علـــو الهــمــة للشيخ أحمد أبو عيد






 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين واشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين واشهد أن محمدا عبد الله ورسوله
وبعد
العناصر
أولاً:تعريف علو الهمة
ثانياً:فضــل علــو الهمـة
ثالثاً:درجات علو الهمــــة
رابعاً:نماذج من علو الهمـة
خامساً:كيفية الارتقــاء بالهمم
سادساً:أسباب انحطاطها وضعفها

المـــوضـــوع
أولاً:تعريف علو الهمة:
معنى العلو لغةً:
العلوُّ مصدر من علا الشيءُ عُلُوًّا فهو عَليٌّ وعَلِيَ وتَعَلَّى،... ويقال: عَلا فلانٌ الجبل إذا رَقِيَه وعَلا فلان فلانًا إذا قَهَره، والعَليُّ الرَّفيعُ، وتَعالَى تَـرَفَّع، وأصل هذه المادة يدلُّ على السموِّ والارتفاع (1) .
معنى الهمَّة لغةً:
الهِمَّةُ: ما هَمَّ به من أمر ليفعله، تقول: إنه لعظيمُ الهَمِّ، وإِنه لَصغيرُ الهِمَّة، وإِنه لَبَعيدُ الهِمَّةِ والهَمَّةِ بالفتح (2) .
وقال ابن القيم في تعريف الهمة: والهمة فعلة من الهمِّ، وهو مبدأ الإرادة، ولكن خصوها بنهاية الإرادة، فالهمُّ مبدؤها، والهمَّة نهايتها3) .
معنى علو الهمَّة اصطلاحًا:
هي: توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق؛ لحصول الكمال له أو لغيره) .
وأما علو الهمة فهو :استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلب المراتب السامية) .
وقال المناوي: عظم الهمة عدم المبالاة بسعادة الدنيا وشقاوتها.
وقال الراغب الأصفهاني: والكبير الهمة على الإطلاق: هو من لا يرضى بالهمم الحيوانية قدر وسعه، فلا يصير عبد رعاية بطنه، وفرجه، بل يجتهد أن يتخصص بمكارم الشريعة.
وقيل : هي الباعث على الفعل ، وعرف بعضهم علو الهمة بأنه : استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور . قال الشاعر مصوراً طموح المؤمن
إذا كنت في أمر مروم *** فلا تقنع بما دون النجوم
وعرف ابن القيم علو الهمة بقوله :
"علو الهمة ألا تقف -أي النفس- دون الله وألا تتعوض عنه بشيء سواه ولا ترضى بغيره بدلاً منه ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم ، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات"
الفرق بين الهمَّة والهمِّ
الهمَّة: اتساع الهم وبعد موقعه، ولهذا يمدح بها الإنسان، فيقال: فلان ذو همة وذو عزيمة. وأما قولهم: فلان بعيد الهمة وكبير العزيمة، فلأنَّ بعض الهمم يكون أبعد من بعض وأكبر من بعض، وحقيقة ذلك أنَّه يهتمُّ بالأمور الكبار.
والهمُّ: هو الفكر في إزالة المكروه، واجتلاب المحبوب، ومنه يقال: أهمُّ بحاجتي

ثانياً:فضــل علــو الهمـة:

1-الأمر بالمسارعة
قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ (آل عمران: 133).
وقال تعالى( فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون )
وقال تعالى (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الحديد21
وقال تعالى (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ )الأنبياء90
و
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها .السلسلة الصحيحة

2-اثني الله تعالى على أصحاب الهمم العالية
قال تعالى): فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ (الأحقاف: 35
فهذه الآية فيها ثناء (على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم... وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم، وجهادهم، ودعوتهم إلى الله عزَّ وجلَّ، كما أوضحه الله عزَّ وجلَّ في قصص الأنبياء: كنوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

3-الرجال حقا هم أصحاب الهمم العالية
قال تعالى( فيه رجال يحبون أن يطهروا والله يحب المطهرين )
وقال تعالى): مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(الأحزاب: 23
فوصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين بوصف الرجال، الذين هم أصحاب الهمم العالية، فصدقوا ما عاهدوا الله عليه، و(وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبلوا أنفسهم في طاعتهفَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ أي: إرادته ومطلوبه، وما عليه من الحقِّ، فقتل في سبيل الله، أو مات مؤديًا لحقه، لم ينقصه شيئًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك، مجدٌّ
وقال سبحانه]: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور: 37.
فهؤلاء الرجال هم أصحاب الهمم العالية، (ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا ذات لذات، ولا تجارة ومكاسب، مشغلة عنه، لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وهذا يشمل كلَّ تكسب يقصد به العوض، فيكون قوله: وَلَا بَيْعٌ من باب عطف الخاص على العام، لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره، فهؤلاء الرجال، وإن اتجروا، وباعوا، واشتروا، فإن ذلك، لا محذور فيه. لكنه لا تلهيهم تلك، بأن يقدموها ويؤثروها على ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم، ونهاية مقصدهم، فما حال بينهم وبينها رفضوه
وقال تعالى( فيه رجال يحبون أن يطهروا والله يحب المطهرين )
4-فضل الله المجاهدين أصحاب الهمم العالية، على القاعدين المُؤثِرِين للراحة والدَّعَة
، فقال: ﴿ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
 بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [النساء: 95]، وقال تعالى: ﴿ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ [الحديد: 10].
5-الحض على معالي الأمور
عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  "اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ومن يستعف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله " رواه البخاري واللفظ له ومسلم
قال ابن بطال: (فيه ندب إلى التعفف عن المسألة، وحض على معالي الأمور، وترك دنيئها، والله يحب معالي الأمور)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل والشاب نشأ في عبادة الله عز وجل ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه . رواه البخاري ومسلم
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ" . أخرجه مسلم .
6-الترغيب في اعلي الدرجات
فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا " متفق عليه

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها " رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث صحيح
7-همَّـة المؤمـن قد تكون أبلغ من عملـه
قال صلى الله عليه وسلم:" من همَّ بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة " رواه البخاري
وقال صلى الله عليه وسلم: " من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه " رواه مسلم وغيره
وقال صلى الله عليه وسلم : " ما من امرئٍ تكون له صلاة بليل، فغلبه عليها نوم ، إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقةً عليه "
صحيح الجامع ( 5691 )

8-قد يتفوق المؤمن بهمته العالية
كما بيَّن ذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله:
" سبق درهم مائة ألف "، قالوا: يا رسول الله ، كيف يسبق درهم مائة ألف ؟! ،
قال:" رجل كان له درهمان ، فأخذ أحدهما ، فتصدق به ، وآخر له مال كثير ،
فأخذ من عَرْضها مائة ألف "رواه أحمد وغيره .
قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 3606 في صحيح الجامع

9-محبة الله لمعالي الأمور
عن الحسين بن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( إن الله تعالى يحب معالي الأمور ، ويكره سفاسفها )السلسة الصحيحة

10-سؤال الله بمعالي الأمور 
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سهل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها " . قالوا : أفلا نبشر الناس ؟ قال : " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة " . رواه البخاري
11-ذم ساقطي الهمة وتصويرهم في أبشع صورة :
قال تعالى:واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون

ويقول ابن القيِّمِ في دنيءِ الهمَّةِ: عياذاً باللهِ ممن دنتْ همَّتُهُ وقصر في العلم والدين باعه! وطال في الجهل وآذى عبادك ذراعه! فهو لجهله يرى الإحسان إساءة! والسنة بدعة! والعرف نكرا! ولظلمه يجزى بالحسنة سيئة كاملة وبالسيئة الواحدة عشرا قد اتخذ بطر الحق وغمط الناس سلما إلى ما يحبه من الباطل! ويرضاه ولا يعرف من المعروف ولا ينكر من المنكر! الا ما وافق إرادته أو حالف هواه يستطيل على اولياء الرسول وحزبه بأصغريه! ويجالس اهل الغي والجهالة ويزاحمهم بركبتيه قد ارتوى من ماء آجن ونضلع واستشرف إلى مراتب ورثة الانبياء وتطلع يركض في ميدان جهله مع الجاهلين ويبرز عليهم في الجهالة فيظن انه من السابقين وهو عند الله ورسوله والمؤمنين عن تلك الوراثة النبوية بمعزل وإذا انزل الورثة منازلهم منها فمنزلته منها أقصى وابعد منزل..............
وصدقَ الشاعرُ إذ قالَ:
وفي الجهلِ قبلَ الموتِ موتٌ لأهلِهِ *** وأجسامُهُمْ قبلَ القبورِ قبورُ
وأرواحهُمْ في وجشةٍ من جسومهمْ *** وليسَ لهمْ حتَّـى النشورِ نشورُ

ثالثاً:درجات علو الهمة
قَسَّم الهروي درجات علو الهمة على ثلاث:
الدرجة الأولى: همة تصون القلب عن وحشة الرغبة في الفاني، وتحمله على الرغبة في الباقي، وتصفيه من كدر التواني
يقول ابن القيم: (الفاني الدنيا وما عليها. أي: يزهد القلب فيها وفي أهلها. وسمى الرغبة فيها وحشة؛ لأنها وأهلها توحش قلوب الراغبين فيها، وقلوب الزاهدين فيها.
أما الراغبون فيها: فأرواحهم وقلوبهم في وحشة من أجسامهم. إذ فاتها ما خلقت له. فهي في وحشة لفواته.
وأما الزاهدون فيها: فإنهم يرونها موحشة لهم. لأنها تحول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم. ولا شيء أوحش عند القلب، مما يحول بينه وبين مطلوبه ومحبوبه. ولذلك كان من نازع الناس أموالهم، وطلبها منهم أوحش شيء إليهم وأبغضه.
وأيضًا: فالزاهدون فيها: إنما ينظرون إليها بالبصائر. والراغبون ينظرون إليها بالأبصار، فيستوحش الزاهد مما يأنس به الراغب. كما قيل:
وإذا أفاق القلب واندمل ( الهوى

رأت القلوب ولم تر الأبصار
وكذلك هذه الهمة تحمله على الرغبة في الباقي لذاته. وهو الحق سبحانه. والباقي بإبقائه: هو الدار الآخرة.
وتصفيه من كدر التواني. أي: تخلصه وتمحصه من أوساخ الفتور والتواني، الذي هو سبب الإضاعة والتفريط.

الدرجة الثانية: همة تورث أنفة من المبالاة بالعلل، والنزول على العمل، والثقة بالأمل (5
يقول ابن القيم: (العلل هاهنا: هي علل الأعمال من رؤيتها، أو رؤية ثمراتها وإرادتها. ونحو ذلك. فإنها عندهم علل.
فصاحب هذه الهمة: يأنف على همته، وقلبه من أن يبالي بالعلل؛ فإنَّ همته فوق ذلك. فمبالاته بها، وفكرته فيها نزول من الهمة.
وعدم هذه المبالاة: إما لأنَّ العلل لم تحصل له؛ لأنَّ علوَّ همته حال بينه وبينها. فلا يبالي بما لم يحصل له؛ وإما لأنَّ همته وسعت مطلوبه، وعلوه يأتي على تلك العلل، ويستأصلها. فإنَّه إذا علَّق همته بما هو أعلى منها، تضمنتها الهمة العالية؛ فاندرج حكمها في حكم الهمة العالية، وهذا موضع غريب عزيز جدًّا. وما أدري قصده الشيخ أو لا؟
وأما أنفته من النزول على العمل: فكلام يحتاج إلى تقييد وتبيين. وهو أن العالي الهمة مطلبه فوق مطلب العمال والعباد، وأعلى منه، فهو يأنف أن ينزل من سماء مطلبه العالي، إلى مجرد العمل والعبادة، دون السفر بالقلب إلى الله؛ ليحصل له ويفوز به؛ فإنَّه طالب لربه تعالى طلبًا تامًّا بكلِّ معنى واعتبار في عمله، وعبادته ومناجاته، ونومه ويقظته، وحركته وسكونه، وعزلته وخلطته، وسائر أحواله؛ فقد انصبغ قلبه بالتوجه إلى الله تعالى أيما صبغة.
وهذا الأمر إنما يكون لأهل المحبة الصادقة؛ فهم لا يقنعون بمجرد رسوم الأعمال، ولا بالاقتصار على الطلب حال العمل فقط.
وأما أنفته من الثقة بالأمل: فإنَّ الثقة توجب الفتور والتواني، وصاحب هذه الهمة: ليس من أهل ذلك، كيف؟ وهو طائر لا سائر

الدرجة الثالثة: همة تتصاعد عن الأحوال والمعاملات. وتزري بالأعواض والدرجات. وتنحو عن النعوت نحو الذات.
يقول ابن القيم: (أي: هذه الهمة أعلى من أن يتعلق صاحبها بالأحوال التي هي آثار الأعمال والواردات، أو يتعلق بالمعاملات، وليس المراد تعطيلها. بل القيام بها مع عدم الالتفات إليها، والتعلُّق بها.
ووجه صعود هذه المهمة عن هذا: ما ذكره من قوله: تزري بالأعواض والدرجات، وتنحو عن النعوت نحو الذات، أي: صاحبها لا يقف عند عوض ولا درجة؛ فإنَّ ذلك نزول من همته، ومطلبه أعلى من ذلك؛ فإنَّ صاحب هذه الهمة قد قصر همته على المطلب الأعلى، الذي لا شيء أعلى منه، والأعواض والدرجات دونه، وهو يعلم أنَّه إذا حصل له فهناك كل عوض ودرجة عالية.
وأما نحوها نحو الذات، فيريد به: أنَّ صاحبها لا يقتصر على شهود الأفعال والأسماء والصفات، بل الذات الجامعة لمتفرقات الأسماء والصفات والأفعال.

رابعاً:نماذج من علو الهمة
1- النبي صلى الله عليه وسلم
الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، والقدوة الرائعة، في علو الهمة والشَّجَاعَة والإقدام، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حمي الوطيس في الحرب (، كان أكثر الناس شجاعة، وأعظمهم إقدامًا، وأعلاهم همة
أ-قاد صلوات الله عليه بنفسه خلال عشر سنين سبعًا وعشرين غزوة
وكان يتمنى أن يقوم بنفسه كل البعوث التي بعثها والسرايا التي سيرها، ولكن أقعده عن ذلك أنه كان لا يجد ما يزود به جميع أصحابه للخروج معه في كل بعث، وكان أكثرهم لا تطيب نفسه أن يقعد ورسول الله قد خرج إلى الجهاد.
 
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لولا أن رجالًا من المسلمين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل.متفق عليه

ب-كان صلى الله عليه وسلم القدوة في الهمة العالية في العبادة
وعن عائشة رضي الله عنها " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقلت له لم تصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا
 أحب أن أكون عبدا شكورا " رواه البخاري ومسلم
 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فأطال القيام، حتى هممت بأمر سوء، قيل وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه(5)
وغير ذلك الكثير والكثير.
وعَنْ عُقْبَةَ ابن الحارث ، قَالَ : صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ ، فَقَالَ : " ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ " . البخاري

2-الصحابة رضي الله عنهم
الصحابة رضي الله عنهم قد ضربوا لنا أروع الأمثلة في الهمة العالية، سواء كان في الجهاد في سبيل الله، والتضحية في سبيل هذا الدين، أو في طلب العلم، وغير ذلك، وكذا سار التابعون على منوالهم، وإليك بعضًا من النماذج التي تدل على علو همتهم.

أ-علو الهمة في طلب العلم:
1- أبو هريرة رضي الله عنه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: إنكم تقولون أكثر أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله الموعد وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوما : " لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئا أبدا " فبسطت نمرة ليس علي ثوب غيرها حتى قضى النبي صلى الله عليه وسلم مقالته ثم جمعتها إلى صدري فوالذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا . متفق عليه
وعن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة يا أبا هريرة أنت كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأحفظنا لحديثه .) . تحقيق الألباني : صحيح الإسناد
2-زيد بن ثابت
عن زيد بن ثابت قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كلمات من كتاب يهود قال إني والله ما آمن يهود على كتابي قال فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له قال فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح

3-عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
-
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟ قال: فتركت ذاك وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح علي من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ هلا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحقُّ أن آتيك، قال: فأسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني.
4- عمر بن الخطاب
عنْ عُمَرَ قَالَ : كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهْيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. (صحيح البخاري .

ب- في الطاعات
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟" قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: " تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً".متفق عليه
وعن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قال: أَمَرَنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا. تحقيق الألباني :حسن ، المشكاة
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ؟ " فقلت : بلى يا رسول الله . قال : " فلا تفعل صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا . لا صام من صام الدهر . صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله . صم كل شهر ثلاثة أيام واقرأ القرآن في كل شهر " . قلت : إني أطيق أكثر من ذلك . قال : " صم أفضل الصوم صوم داود : صيام يوم وإفطار يوم . واقرأ في كل سبع ليال مرة ولا تزد على ذلك " متفق عليه
ج-في الجهاد
عن أنس رضي الله عنه قال انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا
 المشركين إلى بدر وجاء المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه  فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض  قال عمير بن الحمام يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض قال نعم  قال بخ بخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملك على قولك بخ بخ فقال لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال فإنك من أهلها فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رضي الله عنه " رواه مسلم
وكذلك كان الصحابة في كل المجالات رضي الله عنهم جميعا.

خامساً:كيفية الارتقـــاء بالهمـــــــة
إن علو الهمة يحتاج إلى جهد ومجاهدة وصبر ومصابرة، وتلمس الأسباب التي توصل إليه، وسلوك الطرق التي تؤدي إليه، وفيما يلي بعض أسباب علو الهمة:
1- العلم:
العلم أحد أسباب علو الهمة، فهو يرشد من طلبه إلى مصالحه، ويدفعه إلى العمل، ويعرفه بآفات الطريق ومخاطره، ويورث صاحبه فقها بالأولويات ويعرفه بمراتب الأعمال. وكلما ازداد الإنسان من العلم النافع علت همته، وازداد عمله؛ ونماذج العلماء الصادقين الذين علت هممهم أكبر برهان على ذلك.
2-الدعاء:
وهو سلاح المؤمن الذي يلجأ إليه إذا فترت الهمة وضعفت العزيمة، فعلى المسلم ألا يغفل هذا الباب فهو من أعظم الأسباب لتحصيل الهمة العالية، والعاجز من عجز عن الدعاء.
3-تذكر اليوم الآخر:
فلا شك أن تذكر الموت، وفتنة القبر، وأهوال القيامة، يبعث في القلب الهمة ويوقظه من غفلته، وتبعثه من رقدته؛ وتدبر قوله عز وجل وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]، وكان صلى الله عليه وسلم يذكر أصحابه بالجنة والنار، فالحث على العمل وبعث الهمم يكون بالتذكير باليوم الآخر والجنة والنار.
4-طبيعة الإنسان:
من الناس من جبل على علو الهمة، فلا يرضى بالدون، ولا يقنع بالقليل، ولا يلتفت إلى الصغائر.
ولهذا قيل: ذو الهمة إن حط فنفسه تأبى إلا علوًّا، كالشعلة في النار يصوبها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعًا (17) .
قال عمر بن عبد العزيز: إنَّ لي نفسًا تواقة؛ لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة (18) !
5- أثر الوالدين، ودورهما في التربية الصحيحة:
فأثر الوالدين في التربية عظيم، ودورهما في إعلاء همم الأولاد خطير وجسيم؛ فإذا كان الوالدان قدوة في الخير، وحرصا على تربية الأولاد، واجتهدا في تنشئتهم على كريم الخلال وحميد الخصال، مع تجنيبهم ما ينافي ذلك من مساوئ الأخلاق ومرذول الأعمال  فإن لذلك أثرًا عظيمًا في نفوس الأولاد؛ لأن الأولاد سيشبون – بإذن الله – عاشقين للبطولة، محبين لمعالي الأمور، متصفين بمكارم الأخلاق، مبغضين لسفاسفها، نافرين عن مساوئ الأخلاق.
6-النشأة في مجتمع مليء بالقمم:
فمن بواعث الهمة، أن ينشأ الصغير في مجتمع تكثر فيه النماذج المشرقة من الأبطال المجاهدين، والعلماء العاملين؛ والتي تمثل القدوة، فهذا مما يحرك همته؛ كي يقتدي بهم، ويسير على طريقهم، ومن لم يتهيأ له ذلك فليتحول عن البيئة المثبطة، الداعية إلى الكسل والخمول وإيثار الدون.
7-وجود المربين الأفذاذ، والمعلمين القدوة:
الذين يستحضرون عظم المسؤولية، ويستشعرون ضخامة الأمانة، والذين يتسمون ببعد النظرة، وعلو الهمة، وسعة الأفق وحسن الخلق، والذين يتحلون بالحلم والعلم، والصبر والشَّجَاعَة، وكرم النفس والسماحة.
8- مصاحبة أصحاب الهمم ومطالعة سيرهم:
فلا شك أنَّ الصحبة لها تأثير كبير، لذا من أراد تحصيل الهمة العالية فليصحب أصحاب الهمم العالية، فإنه يستفيد من أفعالهم قبل أقوالهم، ومن لم يوفق لصحبة هؤلاء فليكثر من مطالعة سيرهم، وقراءة أخبارهم فإن ذلك مما يبعث الهمة، ويدعو إلى علوها.
يقول ابن الجوزي: (فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب، التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة؛ فإنه يرى من علوم القوم، وعلو هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة...
فالله الله وعليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم. إلى أن قال: فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم، وحفظهم وعباداتهم، وغرائب علومهم: ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب.

9-استشعار المسؤولية:
وذلك بأن يستشعر الإنسان مسؤوليته، ويعمل ما في وسعه ومقدوره، ويحذر كل الحذر من التهرب من المسؤولية، والإلقاء باللائمة والتبعة على غيره؛ ذلك أن المسؤولية في الإسلام عامة، تشمل كل فرد من المسلمين؛ فهم جميعًا داخلون في عموم قوله صلى الله عليه وسلم)كلكم راع وكلم مسؤول عن رعيته....(متفق عليه
فالمسؤولية مشتركة، كل امرئ بحسبه، هذا بتعليمه وكلامه، وهذا بوعظه وإرشاده، وهذا بقوته وماله، وهذا بجاهه وتوجيهه إلى السبيل النافع وهكذا.

سادساً:أسباب انحطاط الهمم وضعفها
1-المعاصي:
إن المعاصي أحد أسباب انحطاط الهمم، إذ كيف ينطلق الإنسان إلى المعالي وهو مكبل بالشهوات، مثقل بالذنوب، منهك القوى بالمعاصي
 يقول ابن قيم الجوزية: (فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، وينكس الطالب، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي ستسيره، فإذا زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعًا يبعد تداركه، فالله المستعان.
2-الخوف والهم والحزن:
وهذه الثلاثة من الآفات التي توهن الهمة، وتضعف العزيمة، وتدفع إلى الفتور؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يستعيذ بالله منها، فيقول: ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال).متفق عليه
>فاستعاذ من ثمانية أشياء، كلُّ اثنين منها قرينان، فالهم والحزن قرينان وهما من آلام الروح ومعذباتها، والفرق بينهما أن الهم توقع الشر في المستقبل، والحزن التألم على حصول المكروه في الماضي أو فوات المحبوب، وكلاهما تألم وعذاب يرد على الروح فإن تعلق بالماضي سمي حزنًا، وإن تعلق بالمستقبل سمي همًّا.
3-الغفلة:
الغفلة من أسباب ضعف الهمة، فكيف يرتقي الإنسان معالي الأمور، وهو في غفلة عن مصالحه وأسباب سعادته، والغفلة والجهل قرينان، فـ(شجرة الغفلة تُسْقَى بماء الجهل الذي هو عدو الفضائل كلِّها.
هل علمتم أمة في جهلها****** ظهرت في المجد حسناءَ الرداء؟
قال عمر رضي الله عنه: الراحة للرجال غفلة.
وقال شعبة بن الحجاج: لا تقعدوا فراغًا فإنَّ الموت يطلبكم.
وسئل ابن الجوزي: أيجوز أن أفسح لنفسي في مُباح الملاهي؟ فقال: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها.
4-إهدار الوقت:
فالوقت هو رأس مال الإنسان، فإذا أهدره فهو في الحقيقة يضيع عمره، فيبوء بالخسران، وما أفدحها من خسارة، فينبغي تجنب (إهدار الوقت الثمين في الزيارات والسمر وفضول المباحات: قال - صلى الله عليه وسلم: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ.رواه البخاري
والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه****** وأراه أسهلَ ما عليك يضيع
 ويقول الفضيل بن عياض: أعرف من يَعُدُّ كلامه من الجمعة إلى الجمعة.
ودخلوا على رجل من السلف، فقالوا: لعلنا شغلناك؟، قال: أصدقكم، كنت أقرأ فتركتُ القراءة لأجلكم.
وجاء عابدٌ إلى السَّرِيِّ السَّقَطي، فرأى عنده جماعة، فقال: صِرتَ مُناخَ البطالين! ثم مضى ولم يجلس.
وقعد جماعة عند معروف الكرخي، فأطالوا، فقال: إن مَلَك الشمس لا يفتر عن سوقها، فمتى تريدون القيام؟.
5-الوهن:
(
وهو كما فسره رسول الله -صلى الله عليه وسلم(حب الدنيا، وكراهية الموت)السلسلة الصحيحة
 
أمَّا حب الدنيا: فرأس كلِّ خطيئة كما في الحكمة المشهورة، وهو أصل التثاقل إلى الأرض، وسبب الاستئسار للشهوات، والانغماس في الترف، والتنافس على دار الغرور التي: تفانى الرجال على حبِّها000 وما يحصلون على طائل
ويقول -أي ابن الجوزي- واعلم أنَّ زمان الابتلاء ضيف قِراهُ الصبر، كما قال أحمد بن حنبل: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، فلا تنظر إلى لذة المترفين، وتَلَمَّحْ عواقبهم، ولا تضق صدرًا بضيق المعاش، وعلل الناقة بالحدْو تسِرْ:
طاوِلْ بها الليلَ مالَ النجمُ أم جَنحَا**** وماطِلِ النومَ ضَنَّ الجَفْنُ أمْ سَمَحا
فإن تَشَكَّتْ فَعَلِّلْها المجَرَّةَ مِن******* ضوءِ الصباحِ وعِدْها بالرواحِ ضحَى
... وأما كراهية الموت فثمرة حب الدنيا والحرص على متاعها مع تخريب الآخرة، فيكره أن ينتقل من العمران إلى الخراب، قال الطغرائي مبينا أثر حب السلامة في الانحطاط بالهمة: حبُّ السلامة يثني عزم صاحبه *عن المعالي ويغري المرء بالكسل
6-التسويف والتمني:
 (
وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة، الذي كلما همت نفسه بخير، إما يعيقها بـ (سوف) حتى يفجأه الموت، "فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ" .المنافقون: 10، وإما يركب بها بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، يُدمن ركوبه مفاليس العالم، كما قيل:
إذا تمنيت بتُّ الليلَ مغتبطًا******* إن المنى رأسُ أموال المفاليس9
7-مجالسة البطالين والمثبطين:
مجالس البطالين والقاعدين توهن العزائم وتضعف الهمم بما يعلق في القلب من أقوالهم من الشبه، وما يحصل بمجالستهم من ضياع للوقت، وإشغال بتوافه الأمور.. وكلما أردت العمل ثبطك (10) وقال: أمامك ليل طويل فارقد.
إياك إياك ومجالسة البطالين فإن طبعك يسرق منهم، وأنت لا تدري، وليس إعداء الجليس جليسة بمقاله وفعاله فقط، بل بالنظر إليه، والنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقًا مناسبة لخلق المنظور إليه، فإن مَن دامت رؤيته للمسرور سرَّ، أو للمحزون حزن... ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة فما الظن بالنفوس البشرية التي موضعها لقبول صور الأشياء خيرها وشرها؟
8- المناهج التربوية والتعليمية الهدامة:
هذه المناهج (التي تثبط الهمم وتخنق المواهب، وتكبت الطاقات وتخرب العقول، وتنشئ الخنوع وتزرع في الأجيال ازدراء النفس، وتعمق فيه احتقار الذات والشعور بالدونية 9- توالي الضربات وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام:
 
وينتج عنه الشعور بالإحباط في نفوس الذين لا يفقهون حقيقة البلاء، وسنن الله عز وجل في خلقه، كما ينتج عنه استطالة الطريق فيضعف السير إلى الله عز وجل. وقد كان صلى الله عليه وسلم يعزي أصحابه المضطهدين في مكة بتبشيرهم بأن المستقبل للإسلام، وبأن العاقبة للمتقين (14) .
فلا ينبغي أن يستولي اليأس والتشاؤم على الدعاة، فعندما يرى بعضهم (تفوق الأعداء، وتفرق الأصدقاء، والتضييق على الدعاة، وتشريدهم، والزج بهم في السجون، ونحوها من الابتلاءات، ييأسوا ويتشاءموا ويدب الوهن إلى قلوبهم؛ فتضعف هممهم، ويقعدوا عن العمل، ويفقدوا الأمل.. على الرغم من انتصارات الدعوة والبشائر التي تبدو في الأفق؛ ولكن يأبى بعضهم إلا النظرة المتشائمة.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد : الشيخ احمد أبو عيد
لمشاهدة الخطب على اليوتيوب برجاء الدخول إلي الرابط التالي 
لقراءة خطب أخري متنوعة برجاء الدخول إلي الرابط التالي
http://eslamiatt.blogspot.com.eg/
ولتحميل الخطبة اضغط الرابط التالي
http://up.top4top.net/downloadf-61iclv1-doc.html

 
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات