له: «مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا، أين أنت من الفقه؟»، فهزه ذلك، فقصد لمجالسة الزنجي بن خالد مفتي مكة، ثم قدم علينا فلزم مالك بن أنس رحمَه الله.
شيوخه وتلامذته: تلقى الشافعي الفقه والحديث على شيوخ قد تباعدت أماكنهم، وتخالفت مناهجهم، حتى لقد كان بعضهم معتزلياً ممن كانوا يشتغلون بعلم الكلام الذي كان الشافعي ينهى عنه، ولقد نال منهم ما رآه خيراً، فأخذ ما يراه واجبَ الأخذ، وترك ما يراه واجبَ الرد. لقد أخذ الشافعي عن شيوخ بمكة وشيوخ بالمدينة وشيوخ باليمن وشيوخ بالعراق، ومشايخُه الذين روى عنهم كثيرون، أما المشهورون منهم والذين كانوا من أهل الفقه والفتوى فهم سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي، مسلم بن خالد بن فروة الزنجي، مالك بن أنس بن مالك الأصبحي المدني، مُطَرَّف بن مازن الصنعاني، محمد بن الحسن الشيباني.
ولقى كثيرٌ من طلاب العلم والمتفقِّهين العلمَ على الإمام الشافعي، كما روى عنه أناسٌ كثيرون منهم: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو ثور الكلبي البغدادي، أحمد بن حنبل، وإسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق، وأبو إبراهيم المزني المصري، قال فيه الشافعي: «المزني ناصر مذهبي»، والحارث بن أسد أبو عبد الله المحاسبي، أحد مشايخ الصوفية....
حُبه للعلم: سُئل: كيف شهوتك للعلم؟ قال: أسمع بالحرف مما لم أسمعه، فتود أعضائي أن لها أسماعًا تتنعم به مثل ما تنعمت به الأذنان، فقيل له: فكيف حرصك؟ قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال، فقيل له: فكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره.
وقال رحمه الله: سَأَضْرِبُ فِي طُولِ البِلَادِ وَعَرْضِهَا ** أَنَالُ مُرَادِي أَو أَمُوتُ غَرِيبًا
                     فَإِن تَلِفَتْ نَفْسِي فَلِلَّهِ دَرُّهَا ** وَإِنْ سَلِمَتْ كَانَ الرُّجُوعُ قَرِيبًا
وكان يقول: "قراءة الحديث خير من صلاة التطوع، وطلب العلم أفضل من صلاة النافلة". وكان يقول: "من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن تكلم في الفقه نما قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه". وقال: "وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا العِلْمَ، وَلَم يُنسَبْ إِلَيَّ مِنهُ شَيءٌ، فَأُؤجَرُ عَلَيهِ، وَلَا يَحمَدُونِي".
وقال أيضًا: إِذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَهُوَ مَذهَبِي، وَإِذَا صَحَّ الحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَولِي الحَائِطَ.
كان الشافعي يقول: "العلم علمان: علم الدين وهو الفقه، وعلم الدنيا وهو الطب، وما سواه من الشعر وغيره فعناء وعبث، وأنشد يقول:
كُلُّ العُلُومِ سِوَى القُرآنِ مَشْغَلَةٌ ** إِلَّا الحَديِثَ وَعِلْمَ الفِقْهِ فِي الدِّينِ
العِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَنَا ** وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
ومن أقواله العظيمة: "العلم ما نفع وليس العلم ما حفظ"، وقال: "ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا مرة، فأدخلت يدي فتقيأتها؛ لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف العبادة". وقال: "لا يكمل الرجل إلا بأربع: بالديانة، والأمانة، والصيانة، والرزانة". وقال: "العاقل من عقله عقله عن كل مذموم". وقال: "من لم تعزه التقوى فلا عز له". وقال: "وما فزعت من الفقر قط، طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد".
وقال: اخي لن تنال العلم الا بستةٍ ** سانبيك عن تفصيلها ببياني
ذكا وحرصا وجتهادن وبلغتن ** وصحبه استادا وطول زماني
صوته جميل وقراءته بخشوع: عرف الشافعي بشجو صوته في القراءة ، قال ابن نصر : كنا اذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض : قوموا إلى هذا الفتى المطلبي يقرأ القران ، فاذا أتيناه (يصلي في الحرم ) استفتح القران حتى يتساقط الناس ويكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته فاذا راى ذلك امسك من القراءة ، وكان يكثر من قراءة القرآن وقال: «فارقت مكة وأنا ابن أربع عشرة سنة، لا نبات بعارضي من الأبطح إلى ذي طوى، فرأيت ركباً فحملني شيخ منهم إلى المدينة، فختمت من مكة إلى المدينة ست عشرة ختمة، ودخلت المدينة يوم الثامن بعد صلاة العصر.
عودته إلى مكة والإذن له بالإفتاء: لما عاد الشافعي إلى مكة تابعَ طلبَ العلم فيها على من كان فيها من الفقهاء والمحدثين، فبلغ مبلغاً عظيماً، حتى أذن له مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة بالفتيا، فقد روي عن مسلم بن خالد الزنجي أنه قال للشافعي: «أفت يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتي»، وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل: وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقيل: وهو ابن دون عشرين سنة.
ولايته لنجران: وبعد وفاة الامام مالك (179 هجرية ) سافر الشافعي الى نجران واليا عليها ، فأقام العدل ونشر لواءه ، ويقول هو في ذلك : وليت نجران وبها بنو الحارث بن عبد المدان ، وموالي ثقيف ، وكان الوالي إذا أتاهم صانعوه ، فأرادوني على نحو ذلك فلم يجدوا عندي .
اتُّهِم الشافعي بأنه مع العلوية ، فأرسل الرشيد أن يحضر النفر التسعة العلوية ومعهم الشافعي ، ويقول الرواة أنه قتل التسعة ، ونجا الشافعي بقوة حجته ، وشهادة محمد بن الحسن له ، كان قدومه بغداد في هذه المحنة سنة (184هـ) أي وهو في الرابعة والثلاثين من عمره . ولعل هذه المحنة التي نزلت به ساقها الله إليه ليتجه إلى العلم لا إلى الولاية والسلطان .
واثناء وجوده في بغداد أتصل بمحمد بن الحسن الشيباني تلميذ ابي حنيفة وقرأ كتبه وتعرف على علم اهل الرأي.
غزارة علمه ورجاحة عقله: كان مجلسه للعلم جامعاً للنظر في عدد من العلوم.
قال الربيع بن سليمان: محمد بن إدريس الشافعي كان الشافعي رحمَه الله يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث، فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار. محمد بن إدريس الشافعي.
وكان الناس قبل زمان الشافعي فريقين: أصحاب الحديث وأصحاب الرأي، أما أصحاب الحديث فكانوا حافظين لأخبار رسول الله ﷺ ، إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرأي سؤالاً أو إشكالاً سقطوا في أيديهم عاجزين متحيرين، وأما أصحاب الرأي فكانوا أصحاب النظر والجدل، إلا أنهم كانوا عاجزين عن الآثار والسنن، وأما الشافعي رضيَ الله عنه فكان عارفاً بسنة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، محيطاً بقوانينها، وكان عارفاً بآداب النظر والجدل قوياً فيه، وكان فصيحَ الكلام، قادراً على قهر الخصوم بالحجة الظاهرة، وآخذاً في نصرة أحاديث رسول الله ﷺ ، وكل من أورد عليه سؤالاً أو إشكالاً أجاب عنه بأجوبة شافية كافية، فانقطع بسببه استيلاءُ أهل الرأي على أصحاب الحديث.
ذكائه: كان هناك مجموعة من العلماء يحقدون على الإمام الشافعي ويدبرون له المكائد عند الأمراء، فأجتمعوا وقرروا أن يجمعوا له العديد من المسائل الفقهية المعقدة لإختبار ذكائه،  فاجتمعوا ذات مرة عند الخليفة الرشيد الذي كان معجبًا بذكاء الشافعي وعلمه بالأمور الفقهية وبدأوا بإلقاء الأسئلة والفتاوى في حضور الرشيد.
فسأل الأول : ما قولك في رجل ذبح شاة في منزله ثم خرج في حاجة فعاد وقال لأهله: كلوا أنتم الشاة فقد حرمت علي .. فقال أهله: علينا كذلك، فكر قليلاً فأجاب الشافعي: إن هذا الرجل كان مشركاً فذبح الشاة على اسم الأنصاب وخرج من منزله لبعض المهمات فهداه الله إلى الإسلام وأسلم فحرمت عليه الشاة وعندما علم أهله أسلموا هم أيضاً فحرمت عليهم الشاة كذلك.
وسُئل : شرب مسلمان عاقلان الخمر .. فلماذا يُقام الحدعلى أحدهما ولا يُقام على الآخر ؟ فكر قليلاً : فأجاب إن أحدَهما كان صبياً والآخرُ بالغاً
وسُئل: رجل صلى ولما سلم عن يمينه طلقت زوجته !! .. ولما سلم عن يساره بطلت صلاته !! .. ولما نظر إلى السماء وجب عليه دفع ألف درهم؟ فكر قليلاً ثم قال الشافعي: لما سلم عن يمينه رأى زوج امرأته التي تزوجها في غيابه فلما رآه قد حضر طلقت منه زوجته .. ولما سلم عن يساره رأى في ثوبه نجاسة فبطلت صلاته .. فلما نظر إلى السماء رأى الهلال وقد ظهر في السماء وكان عليه دين ألف درهم يستحق سداده في أول الشهر
وسُئل: ما تقول في إمام كان يصلي مع أربعة نفر في مسجد فدخل عليهم رجل .. ولما سلم الإمام وجب على الإمام القتل وعلى المصلين الأربعة الجلد ووجب هدم المسجد على أساسه ؟
فكر قليلاً فأجاب الشافعي : إن الرجل القادم كانت له زوجة وسافر وتركها في بيت أخيه فقتل الإمام هذا الأخ وأدعى أن المرأة زوجة المقتول فتزوج منها .. وشهد على ذلك الأربعة المصلون .. وأن المسجد كان بيتًا للمقتول .. فجعله الإمام مسجدًا !
وسُئل: ما تقول في رجل أخذ قدح ماء ليشرب .. فشرب حلالاً وحرم عليه بقية ما في القدح ؟
فكر قليلاً فأجاب : إن الرجل شرب نصف القدح فرعف ( أينزف ) في الماء المتبقي .. فاختلط الماء بالدم فحرم عليه ما في القدح !
وسُئل: كان رجلان فوق سطح منزل .. فسقط أحدُهما فمات فحرمت على الآخر زوجته ؟ فكر قليلاً فأجاب : إن الرجل الذي سقط فمات كان مزوجاً ابنته من عبده الذي كان معه فوق السطح .. فلما مات أصبحت البنت تملك ذلك العبدَ الذي هو زوجها فحرمت عليه.
إلى هنا لم يستطع الرشيدُ الذي كان حاضرًا تلك المساجلة أن يخفي إعجابه بذكاء الشافعي وسرعة خاطرته وجودة فهمه وحس إدراكه .. وقال لبني عبد مناف: لقد بينت فأحسنت وعبرت فأفصحت وفسرت فأبلغت، فقال الشافعي : أطال الله عمر أمير المؤمنين إني سائل هؤلاء العلماء مسألة فإن أجابوا عليها فالحمد لله وإلا فأرجو أمير المؤمنين أن يكف عني شرهم فقال الرشيد لك ذلك وسلهم ما تريد يا شافعي .. فقال الشافعي : مات رجلٌ وترك 600 درهم .. فلم تنل أخته من هذه التركة إلا درهمًا واحدًا .. فكيف كان الظرف في توزيع التركة ؟؟
فلما طال بهم السكوت طلب الرشيد من الشافعي الإجابة، ﻓﻨﻈﺮ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﺑﻌﺾ ﻃﻮﻳﻼً ﻭﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﺍﻻﺟﺎﺑﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﻭﺃﺧﺬ ﺍﻟﻌﺮﻕ ﻳﺘﺼﺒﺐ ﻣﻦ ﺟﺒﺎﻫﻬﻢ ، ﻭﻟﻤﺎ ﻃﺎﻝ ﺑﻬﻢ ﺍﻟﺴﻜﻮﺕ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺨﻠﻴﻔﺔ: ﻗﻞ ﻟﻬﻢ ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ ﻳﺎ ﺷﺎﻓﻌﻰ، ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻰ : ﻣﺎﺕ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﻋﻦ ﺍﺑﻨﺘﻴﻦ ﻭﺃﻡ ﻭﺯﻭﺟﺔ ﻭﺍﺛﻨﻰ ﻋﺸﺮ ﺃﺧﺎً ﻭﺃﺧﺖ ﻭﺍﺣﺪﺓ ، ﻓﺄﺧﺬﺕ ﺍﻟﺒﻨﺘﺎﻥ ﺍﻟﺜﻠﺜﻴﻦ ﻭﻫﻮ : 400 ﺩﺭﻫﻢ ، ﻭﺃﺧﺬﺕ ﺍﻷﻡ ﺍﻟﺴﺪﺱ ﻭﻫﻮ : 100 ﺩﺭﻫﻢ، ﻭﺃﺧﺬﺕ ﺍﻟﺰﻭﺟﺔ ﺍﻟﺜﻤﻦ ﻭﻫﻮ : 75 ﺩﺭﻫﻢ، ﻭﺃﺧﺬ ﺍﻻﺛﻨﺎ ﻋﺸﺮ ﺃﺧﺎ 24 ﺩﺭﻫﻢ ، ﻓﺒﻘﻰ ﺩﺭﻫﻢ ﻭﺍﺣﺪ ﺃﺧﺬﺗﻪ ﺍﻷﺧﺖ، ﻓﺘﺒﺴﻢ ﺍﻟﺮﺷﻴﺪ ﻭﻗﺎﻝ : ﺃﻛﺜﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻰ ﺃﻫﻠﻰ ﻣﻨﻚ ﻭﺃﻣﺮ ﻟﻪ ﺑﺄﻟﻔﻰ ﺩﻳﻨﺎﺭ ﻓﺘﺴﻠﻤﻬﺎ ﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻰ ﻭﻭﺯﻋﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺧﺪﻡ ﺍﻟﻘﺼﺮ ﻭﺣﺎﺷﻴﺘﻪ.
 ومما روي عن ذكائه أنه كان ذاتَ مرةٍ جالساً مع الحميدي ومحمد بن حسن يتفرسون الناس، فمر رجل فقال محمد بن الحسن: «يا أبا عبد الله انظر في هذا»، فنظر إليه وأطال، فقال ابن الحسن: «أعياك أمره؟»، قال: «أعياني أمره، لا أدري خياط أو نجار»، قال الحميدي: فقمت إليه فقلت له: «ما صناعة الرجل؟»، قال: «كنت نجاراً وأنا اليوم خياط».
مصنفاته: للشافعي الكثير من المصنفات في أصول الفقه وفروعه، أما الكتب التي تجمع أصول الفقه وتدل على الفروع فهي: كتاب الرسالة القديمة (كتبه في بغداد) ، كتاب الرسالة الجديدة (كتبه في مصر)، كتاب اختلاف الحديث، كتاب جمَّاع العلم، كتاب إبطال الاستحسان، كتاب أحكام القرآن، كتاب بيان فرض الله عز وجل، كتاب صفة الأمر والنهي، كتاب فضائل قريش....
وهناك كتب مصنفة في الفروع، وقد جمعت كلها في كتاب واحد اسمه كتاب الأم. وله كتاب في الطهارة، وكتاب في الصلاة، وكتاب في الزكاة، وكتاب في الحج، وكتاب في النكاح وما في معناه، وكتاب في الطلاق وما في معناه، وفي الإيلاء والظهار واللعان والنفقات، أملاها على أصحابه، ورواها عنه الربيع بن سليمان المرادي.
قال الإمام النووي في بستان العارفين: ومن المشهورين بكثرة التصنيف إمامنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أبو الحسن الأشعري رضي الله تعالى عنهما.
ثالثًا: علاقته بربه واخوانه
عبادته وزهده وورعه: كان من العبَّاد الزهَّاد، قال الربيع بن سليمان: "كان الشافعي قد جزَّأ الليل، فثلثه الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام، وكان يختم القرآن في كل رمضان ستين ختمة، وفي كل شهر ثلاثين ختمة".
وقيل للشافعي : ما لك تدمن إمساك العصا ولست بضعيف؟ قال: لأذكر أني مسافر، يعني: في الدنيا. ((عابر سبيل)) عملا بقول رسول الله عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، يَقُولُ: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» ([2]) .
وقال: من لزم الشهوات لزمته عبودية أبناء الدنيا، وقال: الخير في خمسة: غنى النفس، وكف الأذى، وكسب الحلال، والتقوى، والثقة بالله، وقال: اجتناب المعاصي، وترك ما لا يعنيك ينور القلب، عليك بالخلوة وقلة الأكل، وإياك ومخالطة السفهاء، ومن لا ينصفك.
وقال رحمه الله: "إذا تكلمت فيما لا يعنيك ملكتك الكلمة ولم تملكها، وقال: المروءة أركان أربعة: حسن الخلق، والسخاء، والتواضع، والنسك، وقال أيضًا: والتواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام، التواضع يورث المحبة، والقناعة تورث الراحة".
وقال: أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلًا من لا يرى فضله.
وهذه الأقوال السابقة تدل على كمال عقله وفصاحته، فقد كانوا يعدونه من عقلاء الرجال.
كثرة الانفاق والكرم مع قلة ماله: قال تعالى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)) {سورة آل عمران}
وعن أبي هريرة –صلى الله عليه وسلم- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ" ([3])
كان رحمه الله كريمًا يُضرب به المثل في الانفاق مع أنه كان في أكثر حياته فقيرًا، فإذا أتاه مقدار من المال أنفقه، وتصدق به على الفقراء والمحتاجين، قال الحميدي: قدم الشافعي مرة من اليمن ومعه عشرون ألف دينار، فضرب خيمته خارجًا من مكة فما قام حتى فرقها كلها، قال أبو ثور: أراد الشافعي الخروج إلى مكة ومعه مال، فقلت له: لو اشتريت به ضيعة لولدك، وكان قل أن يمسك شيئًا من سماحته، فخرج ثم قدم، فسألته فقال: لم أجد بمكة ضيعة يمكنني شراؤها بمعرفتي ولكني بنيت بمنى مضربًا يكون لأصحابنا إذا حجوا نزلوا فيه، قال أبو ثور: فرآني كأني اهتممت بذلك فأنشد:  إِذَا أَصبَحتُ عِندِي قُوتُ يَومِي ** فَخَلِّ الهَمَّ عَنِّي يَا سَعِيدُ
          وَلَا تَخطُرُ هُمُومُ غَدٍ بِبَالِي ** فَإِنَّ غَدًا لَهُ رِزْقٌ جَدِيدُ
كما كان الشافعي معروفاً بالكرم والسخاء، ومن ذلك ما قاله الربيع بن سليمان: تزوجت، فسألني الشافعي: «كم أصدقتها؟»، فقلت: «ثلاثين ديناراً»، فقال: «كم أعطيتها؟»، قلت: «ستة دنانير»، فصعد داره، وأرسل إلي بصرَّة فيها أربعة وعشرون ديناراً، وقال عمرو بن سواد السرحي: كان الشافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام، فقال لي الشافعي: «أفلستُ في عمري ثلاث إفلاسات، فكنت أبيع قليلي وكثيري، حتى حليّ ابنتي وزوجتي، ولم أرهن قط».
التواضع: قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» ([4])
فكان الشافعي متواضعاً مع كثرة علمه وتنوعه، ومما يدل على ذلك قوله: «ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، وما في قلبي من علم إلا وددت أنه عند كل أحد ولا ينسب إلي»، وعن الربيع بن سليمان أنه قال: «سمعت الشافعي، ودخلت عليه وهو مريض، فذكر ما وضع من كتبه، فقال: لوددت أن الخلق تعلمه، ولم ينسب إلي منه شيء أبداً»، وعن حرملة بن يحيى أنه قال: سمعت الشافعي يقول: «وددت أن كل علم أعلَمه تعلَمه الناس، أوجر عليه ولا يحمدوني».
ويحكى أن يونس بن عبد اﻷعلى أحد طلاب اﻹمام الشافعي إختلف مع اﻹمام محمد بن إدريس الشافعي في مسألة أثناء إلقائه درساً في المسجد فقام يونس بن عبد اﻷعلى غاضباً ، وترك الدرس ، وذهب إلى بيته فلما أقبل الليل ، سمع يونس صوت طرق على باب منزله فقال يونس من بالباب ...؟ قال الطارق محمد بن إدريس ...!! قال يونس فتفكرت في كل من كان اسمه محمد بن إدريس إلا الشافعي فلما فتحت الباب ، فوجئت به فقال اﻹمام الشافعي يا يونس تجمعنا مئات المسائل ، وتفرقنا مسألة ، وأخيراً لا تحاول الإنتصار في كل الإختلافات ، فأحيانا كسب القلوب أولى من كسب المواقف ولا تهدم الجسور التي بنيتها وعبرتها ، فربما تحتاجها للعودة يوما ما دائماً إكره الخطأ ، لكن لا تكره المخطئ أبغض بكل قلبك المعصية ، لكن سامح وارحم العاصي إنتقد القول ، لكن إحترم القائل فإن مهمتنا هي أن نقضي على المرض ، لا على المرضى لا تحاول أن تكون مثالياً في كل شيء ، لكن إذا جاءك المهموم أنصت ، وإذا جاءك المعتذر إصفح، وإذا قصدك المحتاج فساعده .
وحتى لو حصدت شوكاً يوماً ما ، كن للورد زارعاً للخير دائماً
 اجتناب المراء والبحث عن عورات العباد: كان الشَّافِعِيِّ يجتنب المراء ويقول: "المِرَاءُ فِي الدِّيْنِ يُقَسِّي القَلْبَ، وَيُورِثُ الضَّغَائِنَ". ويقول: "بِئْسَ الزَّادُ إِلَى المَعَادِ العُدْوَانُ عَلَى العِبَادِ". فأين من هذا العلم والعقل من يلوكون أعراض العلماء والدعاة والمصلحين، ويرمونهم بالعيوب والنقائص، ويسعون فيهم بالكذب والبهتان؛ ليسقطوهم عند الناس، وما أسقطوا إلا أنفسهم، وأهلكوها وأوبقوها. فعلى كل متعلم أن يأخذ بوصية هذا الإمام، ويجانب العدوان على العباد.
فعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» ([5])
الورع والعبادة: كان الشافعي ورعاً كثير العبادة، فقد كان يختم القرآن في كل ليلة ختمة، فإذا كان شهر رمضان ختم في كل ليلة منها ختمة، وفي كل يوم ختمة، وكان يختم في شهر رمضان ستين ختمة وعن الربيع بن سليمان المرادي المصري أنه قال: «كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين مرة، كل ذلك في صلاة»
وقال الحسين بن علي الكرابيسي: «بتُّ مع الشافعي ثمانين ليلة، كان يصلي نحو ثلث الليل، لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوّذ بالله منها، وسأل النجاة لنفسه ولجميع المسلمين، وكأنما جُمع له الرجاءُ والرهبةُ»
صبره في مرضه: عن يونس بن عبد الأعلى قال: ما رأيت أحداً لقي من السقم ما لقي الشافعي، وكان يقول: إن الطبيب بطبه ودوائه لا **  يستطيع دفاع مقدور القضا
               ما للطبيب يموت بالداء الذي ** قد كان يبري مثله فيما مضى
             هلك المداوى والمداوي والذي ** جلب الدواء وباعه ومن اشترى
وفي تقوى الله واعتماده على الرزاق يقول
عليك بتقوى الله ان كنت غافلا          يأتيك بالارزاق من جيث لاتدري
فكيف تخاف الفقر والله رازقا              فقد رزق الطير والحوت في البحر
ومن ظن ان الرزق يأتي بقوة             مـا  أكـل الـعصفـور مـن النسـر
نزول عـن الدنـيا فـأنك لا تدري           أذا جن ليل هل تعش الى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة       وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
ونصحه الإمام مالك فقال له يا محمدٌ اتق الله، واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن، إن الله قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بالمعصية.
مكارم أخلاقه: كان حسن الخلق كثير العفو والصفح عملا بقول النبي ﷺ عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» ([6])
لما عفوت ولم احقد على أحد          أرحت نفسي من هم العداوات
اني أحيي عدوي عند رؤيتـه            لادفع الشــر  عـني بـالتحيــات
وأظهر البشر للانسان أبغضه            كما ان قد حشى قلبي محبات
الناس داء وداء الناس قربهم             وفي اعتـزالـهم قطـع المـودات
كثير اللجوء إلى الله ويكثر من ذكره ودعائه في كل وقت وفي هذا يقول
قَلْبِي بِرَحَمتِكَ اللَّهُمَّ ذُو أُنُسِ *** في السِّرِّ وَالْجَهْرِ وَالإِصْبَاحِ وَالْغَلَسِ
وَمَا تَقَلَّبْتُ مِنْ نَوْمِي وَفي سِنَتى *** إلاَّ وَذكْرُكَ بَيْن النَّفَسِ وَالنَّفَسِ
لَقَدْ مَنَنْتَ عَلَى قَلْبي بِمَعْرِفَةٍ *** بِأنَّكَ اللَّهُ ذُو الآلاءِ وَالْقَدْسِ
وَقَدْ أَتَيْتُ ذُنُوباً أَنْتَ تَعْلَمُها *** وَلَمْ تَكُنْ فَاضِحي فِيهَا بِفِعْلِ مسي
فَامْنُنْ عَلَيَّ بِذِكْرِ الصَّالِحِينَ وَلا *** تَجْعَلْ عَلَيَّ إذاً في الدِّينِ مِنْ لَبَسِ
وَكُنْ مَعِي طُولَ دُنْيَايَ وَآخِرَتي *** وَيَوْمَ حَشْرِي بِما أَنْزَلْت في عَبَس
كثير النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: عملا بقول الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)) {سورة آل عمران}
وقول النبي ﷺ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» ([7])
دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل مَا تَشَاءُ ** وطب نفساً إذا حكمَ القضاءُ
وَلا تَجْزَعْ لِحَادِثة الليالي ** فما لحوادثِ الدنيا بقاءُ
وكنْ رجلاً على الأهوالِ جلداً ** وشيمتكَ السماحةُ والوفاءُ
وإنْ كثرتْ عيوبكَ في البرايا ** وسَركَ أَنْ يَكُونَ لَها غِطَاءُ
تَسَتَّرْ بِالسَّخَاء فَكُلُّ عَيْب ** يغطيه كما قيلَ السَّخاءُ
ولا تر للأعادي قط ذلا ** فإن شماتة الأعدا بلاء
ولا ترجُ السماحة من بخيلٍ ** فَما فِي النَّارِ لِلظْمآنِ مَاءُ
وَرِزْقُكَ لَيْسَ يُنْقِصُهُ التَأَنِّي**  ليسَ يزيدُ في الرزقِ العناءُ
وَلا حُزْنٌ يَدُومُ وَلا سُرورٌ ** ولا بؤسٌ عليكَ ولا رخاءُ
وَمَنْ نَزَلَتْ بِسَاحَتِهِ الْمَنَايَا ** فلا أرضٌ تقيهِ ولا سماءُ
وأرضُ الله واسعةً ولكن ** إذا نزلَ القضا ضاقَ الفضاءُ
دَعِ الأَيَّامَ تَغْدِرُ كُلَّ حِينٍ ** فما يغني عن الموت الدواءُ
رابعًا: ثناء العلماء عليه
قال داود بن علي الظاهري: " للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره من شرف نسبه ، وصحة دينه ومعتقده ، وسخاوة نفسه ، ومعرفته بصحة الحديث وسقيمه وناسخه ومنسوخه وحفظ الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء وحسن التصنيف "
قال أحمد بن حنبل فيه : " ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةٍ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) ([8]) ، فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة ، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى.
وقال قولته الخالدة الجميلة: لولا الشافعي ما تعلمنا فقه الحديث، وقال: كان الفقه مغلقاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعي، وقال: ما من أحد مسَّ محبرة ولا قلماً بعد الشافعي إلا وله في عنقه منّة، وقال: والله ما أعلم أحداً أعظم منة وبركة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: قلتُ لأبي: أيّ رجل كان الشافعيّ؟ فإني سمعتك تكثر من الدعاء له، قال: يا بني، كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس؛ فهل لهذين من خَلَفٍ أو منهما عِوَض؟ ولا غَرْوَ أنْ يُدعَى لمثل هذا في الصلاة، وإني لأدعو للشافعي منذ أربعين سنة في صلاتي..
قال عبد الرحمن بن مهدي: "لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني لأنني رأيت كلام رجل عاقلٍ، فصيح نصيح، فإني أكثر الدعاء له، وما ظننت أن الله خلق مثل هذا الرجل".
قال الذهبي: "لا نُلَام والله على حب هذا الإمام؛ لأنه من رجال الكمال في زمانه". فرحم الله الشافعي، وأين مثله في صدقه، وشرفه، ونبله، وسعة علمه، وفرط ذكائه، ونصره للحق، وكثرة مناقبه،
قال الربيع بن سليمان: "لو وزن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم، ولو كان من بني إسرائيل لاحتاجوا إليه".
وصف أبو زكريا السلماسي علمه فقال: محمد بن إدريس الشافعي جمع أشتات الفضائل، ونظم أفراد المناقب، وبلغ في الدين والعلم أعلى المراتب، إن ذُكر التفسيرُ فهو إمامه، أو الفقهُ ففي يديه زمامه، أو الحديثُ فله نقضه وإبرامه، أو الأصولُ فله فيها الفصوص والفصول، أو الأدبُ وما يتعاطاه من العربية العرب فهو مبديه ومعيده، ومعطيه ومفيده، وجهه للصباحة، ويده للسماحة، ورأيه للرجاحة، ولسانه للفصاحة، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، والمصباح الزاهر في الظلمة، في التفسير ابن عباس، وفي الحديث ابن عمر، وفي الفقه معاذ، وفي القضاء علي، وفي الفرائض زيد، وفي القراءات أُبَيّ، وفي الشعر حسان، وفي كلامه بين الحق والباطل فرقان محمد بن إدريس الشافعي.
قال يُوْنُسُ الصَّدَفِيُّ: "مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنَ الشَّافِعِيِّ، نَاظَرْتُهُ يَوْماً فِي مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ افْتَرَقْنَا، وَلَقِيَنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوْسَى، أَلاَ يَسْتَقيمُ أَنْ نَكُوْنَ إِخْوَاناً وَإِنْ لَمْ نَتَّفِقْ فِي مَسْأَلَةٍ".
وما كانت غايته إلا أن ينفع الناس بالعلم، وفي هذا يقول: "وَدِدْتُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ أَعْلَمُهُ تَعَلَّمُهُ النَّاسُ أُوَجَرُ عَلَيْهِ، وَلا يَحْمَدُونِي".
قال عمر بن نباتة: والله، ما رأيت رجلاً قطُّ، أورع، ولا أخشع، ولا أفصح، ولا أسمح، ولا أعلم، ولا أكرم، ولا أجمل ،ولا أنبل، ولا أفضل، من محمد بن إدريس الشافعي.
خامسًا: وفاة الإمام الشافعي
قال المزني: "دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت: يا أبا عبد الله كيف أصبحت؟ فرفع رأسه وقال: أصبحت من الدنيا راحلًا ولإخواني مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الله واردًا، ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول:
إليك إلـهَ الخلـق أرفــع رغبتي وإن كنتُ يا ذا المن والجود مجرماً
وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ** جَعَلْتُ رَجَائِي دُوْنَ عَفْوِكَ سُلَّمًا
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ** بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
فَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ ** تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا
ويقال أن سبب موت الشافعي هو مرض البواسير الذي أصابه، فقد روى الربيع بن سليمان حالَ الشافعي في آخر حياته فقال: «أقام الشافعي ها هنا (أي في مصر) أربع سنين، فأملى ألفاً وخمسمئة ورقة، وخرَّج كتاب الأم ألفي ورقة، وكتاب السنن، وأشياء كثيرة كلها في مدة أربع سنين، وكان عليلاً شديد العلة، وربما خرج الدم وهو راكب حتى تمتلئ سراويله وخفه (يعني من البواسير)». وقال الربيع أيضاً: دخل المزنيَّ على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقال له: «كيف أصبحت يا أستاذ؟»، فقال: «أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ولسوء عملي ملاقياً». قال: ثم رمى بطرفه إلى السماء واستبشر وأنشد:
وقال الربيع بن سليمان: «توفي الشافعي ليلة الجمعة، بعد العشاء الآخرة بعدما صلى المغرب آخر يوم من رجب، ودفناه يوم الجمعة، فانصرفنا، فرأينا هلال شعبان، سنة أربع ومائتين».
ويقع ضريح الإمام الشافعي في مصر، ويُمكن اعتباره أحد أكبر الأضرحة في العالم، ويتميّز بوجود قبة مطلية بالنحاس الأصفر، والتي ترمز إلى العلم الخاص للإمام الشافعي، وتم بناؤه على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي.
ومن اروع ما رثي به من الشعر قصيدة لمحمد بن دريد يقول في مطلعها :
ألم تر اثار أبن ادريس بعده          دلائلها في المشـكلات لوامع
قال الربيع: "رأيت الشافعي بعد وفاته بالمنام، فقلت: يا أبا عبدالله ما صنع الله بك؟ قال: أجلسني على كرسي من ذهب ونثر عليَّ اللؤلؤ الرطب" ([9])
رحم الله الشافعي، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأسكنه الدرجات العلى.






[1])) صحيح ابن ماجة
[2])) صحيح البخاري
[3])) صحيح مسلم
[4])) الأدب المفرد للبخاري
[5])) صحيح الترمذي
[6])) الأدب المفرد
[7])) متفق عليه
[8])) صحيح سنن أبي داود
[9])) سير أعلام النبلاء





التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات